منازل السائرين إلى الله تعالى

  • اللقاء الثالث من تفسير سورة الزمر | شرح الآيات 9-10
  • 2022-01-22

منازل السائرين إلى الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.


مقارنة الله عز وجل بين صنفين من البشر:
وبعد: مع اللقاء الثالث من لقاءات سورة الزمَر، ومع الآية التاسعة، وهي قوله تعالى:

أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
[ سورة الزمر]

لما ذكر المولى جلّ جلاله في الآية السابقة الحديث عن إنسان كفر بنعم الله فقال:

وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
[ سورة الزمر]

صنف من الناس لا يعرف الله إلا عند الشدة
ناسب أن يذكر الله تعالى بعد ذلك الجانب الآخر من عباده، الجانب المشرق، الجانب الإيجابي، فقال: (أَمْ مَنْ هُوَ) أي هل تحب أن تكون من الصنف الأول أم من الثاني؟ (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ) الصنف الأول: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) لا يلجأ إلى الله إلا عند الشدائد، ثم: (إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) هذا صنف من الناس لا يعرف الله إلا عند الشدة، لكن عندما تأتي النعم ينسى الله تعالى ويجعل له شركاء.
الصنف الثاني (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً) القانت؛ هو المطيع لله، العابد لله، المتوجه إلى الله، الملتزم بمنهج الله، يسمى قانتاً، والقنوت أيضاً هو الدعاء، في الوتر عندنا القنوت، القنوت هو طول القيام بين يدي الله، أيضاً يسمى قنوتاً (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ) بمعنى أم من هو متوجه إلى الله، عابد لله، القانت؛ المطيع لله، العابد لله.
(آنَاءَ اللَّيْلِ) آناء؛ جمع أنى، أنى؛ هي الساعة، الزمن من الوقت، ليست الساعة ذات الدقائق الستين، لكن ساعة من الوقت أي مدة زمنية، أنى جمعها؛ آناء، أي ساعات الليل (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ) أوقات الليل، ساعات الليل (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً) السجود والقيام تعبير عن الصلاة، عن أهم شيئين في الصلاة، وهما القيام لله، والخضوع لله عز وجل سجوداً، والله تعالى يقول في سورة الفرقان:

وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64)
[سورة الفرقان]

فالقيام والسجود معاً تعبير عن تلك الحركة التي يقوم بها الإنسان أثناء أداء صلاته وقنوته لربه (سَاجِداً وَقَائِماً).
التصوير الفني في القرآن الكريم
القرآن الكريم فيه ناحية تصويرية، تسمى التصوير الفني في القرآن الكريم، التصوير أنك أحياناً تقرأ نصاً فتشعر كأنك تراه، ينقلك من حاسة السمع إلى حاسة الرؤية، تقول: عندما قرأت القصة شعرت وكأني أراها أمام عيني، هذه براعة في السرد، وعندما يقول لك: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً) تتخيل أنت ساعات الليل، عبد يقف في ظلام الليل، يسجد ويقوم لله، هذه حركة، هذه الحركة تعطيك المعنى بشكل أوضح (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً)، حاله، هذه جملة حالية في اللغة (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي خائف وطامع، راغب وراهب.

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
[ سورة الأنبياء]

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
[ سورة الأعراف]

قدم الرهبة هنا (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) الحذر حذر الآخرة؛ الخوف من الوقوف بين يدي الله يؤدي بالإنسان إلى أن يترك المعصية، رجاء رحمة الله يؤدي إلى أن يكثر من الأعمال الصالحة التي يلقى الله بها، فكأنهما تخلية وتحلية، الكأس تغسله بالماء والصابون وتلمعه، ثم تقدم به شراباً نفيساً، تخلية ثم تحلية (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) كأنها تشير إلى التخلية فالذي يخاف لا يعصي، يلتزم الأمر، والذي يرجو الرحمة يكثر من الأعمال الصالحة (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) إشارة إلى أن هذا الإنسان ملتزم بالمنهج، ترك المنهيات وأكثر من الأعمال الصالحة، ترك المنهيات؛ ولجأ إلى الاستقامة، ثم العمل الصالح، أكثر من الأعمال الصالحة (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ).

لفت الانتباه قبل التحدث:
القرآن الكريم يعلمنا لفت الانتباه قبل أن نتحدث
التعقيب: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، (قُلْ) يا محمد صلى الله عليه وسلم (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (قُلْ) تشير إلى لفت الانتباه، أنت إذا كنت جالساً في مكان وقال لك أحدهم: قل، فتلتفت إليه ماذا أقول؟ أما لو تكلم الكلمة فوراً قد لا تنتبه لها، هذا من براعة الاستهلال، القرآن الكريم يعلمنا أن نلفت الانتباه قبل أن نتحدث، خصوصاً عند المعلومة المهمة.
أنت في البيت تريد أن توجه ابنك إلى شيء، هو منشغل بالهاتف، بيده لعبة يلعبها، وأنت أردت أن تحدثه، فلو بدأت فوراً بالحديث، مثلاً تريد أن تحثه على الصلاة، الصلاة مهمة يا بني، الصلاة ضرورية، يجب أن تنتبه إلى صلاتك، نظر لك وأكمل لعبته، لو قلت له: يا محمد، يا محمد، يا محمد، ثلاث مرات فانتبه، هذا أدعى للانتباه، لو أضفت أسلوباً آخر، قلت له مثلاً: هل تحب أن تكون من أهل الجنة؟ نعم، هل تحب أن أكون راضياً عنك؟ نعم، هل تحب أن يكون ربنا جلّ جلاله راضياً عنك؟ نعم، التزم صلاتك.
فكلما أكثرت من المنبهات، يوجد منبهات كالقهوة والشاي، المنبهات بالكلام تكون بالأسئلة، الأسئلة التي تلامس حاجات الإنسان الضرورية، الأسئلة التي تلامس حاجات الإنسان التي تحقق عنده الضرورة، هل تريد كذا؟ أكيد، كلنا نريد رضا الله، اسمع مني.
وتكون أيضاً من خلال النداء، يا فلان ! قل، فعل أمر، لا تفعل: نهي، تكون في أي شيء فيه خطاب مباشر للإنسان يحفزه، النبي صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يحفز بالحركة، مثلاً النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً بين أصحابه يحدثهم عن الكبائر، يقول لهم:

{ أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» ثَلاَثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ - أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ»، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ }

[أخرجه البخاري ]

يقول الصحابي الكريم: وكان متكئاً فجلس، هذه أيضاً إشارة إلى دقة الرواة في رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقلوا فقط كلماته، كانوا ينقلون لغة الجسد.

{ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، واشتد غضبه، وعلا صوته كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم مساكم }

[أخرجه الحاكم]

مثلاً، ينقلون ضحكاته.

{ عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن عليا رضي الله تعالى عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فارتفع إليه ثلاثة يتنازعون ولداً كل واحد يزعم أنه ابنه قال: فخلا باثنين فقال: أتطيبان نفساً لهذا الباقي؟ قالا: لا، وخلا باثنين فقال لهما مثل ذلك، فقالا: لا، فقال أراكم شركاء متشاكسون وأنا مقرع بينكم فأقرع بينهم فجعله لأحدهم وأغرمه ثلثي الدية للباقين، قال فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه }

[أخرجه الحاكم ]

أي يتكلمون عن لغة الجسد، حتى لا يأتيك أحد اليوم في آخر الزمان يقول لك: ما أدرانا أن الحديث صحيح، وما أدرانا أن البخاري حديثه صحيح، ما كانوا يكتفون بنقل الكلمات كانوا ينقلون حركة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان متكئاً فجلس، قال الصحابة: (فما زال يكرّرُها حتى قلنا: ليته سكتَ) إشفاقاً عليه، من شدة ما انفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخبرهم عن عظم قضية أن يشهد الإنسان بالزور أي أن يميل عن الحق، أن يشهد شهادة بخلاف الواقع، يقول للقاضي: رأيت فلاناً في هذا المكان وهو لم يره، أو يقول: له دين على فلان، وهو لا يعلم أنه دين، يشهد الزور، فالنبي صلى الله عليه وسلم غير من جلسته وبدأ يعلو صوته (حتى قلنا: ليته سكتَ).

عدم استواء من يعلم مع من لا يعلم:
حتى أوضح لك ما معنى في القرآن الكريم عندما مثلاً نقرأ (قُلْ) قل؛ انتبه يوجد شيء مهم، في الآية التي سبقتها: (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) الآن (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) المنبه الأول؛ قل، والمنبه الثاني؛ الاستفهام، الاستفهام نتيجته جواب حتمي، أي إذا سألت أي إنسان (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) لو قال: نعم يستويان، فهو جاهل، لا يمكن أن يستوي من يعلم ومن لا يعلم، الآن لو جئنا على مستواه سآتي إلى العلم المقصود بالآية، لكن لو جئنا على مستوى العلم بالواقع.
اليوم إذا ذهبت إلى شركة، يوجد وظيفتان، وظيفة بألف، ووظيفة بثلاثمئة، وظيفة الثلاثمئة لا تحتاج إلى علم، تحتاج إلى تنظيف المكتب، على العين والرأس، قد يكون عند الله هذا أهم من هذا، سآتي إلى ذلك الكلام، لكن أتكلم على مستوى الواقع، ووظيفة الألف تحتاج إلى شهادة، أو إلى خبرة، لا أقول شهادة مع أن الشهادة مقدسة، كرتونة؟ لا، خبرة عادية، قد يكون مهنياً، وأنت كم سنة اشتغلت بالنجارة؟ الخبرة جيدة والشهادة جيدة، كلاهما بالمكان، هل يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم مع بعض؟ لا، هل يستويان بالأجر؟ لا، الآن في البيت إذا كان الأب يعلم، والأم تعلم، عندهما خبرة في التربية، أو درسا اللغة الإنكليزية مثلاً، وجاء الولد لم يفهم شيئاً في المنهاج (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) الذي يعلم يدرك ابنه، والذي لا يعلم يقول له: بابا أنا لا أعلم، هذا بواقع الحياة فالإجابة حتماً لا يستويان.
حقيقة العلم هي العلم بالله
لكن الذي يلفت النظر هنا؛ أن ربنا عز وجل يعقب بالعلم على حالة قد لا ينتبه أناس كثيرون إلى أنها عين العلم، ربنا يخبرنا في البداية - هو لا يتكلم على شهادات، ولا يتكلم على أمر الله فقط - بل عن رجل يقوم الليل (سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) هذا الرجل هو الذي يعلم بنص الآية الكريمة، ولو كان لا يملك شهادة، ولو كان لا يعلم من الدنيا إلا النذر اليسير، مع أهمية علوم الدنيا، لو كان لا يعلم شيئاً من ذلك، يكفي أنه وصل إلى قمة العلم لأنه يخاف الله، ويتقي معصيته، ويكثر من الأعمال التي تقربه منه، ويقف بين يديه خاشعاً متذللاً، فهذا وصل إلى حقيقة العلم وهي العلم بالله (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) إذاً هؤلاء الذي يعلمون.

وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
[ سورة فاطر]

العلماء وحدهم يخشون الله، لكن ليس العلماء الذين يعلمون الأمر، وإنما الذين يعرفون صاحب الأمر جلّ جلاله.

مهمة المؤمن التذكر فقط:
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) التذكر يشير بطريقة أو بأخرى إلى أن هناك أشياء مغروزة في أعماق نفسك، وأن ما تفعله في الحياة من طاعة لله إنما هو استحضار لهذه الأمور التي تكون قد نسيتها بفعل البيئة، وبفعل ما حولك من أصدقاء السوء، أو انغماسك في العمل، أو غير ذلك، فتتذكر.
ضربت لكم مرة مثلاً أنك تلقي حجراً صغيراً في بركة ماء راكدة، ينزل الحجر في البؤرة فتتشكل دوائر، هذه الدوائر تتوسع، تتوسع، تتوسع إلى أن تتلاشى، عندما يحدث مع الإنسان شيء لحظة وقوع هذا الشيء يكون في بؤرة شعوره.
النسيان نعمة من نعم الله
مثلاً؛ خسرت مبلغاً من المال، ضاع منك مبلغ من المال، انزعجت جداً، انزعجت ببؤرة شعورك، أول عشر دقائق لا أحد يستطيع أن يتحدث معك، خير ما بك؟ منزعج، مقطب الجبين، جالس، كذا، بدأ ينتقل من البؤرة للحواشي، بعد أسبوع نسيت الموضوع كله وهذه من نعم الله عز وجل، عندما تخطر هذه الحادثة على بالك تضحك، القصة انتهت، إن سألوك عنها تقول: مضت، انتقلت إلى الحواشي، أحياناً تستذكرها فتنزعج آنياً ثم تذهب، فهناك البؤرة وهناك الحواشي، التذكر هو أن تعيد المعلومة من الحواشي إلى بؤرة الشعور، لو كان الإنسان فقد حبيباً على قلبه إن بقيت المعلومة في بؤرة شعوره منذ أن توفي القريب إلى أن يتوفى أصبحت حياته جحيماً لا تطاق، لا يستطيع أن يعيش، لو يعيش بالشعور الذي جاءه لحظة تلقي الخبر السيئ لم يعد هناك نسيان، لذلك يقولون: نعمة النسيان، النسيان نعمة من نعم الله، الإنسان ينسى، ما معنى ينسى؟ تذهب المعلومة، تذهب من بؤرة الشعور إلى الحواشي، فعندما يقول ربنا: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) كأن هناك شيئاً في الفطرة الإنسانية السليمة في الأصل يدفعك نحو الله، لكن بفعل عوامل البيئة والزمن تنسى، فينتقل هذا الأمر، فمهمة المؤمن أن يتذكر فقط، أن يعيد المعلومة دائماً إلى بؤرة الشعور، بصلاته، بصيامه بحجه، بزكاته، بطاعته لله، دائماً يستحضر الله في بؤرة شعوره، لأن هذه أهم معلومة لا ينبغي أن تغادرها (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ) يرجعه إلى البؤرة.

المحاكمة الصحيحة تنتج عن مدخلات صحيحة ومخرجات صحيحة:
(أُولُو الْأَلْبَابِ) أولو بمعنى أصحاب (الْأَلْبَابِ)، عندنا قشور وعندنا لب، قشر ولب، دائماً يقول لك أحدهم: أريد لب الموضوع، إذا بدأت تشرح له قضية ولا يوجد عنده وقت، يقول لك: ادخل بلب الموضوع، أعطني اللب، يوجد كتاب اسمه: اللباب في شرح الكتاب، وكتاب اسمه: مغني اللبيب، اللبيب؛ الذي عنده لب، الآن المفسرون يقولون: اللب؛ هو العقل، وقلت لكم سابقاً: إن العقل كجهاز غير موجود، أي كجهاز مكتشف، مثلاً تشريحياً يوجد دماغ، تشريحياً يوجد قلب، تشريحياً يوجد يد، يوجد عين، هذه الأجهزة موجودة تشريحياً، صارت معروفة، اكتشفها الإنسان، لكن لم يكتشفوا جهازاً اسمه العقل، قالوا: تتم عمليات التعقل بالدماغ، وقالوا: إنه يتم جزء منها بالقلب، اليوم كانوا يتكلمون عن هذا، وربنا عز وجل قال:

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
[ سورة الحج ]

العقل هو فهم العمليات
فالعقل هو الفهم، فهم العمليات، وقلت لكم سابقاً: أخطر شيء أن يصبح العقل (input)، العقل معالجة، عملية، عمليات العقل تنتج مخرجات، إذا كانت المدخلات (input) صحيحة، والتعقل صحيحاً فإن المخرجات (output) ستكون صحيحة، أما عندما تصبح المدخلات عقلاً فالمخرجات خطأ حتماً، العمليات جعلتها مدخلاً، هي ليست مدخلاً، الذي يقول لك: قال لي عقلي، عقلك كيف قال لك؟ عقلك لا يقول لك، أنت يجب أن يكون عندك مرجعية، يجب أن تتبع كتاب ربك، أو يجب أن يكون لك قانون، أو لك عرف، أهلك قالوا لك، أبوك قال لك، الأعراف، نحن هكذا ربينا، العرف، فلا يوجد شيء اسمه: مدخل عقلي، اليوم الذين يجعلون العقل مدخلاً، هو لا يستطيع أن يكون (input)، العقل عملية معالجة، إذاً المعالجة صحيحة، وقبل ذلك والأهم من ذلك المدخلات صحيحة، أنا مدخلاتي ما هي؟ أنا مسلم ما هي مدخلاتي؟ كتاب الله تعالى وسنة رسوله، أعالجها فأخرج مخرجات صحيحة، لا يوجد عندي مخرج آخر.
مثلاً: لو أن المصلي لم يجد ماء، ماذا يصنع؟ إذا لم يكن هناك مدخلات صحيحة، إنسان يريد أن يصلي ولم يجد ماء، قضية، أراد أن يصلي فلم يجد ماءً، ممكن شخص يقول لي: إذا ما وجد ماء يصلي من غير أن يتوضأ، لأن الماء غير موجود فعجز، ماذا يفعل؟ يصلي فوراً، يفعل شيئاً؟ لا، لا يفعل شيئاً، لا يوجد ماء، ممكن شخص ثان يقول لي: عنده في البيت كوسا محشي، يتوضأ بالمرقة، يدبر نفسه، مدخل، هكذا نتج معه، هو لا يوجد عنده أية معلومة، شبه هذه بالماء، شخص ثالث يقول لي: يتوضأ بالخل! الآن كل واحد يعطي معلومة، لأنه لا يوجد مدخل صحيح ستخرج مخرجات خاطئة، مثال مضحك، لكنه واقع يحدث اليوم على أرض الواقع، أنا مسلم ما مرجعيتي؟ كتاب الله وسنة رسوله، أفتح القرآن فأجد:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
[ سورة المائدة ]

النبي الكريم وضح لك كيفية التيمم
أريد تفصيلاً أكثر (صَعِيداً طَيِّباً) أي من التراب، التراب الطيب الطاهر تيمم منه، هل أتيمم مثل الوضوء تماماً؟ أمسك التراب على وجهي، وعلى يدي، وأضع بأذاني تراباً، وخلفهم تماماً؟ لا، النبي صلى الله عليه وسلم وضح لك كيفية التيمم، القرآن قال: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) لكن بالفعل الصحيح (بِوُجُوهِكُمْ) كيف؟ بأيديكم كم مرة؟ جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ضربة، علمنا التيمم، الآن أدخلت أنا المعلومة في عقلك، المخرجات، من لم يجد ماء فليذهب إلى أي جنس طاهر من جنس الأرض ويأخذ منه تراباً، ويضرب ضربة يمسح بها وجهه، وضربة يمسح بها يديه، وانتهى التيمم، ويستبيح الصلاة بذلك، يأتي أحدهم يقول لك: والله أنا عقلي لم يقتنع، لماذا لم يقتنع عقلك؟ فهمنا أنه يطهر نفسه، أما لماذا يضع التراب على جسمه؟ أنت قلبت المدخلات بشكل خاطئ فلن تخرج معك نتيجة، أنا المدخلات الخاصة بي هي كتاب الله، وسنة رسوله أنت قلت لي يقول لي عقلي يوجد مدخلات، لم نعد نتفق، لا تكمل الحوار معه، قل له: انتهى الحوار، مدخلاتي غير مدخلاتك، النتائج مختلفة، ما دام (input) غلط عندك، (output) غلط، أنا بالنسبة لي لا يوجد ماء أنظر في القرآن ماذا يقول لي فقط، لا يوجد حل ثان عندي.
فالألباب هي العقول، لنقل أعم من العقول، الألباب هي قلب الإنسان، داخله، لبه، الذي عنده تصور صحيح، الذي عنده لب صحيح، قلبه صحيح، قلب النفس، أي داخله، قلبه أي داخله، الجوزة لها قشر ولها قلب، فقلب الإنسان هو داخله، والنبي صلى الله عليه وسلم يتحدث عن القلب، ويتحدث عن القلب الذي يصبح أسود مرباد، والذي يصبح أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة، إذاً اللب هو قلب الإنسان، داخل الإنسان، فهذا يتذكر، لأن محاكمته صحيحة، مدخلاته صحيحة، مخرجاته صحيحة، (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).

منازل السائرين إلى الله تعالى:
(قُلْ) من جديد، يا محمد صلى الله عليه وسلم:

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
[ سورة الزمر]

من جديد، يا محمد صلى الله عليه وسلم (يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) هذه الآية عجيبة، فيها خمسة مستويات من المصطلحات المهمة في علاقة الإنسان مع ربه (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ) العبادة (الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) التقوى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) الإحسان (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) الصبر، هذه الآية ذكرت خمسة منازل من منازل السائرين إلى الله تعالى، خمسة منازل معاً بأسلوب عجيب.

1 ـ العبادة:
كلنا عبيد لله عبادة قهر
قال: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا) ينسب عباده إليه نسبة تشريف، كلنا عبيد لله عبادة قهر، الملحد عبد لله، عبد لله لأنه مفتقر في كل لحظة إلى إمداد الله حتى يبقى قطر شريانه التاجي صحيحاً فلا يصبح في داخله جلطة، مفتقر إلى الله في كل لحظة حتى يستطيع إخراج الماء الذي شربه، فهو عبد وكلنا عباد، لكن نحن لسنا عبيد قهر فقط، اخترنا عبادة الشكر، انتقلنا من أن نكون مقهورين في أننا خاضعون لله، إلا أننا نخضع له حباً، ونقف بين يدي الله اختياراً، ما اكتفينا أننا عبيد مقهورون بكل لحظة للإمداد، وللطعام، والشراب، وإخراج الفضلات، انتقلنا إلى مرتبة أعظم بأننا باختيارنا نقف بين يديه نقول: الله أكبر، باختيارنا نمتنع عن الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، باختيارنا ندفع اثنين ونصف بالمئة للفقراء، نحن انتقلنا من عبيد القهر إلى عباد الشكر، وغالباً تأتي عباد للشكر، وعبيد للقهر، فجمع عابد عباد، وجمع عبد عبيد.
فهنا (يَا عِبَادِ الَّذِينَ) عباد الشكر، يخاطب الآن الذين اختاروا الخضوع لمنهجه اختياراً، اختاروا، هذه المرتبة الأولى.

2 ـ الإيمان:
(الَّذِينَ آمَنُوا) مرتبة التصديق، العبادة خضوع، الإيمان تصديق، وإقبال على الله، الإيمان تصديق بالأفكار، وإقبال على الله.

3 ـ التقوى:
(اتَّقُوا رَبَّكُمْ) المرحلة الثالثة التقوى، وهي أن تجعل وقاية بينك وبين عذاب الله، وأن تجعل وقاية بينك وبين ما يغضب الله، فلا تقرب المعاصي، التقوى، هذه المرتبة الثالثة.

4 ـ الإحسان:
(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) الإحسان.

{ قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تره فإنَّه يراك }

[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي]

فتصبح محسناً في كل حياتك، محسناً مع الناس، محسناً مع زوجتك، مع أولادك، مع جميع الناس، الإحسان.
(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا) أحسنوا في الدنيا فلهم حسنة، ليس معنى الحسنة هنا بالعدد، أي لهم حسنة واحدة، لكن لهم حالة حسنة، ثم حذف الموصوف وأبقى صفته، كقوله تعالى:

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[ سورة البقرة]

ليس المقصود أن ربنا آتنا في الدنيا حسنة واحدة (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا) حالة حسنة، أي اجعل كل شيء فيها حسناً.
هجرة المكان الذي لا تستطيع عبادة الله فيه
هنا: (لِلَّذينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) كأنها جملة معترضة، مفادها أنك إذا حال مكان بينك وبين أن تعبد الله، وأن تتقيه، وأن تؤمن به، وأن تحسن إلى خلقه، فيجب أن تتركه، لست ملزماً بالبقاء فيه، هذه كناية (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) ماذا نفعل؟ هاجر، إلى أن تستطيع أن تعبد الله في مكان ما، ينبغي أن تهجر المكان الذي لا تستطيع عبادة الله فيه، هذا أصل مفهوم الهجرة، أنا وجدت في الدنيا لأعبد الله فمنعت أن أعبد الله فماذا أفعل؟ أترك المكان إلى مكان آخر، إذا أردت أن أسقطها أكثر على واقعنا، المهاجر من هجر من نهى الله عنه، جالس في مجلس شعرت نفسي ضعيفاً جداً أصبح ديني ضعيفاً لأن هؤلاء الأصدقاء متفلتون جداً من منهج الله، وكل واحد معه مئة وسيلة ليحرفني عن منهج الله، والسهرة أسبوعية، أصدقاء المدرسة لا أستطيع أن أزعجهم، أحضر معهم، هذه الجلسة أصبحت حائلاً بينك وبين هدفك بالحياة، اهجرها، إما أن تؤثر بها إيجاباً أو تهجرها، لا يوجد حل ثان، المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، المكان الذي لا تستطيع أن تعبد الله فيه إما أنك لا تستطيع أن تعبد الله فيه بسبب وجود قوى ضاغطة، كما كان المسلمون في مكة يعذبونهم.
يمنعونهم من الصلاة إذا رأوا إنساناً يصلي يضربونه، هذا موجود اليوم إلى حد وليس لمستوى المنع من الصلاة، لكن بدأت المرأة في بعض البلدان تمنع من حجابها، أي الدخول إلى الأماكن العامة ممنوع الحجاب، أبداً، فهنا لا ينبغي أن أبقى في مكان لا أستطيع أن أقيم فيه شرع الله، على الأقل الفروض التي لا بد منها.
هناك حالة ثانية لا يستطيع الإنسان أن يعبد الله فيها، ليس لأن هناك من يمنعه، ولكن لأن قوة الشهوة الموجودة في هذا المكان لا يستطيع أن يقوى أمامها، أيضاً ينبغي أن تهجرها، أنا مقيم في بلد، في مدينة، في حي، كل ما حولي يضج بالمعاصي والعياذ بالله، أمشي في الشارع هناك مئة لافتة لمحلات، وبعض النساء في الطريق كلهن يدعونني للمعصية، وأنا أشعر أني بأي لحظة ممكن أن أسقط، وأرض الله واسعة، لا تجعل مكاناً حاجزاً بينك وبين طاعة الله، لأن هذا هو الأصل.
أحياناً يتصل بي أخوة من المقيمين في الغرب، يقول لي: ماذا أفعل؟ أقول له: أنت الآن بالخيار، أعلم أن بلدك وضعه صعب، وأن خيار الرجوع إليه ليس أمراً يسيراً، والخدمات شبه متوقفة، الوضع صعب، لكن حالة واحدة أقولها لك: لا يجوز أن تبقى غداً إذا وصلت إلى مرحلة تخشى بها على دينك، عندما تقول لي: ديني، أقول لك: لا يوجد مجال أن تبقى بمكان تستضعف فيه أمام نفسك، وأمام شهوتك، هذه سعادة الأبد أو شقوة الأبد، أما غير ذلك فأنت حكيم نفسك كما يقال، لكن يوجد حالة أفتي لك فوراً، إذا كنت مستضعفاً في دينك، لا أحد يمنعك، غالباً هذا غير موجود، لكنه استضعاف فأنت ضعيف لا تقوى على أداء شعائر الله لا على ترك المعصية.

5 ـ الصبر:
ديننا كله صبر
(وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) المرحلة الخامسة، المرتبة الخامسة الصبر، الصبر؛ حبس النفس، ديننا كله صبر، هذا المجلس الذي نجلس فيه الآن، ومن يتابعنا على الفيس بوك، هذا مجلس صبر، لأن هناك فيديوهات أخرى أمتع من هذا المجلس، هذا لغة عربية، ودلالة كلمة، ويجوز، ولا يجوز، وانتبهوا، كذا تحذيرات، كأن إنساناً يمشي وهناك شخص يحذره دائماً، أما لو نزل وأكمل للأسفل هناك الفيس بوك، أو يمكن أن يجد فيديو لطيفاً، فيه مزح ونكات وضحك، وإذا أكثر ممكن أن يصل للنظر الحرام، فكله بالنسبة للنفس أخف، فالمجلس مجلس صبر، أي نصبر أنفسنا، نتعلم شيئاً يفيدنا في دنيانا، ونأخذ أجره في دنيانا وآخرتنا، نأخذ أجره عند ربنا، هذا صبر ، الصلاة صبر.

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
[ سورة طه]

الصيام صبر، الحج صبر، نفقة، وطواف، وسعي، وحرارة عالية، صبر، الزكاة صبر، تصبر نفسك على دفع المبلغ، كل الدين صبر، غض البصر صبر.

الصابر أجره كبير عند الله عز وجل:
التوفية كاملة غير منقوصة
الآن ربنا عز وجل قال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) إنما قصر وحصر (إِنَّمَا يُوَفَّى) يوفى؛ التوفية أن تأخذ أجرك أو مالك أو حقك كاملاً غير منقوص، تقول لشخص: كم المبلغ؟ يقول لك: مئة دينار وثلاثة دنانير وخمسة قروش، تقول له: هذه الخمسة قبل المئة، وهذه الثلاثة، هذا وفيته، هذه هي التوفية، أما إذا أعطيته مئة وقلت له: سامحنا بالثلاثة هذا ما وفيته، أعطيته لكن ما وفيته، التوفية كاملة غير منقوصة، على القرش، الرصيد صفر تماماً؟ (يُوَفَّى) هنا الصابرون، عندما يقرؤون (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) إذاً الأجر، أجراً؟ قال: لا، (أَجْرَهُمْ) أجرهم أي الأجر المكافئ لعملهم، إذا إنسان طالبك بالأجر، أعطني أجراً، يقول لك: أعطني أجري؟ أي الأجر الذي يكافئ عمله، والنبي صلى الله عليه وسلم من الملامح الجميلة جداً في الحديث الشريف.

{ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ }

[أخرجه ابن ماجه]

أي أعطه الأجر المكافئ لعمله.
قال: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) لا يوجد عد، عند الصابر لا يوجد عد، لا يوجد كم بقي لك؟ لا زاد ولا نقص، الشيك مفتوح وليس هناك رقم، اسمك موجود، والتوقيع موجود، والرقم الذي تريده مفتوح، لا يوجد أي رقم، خذ ما شئت، هذه (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي ليس هناك عد ولا حسبة للصابر عند الله عز وجل، والصبر كما قلنا يكون على الطاعة، ويكون عن المعصية، ويكون على قضاء الله تعالى وقدره مما يصيب الإنسان من غمّ، وهمّ، أو مرض، إلى آخره، سيكون أجره (بِغَيْرِ حِسَابٍ) مفتوحاً.

ارتباط الصبر بالمعرفة:
الصبر علامة المعرفة، والإنسان لا يصبر حتى يعرف، ومن لا يعرف لا يصبر، قال:

قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68)
[ سورة الكهف]

الصبر علامة المعرفة
أنت لم تستطع أن تصبر معي لأنه لا يوجد عندك معلومات، عندما سأقتل الغلام أنت لا تملك معلومات بأن هذا الغلام سيرهق أهله طغياناً وكفراً، فهذا الحدث لن تستطيع أن تصبر عليه، وفعلاً ما صبر سيدنا موسى، وعندما خرق السفينة قال له: لن تستطيع أن تصبر على هذا الأذى الذي أحدثته في سفينة هؤلاء المساكين الذين يعملون في البحر، وعندما يمنعوننا من الضيافة، ثم أقوم ببناء جدار لهم، وليس هناك أي مبرر لن تصبر، ستقول لي: لماذا بنيت لهم الجدار؟ وفعلاً لم يصبر، قال له:

قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
[ سورة الكهف]

لم يستطع لأن الإنسان لا يصبر حتى يعرف، الذي يريده الله منك أنه أعطاك المعلومات، وقال لك: اصبر، على قدر إيمانك بالمعلومة تصبر، قال لك: يوجد جنة، أنت تصبر لأنك تعلم أن هناك جنة، قال لك: يوجد حساب عظيم (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) فتصبر، فأنت صبرك مبني على المعلومة، لذلك الصبر مرتبط بالمعرفة.
طبيب أسنان عنده مريض لا يمكن أن يقوم بتخديره لأن عنده مشكلة صحية تمنع التخدير، قال له الطبيب: سنضطر لحفر الضرس، وإجراء الحشوة دون أن نخدر لك السن وستجد ألماً، يقول له: سأصبر، يتمسك بحواف الكرسي، يعاني الألم الشديد لكنه يصبر لأنه يعرف أن الطبيب خبير، إجراء العمل لا بد منه، وضع مخدر لا يناسبه، نقطة انتهى، فيصبر، المعلومات دفعته إلى الصبر.
طفل صغير على كرسي طبيب الأسنان يضع له المخدر، ويحاول إجراء العمل الجراحي، والطفل يبكي بشكل مستمر، وربما يركل الطبيب بقدمه، وربما يتكلم بكلمات نابية مع الطبيب، والطبيب يضحك لأنه يعلم أن هذا الطفل لا يعرف مصلحته، إذا قال له والده في اليوم الثاني: نريد أن آخذك للطيب، يقول له: لم أحب هذا الطبيب، لماذا الطفل لم يصبر؟ لأنه لا يعرف.
صبرُنا في الحياة مبني على المعرفة، من يعرف الله يصبر، صبرنا في الحياة على مشاق الحياة ليس لأننا نملك قوة أكبر، كل الناس ربنا أعطاهم قوة، قوة تحمل، لكن المؤمن يصبر لأنه يعرف ما أعدّ الله للصابرين، يصبر لأنه يعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه، يقول: هذا المال ليس لي، لو كان لي كنت أخذته، يصبر لأنه يعلم ما أعدّ الله للمصلي فيصبر في صلاته، وهكذا في كل شأن من شؤون حياتنا نصبر لأننا نعرف، ولن تصبر حتى تعرف، والأعمق من ذلك ولن تعرف حتى تصبر.
من يعرف الله يصبر
ربنا عز وجل قال لك: يوجد جنة لمن أطاعني، فصبرت على الطاعة، وعن المعصية من أجل الدخول للجنة، لأنك تعرف صبرت، وعندما صبرت ستعرف أكثر عندما تدخل إلى الجنة وتراها، فاصبر حتى تعرف، واعرف حتى تصبر، ليست معقدة كثيراً، الصبر يحتاج إلى معرفة، ويؤدي إلى معرفة أعمق، يحتاج إلى معرفة قبله، ويؤدي إلى معرفة عميقة بعده، الذي يصبر يتعلم، واقعنا نحن بالحياة، من الذي يتعلم؟ الذي يصبر، ومن الذي يصبر؟ الذي يعلم أن هذه المعلومة مهمة جداً فيصبر من أجل أن يتعلمها، (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) اللهم صبراً على:

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68)
[ سورة الكهف]

إذا شيء ما فهمته، أنت صار معك حدث صعب بالحياة لم تفهمه، كمعلومة عامة ربنا عز وجل حكيم، وخبير، وعدل، فلم تحط خبراً، لماذا جرى ذلك؟ يا رب أنا صابر، ولو لم أحط بالأمر خبراً.
والحمد لله رب العالمين