الهدى والضلال

  • اللقاء الثامن من تفسير سورة سبأ | شرح الآيات 46 -54
  • 2024-08-26

الهدى والضلال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا علماً وعملاً متقبَّلاً يا رب العالمين.
هذا لقاؤنا الأخير من لقاءات سورة سبأ، ومع الآية السادسة والأربعين من السورة وهي قوله تعالى:

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
(سورة سبأ)


معنى الوعظ:
أيُّها الكرام: (قُلْ) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، (إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ) والوعظ هو أن تذكِّر إنساناً بشيءٍ يعرفه ولكن غابَ عنه هذا الشيء، أصل الوعظ أنك تذكِّر إنساناً بشيءٍ يعرفه ولكن نسيه أو غفل عنه في زحمة الحياة، فتعييَهُ، والوعظ فيه بشارةٌ ونذارة، يعني أن تقول له إن فعلت كذا فلك الجنَّة، وإن فعلت ذاك فيُخشى عليك أن تستحق عذاب النار، فتعظه، تزجره عن شيءٍ سيء وتشجعه على شيءٍ حسَن، (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ) أعظكم بواحدة، أي لن أُكثر عليكم الوعظ، هي موعظةٌ واحدة، وقد وَرَد في السُنَّة الصحيحة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخوَّلنا بالموعظة مخافة السآمة

{ كانَ عبدُ اللهِ يُذَكِّرُنَا كُلَّ يَومِ خَمِيسٍ، فَقالَ له رَجُلٌ: يا أَبَا عبدِ الرَّحْمَنِ إنَّا نُحِبُّ حَدِيثَكَ وَنَشْتَهِيهِ، وَلَوَدِدْنَا أنَّكَ حَدَّثْتَنَا كُلَّ يَومٍ، فَقالَ: ما يَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ إلَّا كَرَاهيةُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَتَخَوَّلُنَا بالمَوْعِظَةِ في الأيَّامِ، كَرَاهيةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. }

(أخرجه البخاري)

أي يعظهم بين الحين والآخر لئلا يملّوا، وهذا أدب تربوي قرآني ونبَوي، أنت عندك أولاد، إذا أكثرت الوعظ كل يوم، كل ما فعل شيء تقول له هذا لا تفعله، هذا خطأ، هذا ممكن وهذا غير ممكن، فيَمَلّ، ويشعر وكأن المراقبة عليه قد أصبحت شديدةً فيَمَلّ، أمّا إذا تخوَّلته بالموعظة، كل يوم وجهته بشيءٍ محدَّد، ثم غبت عنه، ثم عُدت بالموعظة، فإنه يستمع منك.
(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ) اجعل قيامك لله في كل شأنٍ من شؤون حياتك، أعظم موعظةٍ أن تقوم لله، ليس القيام هنا بمعنى أن تقف على قدميك، ولكن بمعنى أن تكون حركتك سواءً كنت قائماً أو قاعداً، أن تكون لله، قال إبراهيم عليه السلام:

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
(سورة الأنعام)

فأن تجعل قيامك لله، حركتك لله، توجهك لله، أهدافك لله، طموحاتك لوجه الله، (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ) ألّا يكون قيامك إرضاءً لغنيٍ أو قوي، لطاغيةٍ لمن هُم من أهل الأرض، اجعل قيامك خالصاً لوجه الله، (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ) موعظة واحدة، لكن تحتها آلاف البنود، أي إذا صحَّ قيام الإنسان لله فلم يبقَ شيء، كله سيكون وفق المنهج خالصاً لوجه الله، هي واحدة ولكن تندرج تحتها آلاف مؤلفة من البنود، اجعل قيامك لله، هذا الدرس الأول.
(أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ) لماذا مثنى وفُرادى؟ القرآن يحض على المجموع.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
(سورة البقرة)

واو الجماعة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
(سورة التوبة)


الإسلام والقرآن يحضّان على المجموع:
فالإسلام يحثُّنا على الجماعة، وأن نجتمع على الخير، وأن نسعى للخير، لكن هنا لماذا قال مثنى وفُرادى؟ مثنى يعني اثنين اثنين، أنت وأخٌ لك، وفُرادى يعني وحدك، لماذا جعل القيام هنا مثنى وفُرادى؟ قال لأن الإنسان عندما يكون حاله من الذين يخاطبهم الله تعالى في هذه الآيات، وهو يخاطب هنا المشركين البعيدين عن الحق، فإنه عند وجوده مع المجموع بشكلٍ دائم، هناك من يُثنيه عن عزمه، هناك مَن يمنعه مما همَّ به بالحق، نحن جماعة المؤمنين نجتمع على الخير دائماً، كل واحدٍ فينا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فاجتماعنا خير، لكن هُم اجتماعهم يكون على باطلٍ دائماً، يجتمعون على الباطل، فإذا همَّ إنسانٌ بفعل خير أقعدوه عنه، فالجماعة عندما تمنعك من الخير فقُم لله فرداً، أو مع أخٍ لك تثق به، لكن عندما تكون الجماعة تأمرك بالخير وتحضُّك عليه فهي نعمة، فالجماعة نعمةٌ أو نقمة، مجموع المؤمنين نعمة، لكن مجموع المُبطلين نقمة، لذلك هنا قال مثنى وفُرادى، لأن مجموعكم دائماً يأمركم بالمنكر.
أبو طالب ما الذي منعه من الإسلام؟ قال: وتُعيّرني قريش، تقول إنما أسلم مخافة الموت، كان الذي يمنعه رغم أنه ناصر نبي الله صلى الله عليه وسلم، كان الذي يمنعه هو مَن حوله، البطانة السيئة، التي تأمره بالمنكر وتنهاه عن المعروف، فالإنسان أحياناً بحاجة لحظة فيها صفاء فكري، يناقش الموضوع فيه وحده، فيقول لماذا فعلت كذا؟ ما الذي يمنعني من كذا.
نُعَيم بن مسعود رجلٌ أصبح من كبار الصحابة، في معركة الخندق المسلمون على طرف والمشركون على طرف، وهو في خندق المشركين، وجاء من بني غطفان ليتّحد مع قريش مع الأحزاب ليحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الليل جلس مع نفسه جلسة صفاء، استلقى في خيمته ولم يأته النوم، قلِق، حربٌ ضروس، نظر في السماء، النجوم وما فيها من عِبر، بدأ يخاطب نفسه، حوار داخلي يُسمّونه، يا نُعَيم ما الذي جاء بك من سهلك وبدوك وجبلك لتحارب هذا الرجُل، أتُراه قتل لك أحداً، سفك دماً، انتهك عِرضاً، ما الذي جاء بك لتحاربه؟ انتفض من وقته وتسلل إلى المسلمين، واستدلَّ على خيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه، وقف النبي قال: نُعَيم؟ قال: نُعَيم، قال: ما الذي جاء بك؟ قال: جئتك مسلماً، فامُرني بما شئت ولن يعلموا بإسلامي، فقال خذِّل عنا ما استطعت، إنما أنت فينا امرؤٌ واحد، لكن بإمكانك أن تخذِّل، وكان نُعَيم أحد أسباب النصر في الخندق، لأنه أوقع بين اليهود المتجمهرين مع الأحزاب وبين قريش، فقال لقريش إن اليهود جاؤوا وسيطلبون منكم رهائن، حتى إذا حصل شيء يكون لديهم رهائن، وجاء لقريش وقال لهم إذا طلبوا الرهائن لا تعطوهم الرهائن، لأنهم سيقتلونهم، فدبَّ الخلاف بينهم وأرسل الله ريحاً اقتلعت قدورهم، وما كان من تجمعهم، وانتصر المسلمون وكان أحد أسباب انتصارهم نُعَيم، وكان أحد أسباب إسلامه، وقفة صادقة مع النفس، قام لله فرداً، تفكَّر، ما الذي يدفعني لماذا أفعل، لمّا خلا له الجو انتصرت الفطرة على نوازع الشر.
فقال: (إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَى) إمّا أنت وشخصٌ تثق به، تعطيه فكرة فيؤكدها لك، أو أن تقوم لله وحدك، مثنى وفُرادى، المجموع هنا ليس له أي قيمة، لأنه مجموعٌ على الباطل.
قال: (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ) هذه اللحظة التي قلنا فيها لحظة التفكر، ما هو التفكر هنا؟ قال: (مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) صاحبكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل ما برسول الله من جِنَّة، وإنما قال بصاحبكم لأنهم يعرفونه، يلقبونه بالصادق الأمين، يعرفونه قبل البعثة، ويعرفون مَن هو، ويعرفون أنه ما كذب عليهم قط، فلماذا يكذب عليهم الآن؟ المجموع كما قلنا أحياناً يكون نقمة، لمّا النبي صلى الله عليه وسلم، جمعهم بعد البعثة وأراد أن يُعلِن، قال لهم لو كنت أخبرتكم أنَّ خيلاً تُغير عليكم من خلف هذا الوادي أكنتم مصدقين؟ قالوا نعم، ما جرَّبنا عليك كذباً، قال: (نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) قام أبو لهب وقال: تبّاً لك ألهذا جمعتنا، أنت كذاب، الآن تقول إنني صادق وأمين، بلحظة تحوَّل!.

{ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صَعِدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: يا بَنِي فِهْرٍ، يا بَنِي عَدِيٍّ -لِبُطُونِ قُرَيْشٍ- حتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَخْرُجَ أرْسَلَ رَسولًا لِيَنْظُرَ ما هُوَ، فَجَاءَ أبو لَهَبٍ وقُرَيْشٌ، فَقالَ: أرَأَيْتَكُمْ لو أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلًا بالوَادِي تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ علَيْكُم؛ أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: نَعَمْ، ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إلَّا صِدْقًا، قالَ: فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقالَ أبو لَهَبٍ: تَبًّا لكَ سَائِرَ اليَومِ، ألِهذا جَمَعْتَنَا؟! فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} }

(أخرجه البخاري ومسلم)

المجموع أيضاً عندما الرجُل اليهودي ابن سلام، لمّا دخل مع المجموع، لمّا قال لهم أتعرفونني؟ قالوا نعرفك، أنت خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فلمّا قال لهم أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا أنت شرُّنا وابن شرِّنا، وسيئُنا وابن سيئِنا، قوم بُهت كذب.

{ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ سَلَامٍ، بَلَغَهُ مَقْدَمُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ فأتَاهُ يَسْأَلُهُ عن أشْيَاءَ، فَقَالَ: إنِّي سَائِلُكَ عن ثَلَاثٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا نَبِيٌّ، ما أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وما أوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أهْلُ الجَنَّةِ؟ وما بَالُ الوَلَدِ يَنْزِعُ إلى أبِيهِ أوْ إلى أُمِّهِ؟ قَالَ: أخْبَرَنِي به جِبْرِيلُ آنِفًا قَالَ ابنُ سَلَامٍ: ذَاكَ عَدُوُّ اليَهُودِ مِنَ المَلَائِكَةِ، قَالَ: أمَّا أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، وأَمَّا أوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أهْلُ الجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الحُوتِ، وأَمَّا الوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المَرْأَةِ نَزَعَ الوَلَدَ، وإذَا سَبَقَ مَاءُ المَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتِ الوَلَدَ قَالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّكَ رَسولُ اللَّهِ، قَالَ يا رَسولَ اللَّهِ: إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي، قَبْلَ أنْ يَعْلَمُوا بإسْلَامِي، فَجَاءَتِ اليَهُودُ فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ رَجُلٍ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ فِيكُمْ؟ قالوا: خَيْرُنَا وابنُ خَيْرِنَا، وأَفْضَلُنَا وابنُ أفْضَلِنَا، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أرَأَيْتُمْ إنْ أسْلَمَ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ قالوا: أعَاذَهُ اللَّهُ مِن ذلكَ، فأعَادَ عليهم، فَقالوا: مِثْلَ ذلكَ، فَخَرَجَ إليهِم عبدُ اللَّهِ فَقَالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، قالوا: شَرُّنَا وابنُ شَرِّنَا، وتَنَقَّصُوهُ، قَالَ: هذا كُنْتُ أخَافُ يا رَسولَ اللَّهِ }

(صحيح البخاري)


العِبرة في وجودنا مع المجموع أن نُطبِّق سياسة شدّ الحبل:
فالمجموع كثيراً ما يكون دافع للسوء وليس للخير، لذلك نقول دائماً العِبرة في وجودنا مع المجموع أن نُطبِّق سياسة شدّ الحبل، فمتى كان وجودك مع المجموع يؤدي بك أن تشدهم إليك فافعل، ومتى كان وجودك مع المجموع، أقصِد المجموع السيّء طبعاً، أن يشدّوك إلى المنكر فاتركهم، القوة بيدك وأنت تشدّ الناس إلى الله فافعل، القوة بيدهم وهم يشدونني إلى معاصيهم ومنتداياتهم وأهوائهم فأُعرِض عنهم.
(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) النبي صلى الله عليه وسلم لمّا جاءهم بالدعوة إلى الله تعالى اتهموه بالجنون، وهي الجِنَّة بكسر الجيم، وهو غياب العقل، ستر العقل وغيابه جنون، و الجُنَّة هي الوقاية التي تستر بينك وبين المعصية، فالصيام جُنَّة، والجنَّة هي تلك الدار التي أعدَّها الله للمتقين، وسُمّيت جنَّةً لأن الأغصان فيها تكاتفت حتى أصبحت ظلاً ممدوداً، غطَّت وجه الأرض، فهي جنَّةٌ وجِنَّةٌ وجُنَّةٌ، كلمة مثلثة، فالجنون هو غياب العقل، والنبي صلى الله عليه وسلم اتُهم بهذه التُهمة، والله تعالى ذكر هذه التُهم في كتابه، ساحر، مجنون، شاعر، كاهن، كذَّاب، حاشاه صلى الله عليه وسلم، لكن الله تعالى ذكر هذه التُهم في كتابه، التي اتهمه بها أهل الباطل، ليُبيِّن أولاً أنَّ هذا القرآن هو كلامه، فالإنسان لا يُثبِت في سيرته الذاتية ما تكلم به أعدائه.
أنا اليوم إذا أردت أن أكتب سيرة ذاتية لنفسي، وهناك شخصٌ سفيه تكلم عليَّ بالباطل، فلا أذكر في سيرتي الذاتية أنَّ فلان قال عني كذا وكذا وكذا، أحذفها، لكن الكلام لأنه ليس كلام محمد صلى الله على نبينا محمد، فإنَّ الله تعالى ذكر تُهمهم الباطلة في القرآن، يقرؤون ما قالوه في كتاب الله تعالى، ثم وهو الأهم، من أجل أي داعية أو أي شخص يدعو إلى الحق ثم يتهمه الناس في دينه وفي عِرضه وفي كلامه، من أجل أن يكون له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنة، فيقول في داخله من أنا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكلموا عن رسول الله واتهموه بالسفه والجنون والكذب، فمن أنا، فأن أتحمل في سبيل الدعوة وليقولوا ما شاءوا، هذا هو العِبرة من ذكر هذه الصفات في كتاب الله رغم بُطلانها.
لكن الله تعالى دعاهم أن يقفوا وقفةً صادقةً مع أنفسهم، ويتفكروا أنَّ هذا الرجُل الذي تصفونه بالجنون هو سيد الحكماء، والرجُل الذي دعوتموه يوماً ليحكم بينكم لمّا اختلفتم من يضع الحجر الأسود في مكانه، فكان حكمه الحق، وهو الرجُل الذي تلقبونه بالصادق الأمين، وهو الرجُل الذي ما علمتم عليه كذباً، وهو الرجُل الذي قال عنه جعفر رضي الله عنه للنجاشي: " حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه"، فلخَّص جعفر رضي الله عنه أخلاق النبي بثلاث أمور، الصدق والأمانة والعفة، وأي شخصٍ تتوفر فيه هذه الأمور الثلاثة فهو على مرتبةٍ عالية من الأخلاق، لأنها تجمع أصول الأخلاق ومكارم الأخلاق، نعرف أمانته وصدقه وعفافه، إن تكلم فهو صادق، إن عاملك فهو أمين، إن استُثيرت شهوته فهو عفيف، ماذا بقي من مكارم الأخلاق؟
أنت إمّا تتكلم بالصدق، وإمّا تعامل الناس بالأمانة، وإمّا أنك في موقفٍ فيه شهوةٌ تُستثار، فأنت عفيفٌ عن المحارم والمآثم، قال نعرف قبل البعثة، نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، ويأتي النسب تاجاً يُرِّفع هذه الثلاثة، فوجوده معها قوة، ووجوده من غيرها لا قيمة له، لكن النسب بعدها تاجٌ على رأس هذه الأخلاق الحميدة.
(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) تعرفونه، وتعرفون أنه جاء بالحق، ولكنه يعارض مصالحكم، (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم) لخَّص هنا بعثته بالإنذار، لأنه يخاطب المشركين، والخطاب هنا بالبشارة ليس موضعه، الحكمة أن تتكلم الكلام المناسب في المكان المناسب، النبي صلى الله عليه وسلم بشيرٌ ونذير، لكن موطن الخطاب هنا لمن؟ للكافرين، فنبشرهم بماذا؟ قال: (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم) والنبي صلى الله عليه وسلم لمّا وقف بينهم وقال: كنتم مصدقيِّ، قالوا نعم، قال: (نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) المكان هو مكان إنذار، وأحياناً يكون المقام مقام تبشير، وفي الأمور العامة المقام مقام بِشارةٍ ونِذارة، بِشارة بالخير وإنذار من السوء معاً، (بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ).

قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
(سورة سبأ)


من الأسباب التي تدعو أتباع الرسُل للاتباع ألّا يسألهم أجراً:
من الأسباب التي تدعو المدعو لأن يستمع لدعوة الداعي، ألّا يطلب الداعي على دعوته أجراً، من الأسباب التي تدعو أتباع الرسُل للاتباع ألّا يسألهم أجراً، وهذا ما قاله كل الأنبياء، (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ) ما أسألكم عليه أجراً، إلا المودة في القربة، فالأجر متى أخذ المال اتُهم بأنه يدعو بمقابل شيء، يريد منهم شيئاً، لكن لمّا يكون الداعية لا يريد من المدعو شيئاً إلا أن يستجيب للحق، فهذا من أسباب الاستجابة، فقال: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) أي هذا الذي أدعوكم هو في النتيجة خيرٌ لكم، (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) لا أطلب الأجر إلا من الله، وقد ذكرت لكم سابقاً أنه لا أحد في الوجود لا يطلب أجراً على عملٍ أبداً، لا يوجد شخصٌ بالوجود كله يعمل عملاً لا يريد من ورائه أجراً، لكن إمّا أن يكون الأجر في الدنيا، أو أن يكون طالباً للأجر عند الله، فالأجر موجود، لا أحد يعمل عملاً ويقول لك لا أريد شيئاً، والفالح والناجح هو الذي يدّخِر أجر كثيراً من أعماله عند الله تعالى، والمُتسرِّع والذي لا يؤمن إلا بالشهادة هو الذي يستعجل دائماً.

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
(سورة الأحقاف)

(إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) مُطّلعٌ جلَّ جلاله.

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48 (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
(سورة سبأ)


الحق والباطل ثنائية، أحدهما ينقض وجود الآخر:
الحق والباطل ثنائية، أحدهما ينقض وجود الآخر، فإمّا حقٌ أو باطل، الحق هو الشيء الثابت، حقَّ الشيء يحق إذا ثبت، والباطل هو الشيء الزائل والزاهق

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
(سورة الإسراء)

والحق هو الشيء الهادف، فكل شيءٍ يهدف إلى خير فهو حق، وكل شيءٍ عابث ليس له هدف فهو باطل، لو أنشأنا جامعة، الجامعة حق، بمصطلح أهل الدنيا، نُنشئُها ونجعل فيها المكتبة والمختبرات العلمية، شيءٌ ثابت له هدف وهو بناء الأجيال، وتخريج العلماء، لو أردنا أن ننشئ سيركاً لأيام العيد الثلاثة، ننشئه من مواد قابلة للإزالة فوراً، يبنى في ساعاتٍ ويزال في ساعات، فهو شيءٌ عابثٌ لا هدف له إلا بعض المتعة الزائلة، وزائل، فليس ثابتاً ولا هادفاً، الحق ثابت وهادف.
فربنا جلَّ جلاله يقذف بالحق، القذف: هو الرمي بشدّة، وكأن الله تعالى هنا بعد أن أمرهم بأن يقوموا لله وأن يتفكروا، وأن يُعملوا عقولهم ليصلوا إلى الحق، كأنهم قد يتوهمون أنَّ الحق ضعيف، فبحاجتهم، فجاءت الآيات بشدّة بعد ذلك (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) الحق قوي لا يحتاجك ولا يحتاجني، الحق أقوى من أن يتقوَّى بي، الحق لا يتقوَّى بأحد، الباطل يحتاج إلى قوة تحميه، الحق لا يحتاجني ولا يحتاجك، لأن قوته تنبع من ذاته، لكن أنا الذي أحتاجه، فقال: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) والقاذف عندما يرمي المقذوف، قد يصيب وقد لا يصيب، لكن الذي عنده عِلم يصيب، فقال: (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) العلَّام مبالغة من عالم، فهو كثير العِلم جلَّ جلاله، ويعلم الغيب فكيف لا يصيب بالحق مواضعه، القذف هو الرمي، وكأن الله تعالى يُشبِّه الحق بمقذوفٍ شديد، ترمي به فيُصيب الهدف فيقضي على الباطل.

بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
(سورة الأنبياء)

يقذف بالحق على الباطل.
(قُلْ جَاءَ الْحَقُّ) وكأن الحق رجُلٌ، هذا تشخيص، (جَاءَ الْحَقُّ) وكأنه شيءٌ يأتي (وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) أي لم يبقَ للباطل شيءٌ إذا جاء الحق، ليبدأهُ أو ليُعيد تكوينه، فقد أصبح لا شيء، لمّا يأتي الحق بقوته لا يبقَ للباطل وجود.

الحق لا يضعف بضعف أتباعه:
لكن اليوم انتفش الباطل، فظنَّ بعض ضِعاف الإيمان أنَّ الباطل فيه قوة، أو أنَّ له ثبات، وأنَّ له استمرار، وهذا من أعظم المِحن، والله أيُّها الكرام نحن نعيش الآن أعظم فتنة في هذه الأيام، الفتنة غير موجودة عندما ترى الحق وقوة الحق، عندما عاش المسلمون في العصر الأموي وحتى في العصر العباسي أو قبلها في العصر الراشدي، الحق ظاهر القوة، والباطل منزوي، هناك وضوح بالرؤية، لكن اليوم عندما يظهر الباطل على أنه قوي فينتفش، ويشعر المسلم أنَّ أهل الحق قد ضعفوا، فضعف الحق بضعفهم، والحق لا يضعف بضعف أتباعه، لكن يظهر ذلك للناس، ففي هذه اللحظات لا يثبت على الإيمان إلا من هو يقبض على دينه كما يقبض على الجمر

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر }

(رواه الترمذي)

لذلك قال صلى الله عليه وسلم أجر الواحد بسبعين، قالوا منّا أم منهم، قال: بل منكم لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون.

{ قيل يا رسولَ اللهِ أجرُ خمسين رجلًا منا أو منهم قال بل أجرُ خمسين منكم }

(الألباني صحيح الترغيب)

الأجر على قدر المشقَّة، انتفاش الباطل اليوم جعل الكثيرين ينساقون وراء الأعداء، يتزلفون لهم يتقربون منهم، يُطبِّعون معهم، يتقربون من إعلامهم السيء، يتبنون الرواية الصهيونية البائسة، لماذا؟ لأن الباطل انتفش وأهل الحق انزووا بسبب الضعف الذي نحن فيه، والذي هو من صنع أيدينا شئنا أم أبَينا، هو تراكم سنوات غفلنا فيها عن ديننا وعن الدفاع عن حقِّنا.

قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي ۖ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
(سورة سبأ)

دائماً في القرآن الضلال ينسبه للإنسان والهِداية لله تعالى، طبعاً هذا من باب الأدب، نعم، الجن ماذا قالوا؟

وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
(سورة الجن)

فلا تقول أراد الله بيَ الشر، لا تقل أمرضني الله، قال:

وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
(سورة الشعراء)


الشر لا يُنسَب إلى الله ولا يليق بملكوت الله أن يقع في ملكه شيءٌ لا يريده:
لا تنسب السوء إلى الله، لذلك كان صلى الله عليه وسلم من دعائه: والشر ليس إليك.

{ كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا استفتَح الصَّلاةَ كبَّر ثمَّ يقولُ : ( وجَّهْتُ وجهيَ للَّذي فطَر السَّمواتِ والأرضَ حنيفًا وما أنا مِن المُشرِكينَ إنَّ صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي للهِ ربِّ العالَمينَ لا شريكَ له وبذلكَ أُمِرْتُ وأنا أوَّلُ المُسلِمينَ اللَّهمَّ أنتَ الملِكُ لا إلهَ إلَّا أنتَ أنتَ ربِّي وأنا عبدُكَ ظلَمْتُ نفسي واعترَفْتُ بذَنْبي فاغفِرْ لي ذُنوبي جميعًا لا يغفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ لبَّيْكَ وسعدَيْكَ والخيرُ كلُّه في يدَيْكَ والشَّرُّ ليس إليكَ أنا بكَ وإليكَ تبارَكْتَ وتعالَيْتَ أستغفِرُكَ وأتوبُ إليكَ }

(صحيح ابن حبان)

الشر لا يُنسَب إلى الله، هو أدب؟ طبعاً هو أدب، لأن الفعل هو فعل الله، كل شيءٍ يقع في الوجود يقع بفعله وبإذنه تعالى، لا يليق بملكوت الله أن يقع في ملكه شيءٌ لا يريده، ولو أنه لم يرضَ به، لكن يوقعه، هل يرضى الله تعالى عمّا يُفعل بأهلنا في غزَّة؟ حاشاه، هل يأمر به؟ حاشاه حاشاه

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
(سورة الأعراف)

فالله لا يرضى لأهلنا في غزَّة ما يحصل، ولم يأمر به، لكنه جلَّ جلاله سمح بوقوعه، أذِن به، ليتخذ شهداء؟ نعم، ليرفع مقام مَن يرتفع؟ نعم، ليفضح المنافقين؟ نعم، ليُبيِّن قوة المرابطين؟ نعم، ليُبيِّن أنَّ أهل الحق متمسكون بحقهم؟ نعم، ليُرينا من آياته في رضا مَن يرضى عن الله عزَّ وجل رغم ما يجد من المِحن والشدائد؟ نعم، ليُرينا وهُم في الخيام يقرؤون القرآن ويسردونه في جلسةٍ واحدة، ونحن في رخاءٍ وعافية ولا نكاد نفتح المُصحف في الأسبوع مرَّة؟ نعم، عدِّد ما شئت، أذِن الله بذلك، وهو لا يرضاه ولا يحبه ولم يأمر به، ولن يُعفي أحداً من المسؤولية، وسيُحاسَب الجميع

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
(سورة النور)

لكن العقاب موجود، فما يقع في مُلك الله يقع بإذنه، لكن الله عزَّ وجل يُجيِّره و يُهيِّئه بحِكم جليلة وعظيمة لما فيه الخير في محصِّلة الأمر وفي نهايته، نعود إلى الآيات:

قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي ۖ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
(سورة سبأ)


الفعل فعل الله لكن الشر والضلال في الحقيقة هو سوء استخدام من الإنسان:
قلنا هذا أدب نعم، أنا ضللتُ أنا ضللت، أمّا الهداية (فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) لكن في الحقيقة في العمق بعد الأدب مع الله عزَّ وجل، في الحقيقة وفي العمق، الضلال هو فعلاً والشر فعلاً هو سوء استخدام من الإنسان، أنت عندما تتبِّع منهج الله تعالى، فأنت اهتديت بما يوحي إليك الله تعالى، لكن لمّا ضللتُ عن الطريق هل الله تعالى هو الذي شرع طريق الضلال فضللتُ به أم أنا الذي ضللت؟ في الحقيقة في العمق، في العمق الله تعالى قال لي اذهب من الهداية أنا الذي ذهبت في الضلال، هو لا يرضى لي طريق الضلال، لذلك قال تعالى:

إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
(سورة الزمر)

الفعل فعل الله، لكن الشر والضلال في الحقيقة هو سوء استخدام من الإنسان، السيارة عندما تسير في الطريق المُعبَّد الأمور سليمة، لا يوجد أصوات، والوضع جيد، إذا قادها شابٌ متهوِّر ونزل بها في الوادي فحطَّمها، ما تنظر إليها فتقول مَن الشركة الصانعة لهذا الدمار، سوء الاستخدام هو الذي أنشأ هذا الدمار، ولله المثل الأعلى، فالله عزَّ وجل ما أراد بنا سوءاً، ما أراد بنا شرّاً، أراد بنا الخير والهِداية، لكن لمّا كنّا مُخَيرين، سلكنا طريق الضلال، والعياذ بالله، فضَللنا، فهذا هو المعنى في العمق.
لكن لا شك أن كل ما يحدث في الكون، يحدث بإرادته جلَّ جلاله، ولا يليق بمُلك الله، أن يحدث في ملكه شيءٌ لا يريده، حاشاه جلَّ جلاله، (قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي ۖ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) ضلالي على نفسي، يسمع الدعاء ويُجيبه، فهو قريب جلَّ جلاله.

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (51)
(سورة سبأ)

(وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ) هذه تشبه ما مرّ في السورة قبل ذلك:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ(31)
(سورة سبأ)

أين الجواب؟ ليس هناك جواب، أي ولو ترى لرأيت عجباً، (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ) لرأيت ذُلّهم وانكسارهم وهوانهم، تركها مفتوحة، وهنا قال: (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُوا) فزعوا من هول الحسر، من هول الصيحة، من هول الوقوف بين يدي الله، فلا فوت، فلا مهرب ولا منجا، انتهى في قبضة الله (وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) في الآخرة أصبحوا في قبضة الله، وكلنا في قبضة الله في كل حال، (وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) للعذاب.

وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (52)
(سورة سبأ)


العبرة أن تؤمن بالغيب لا أن تؤمن بالشهادة:
وهذا يشبه إيمان فرعون لمّا أدركه الغرق قال:

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
(سورة يونس)

لكن فات الأوان، ويشبه من دخل إلى الامتحان ولم يُجِب على أي سؤال، ولمّا خرج فتح الكتاب فقال عرفت الأجوبة، فقيل له قد انتهى الوقت، (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ(51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ التَّنَاوُشُ) التناوش: هو التناول، يعني أنَّى لهم تناول الهِداية، تناول التوبة، الرجوع إلى الله، انتهى الوقت، من مكانٍ بعيد، وقد أصبح بينهم وبين الدنيا التي هي موطن التكليف، بُعدٌ شديد، انتهى الوقت، (وَأَنَّىٰ لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) كل الناس إذا رأوا الشهادة يؤمنون، لكن المطلوب أن تؤمن بالغيب.
الإنسان الذي يرى العذاب فيؤمن هذا ليس إيماناً، أنت واقف في مكانك والنار بعيدة هناك، المطلوب أن تهرب الآن، أمّا إذا وصلت النار لا تقول سأهرب، انتهى الوقت، أحرقت النار مَن فيها، لذلك الدين هو إيمان بالغيب، أُكرِرها دائماً ولا أملّ منها، الدين غيب، أن تؤمن بالغيب، لا أن تؤمن بالشهادة، الشهادة انتهى الوقت، عندما يرى الناس العذاب سيؤمن الناس جميعاً، ولكن بعد فوات الأوان.

وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (52)وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ ۖ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (53)
(سورة سبأ)

لمّا كان مطلوب الإيمان كانوا يكفرون به

وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيد (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ (54)
(سورة سبأ)

(وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) أي يرمون بالباطل، (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ) الحيلولة هي أن يحول شيءٌ بينك وبين شيءٍ آخر، حائل، (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ) الإيمان يقين، لكنهم كانوا في شكٍ من أمر الآخرة، هل هناك آخرة أم ليس هناك آخرة، الآن في الآخرة هم يشتهون الإيمان لكن انتهى الوقت (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم) أي من الناس الذين قبلهم.
الشيعة: هم الذين يتشايعون على شيءٍ، أي يتفقون عليه، يعني فلان من شيعة فلان أي من حزبه، الأشياع هم الذين يتفقون على شيءٍ واحد، أو يكون بينهم مُشترك مُعيَّن، فالمكذبون أشياع، والمؤمنون من شيعةٍ أُخرى (كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ) والحمد لله رب العالمين.