الدخول الرابع والأخير

  • الدرس الخامس عشر: شرح الآيات 99 - 101
  • 2021-10-16

الدخول الرابع والأخير

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.


الدخول الأخير على يوسف كان دخول يعقوب:
وبعد مع اللقاء الخامس عشر من لقاءات سورة يوسف، ومع الآية التاسعة والتسعين من السورة، وهي قوله تعالى:

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
[ سورة يوسف ]

هذا الدخول الرابع والأخير على يوسف، دخلوا عليه في المرة الأولى:

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
[ سورة يوسف ]

ودخلوا في الثانية:

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
[ سورة يوسف ]

عندما قال:

وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
[ سورة يوسف ]

في الثانية جاؤوا بأخيهم، ودخلوا في الثالثة في اللقاء الماضي فعرفهم بنفسه:

قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
[ سورة يوسف ]

فعرفوا يوسف عليه السلام، فأعطاهم قميصه، فألقوه على وجه أبيهم.

فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
[ سورة يوسف ]

الآن الدخول الأخير، وختام القصة: الآن دخلوا على يوسف هذا دخول السرور والابتهاج لكل الأطراف (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ)، (آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) استقبلهم بالعناق والتقبيل، آواهم إليه؛ ضمهم إليه، هذا ما يفعله الحبيب بحبيبه بعد غياب وقيل: إن مدة الغياب كانت أربعين سنة، وقيل أكثر من ذلك، حتى قال بعض المؤرخين: إن مدة الغياب كانت ثمانين سنة، فقد كانت الأعمار أطول من أعمار أهل زماننا، والله أعلم، لكن هي مدة طويلة بين إلقائه في الجب واجتماعه بأبيه.
المرأة دائماً شأنها الحياء والستر
(آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) أبويه على التغليب، الأب والأم يطلق عليهما في اللغة العربية الأبوان من باب التغليب، والعرب تغلب الذكور على الإناث، فإذا كان هناك جمع من النساء وبينهم رجل أو رجلان فيخاطبون: أيها الأخوة، ولا مانع أن يقال بعدها: أيتها الأخوات تخصيصاً لهن، لكن العرب تغلب الذكور، وهذا ليس من باب تفضيل الذكر على الأنثى، وإنما من باب أن المرأة دائماً شأنها الحياء والستر، فتُستر حتى في اللغة، فليس من باب عدم الاعتراف بها، أو تهميشها كما يظن البعض، لكن اللغة العربية في الأصل تغلب الذكور من باب أن العرب في الأصل حتى قبل الجاهلية كانوا يحمون المرأة يقول عنترة:
وأغضُّ طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
{ عنترة بن شداد }
فالعرب عموماً المرأة لها عندهم مكانة، طبعاً بغض النظر عن ممارسات الجاهلية فقد جاء الإسلام وصححها، حتى في التعامل مع المرأة، كان بعض العرب يرثون المرأة كأنها متاع، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
[ سورة النساء ]

كان هناك ممارسات خاطئة، لكن في الأصل العربي عنده نخوة، غيرة على النساء فإن سترها أو ستر اسمها من باب الإكرام لها، بخلاف ما يظن اليوم، اليوم بعض الدعوات النسائية - إن صح التعبير - تُكثر من قولها: نريد حقوقاً للمرأة، و، و، إلى آخره، ولا أجد ولا أسمع أكثر من دين الله عز وجل إعطاءً للمرأة لحقوقها بالشكل الصحيح، وهو أن تأخذ حقها دون أن تزاحم الرجال، وأن تنال كرامتها وشأنها دون أن تصبح سلعة مبتذلة، على كل حال العرب تغلب (أَبَوَيْهِ) الأب والأم، الأبوان الأب والأم، لكن قال المؤرخون: إن أم يوسف توفيت، وهي حامل بأخيه بنيامين، هكذا تقول الروايات فإن كان كذلك فهذه خالته، والخالة بمنزلة الأم لأنها زوجة الأب، فتزوج يعقوب عليه السلام من أختها، فإما أن (أَبَوَيْهِ) هنا هما أبوه وأمه على الحقيقة، أو أبوه وخالته التي هي بمنزلة الأم، فالعم بمنزلة الوالد، والخال بمنزلة الوالد، والخالة بمنزلة الأم، وهذا ورد به أحاديث صحيحة (آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) أي آوى أباه وأمه، أو أباه وخالته التي هي بمنزلة أمه.
إذاً هو استقبلهم خارج مصر، أو خارج نطاق المدينة، المدينة التي كان فيها، هم جاؤوا من كنعان، فخرج إليهم، المشتاق يخرج ليستقبل كما خرج الصحابة الكرام لاستقباله صلى الله عليه وسلم يوم جاء مهاجراً، فخرجوا إلى مشارف المدينة لاستقباله، فدائماً الإنسان المهم يُستقبل من خارج الحدود، أو من الحدود.
وهو سنة أو ندب أن يستقبل الغائب من مكانٍ أبعد من البيت، وهذا يفعله اليوم الناس، فإذا جاءك ضيف مهم فإنك تنزل إلى الشارع لتستقبله، ولا تنتظره في بيتك وإنما تنزل إلى الشارع، وكذلك تشيعه إذا أراد أن يخرج فتخرج معه إلى سيارته، وتفتح له الباب، هذا يسمى تشييع الضيف، ثم تودعه إلى باب السيارة فكلما كان الضيف مهماً استقبلته خارج بيتك وودعته إلى خارج بيتك.

الأمن من أكبر نعم الله على الإنسان:
(وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) مصر هي مصر المعروفة اليوم، المصر يُطلق على المدينة بشكل عام، لكن هنا معروف تاريخاً أن مصر هي مدينة مصر المعروفة، واليوم في مطار القاهرة كتبوا هذه الآية بلوحة كبيرة: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) إن شاء الله دائماً تبقى البلاد في أمن وأمان (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) الأمن نعمة كبيرة لا يعرفها ولا يعرف قدرها إلا من فقدها، الأمن من أكبر نعم الله على الإنسان، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ عن عبيد الله بن محصن رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه، مُعافى في جَسَدِهِ، عندهُ قوتُ يومِه، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها }

[أخرجه الترمذي]

السرب هو الجماعة
السرب هو الجماعة، مثل سرب الطيور (آمِنا في سِرْبه، مُعافى في جَسَدِهِ عندهُ قوتُ يومِه، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا) أي ما نقصك شيءٌ من الدنيا إذا أصبحت صباحاً آمناً في سربك، لا تخاف، ليس هناك ملاحقة قضائية بحقك، ليس هناك إنسان يطلبك يريد بك شراً، معافى في جسدك؛ لا يوجد عندك فشل كلوي نسأل الله السلامة، ولا تخثر بالدم، ولا جلطة في القلب نسأل الله السلامة والعافية، تُبصر، وتسمع، وتشم، وحواسك تعمل فأصبحت معافى في جسدك، عندك قوت يومك أي الكفاية، عندك ما تأكله اليوم، لن تضطر لأن تقترض لتأكل، أو تضطر أن تجوع (عندهُ قوتُ يومِه) قال: (فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا) فقدَّم الأمن على نعمة الكفاية، ونعمة العافية، قدم الأمن على كل شيء: (آمِنا في سِرْبه) لأن الإنسان حقيقةً إذا لم يكن آمناً فلا يستمتع بطعام، ولا يستلذ بعافية، بل إن من المصائب التي تأتي على الجسم، ومن الأمراض التي تصيب الجسم، ما يكون سببها نفسياً بسبب عدم الأمن والأمان، وكم أصاب الناس أضرارٌ في أجسادهم بسبب انعدام الأمن والأمان في بلادهم، فقدم الأمن والأمان، فالله تعالى لما امتنَّ على قريش قال:

الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
[ سورة قريش ]

وفي المقابل:

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
[ سورة النحل ]

الجوع والخوف مقابل الشبع والأمن، لكن كيف يتحقق الأمن؟ (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ).

الأمن نوعان:
1 ـ أمن فردي:
الأمن نوعان: أمن فردي، وأمن مجتمعي، أمنك الفردي لا يتحقق إلا بالإيمان، تقول لي: والله يتحقق بحرس شخصي، نحضر سرية حماية دائماً، اثنين ينتظرونني عند السيارة، أجهزة لكشف إذا كان هناك قنبلة أو أي شيء آخر، لا، لا أبداً، الأمن حالة نفسية داخلية، وأحياناً أُناس وترون في وسائل الإعلام يكون عندهم من وسائل الحماية ما عندهم، إذا سمعوا صيحة:

وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
[ سورة المنافقون]

تجده يختبئ تحت الطاولة، مع أن كل وسائل الحماية حوله، لأنه ليس آمناً، بالظاهر تظنه آمناً، بالحقيقة خائف، لأن الأمن لا يكون إلا للمؤمن، يستحيل أن يتمتع بالأمن غير المؤمن، قال تعالى:

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
[ سورة الأنعام ]

كل الأمور بيد الله
هنا الظلم بمعنى الشرك كما فسره صلى الله عليه وسلم، أي إيمان مع توحيد، أي كل الأمور بيد الله، قال: (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) ولو قال: أولئك الأمن لهم لاحتمل أن يكون ولغيرهم، لكن عندما قال: (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) قدم الجار والمجرور على الاسم الأمن، هذا اسمه الحصر والقصر، (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) أي وحدهم، أي لن تجد آمناً غير المؤمن، لن تجد آمناً غير موحد، فإذا كان عنده شرك فهو يريد أن يرضي فلاناً وفلاناً فلا يتمتع بالأمن، أما المؤمن فقد جعل الهموم كلَّها هماً واحداً، همّ آخرته ومعاده، فكفاه الله الهموم كلَّها، هذا أمن الإيمان، ولن تجد آمناً حقيقةً أقول حقيقةً أي مرتاح من داخله، يسلم الأمر لله، لا يوجد عنده مشكلة إن جاء الموت الآن أو إن جاء بعد سنة أو جاء بعد عشر سنوات، لأنه مستعد للقاء الله، لا يوجد عنده مشكلة في أن تصيبه مصيبة، لأن الله عز وجل الأمر بيده وحده، ولن يأتي منه إلا الخير.

قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
[ سورة التوبة ]

هذا هو الأمن، الأمن ألا تتوقع حدوث مصيبة، أو ألا تتوقع شيئاً يسوءك، أما السلامة فشيء آخر، السلامة لو مضى اليوم كله والحمد لله الصحة بخير، والمال بخير، ولم يحدث معي حادث سير، هذه سلامة، لكن الأمن أن آوي إلى فراشي وأنا أتوقع أن الغد إن شاء الله أيضاً لن يصيبنِي إلا ما كتبه الله لي، وإن أصابني شيء فيه ما أظنه مكروهاً فهو إن شاء الله رفع درجات وتكفير سيئات، فأنا مستسلم، هذا أمن، آمن من الغد، من المستقبل.

أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
[ سورة يونس ]

أي لا يحزنون على ما مضى، ولا يخافون مما سيأتي، فالأمن الفردي الداخلي لا يتحقق إلا بالإيمان.

2 ـ أمن مجتمعي:
الأمن المجتمعي لا يتحقق إلا بالعدل
الأمن المجتمعي لا يتحقق إلا بالعدل، القانون لا يحقق أمناً مجتمعياً، أمن مجتمعي حقيقي لا يحققه القانون، ودونكم البلاد التي ينتشر فيها السلاح والقانون قوي وصارم لكن بلحظة ينفلت السلاح بيد الناس، الأمن الذي تظنه أمناً بثلاث دقائق تعلم أنه هو ليس أمناً نهائياً، بأقوى البلاد، إذا غابت سلطة القانون عن الناس، وهذا لا يعني أني لا أؤيد سلطة القانون بل على العكس، إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، كما يقول سيدنا عثمان بن عفان، أحياناً بعض الناس لا تردعهم آيات الله، لكن يردعهم السلطان الذي يقيم لهم القانون، فأنا مع إقامة القانون، لكن الأمن الحقيقي المجتمعي يحتاج إلى عدل.
وَراعَ صاحِبَ كِسرى أَن رَأى عُمَراً بَينَ الرَعِيَّةِ عُطلاً وَهوَ راعيهـــا وَقالَ قَولَةَ حَقٍّ أَصبَحَت مَثَـــــــــــلاً وَأَصبَحَ الجيلُ بَعدَ الجيلِ يَرويها أَمِنتَ لَمّا أَقَمتَ العَدلَ بَينَهُـــــــــــــمُ فَنِمتُ نَومَ قَريرِ العَينِ هانيهــــــــا
{ حافظ ابراهيم }
قال له: عدلت، فأمنت، فنمت، هذا القانون، عدلت فأمنت.
عندما يكون هناك عدل يكون هناك أمن مجتمعي، قد تقول لي: هذا الأمر ليس بيدنا، اليوم العالم يعيش حالة من الظلم فالأمن معدوم، الأمن الحقيقي، إلا ما تفرضه سلطة القانون – أدام الله سلطة القانون في البلاد لأنها الرادع الحقيقي حالياً - لكن إذا قلت لي: أنا ماذا أستفيد من هذه الفكرة؟ تستفيد منها في العدل في المجتمع الصغير، إذا كنت أباً وعدلت بين أولادك يتحقق الأمن في بيتك، أما إذا كنت تدخل إلى البيت ويركض ابنك الألمعي الذي يعرف الكلام، ويُقبلك قبلتين، فتحتضنه وترفعه، وتجلس معه ساعة، والثاني الذي لا يجيد ذلك قابع في زاوية الغرفة وينظر إليك، لا تظن أنه تاركك، هو ينتظر اللحظة المناسبة ليرُد لك الصاع صاعين، انتبه، انتبه، يجب أن يكون هناك عدل، الآن يكبر الأولاد الولد الذي قعد مع والده ووالدته ورعاهم، يقول الأب: أريد أن أسجل له البيت، أنت تشعل في البيت فتنة رعاك وأكرمك الله سيكافئه على صنيعه، أما المال فله ولأخيه، هذا هو العدل.
إذا كنت مديراً في شركة، موظف يتأخر كأني لم أره، والثاني تأخر مرة واحدة فأقمت الدنيا ولم تقعدها، لأن الأول أوصتني فيه الوالدة، والثاني ليس ابن خالتي ولا ابن عمتي، فأنت تشعل حرباً، وتخرب شركتك بيدك، لأنك ما أقمت العدل، فلا يوجد أمن، لن يكون هناك أمن بالشركة، دائماً يوجد مناكفات، أما عندما يحاسَب الجميع حساباً واحداً بالعدل حتى المذنب عندما يُعاقب يقبل العقوبة، لأن العقوبة على الجميع، فالأمن المجتمعي يتحقق بالعدل.
على كل أطلنا في ذلك لكن كله من قوله: (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) نعمة الأمن.

تحقق رؤيا يوسف عليه السلام:
الآن:

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
[ سورة يوسف ]

الإعجاز الإخباري في القرآن الكريم
العرش؛ هو السرير الذي يجلس عليه الملك في زمنهم، الملك يجلس على السرير ونحن قلنا: إن هذا العصر كان عصر الهكسوس بمصر، لا يوجد فراعنة، وهذا إعجاز إخباري بالقرآن الكريم عن هذا العصر الذي يذكرونه الآن، كان الملوك هنا بهذه الفترة، لكن بعد ذلك كان الفراعنة، فكان يسمى فرعوناً، أما في هذا العصر فيسمى ملكاً، فالملك له عرش، وهو السرير الذي يجلس عليه، ويكون مرتفعاً قليلاً فيجلس عليه العزيز أو الملك، يوسف هو العزيز، عزيز مصر، وهو خازن بيت المال كما يقال، أو رئيس الوزارة
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أجلسهما على السرير إكراماً لهما، وتمييزاً لهما، ورفعاً لدرجتهما.
(وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) بعض المفسرين قالوا: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) أي لله، الجميع خرّ ساجداً لله، شكراً على نعمة اللقاء بعد الفراق، وشكراً على ما وصل إليه يوسف من هذا المقام العلي، وشكراً لله على نعمة الأمن والأمان الذي وصلوا إليه، لا أؤيد هذا القول لأن السياق في البداية:

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
[ سورة يوسف ]

سجود العبادة لا يجوز لغير الله
والرؤيا تتحقق، فالسجود هنا يعود للمذكور الأول (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ) أي يوسف، (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ) (وَخَرُّوا لَهُ) ليوسف (سُجَّدًا) هل يجوز السجود لغير الله؟ لا يجوز السجود لغير الله، سجود العبادة لا يجوز لغير الله، لكن هم تحيتهم كانت السجود، أما في شريعتنا فتحيتنا (السلام عليكم) علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا السجود لا يشترط أن يكون سجوداً بالمعنى الذي نعهده الآن، وهو أن ينزل الإنسان ويضع جبهته وأعضاءه على الأرض، لا يشترط ذلك، قال بعضهم: سجودهم كان بالإيماء بالوجه هكذا، أي خفض الرأس، وقال بعضهم: بل هو ما يشبه ركوعنا، أي يخفض ظهره مع رأسه، هكذا كانت تحيتهم، إجلالهم هكذا، سجود التعظيم لا يكون إلا لله، سجود العبادة لا يكون إلا لله، ألم يقل تعالى:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
[ سورة الإسراء ]

فهل كانوا يريدون سجود العبادة لآدم؟ عندما يأمر الله تعالى بالسجود لأحد مخلوقاته سواءً كان بصيغة الإيماء، أو بصيغة الانحناء، أو حتى بصيغة السجود على الأرض فلا مانع من ذلك، لأن هذا امتثال لأمر الله، فهو عبادة لله، لكن لا يجوز لي اليوم أن أسجد لإنسان قطعاً، في شريعتي لا يجوز، في الإسلام لا يجوز السجود لإنسان، وقد ختمت الشرائع ولن يأتِي نبي يقول: أمرني الله أن أسجد لفلان من الناس، فالسجود لغير الله حرام، إن كان للعبادة فهو والعياذ بالله شرك، وإن قال: قصدت به التحية، نقول له: أثمت وعصيت، حتى لو قصدت التحية، لأن تحيتنا ليست بالسجود نحن أهل الإسلام، أما هم فسجودهم صحيح ولا شيء فيه، لأن الله أمر به، ورؤيا الأنبياء في الأصل حق.
(وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) ليوسف عليه السلام، لكن قبلتهم واتجاههم لله في العبادة، لكن إكرامهم ليوسف لما وصل إليه، وتحقيقاً للنبوءة التي كانت في الرؤيا في بداية القصة.

تأويل القرآن هو وقوع وعده ووعيده:
وقال يوسف: (يَا أَبَتِ) متلطفاً (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ) التأويل قلنا سابقاً: التأويل الوقوع، المآل، ما مآل الشيء؟ وقوعه (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ) هي أصبحت واقعاً، تأويل القرآن يعني وقوع وعده ووعيده، الله تعالى قال:

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
[ سورة البقرة ]

التأويل هو وقوع الوعد والوعيد
فإذا جاء إنسان وعمل بالربا، ورأيت ماله ينمو وينمو، ثم بعد حين بلغك أن هذا الإنسان قد مُحقت بركة ماله، إما بأنه مرض مرضاً خطيراً فوضع كل ما يملك لعلاجه ولم يفلح أو أن شركته أفلست، تلك الشركة التي أنشأها بالربا وحصل ما حصل، وأصبح الناس يلاحقونه، ورفعت البنوك عليه الدعاوى، وهرب من البلد، هذا تأويل قوله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا) وقع (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) فإن وجدت إنساناً أقرض إنساناً قرضاً حلالاً، قال له: هذه مئة، أرجعها مئة بعد سنتين فبارك الله له فيها، وقال لك: والله وجدت من الخير ما وجدته بهذا القرض فهذا تأويل قوله تعالى: (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)، فالتأويل هو وقوع الوعد والوعيد، يقع الذي أمر به الله.

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
[ سورة طه ]

فإذا وجدت المعرض عن الله في معيشة فيها ضيق في الصدر، وقال لك: أنا منزعج ولا أجد السعادة، ولا الهناء، قل: هذا تأويل قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) فالتأويل هو وقوع الشيء، المآل، وعندنا في الشريعة فقه يُسمى فقه المآل، أي أن تنظر إلى مآل الشيء، وليس إلى حقيقته، الآن إلى ماذا يؤول؟ فقال: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) كانت رؤيا في المنام، صارت واقعاً على الأرض هذا مآلها (قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) يُقال: أحسن إليّ، ويُقال: (أَحْسَنَ بِي) أحسن فلانٌ إليّ؛ أي طلبت منه مئة فأعطاني مئة، أقول: أحسن إليّ، جزاه الله عني خيراً، لكن عندما طلبت منه شيئاً فقال لي: هذا لك، وأولادك يعملون عندي إن شاء الله وعملك مؤمن، وكل ما تريده مُحقق، وإذا كان عندك قريب لك عنده مشكلة أرسله لي هذا (أَحْسَنَ بِي) أي عمَّ إحسانه، ليس إحساناً خاصاً، وإنما عمَّ إحسانه فشملني أنا ومن حولي، فهنا قال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) فهي أوسع من أحسن لي.
(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) الجب أسوأ من السجن، احتمال النجاة في الجب بأحسن أحواله عشرة بالمئة، وهو ولد صغير، السجن غالباً يدخل ويخرج غالباً لا يوجد هلاك، ولو لم يخرج فإنه يبقى حياً في السجن، المشكلة الرئيسة كانت في الجب، فلماذا قال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ)حتى لا يُحرج إخوته، ويذكرهم بفعلتهم، السجن هم لا علاقة لهم مباشرة به، هو سُجن ظلماً، لكن ليس لإخوته علاقة بالأمر، وإن كانوا هم سبب المصيبة في الأصل، أما الجب لو قال لهم: وقد أحسن بي إذ أخرجني من الجب، سيضعون عيونهم في الأرض خجلاً من يوسف، ما أراد ذلك لأنه قبل قليل قال لهم:

قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
[ سورة يوسف ]

يغفر ويسامح.

أدب الأنبياء:
قال تعالى:

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
[ سورة الحجر ]

الصَّفْحَ الْجَمِيلَ يقتضي ألا يكون بعده عتاب
(الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) يقتضي ألا يكون بعده عتاب، إذا صفحت فلا تقل له: لكن أنا لم أنس، ما هذا الصفح؟! صفحت إذاً عليك أن تنسى، الصفح أي أعطه صفحة وجهك، كأنك لم تر: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) فهنا قال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) هذا أدب الأنبياء، لا تذكر إنساناً بسوءٍ فعله معك، ذكره بإحسانه، لكن لا تذكره بسوئه، وتذكر إساءتك للناس، ولا تتذكر إحسانك لهم، تذكر إساءتك للناس، وتذكر إحسان الناس لك، وليس العكس.
(وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) البدو؛ البادية، مصر كانت مدينة مهمة، أرض كنعان يبدو كانت من البدو، أي من البادية.
(مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ) هذا أدب آخر (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) ما قال: من بعد أن فعل إخوتي ما فعلوه بي، مع أنهم هم الذين فعلوا ذلك ولما واجههم بالحقيقة (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ) لم يقل: ما فعل الشيطان بيوسف هم الذين فعلوا، نحن نلقي أحياناً أحمالاً على الشيطان حتى نتبرأ من المصيبة، يقول لك أحدهم عقب معصيته: الله يلعن الشيطان، لكن أنت أين كنت عندما عصيت الله؟ انتبه لنفسك، لكن هنا الآن مقام جمال، استقبال، لا يليق به، انتهى، استغفروا، وقالوا لأبيهم:

قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
[ سورة يوسف ]

(قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) يوسف قال لهم: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) أبوهم قال لهم:

قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
[ سورة يوسف ]

أبوهم، ما رضي أن يستغفر، أبوهم قال لهم: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) أعطوني وقتاً لأنسى فعلتكم، يوسف قال: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) بعد ذلك لا يليق الآن أن نعود إلى الماضي ونقول: أنتم فعلتم، قال: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) الشيطان، (نَزَغَ) من النزغ، نزغت الدابة مثلما نقول: نغزت، نغز ونزغ نفس الشيء، فهو شيء يسير، وكأنه شيءٌ يسير، خفف الفعل (نَزَغَ الشَّيْطَانُ) أي أفسد العلاقة (بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) وكلامه صحيح لأن الشيطان دخل لكن بسببهم (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) ننظر أيضاً إلى كلمة (إِخْوَتِي) ما تخلى عنهم، ليس بيني وبين هؤلاء المذنبين (بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) الرحم تبقى رحماً.

الله تعالى لطيف بعباده:
ربنا عز وجل من أسمائه اللطيف
(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) اللطيف بالأشياء المادية المحسوسة ضد الثخين، أي كثافته قليلة، القطن لطيف، الحديد ليس لطيفاً، فاللطيف لا تشعر به، ربنا عز وجل من أسمائه اللطيف، فهو يراقب عباده بلطف، هو الآن جلّ جلاله مطَّلع علينا، ويراقبنا، ويسمعنا لكن بلطف، بكل لحظة معنا لكن بلطف، الهواء الذي خلقه الله لطيف، لو كان الهواء يتحرك بسرعات عالية جداً لا يبقى شيء على شيء، وأحياناً يحصل ذلك من أجل أن ترى لطف الهواء، الطفل الصغير عندما ينزع منه السن اللبني بلطف، وهو يأكل ينزل بلطف، إذا كُسرت - نسأل الله السلامة - يد الإنسان فالمُجبِّر يضع العظمة على العظمة فقط وتنتهي مهمته، اللطيف يجبرها، ترجع الخلايا بعد أن نامت من عشر سنوات، لأن الخلايا العظمية تنام، لو لم تنم يصير الإنسان عملاقاً، فتنام، تقف لكن لا تموت، يحدث كسر فيضع المجبر العظمة على العظمة وتنتهي مهمته، اللطيف جلّ جلاله يجبر الكسر من غير أن تشعر.

الله تعالى عليمٌ بالأشياء حكيمٌ يضعها في مواضعها:
(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) العليم؛ من العلم، والحكيم؛ من الحكمة، العلم يحتاج إلى حكمة، والحكمة تحتاج إلى علم، فهما شرطان لازمان غير كافيين، كم من إنسان عنده علم لكن لا يوجد عنده حكمة؟! يتكلم كلاماً في مكان لا ينبغي أن يتكلمه، يوجد كثير من الناس لا يوجد عندهم حكمة، عنده علم لكن لا يوجد حكمة، و أُناس عندهم حكمة، والحكمة مقدمة على العلم لكن المعلومات قليلة، أيضاً مشكلة، لكن الحكمة قبل العلم، حتى بالفائدة الحكمة قبل.

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
[ سورة البقرة ]

فالله تعالى عليمٌ بالأشياء، حكيمٌ يضعها في مواضعها.

يوسف عليه السلام آتاه الله الملك فملك نفسه:
ثم يقول تعالى:

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
[ سورة يوسف ]

الملك أولاً أن تملك نفسك
يخاطب الله تعالى: (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) انظر إلى هذا الكلام ما أجمله(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) بعض المفسرين من اللطائف قالوا: الملك أنه ملك نفسه، لو لم يملك نفسه لواقع امرأة العزيز، ولما أصبح عزيز مصر، لو وقع في المعصية يومها حاشاه لو فعلها ما كان الآن له هذا المشهد الجميل، وهذا اللقاء الرائع، وهذا المنصب العظيم في مصر (ادْخُلُوا مِصْرَ)، لكن لما آتاه الله الملك فملك نفسه، قال بعض جنرالات الحروب في بعض الدول: ملكنا العالم ولم نملك أنفسنا، أي هو يستطيع أن يتحكم اليوم بالعالم لكن امرأة تُغريه، كأس خمر يُذهب عقله، ويقول لك: أنا أسيره لا أستطيع تركه، ما ملك نفسه، فالملك أولاً أن تملك نفسك، طبعاً هنا (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أيضاً يوسف أصبح يملك ما يملك، و(الْمُلْكِ) غير المِلك، يوجد مِلك اليمين، ويوجد مُلك، هذا البيت ملكي، أملكه فهو ملكٌ لي، أما (الْمُلْكِ) فهو الحكم، أي أنت لا تملك الأشياء فقط، لكن لك الحكم النافذ فيها، فالمَلك يملك ويحكم، المالك يملك لكنه لا يحكم، لذلك سورة الفاتحة:

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
[ سورة الفاتحة ]

وفي قراءة صحيحة: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ قراءتان صحيحتان فهو مالكٌ ومَلك جل جلاله، يملك الأشياء.

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ..(255)
[ سورة البقرة ]

وحكمه نافذٌ فيها فهو الملك جلّ جلاله، أنت أحياناً تملك لكن لا تحكم، تقول لي: أنا لي أملاك كثيرة بالبلد الفلاني، لكن لا أستطيع الدخول للبلد أصلاً، ممنوع من الدخول إليها، لكن أملك، هذا ملك ناقص، فالمُلك هو أن تحكم.
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) كل شيء تحت تصرف يوسف كان في مصر، يأمر فيُطاع، له الحكم في مصر، هذا (الْمُلْكِ) (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) (تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ)تعبير الرؤى التي كان يعبرها يوسف، يعلم مآلات الأشياء، يعلم مآلات الأحاديث.

من يتولاه الله يتابعه ويوفقه ويمنحه السكينة والأمن والرضا:
الفطر هو ابتداء الخلق
(فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي) الفاطر، ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما علمت ما معنى كلمة فاطر إلا عندما جاءني أعرابيان يختصمان في بئر، البئر لي أو لك، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي أنا ابتدأت بها، أنا أول من حفرها، فهي لي، فالفطر هو ابتداء الخلق، أنت الذي بدأت ذلك، فيقال: أنا فطرتها أي أنا ابتدأت حفرها، الثاني قال له: أنا الذي حفرتها، أنا جئت للبئر ووجدتها قديمة حفرتها واستخرجت الماء، قال له: أنا فطرتها، أنا ابتدأت الحفر، فالملك للأول الذي بدأ بالحفر، أنا أول من فعل ذلك، فالفاطر هو الذي يخلق ابتداءً على غير مثالٍ سابق، شيء لم يكن موجوداً أصلاً، فربنا عز وجل فاطر، وخالق، ومبدع، ومصور، وبارئ، خالق، فاطر، بديع، مصور، وبارئ، كل واحدة تعني الخلق ولكن تعني معها صفة مزيدة مثلاً البارئ خلقه سالمٌ من العيوب، البرء؛ هو السلامة من العيب، برأ من المرض: شفي من المرض، البديع فيها على غير مثالٍ سابق مثل البدعة، يقول: هذه بدعة أي لم تكن موجودة سابقاً، المصور؛ أعطاه صورته، شكله.

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
[ سورة آل عمران ]

فشخص عيونه زرقاء، وآخر عيونه خضراء، والثالث عيونه بنية، وشخص طويل، وآخر قصير، هذا تصوير، مع الخلق يوجد تصوير، فكل اسم من أسماء الله الحسنى المتعلقة بالخلق يعطي معنى إضافياً، الفطر على غير مثالٍ سابق بلغة أهل اليمن، طبعاً ابن عباس رضي الله عنهما، مستحيل عندما يقرأ آية: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لا يعرف أنها خالق السماوات والأرض، هو ترجمان القرآن، هو حبر الأمة، لكن قصد ابن عباس أنه ما فهم دلالة الفطر تحديداً إلا من لغة أهل اليمن، لما جاءه هذان الأعرابيان يختصمان، فقال له: أنا فطرتها، ففهم المعنى الإضافي للفطر وهو الابتداء بالأمر على غير مثالٍ سابق.
(فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي) إذا كان الله وليك فلا شيء يُخيفك في الوجود كله، (أَنْتَ وَلِيِّي) كل إنسان له ولي، فمن وليك؟ يوجد أُناس وليهم الملك الفلاني، أو التاجر الفلاني، أو الغني الفلاني، أو الصناعي الفلاني وليه، ولي أمره يرجع إليه: (أَنْتَ وَلِيِّي).

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
[ سورة محمد ]

أنت انظر إذا كنت في الطريق، إذا وجدت شاباً بالرابعة عشرة أو بالخامسة عشرة، يلبس ثياباً مرتبة، سمته حسن، لا تخرج من فمه كلمة نابية، مرت امرأة في الطريق فابتعد وأفسح لها الطريق، كان في الحافلة فصعدت امرأة كبيرة في السن فوقف، وأجلسها مكانه تقول: هذا الطفل مربى، له ولي، هناك من يتولى أمره، إذا رأيت طفلاً ثيابه متسخة، يمشي في الطريق بالعرض، يُخرج ألفاظاً بذيئة، تخجل أن تذكرها بينك وبين نفسك، إذا كان في الحافلة، وصعدت امرأة وكأنها لم تصعد، لا يوجد عنده مشكلة تبقى واقفة، تقول: هذا الولد لا يوجد له ولي، ليس له ولي أمر، أو ولي أمره قد تخلى عنه.
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) المولى يؤدبك جل جلاله، يعلمك، يكون عندك أخلاق، نظرتك فيها غض بصر، سمعك لا تسمع أشياء لا ترضي الله عز وجل، تعاملك مع الناس راق، لا تسيء لإنسان، معاذ الله مثلاً تتلاعن مع إنسان، والعياذ بالله.

{ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من الكبائر شتْمَ الرَّجُل والديه، قال: وهل يشتِم الرجل والديه؟ قال: نعم يَسُبُّ الرجلُ أبا الرَّجُل وأمه فيسبُ أباه وأمه، إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه }

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي]

{ عن معاذ بن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تزال الأمة على شريعة ما لم تظهر فيهم ثلاث؛ ما لم يقبض منهم العلم، ويكثر فيهم ولد الخبث، ويظهر فيهم السقارون، قالوا: وما السقارون يا رسول الله؟ قال: بشر يكونون في آخر الزمان تكون تحيتهم بينهم إذا تلاقوا التلاعن }

[أخرجه الحاكم ]

كما سماهم صلى الله عليه وسلم، تحيتهم التلاعن في آخر الزمن، تخيل أن إنساناً يرى إنساناً عن بعد يريد أن يُحييه، يحييه باللعن، وذاك يضحك ويرد عليه بلعنٍ مثله، هذا من؟ هذا ليس له مولى، لا يوجد تربية.
(أَنْتَ وَلِيِّي) فإذا تولاك الله عز وجل فأنت صرت وفق المنهج (أَنْتَ وَلِيِّي).
مرة - هذه للطرفة - أحد الأخوة الكرام كان عنده سيارة أخذها ليصلحها صار فيها مشكلة، فقال لي: والله ذهبت لعند من يصلح السيارات، أخذت كرسياً وجلست بانتظاره، ثم قال لي: مقابل الدكان يوجد بناء عال، في الطابق الخامس أو السادس طفل صغير بالعمر، ربما بالعاشرة من عمره، قال لي: يخرج على الشرفة ويتنابز بالألقاب مع رفيقه في الأسفل، يتنابز معه بألفاظ يندى لها الجبين، شيء غير معقول يصدر عن طفل، فيسبه وذاك يسبه، فقلت لهذا الطفل: عيب، استحِ، اخجل، فقال لي هذا الميكانيكي الذي يُصلح السيارة: اتركه ما زال صغيراً، في المرة الثانية، الثالثة اتركه، قال لي: استغربت، تركته، بعد قليل دخل الولد، والحمد لله توقفت هذه الكلمات البذيئة، ثم بعد عشر دقائق ذهب الثاني الذي كان يتكلم معه بهذه الكلمات، فالحمد لله انحلت الأمور، ثم قال لي: بعد قليل وجدت هذا الولد نفسه خرج إلى الشرفة ونادى لمن يصلح لي السيارة: بابا، كان هذا الميكانيكي والده من أجل ذلك كان يقول لي: اتركه إنه ولد، لا يوجد تربية، فإذا تولى الله عز وجل الإنسان تكون أخلاقه مختلفة، أدبه مختلف، إلى آخره.
(أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) في الدنيا يهذبُك، ويصلحك، ويتولاك، ويتابعك، ويوفقك، ويُيسر لك، ويمنحك السكينة، والأمن، والرضا، وفي الآخرة يتولاك فيدخلك إن شاء الله الجنة.

من أدب المؤمن أن يسأل الله أن يلحقه بالصالحين من عباده:
(أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) انظروا هذا المشهد العظيم، المشهد العظيم هنا ما أنسى يوسف أن الحياة فانية، وأننا سنموت.
الإسلام بالمعنى العام هو الاستسلام والتوجه لله
كل هذا (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ)، (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) وصاروا بالقصر، وهو يتنعم، ما أخرجته النعمة عن التفكير بأن المرجع إلى الله فقال: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ما أنساه أن مهمته في الحياة أن يخرج منها مسلماً كما دخل إليها مسلماً، فالإسلام دين الأنبياء جميعاً، يوسف عليه السلام مسلم بمعنى الإسلام العام وليس بمعنى الشريعة الخاص، نحن مسلمون بالمعنى العام وبالمعنى الخاص، لكن موسى عليه السلام وقومه المؤمنين كانوا مسلمين بالمعنى العام، وهو الاستسلام لله، والتوجه لله.

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
[ سورة آل عمران ]

دين واحد، لكن الشرائع متعددة حسب الأزمان، أما الدين فهو الإسلام، فكان يوسف عليه السلام مسلماً، قال: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا) اقبضني إليك مسلماً (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) وهذا أدب جديد من آداب يوسف، ما قال: وأنا من الصالحين، قال (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي معهم، وهو نبي، وهو أصلح الصلحاء عليه الصلاة والسلام، لكن قال: (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) فمن أدب المؤمن أن يسأل الله أن يلحقه بالصالحين من عباده، والأنبياء صالحون، والشهداء صالحون، وكل إنسان عمله صالح فهو صالح، والعمل الصالح يصلح للعرض على الله، والعبد الصالح يصلح للعرض على الله.

العبودية لله تحقق صلاح الإنسان:
صنع الغرب المواطن الصالح
آخر شيء؛ الغرب يظن أنه قد صنع الإنسان الصالح، الحقيقة أن الغرب قد صنع المواطن الصالح، المواطن أي هو ضمن مواطنته، هو بفرنسا ضمن أنه هو مواطن فرنسي فهو صالح لفرنسا، فرنسا عندها قيم، يسمونها قيم المجتمع الفرنسي، مثلاً اليوم ظهر معهم أن الحجاب يعادي قيم المجتمع الفرنسي، مع أن الحجاب حرية شخصية، ومن قيم المجتمع الفرنسي الحرية، بأبسط الأحوال عندكم، ليس عندنا، أنا لا أحب كلمة تقال: كما يحق لها أن تتعرى يحق لها أن تتحجب، لا أخي، لا يحق لها أن تتعرى، بالمجتمع المسلم لا يحق للمرأة أن تتعرى، لأن حريتها هنا تقف عند الآخرين، أنا لا أقبل أن يخرج ابني إلى الطريق فيرى امرأة متبرجة شبه عارية، لا أقبل ذلك، بالمجتمع المسلم، لا نقول لها: من حقك أن تتعري، من حقك أن تتحجبي، لا أخي من حقك أن تتحجبي، لكن ليس من حقك أن تتعري، من واجبك أن تتحجبي، لكن وفق مجتمعاتهم هم كما أنك تقول الحرية لها أن تتعرى أو أن تلبس أي إشارة دينية، بأن تضع الصليب في رقبتها فرضاً، فمن حقها أن تضع الحجاب على رأسها، بقيمكم أنتم، لكن قيم المجتمع الفرنسي، أو قيم أي مجتمع غربي، هي قيم متبدلة بما يناسب أهواءهم، ومصالحهم، فهي ليست قيماً، على كل المواطن الفرنسي يعتبرونه مواطناً صالحاً وفق قيم المجتمع، أي هو مثلاً لا يلقي من نافذة السيارة القمامة، وهذا مطلوب ويجب أن يحصل في مجتمعاتنا أيضاً، بالمناسبة إذا وصل إلى إشارة المرور يقف عندها، مواطن صالح، يدفع الضريبة بآخر السنة، يدفع ما يترتب عليه ولا يتهرب، هذا مواطن صالح وفق قيمكم، الإسلام لا يريد مواطناً صالحاً، يريد عبداً صالحاً.

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
[ سورة الأنبياء ]

العبد أولاً لله، ثم يكون صالحاً، فالعبودية لله تحقق صلاحه، أما إذا لم يكن هناك عبودية لله فهذا المواطن الصالح الذي أنشأتموه يكون صالحاً في قيمكم أنتم التي ابتدعتموها لكن عندما تُقصف شعوب، وتباد شعوب فهو لا يوجد عنده مشكلة، فهو صالح ضمن المجتمع الذي هو فيه، هو لا يوجد عنده مشكلة أن تُباد شعوب مسلمة، وهو لا يزال ينتخب حكومات هي التي تبيد تلك البلاد، لأنه مواطن صالح، نحن نريد عبداً صالحاً، نريد عبداً صالحاً يصلح في كل مجتمع، في كل زمان، في كل مكان، لا يقبل الإساءة لأهل دينه، ولا لأهل غير دينه، لا يقبل أن يُقتل إنسان إن كان مسلماً، ولا إن كان غير مسلم أصلاً بغير حق، لا يقبل، فهذا العبد الصالح تحقق من عبوديته، والعبودية هي الخضوع لله، ألا نقول: طريق مُعبد أي مذلل؟ فأنت عبد لله عز وجل ثم أنت صالحٌ، أعمالك صالحة تصلح للعرض على الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين