العبر والدروس من الرسالات السابقة

  • الدرس السابع عشر: شرح الآيات 109-111
  • 2021-11-20

العبر والدروس من الرسالات السابقة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصلّي وأُسلِّم على نبينا الأمين، اللهم عَلِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين وبعد.


الدعوة إلى الله:
مع اللقاء السابع عشر والأخير من لقاءات سورة يوسف، وقد وصلنا في اللقاء الماضي إلى قوله تعالى:

قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
[ سورة يوسف ]

هذه الآية الكريمة مع قوله تعالى:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
[ سورة النحل ]

هما من أهم الآيات في كتاب الله تعالى حول الدعوة إلى الله، فهما يقرِّران أن الأصل في رسالة الإسلام أنها دعوة، الأصل في الإسلام أنه دعوة، والدعوة تقتضي أن يستجيب الإنسان أو لا يستجيب.
فليس هناك إكراه في الإسلام، وهذا ينفي كل التُّهم التي يوجُّهها بعض أعداء الإسلام وبعض أدعيائه بأن الإسلام انتشر بحدِّ السيف، سواءً قصدوا في ذلك ما يقصدونه من ورائه أو لم يقصدوا، لكن في حقيقة الأمر الإسلام دعوة، قال تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ).
(قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي)، أي هذا منهجي، هذه طريقي، قلنا: السبيل هي الطريق، وتُؤنَّث وتُذكَّر، هنا أُنِّثَت، قل هذه سبيلي.
يوجد آية ثانية:

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
[ سورة الأعراف ]

جاءت بالمُذكَّر، فالسَّبيل: تُذكَّر وتُؤنَّث لغةً، فيقول لك: قل هذه سبيلي، ما هذه السَّبيل؟ ادعُ إلى الله، هي سبيل الدعوة، والدعوة تَملِكُ أن تَقبَلها أو أن تَردُّها، أنا إذا اتصلت بك هاتفيَّاً ودعوتك إلى منزلي فلك أن تقبل دعوتي أو أن ترفض، بالمبدأ لك أن تقول لي: أوافق، ولك أن تقول لي: أعتذر، عندي موعد، فالدعوة تقتضي قبولاً أو رفضاً.

الابتعاد عن الخلط بين أخلاق الدعوة وأخلاق الجهاد:
الجهاد هو القوةُ التي تحمي الدعوة
في أصل منهج الإسلام أن الإسلام دعوة، بعض المسلمين من غير أن يشعروا خلطوا بين أخلاق الدعوة وأخلاق الجهاد، الدعوةُ لها جهادٌ يحميها، الجهاد هو القوةُ التي تحمي الدعوة، وليس هو سبيل الدعوة، الجهاد ليس دعوة إلى الله، الجهاد هو القوةُ التي تحمي الدعوة إلى الله تعالى، لأن كل حق لا بدَّ له من قوةٍ تحميه، هذا من بدهيَّات الحياة، في سورة الحديد:

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
[ سورة الحديد ]

مع الدعوة يوجد حديد، هناك حديد، فلا بد من الدعوة ولا بد من الجهاد الذي يحمي الدعوة، لكن لا نخلط بين أخلاق الجهاد.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
[ سورة التوبة ]

هذه في أرض المعركة.
وبين أخلاق الدعوة:

قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
[ سورة يوسف ]

هذه الآية الكريمة مع قوله تعالى:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
[ سورة النحل ]

بالتي هي أحسن وليس بالحسنى فقط.
فقضية الدعوة واضحة في دين الله، ديننا دعوة إلى الله، تدعوه، إن شاء وافق وإن شاء رفض.

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
[ سورة البقرة ]

والجهاد جاء ليَحمي الدعوة، لأنك إن لم تكن لك قوَّةٌ تحمي دَعوتَك فأعداء الدين سيُشكِّلون تلك القوَّة ويمنعونك من الدعوة، أعداؤك سيُشكِّلون تلك القوة ويمنعونك من الدعوة، ومنعُهُم من الدعوة يكون على ضَربين:
الضرب الأول: أن يمنعوك، يقول لك: ممنوع الدخول في الإسلام، إذا بثَثت درساً لم يناسب أهواءهم يحجبونه مباشرةً، منعوك من الدعوة.
وهناك ضربٌ ثان: يمنعونك من الدعوة حينما ينشرون الفساد في الأرض بشكل كبير بإعلامهم، وبجبروتهم، وبطغيانهم، ينشرون الفساد، فأنت تصبح تدعو الشباب إلى الله، فتجد هناك ألف طريق يصرفهم عن الحق، كأنهم بذلك منعوك من الدعوة أيضاً لكن المنع هنا بالقوة الناعمة وليس بالقوة الخشنة.
نحن دُعاة إلى الله
فمُحصِّلة الأمر نحن دُعاة إلى الله، كلنا، نحن لم نأت لنُحارب الناس، بل لكي ندعوهم إلى الله، لكن الدولة الإسلامية مُخوَّلة، مطلوبٌ منها أن تُشكِّل قوةً تحمي الدعوة إلى الله عز وجل حتى لا يعبث أحد بدين الناس، ولا ينال أحد من دين الله، ولا ينال أحد من رسولنا، ولا من ديننا، ولا من قُوَّتِنا، يصبح لنا قوة، نصبح مرهوبي الجانب.
لمَّا جاء ربعيّ بن عامر إلى رستم ملك الفُرس قال: (نحن قومٌ ابتَعَثنا الله تعالى لِنُخرج من شاء من العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد)
لكن لمَّا دخل عليه بقوة لا يستطيع أن يمنعه ويقول له: لا أسمح لك أن تدخل وتدعو الناس إلى الله عز وجل، معي قوة تحميني إن رفضت.
هذا هو الجهاد تحديداً، هو القوةُ التي تحمي الحق، وليست القوة التي تُجبِر الناس على الدخول في الحق، كما فَهِمَها البعض خطأً و ظُلماً، وعدواناً بقصدٍ أو بغير قصد.

الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن:
إذاً أول ما في هذه الآية: قل هذ سبيلي أدعو إلى الله، سبيلنا هو سبيل الدعوة بالحكمة وبالموعظة الحسنة، وبالجدال بالتي هي أحسن، لماذا؟
لأن هناك فريقاً من الناس يقبلون الحق لكن لم يصَلهُم بعد، هؤلاء يحتاجون إلى الحكمة فقط.
لك صديق يُحب الحق، وأهل الحق، لكن لا يعرف الحكم الشرعي، كيف تدعوه إلى الله؟ بالحكمة في القول، في المكان المناسب، في الزمان المناسب، على انفراد، الحكمة.
وهناك أشخاص يقبلون الحق لكن يحتاجون إلى ترغيب وترهيب، أي إن أعطيته الدعوة من غير وسائل ووعظ، وترغيب بجنة، وترهيب من نار، فإنه لا يستجيب، هذا ليس سهلاً.
قال: والموعظة الحسنة، هذا يحتاج إلى موعظة، وأن تكون الموعظة حسنة، والموعظة تعني أن تقول له: إن لم تفعل هناك عقاب من الله، إن فعلت هناك جنة، هذه موعظة، الموعظة الحسنة.
وجادلهم بالتي هي أحسن، هذه للصنف الثالث من الناس المعادين للحق، هؤلاء تحتاج أن تدخل معهم في جدال، فهؤلاء لم يقل لك: وجادلهم بالحسنى، بل قال: بالتي هي أحسن، هؤلاء الصنف الثالث الذين يعادون الحق، اتَّبِع معهم الأحسن وليس الحَسَن بل الأحسن، لأنه مُتمسِّك بفكرته فإن جادلته بسوء ازداد تمسُّكاً بفكرته السيئة، أما إن جادلته بالأحسن فإنه بعد قليل يلين قلبه للحق، إذاً سبيلنا هو الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.

الدعوة إلى الله على بصيرة:
البصيرة بصيرة القلب
(قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) إما أن نقف: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله، ثم نقرأ على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني، أو قُلْ: قل هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي، كل واحدة تعطي معنى.
البصيرة غير البصر، البصر للمحسوسات، أبصرتُ الشيء رأيته بعيني محسوساً مُشاهَداً.
البصيرة بصيرة القلب، فهنا على بصيرة للمعنويات وليس للمحسوسات، البصيرة هي ذلك النور التي يقذفه الله تعالى في قلبك من خلال صِلَتك بالله، هي الدليل الذي تعطيه للإنسان فتُقنِعه بالحق، هي التَّعليل الذي تُعلِّلُه له، أي إن سأل مثلاً: لماذا ندفع زكاة أموالنا؟ قل له: هذا حق الفقير.

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
[سورة التوبة ]

الصدقة تُطهِّر نفسك من الشُّح، تُطهِّر نفس الفقير من الحقد، الصدقة تُطهِّر مالك من تَعلُّق حق الآخرين به، وهكذا، تُزكِّيك، تنمو بمالِك، تُعطيك المضاعفة من الله، تُعلِّل له، هذه بصيرة، ولا تناوله الأمر هكذا، خذ أمراً واكتف من غير دليل، من غير تعليل، من غير نور من الله، من غير دعوة حسنة، هذه البصيرة، على بصيرةٍ.
(أنا ومن اتبعني) إذاً كل من يتَّبِع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يدعو إلى الله على بصيرة، في حدود ما يعلم ومع من يعرف، وليس الدعوة التفصيلية.

الله تعالى لا مثيل في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله:
(وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) سبحان الله أي أُنزِّهُه، أُنزِّهُه في ذاته وصفاته و أفعاله، فليس هناك إلا الله، ولا شريك له في ذاته، وفي صفاته فهو جلّ جلاله الحي الدائم الباقي، الذي لا يشبهه شيءٌ في صفاته، فأنت سميع وهو جلّ جلاله سميع، ولكن أين سَمعُك من سمعه؟ ليس كمثله شيء سبحان الله !
وفي أفعاله فأنت تفعل، والله تعالى فعَّال لما يُريد، ولكن أين فعله من فعلك؟! أنت تفعل بقوته، وتفعل بأمره، وتفعل بإذنه، وهو جلَّ جلاله فعَّال لما يريد.

فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)
[سورة البروج ]

فسبحان الله أي لا مثيل في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله.
(وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هذا التوحيد، وما تَعلَّمَت العبيد أفضل من التوحيد.

الرجولة ليست هي الذكورة فقط وإنما هي القوة أيضاً:
الآن ننتقل إلى الآية (109) من السورة بقوله:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
[ سورة يوسف ]

النبي لا يكون أنثى
الآن رَجِع إلى الرسالات السماوية السابقة، يُخاطِب نبيَّنا محمد صلى الله عليه وسلم، كل من أُرسِل من قبلك كانوا رجالاً، اسَتدلَّ بعض أهل العلم بهذه الآية على أن النبي لا يكون أنثى، النبي لا يكون أنثى، أو الرسول لا يكون أنثى عموماً، وليس ذاك انتقاصاً من شأن الأنثى وإنمَّا لِمَا يناسب حياءها، فالنبي يقوم بمُهمَّات لا تستطيع الأنثى القيام بها، يواجه عناد قومه، يهاجر، يتحدَّاهُم بالمعجزة، يدخل في صفوف المعركة قائداً وقائد جيش أحياناً، فالنبي له مُهمَّات؛ وتلك المُهمَّات لا تناسب المرأة التي وهبها الله عز وجل من الإمكانيات التي تناسب مُهمَّتها التي ينبغي أن تقوم بها، إلا رجالاً، لكن هنا إلا رجالاً هنا كلمة رجال ليس المقصود بها هنا الذكورة، صحيح النبي لا يكون إلا رجلاً - وهذا مُجمَع عليه - لم يأت نبيٌّ أنثى ولا رسولٌ أنثى، لِمَا يكتَنف مُهمِّة الرسالة والنبوة من بعض الأشياء التي لا تستطيعها الأنثى.
نعم البعض قال: ممكن أن تكون مريم نبياً، لكن لم تُكلَّف برسالة، أي لا يوجد عندها أعباء الرسالة، والبعض قال: هي امرأةٌ صالحة وليست نبيَّة، والله أعلم.
لكن الرسول لم يأت أنثى، الرسول مطلوب منه أن يُبلِّغ، ويتحدى قومه، ويناقشهم، ويجادلهم، لا يوجد، لكن هنا رجالاً ليس معناها الذكورة فقط، وإنما معناها القوة.
سيدنا سعد كان يقول: " ثلاثةٌ أنا فيهنَّ رجل - لا يقصد أنا فيهنَّ ذكر - أنا فيهنَّ رجل أي أنا بطل، وفيما سوى ذلك فأنا واحدٌ من الناس، قال: ما سَمِعتُ حديثاً من رسول الله إلا عَلِمتُ أنه حقٌ من الله تعالى، وما صَلُّيت صلاةً فشَغَلتُ نفسي بغيرها حتى أقضَيَها، وما سِرتُ في جنازة فحدَّثتُ نفسي بحديثٍ غير حديثها حتى أفرَغَ من دفنها ". يعتبر نفسه رجلاً في هذه المواقف.
فالرجل ليس ذكراً وإنما القوة، زاده بسطةً في العلم والجسم، فالرجولة ليست هي الذكورة.

النبي الكريم بشر تجري عليه كل خصائص البشر:
الأنبياء رسل ليسوا ملائكة
(إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي هو ليس مَلَكَاً أيضاً، هو ليس مَلَكاً، الأنبياء رسل ليسوا ملائكة، من بني البشر، لأنهم لو كانوا ملائكة لَمَا قامت بهم الحُجَّة، ولقال قائلٌ من الناس: هؤلاء ملائكة يسيرون على الأرض وما عندهم شهوات فلذلك لا يعصون الله ما أَمَرَهُم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ }

[ متفق عليه ]

فانتصر على بَشَريَّتِه فكان سيد البشر، فهنا أيضاً إلا رجالاً تشير إلى أنهم ليسوا ملائكةً وإنما من صِنف البشر، لكن ما مَزيَّتُهم؟ قال: نوحي إليهم.
المّزيَّة هي الوحي، لذلك لا تلتفتوا إلى من يحاول اليوم بسوء نِيَّة أن يُظهَر نبينا صلى الله عليه وسلم على أنه عبقريٌ أو مصلحٌ كبير أو قائدٌ فذّ، نعم، هو عبقريٌ و مصلحٌ وقائدٌ فذّ لكن هو رسول الله قبل كل شيء، إن أردت أن تضيف بعد رسول الله ما شئت من صفات الكمال لرسول الله فافعل، لكن أن تتناسى أنه رسول الله، وأن يكون القصد عند بعض الناس بعبقري وفذ وقائد أن ينفي عنه الرسالة، وأن يصبح واحداً كالمُصلحين في هذا العالم، لا، الأصل أنه رسولٌ يُوحى إليه، فما جاءنا عن طريقه تشريع نأخذه دون نقاش، أما ما جاءنا عن المُصلحين والعباقرة فيُصيب ويُخطئ لأنه من عنده، أما ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وحيٌ من الله.

الحكمة من أنّ الأنبياء كانوا يأتون في القرى وليس في البوادي:
إذاً: (نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ) هؤلاء الرجال من أهل القرى، القرية في مصطلحنا اليوم هي حسب التَّجمُع السكاني إذا كان عدد البشر أقل من عدد معين محدد في القوانين تسمى قرية، إذا زاد عدد السكان تسمى مدينة، في القرآن تقريباً المدينة والقرية مع اختلاف الاستخدامات يُطلقان على المدينة، أي على التجمع البشري الذي هو ليس من أهل البادية، لأن أهل مكة أم القرى، ومكة ليست قرية، مكة كانت أم القرى مدينة، لكن في القرآن الكريم القرية هي في مقابل البادية أهل البدو، أهل البدو عندهم بعض الشِدَّة والفظاظة أحياناً في التعامل، قال تعالى:

الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
[ سورة التوبة ]

أهل البوادي لأنهم بعيدون عن الحق فجفاء البادية أصابهم بالجفاء.
أهل المدن أكثر قَبولاً لدعوة الأنبياء، لذلك الأنبياء كانوا يأتون في القرى، فقال: من أهل القرى.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
[ سورة يوسف ]


آيات الله في الكون والقرآن والأفعال:
ربنا جلَّ جلاله له آيات في الكون، وله آيات في القرآن، وله آيات في الأفعال.
في الكون: شجرة تدلك على وجود الله، في القرآن هذه الآيات التي نقرؤها فنتعلَّم منها و نَستدلُّ منها على الله.

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿1﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴿2﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿3﴾ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
[ سورة الإخلاص ]

نتعرف على الله من خلالها.
في الأفعال:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
[ سورة الفجر ]

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
[ سورة الفيل ]

هذه تشير إلى آيات الأفعال.

دعوة الله عز وجل البشر إلى أن يسيروا في الأرض ويتعظوا بغيرهم:
الأرض لها غلاف جوِّي يتحرك معها
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) بعض العلماء استدلَّوا من قوله تعالى في الأرض على ناحية علميَّة لم تكن معروفةً عند نزول الوحي، وهي أن الإنسان عندما يسير على الأرض إنما هو يسير فيها، لأن الأرض لها غلاف جوِّي وهو يتحرك معها، والمُلحَق بالشيء تابعٌ له، فأنت تسير بين غلاف الأرض والأرض وكلُّه يتحرك فكأنك تسير فيها لا عليها، هذا استنباط بعض العلماء، أما باللغة أيضاً فصحيح أن تقول: يسير عليها ويسير فيها بمعنى أنه داخلٌ فيها، وكأنه أصبح جزءاً منها، فيتَّعِظ بما يشاهد، بدل على، على للاستعلاء، في للظرفية، كأنك داخل الشيء، على: فوق الشيء، لذلك ربنا عز وجل في القرآن قال:

أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
[ سورة البقرة ]

والمشركون:

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
[ سورة الزمر ]

فالهدى رفَعَهَم فأصبحوا على الهدى، والضلالُ غَمَسَهُم فأصبحوا فيه، غاصوا فيه. (على، في).
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) إذاً يدعونا ربنا عز وجل هنا إلى أن نسير في الأرض فننظر، هذه دعوة من الله، يُعاتِب من لم يسر في الأرض فينظر.
انظر إلى الأمم السابقة، انظر أين أصبحت عاد، وأين ثمود، وأين فرعون، إذا ذهبت إلى مصر أو شاهدت الأهرامات، ههنا كان يعيش طغاة الأرض، ويسومون الناس سوء العذاب، ويُذبِّحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، ههنا أُنفِقَت الأموال والجهود من أجل بناء تلك الأهرامات الضخمة واستعبدوا الناس.
انزل إل البحر الميت ههنا فيما تكثر الأقوال كان مصرع قوم لوط الذين كانوا يأتون الفاحشة والعياذ بالله، تلك مساكنهم لم تُسكَن من بعدهم، فالإنسان ينظر ويتَّعِظ أمَّا أن ينظر ولا يتَّعِظ فكأنه ما نظر.

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
[ سورة الأعراف ]

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
[ سورة يوسف ]

هنا يوجد أسلوب لُغوي يسمِّيه العلماء: الاحتباك، قد حدَّثتُكُم عنه سابقاً.
الاحتباك: أن تذكر جزءاً من هنا وجزءاً من هنا وتُبقي للعقل البشري أن يُكمِل الأجزاء الناقصة في الحديث، أوضح مثال على ذلك قال تعالى:

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ(13)
[ سورة أل عمران ]

(فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ) إذاً التي تقاتل في سبيل الله مُؤمنة، والكافرة تُقاتل في سبيل الشيطان، فما قال: فئةٌ تُقاتل في سبيل الله وفئةٌ تُقاتل في سبيل الشيطان، وما قال: فئةٌ مؤمنة وفئةٌ كافرة، جاء وصف المؤمنة في الأول وقال الكافرة في الثاني، فعُلِم أن الأولى مؤمنة وعُلِم أن الثانية تُقاتل في سبيل الشيطان، هذا الاحتباك، أسلوب لُغوي، فهنا لمَّا قال تعالى: (كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هذه في الدنيا، ماذا لهم في الآخرة؟ لهم عذابٌ شديد أليم، هذا الجزء من العذاب في الدنيا فقط، لكن سيأتي العذاب يوم القيامة وفي المقابل: (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ) فلمَّا ذكر أن دار الآخرة هي خيرٌ للمتقين عُلِم أن دار الآخرة بالنسبة لهؤلاء هي شرٌّ للكافرين.

استنارة عملية العقل بنور الوحي:
(وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ) قلنا سابقاً: العقل هو الفهم، الإدراك، ليس في جسم الإنسان عضو يسمى عقلاً، العقل عملية تتم في القلب، البعض يقول: في الدماغ لكن حقيقة هي عملية تتم في القلب لأن الله تعالى قال:

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46
[ سورة الحج ]

العقل عملية تتم في القلب
فالعقل عملية تتم في القلب، ولعله ذاك القلب الذي هو المِضخَّة التي تضخ الدم إلى الجسم لأنه اُكتشِفَ حديثاً أن هذه المِضخَّة فيها ذاكرة، وكل خَليَّة فيها ذاكرة بعد أن أجروا علميات نقل القلب من إنسان إلى آخر تبين أن هناك أشياء تتنقل مع القلب، فلا ينتقل وحده، فكأنه مركز للعقل.
أو قلب النفس كما كان يقال سابقاً أي القلب قَلبُ الجوزة داخلها، وقَلب النفس داخلك أنت، أنت الذي تُحب وتكره هذا جسد، الذي نراه الآن هو صورتك، أنا الآن لا أعلم ماذا يدور في داخلك، أنا أرى صورتك فقط، هذا جسد، أما القلب فهو الداخل، فإما أن القلب هو المضخَّة.

{ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّه }

[ متفق عليه ]

أو قَلب النفس.
على كل بالنتيجة العقل هو عمليةٌ تتم في القلب، في قلب الإنسان، فيَعقِل الأشياء أي أنه يُدرِكُها، العمليات تتم في القلب عن طريق العقل، الفهم.
عندنا (input) و (output) باللغة الحديثة في الدورات يقولون: (input)، (output).
Input: المُدخَلات، سمعك وبصرك:

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)
[ سورة الملك ]

تُدخِل المعلومات من خلال السمع، تسمع معلومة أو ترى شيئاً من آيات الله فتُدخِلُه إلى قلبك، في القلب تتم عملية العقل، أي الإدراك، فهم المعلومة، فتُنتِج (output) مُخرَجَات.
رأيتَ شجرة تأمَّلتَ بها، هذا (input)، عقَلتَها بشكل صحيح قلت: سبحان الخالق العظيم ! هذه(output).
العقل هو عملية إدراك المُدخَلات وإخراجها
فالعقل هو عملية إدراك المُدخَلات وإخراجها، يُراد اليوم للأسف الشديد من بعض الأدعياء، من بعض الناس بحسن نيَّة أحياناً وبسوء نيَّة أحياناً أخرى كثيرة أن يُجعَل العقل قسيماً للنقل، لوحي السماء، و كأن العقل شيء مستقل، يقول لك أحدهم: قال لي عقلي، ما شاء لله وما هذا عقلك ! أنا لم أفهم، وأنا قال لي عقلي بالعكس، أنت قال لك عقلك: لا يجوز، أنا قال لي عقلي: يجوز. كيف نتفق أنا وأنت إن لم يكن هناك مصدر ووحي السماء؟ فقضية قال لي عقلي، لا يوجد شيء اسمه: قال لي عقلي، أنت عندك مُدخَلات من الخارج تَعقِلُها وتُخرِجُها مُخرجَات.
العقل إن تمَّ، أي عملية الفهم إن تمَّت وَفق منهج الله عز وجل المُخرجَات صحيحة، إن تمَّت دون وحي السماء المُخرجَات خاطئة، لأن عملية العقل إن لم تستنر بنور الوحي فممكن أن ينتج مع الإنسان أشياء تخجل من ذِكرِها.
في فرنسا إباحة الزنى بالتراضي، معروفة منذ زمن بعيد، الآن خَفضوا السِّن الذي يُباح به الزنى أصبح خمس عشرة سنة، إن قامت فتاة بالتراضي مع صاحبها بالزنى، بالفاحشة بالتراضي فليس له أي مشكلة في العقل الفرنسي، أبداً، لا يوجد مشكلة، لكن العقل الفرنسي يحارب زواج القاصرات، الزواج ممنوع، الزنى مسموح، كيف؟ عقل.
هكذا عقلوا المعلومة.
بعيداً عن وحي السماء أشياء مضحكة، أشياء مضحكة فعلاً، لأنه لا يوجد مصدر، عندما لا يكون هناك مصدر للتَّلقي، ونعتمد كلمة العقل هي المصدر، أرني عقلك ماذا يقول لك، كل واحد عقله سيقول له شيئاً مختلفاً عن الآخر.
الآن ألغوه، هو لا يُلغى، معاذ الله أن نُلغيه، لكن للحظة معينة ألغوا المصدر التشريعي الذي هو الوحي، ألغه، ودعنا نطرح قضية للنقاش بعقولنا، من غير أي نص، إذا نحن كنا عشرين شخصاً كل واحد برأي إلى من نَحتَكِم؟
هذه مشكلة من يسمون أنفسهم اليوم العقلانيين أو المدرسة العقلية في الدين، مشكلة بدأت منذ المُعتَزلة، إلى مُعتَزلة اليوم لكن بشكل صارخ جداً، وبشكل أنهم يضعونها على الإعلام، وفي الفيس بوك، وفي كل مكان، يا أخي اليوم نحن في عصر العلم، عصر العقل، نريد أن نُفكِّر بشكل جيد، فكر ما شئت في الدنيا، وأنتج ما شئت، لكن أن تعقل المعلومة بعيداً عن وحي السماء فالنتائج مضحكة: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ).

الابتعاد عن اليأس والقنوط من رحمة الله:

حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
[ سورة يوسف ]

يوجد يَأْس ويوجد استيْئس.
يئس: قَنَطَ، فَقَدَ الأمل، اليأس فقدان الأمل، هذا الشاعر الذي قال:
ولقد بَلغتُ من التفاؤلِ أوجَهُ وقلائلٌ من يفعلون قلائلُ حتى تفاعيل البحور قرأتُهــا متفائـــــلٌ متفائــلٌ متفائــلُ
{ محمد مهدي الجواهري }
بدلاً من متفاعل، قال: متفائلٌ، فهذا تفاؤل، لكن ربما يكون أبله نوعاً ما.
وأحياناً هناك يأس فيه قنوط من رحمة الله، هذا يكاد يكون كفراً، لمّا قال لهم في هذه السورة نفسها:

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
[ سورة يوسف ]

فاليأس فقدان الأمل.
استيأس: كأنه طَلَبَ اليأس، من شدة ما أحاط به من خطوب، مثل استسقى طَلَب السقيا، استَطعَم طَلَب الطعام، هذا استيأس، أي يكاد يطلب اليأس من شدة ما أصابه.
الأنبياء، الرسل ييئسون؟ بنص الآية استيأس الرسل، (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ) حتى كان قبلها شيء، أي هم لما قال تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
[ سورة يوسف ]

إذا جاؤوا للدعوة إلى الله عز وجل فدَعوا قومهم فتأخَّر النصر، وتأخرت الإجابة، فوصلوا إلى مرحلةٍ استيأسوا فيها، هذا الربط بين الآيتين.
المؤمن لا ييئس من رحمة الله
فلما استيئسوا، (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) هم لم يستيئسوا من رحمة الله، معاذ الله لنبي، المؤمن لا يفعلها وييئس من رحمة الله، (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) لكن هم استيئسوا من أن يستجيب لهم أحد، أي يئسوا من الناس وليس من رب الناس.
قال لك: أنا والله هذا الطالب جلست معه لمدة عشرين درساً إلى الآن أقول له: كتب الطالب، يُعرِب كتب: مبتدأ، يئستُ منه، هذا لن يفهم العربية، لا يعرف الفعل من الاسم، فهو لم ييئس من رحمة الله، يقول لك: ربما من الله كل شيء جائز لكن أنا هذا لا أظن أن سيهتدي، هذا استيأس من الناس وليس من رب الناس، والدليل: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) أي تيقَّنوا، هنا الظن بمعنى اليقين، لكن عندما لم يكن يقنياً مئةً بالمئة قال: وظنَّوا، أي (قَدْ كُذِبُوا)، وهناك قراءة: قد كُذِّبوا، كَذَّبَهُم قومهم، كُذِبوا وقرئت كُذِّبوا، قراءة حفص كُذِبوا، (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) أي كذَّبهم قومهم تكذيباً شديداً، وبالغوا في تكذيبهم، قال:

حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
[ سورة يوسف ]

وهذا يشير إلى أن أشد ساعات الظُّلمة هي قُبيل طلوع الفجر، فكلما وجدت الحياة قد أظلَمَت فتيقن أن الفرج اقترب، لكن اقترب في العمر الزمني ليس هناك قريب بمعنى القريب الذي نريده نحن أي غداً، لا، لأن العمر الزمني أكبر من حياتي وحياتك لكن هو قريب إن شاء الله.

إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
[ سورة المعارج ]

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قال: (جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) في اللحظة الحاسمة التي وصلوا بها إلى أنه لن يهتدي أحد، ولن يكون هناك نصر، والوضع سيء ومستعص جداً أتى النصر من الله عز وجل، قال: (فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ) فنجى الله عز وجل من يشاء بعد أن يأتي العقاب والعذاب للكافرين (فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا) أي قُوَّتنا وجبروتنا: (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)، المُجرم هو الذي ارتكب الإجرام، أجرم بحق نفسه حينما حرَمَها الهدى، وأجرم بحق الآخرين لأنه لمَّا منع نفسه عن الهُدى استَحَلَّ الحُرُمات، واغتصب الأملاك، وربما سفك الدماء.
(وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) إذاً لا يوجد شيء اسمه: البلاء يَعُمّ، إلا بحالات خاصة:

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
[ سورة الأنفال ]

الأصل أن الله عز وجل يُعامِل كل إنسان بعمله (فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).
نوح عليه السلام، لا ُتركِب في السفينة إلا من آمن، نجَّاهم ربنا عز وجل بمعجزة، بهذه السفينة، ثم عَلَت الأمواج على القوم المجرمين.

العبرة من القصص هي فهم مدلولاتها:
الآية الأخيرة في سورة يوسف:

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
[ سورة يوسف ]

(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ) هذه القصة وغيرها من قصص القرآن، أي ليس هذه القصة فقط، في قصصهم، قصة يوسف، قصة مريم عليها السلام، قصة صاحب الجنَّتين، وقصة، وقصة، إلى آخره، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) كان هنا ليست بمعنى أنه كان، الآن لم يعد في قصصهم عبرة، وإنما بمعنى لقد كان بمعنى لقد وُجِدت العِبرَة في قصصهم، كقوله تعالى:

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
[ سورة النساء ]

(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) القصة كما أسلفنا، من قَصَّ الأثر إذا تتبَّعُه.

وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
[ سورة القصص ]

القصة تَتَبُّع الأثر
(وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) تتبعي أثره، فالقصة تَتَبُّع الأثر، وفي القصة نحن نتتبع آثار الشخصيات، ما الذي حصل مع يوسف بعد ذلك؟ ما الذي حصل مع إخوته؟ ما الذي حصل مع أبيه بعد أن ألقى القميص على وجهه فارتدَّ بصيراً؟ جاؤوا إلى مصر، ذهبوا إلى كنعان، هذا تتبع، فنحن نقصُّ آثار القوم في القصة، فسُمِّيت قصة.
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) العبرة، أسلفنا لمَّا تحدَّثنا عن الرؤيا، للرؤيا تعبرون، العُبور: عَبَرَ: هو الانتقال من مكان إلى مكان، فأنت تعبر الشارع، تقطَعُه من هذا الرصيف إلى ذاك الرصيف، تعبرُه.
و العَبْرَة: عَبرَة العين، تنقل ما في داخلك إلى الآخرين، أنت حزين لكنك مُتماسك، لكن وصلت إلى حد من الحزن ففاضت عَبرَةٌ من عينك ففهم الناس أنك حزين، فسُميَّت عَبرَة، عَبرَة العين.
العبَّارة: التي تسير في البحر، تسمى عبَّارة لأنها تعبر بالناس أيضاً.
تعبير الرُّؤى: لأن الرؤيا تكون رموزاً، فلمَّا يُعبِّرها يَعبُر بها من واقعٍ خفيّ إلى واقعٍ جليّ، يُعَبِّرُها، انظروا إلى دقة اللغة.
العِبْرَة في القصة: أنك تنتقل من القصة تَعبُر من القصة إلى ما وراء القصة فتفهم مدلولها، فتأخذ منها العِبرة، كله من عَبَرَ تَعبُر، لا ينبغي أن تقف عند القصة، يجب أن تَعبُر من الأشخاص الذين فيها إلى العِبَر المستفادة منها، فتقرأ كيف كان يوسف عليه السلام عفيفاً فتعتبر بأن العِفَّة هي خُلُق الشباب المسلم، فتَعُفُّ عن الحرام، وتنظر كيف أن الله غالبٌ على أمره فتعتبر بأن الله عز وجل سينصر دينه مهما تكالبت عليه الخُطوب.
وكان بعض الصالحين يقول: سورة يوسف ما قرأها محزونٌ إلا أذهب الله غَمَّه.

قصة سيدنا يوسف عبرة لأصحاب القلوب السليمة وليست حديثاً يفترى:
سَمعتُ من بعض الأخوة العراقيين أنهم في العراق عند الوفاة يقرؤون سورة يوسف، ليس على أنها سُنَّة، ليست سُنَّة قراءة سورة يوسف عند الوفاة، لكن لأنهم يشعرون بأنها تُسَرِّي عن قلوبهم الهَمّ، لأن كل من في قصة يوسف عليه السلام كشف الله همَّه، وفرَّج كربه، فالله تعالى قادرٌ على أن يُفَرِّج كَرْبَك، ويكشف هَمَّك.

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
[ سورة يوسف ]

(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) الألباب: الُّلب: هو داخل الشيء، لُبُّه، ويوجد القشور، لكن الذي عنده لُب، أي داخل، ما معنى عنده لُب؟ كل الناس عندها لُب، لكن عنده لُبٌّ سليم، قلبٌ سليم.
(لِأُولِي الْأَلْبَابِ) لأولي القلوب السليمة، تماماً؟ هؤلاء أولو الألباب.
(مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ) ما يقصُّه الله عليك في القرآن الكريم ليس حديثاً يُفتَرى، يُختَلَق، لا أصل له، ليس قصةً للتسلية، كما يقرأ الإنسان أحياناً قصة فيتسلى بها قبل أن ينام، وليس قصةً للإمتاع الأدبي كما يقرأ إنسان مُهتم بالأدب قصةً قد صاغها الأديب بوصف رائع ووصف الشخصيات فيُمتَعُ أدبياً، لا، ليس كذلك.
(مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ) ليس روايةً تُوظَّف لخدمة الطغاة، أحياناً تُكتب روايات من أجل مدح الطغاة، وتعزيز دورهم، أي رواية بنكهة سياسية، (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ) أي الأحداث حقيقية.

القرآن الكريم وما جاء قبله:
القرآن هو الخاتَم والمُهيمن والمُصَدِّق لما جاء قبله
الأحداث حقيقية مئة بالمئة، ولكن تصديقها، أي كان هذا الذي رويناه لك، الذي قلناه لك كان تصديق الذي بين يديه، بين يديه أي الكتب السابقة، أنت عندما تسير في موكب أمامك أشخاص، وخلفك أشخاص، الذين سبقوك هم بين يديك، والذين هم وراءك خلفك، فالذي سبقك بين يديك، فلما يقول: (وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ليس بين يديه خلفه، بل أمامه، أي الذي سبقه من الكتب السماوية، فهناك التوراة والإنجيل والزَّبور فهو الخاتَم والمُهيمن والمُصَدِّق لما جاء قبله، وقد ورد عن سيدنا ابن عباس، أعتقد قوماً من اليهود سمعوا لمَّا أنزِلَت سورة يوسف فأسلموا لأنهم وجدوها كما في كُتبهِم، وورد في بعض أسباب النزول أن سبب نُزول سورة يوسف أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يقصّ عليهم سورة يوسف ، فجاءت كما في كُتبهِم: (وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ما سبقه من الكتب، جاء مُصدِّقاً وبأحسن ما يكون.
(وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) تفصيل أي مُفصَّل، يأتي على المقاس تماماً.
أنت أحياناً تقول: والله أنا ذهبت إلى أكثر من محل لأشتري بدلة، لكن لم أجد شيئاً يناسبني، فقيل لي إن هناك خياطاً يُفصّلها تفصيلاً فتأتي على المقاس، فذهبت إليه لصنع بدلة مُفصَّلة تفصيلاً وليست جاهزة.
(وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) مما سبقهم من كتب (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) كل شيء في القصة، هنا كل شيء، أي إذا جاء إنسان وقال لك: أليس القرآن تفصيلاً لكل شيء؟ تقول له: نعم.
سألل أحدهم عالماَ: في القرآن تفصيل كل شيء؟ قال: نعم، قال: كم في هذا الكيس من قمح؟ كم كيل في القمح؟ يريد كيلاً، الكيل غير موجود في القرآن الكريم، فقال له: نعم في القرآن.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
[ سورة النحل ]

في القرآن تفصيل كل شيء
فهناك أشياء ذكرها القرآن في الأمور التي لم أذكرها، اسأل أهل الذِّكر، فهذه ليست في القرآن، هذه تحتاج إلى شخص يكيل القمح ويعلم القمح كم كيلاً؟ فكلمة كل شيء لا تعني كل شيء بمعنى أن كل إنسان يحتاج إلى علم بالفيزياء والكيمياء ويرجع إلى القرآن ويجده، لأن هناك بعض الناس اليوم يفهمون ذلك، يبدؤون يبحثون عن الطاقة الكهروضوئية في القرآن الكريم ويلوون عنق النصوص.
(تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) بمعنى أن كل الأمور التي تناسب الهدى للناس فَصَّلَها الله تعالى، وجاءت على القياس المناسب على الجميع، وليس معنى ذلك أن كل شيء يعني كل شيء في الحياة، لا، القرآن منذ اللحظة الأولى قال لك:

ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
[ سورة البقرة ]

ففي ناحية الهدى لن تجد في القرآن ما ينقصك أبداً، بالهدى، لأن هدفه الهدى، ففي قضية الهدى هو مفصَّلٌ فيه كل شيء، ما ترك شيئاً، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:

{ ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به، وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه }

[ رواه الطبراني ]

كل شيء، لكن عندما تتحدثون له عن تأبير النخل يقول:

{ أنتم أعلم بأمور دنياكم }

[ صحيح مسلم ]

اذهبوا إلى الخبير، فاسألوا أهل الذكر، كل فن له أهل ذكر يعرفون به، هذا أمر دنيوي لا علاقة له بالهداية.

القرآن الكريم هدى ورحمة:
(وتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي القرآن هدىً، والقرآن رحمة، لقومٍ يؤمنون.
الهدى والرحمة شيئان: الهدى وقاية والرحمة علاج، أنت إن ِسرتَ على هدى القرآن الكريم فأنت في وقايةٍ من أن يصيبك مكروه، فإن وَقعَتَ في مكروه بسبب معصية الله تعالى فالقرآن يُعالجُك ففيه الرحمة، يرحمك، لا يقضي عليك بمجرد معصية عصيتها، فهو هدىً يقيك من الوقوع في المهالك، ورحمة إن زلَّت قدمك ووقعت في مَهلَكةٍ ما فيرحمك الله تعالى، لكن لقومٍ يؤمنون، أما لقومٍ يكفرون فلن يجدوا في القرآن هدىً ولا رحمة.

الإيمان هو البداية والنهاية:
هنا السؤال المهم الإنسان يقرأ القرآن سيؤمن أم يؤمن فيقرأ القرآن فينتفع؟ لا، يؤمن فيقرأ القرآن فينتفع.
ستستغربون، هو يؤمن إيماناً مبدئياً فيقرأ القرآن فيه هدى ورحمة فيزداد إيمانه ويرتقي عند الله، فالإيمان أولاً وأخيراً، والدليل في صحيح البخاري، كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول:

{ أوتينا الإيمان قبل القرآن }

ما معنى أوتينا الإيمان قبل القرآن؟ أي نحن عندما نظرنا في الكون، تأمَّلنا في عَظَمة خلق الله، أصبح عندنا مفردات إيمانية بأن هناك إلهاً لهذا الكون، هناك إله عظيم، فلمَّا قرأنا القرآن وجدنا فيه الغذاء لروحنا وفطرتنا، لأن الإيمان مركوز في الفطرة، قبل القرآن الإيمان مركوز في الفطرة، الإيمان أولاً والإيمان آخراً، هو البداية والنهاية، طبعاً أنت في الإيمان الفطري تُقبِل على القرآن فتنتفع به، لكن لا يكفي الإيمان الفطري، تحتاج بعدها إلى بناء الإيمان وفق القواعد الشرعية، ووفق افعل ولا تفعل، لكن عندك إيمان مبدئي، لذلك قال: لقومٍ يؤمنون، أي بَدَت عندهم رغبة وبدا عندهم إيمانٌ فطريٌّ واضح، فكان القرآن هدايةً لهم، بدليل أن كثيراً من الناس يقرؤون القرآن فلا ينتفعون به، لأنه في الأصل لم يتوجه لقراءة القرآن بدافع الهداية، وإنما ربما بدافع اللغة، أو بدافع التَّبرك أحياناً، التَّبرك أقصد به بمجرد التَّبرك، القرآن يتبَّرك الإنسان به لكن تبرُّك فقط من غير انتفاع، فلا يجد فيه بُغيته، فلذلك قال تعالى: (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
والحمد لله رب العالمين