الاستعداد للموت

  • اللقاء السابع من تفسير سورة الزمر | شرح الآيات 30-37
  • 2022-05-21

الاستعداد للموت

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصَلِّي وأُسَلِّم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، وبعد.


أهمية التوحيد:
مع اللقاء السابع من لقاءات سورة الزمَر، ومع الآية الثلاثين من السورة وهي قوله تعالى:

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)
[ سورة الزمر]

قبل ذلك قوله تعالى:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
[ سورة الزمر]

يتحدث الله تعالى في هذه الآية، وفي عموم سورة الزمر عن قضية التوحيد، وبيّن أهمية التوحيد، وضلال الشرك (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ) هذا الشرك (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً) الرجل سلم لرجل؛ شخص علاقته مع شخص واحد، عبد مع سيده، أموره منتظمة، يريد أن يرضي جهة واحدة، هذا صنف.
الصنف الثاني (فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ) يملكه خمسة أشخاص مثلاً، وكل شخص يريد منه شيئاً، فإذا أرضى هذا أسخط هذا، وإذا فرح هذا به غضب هذا منه، فقال تعالى: (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً) الجواب: لا، (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد لله على أن الله واحد لا شريك له، الحمد لله أن جعلك من أهل التوحيد، الحمد لله أنك تعمل لوجه واحد وهو رضا الله، فإن رضي الله رضي عنك وأرضى عنك الناس، وإن سخط الله على رجل ما سخط عليه وأسخط عليه الناس.

الاستعداد للموت:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) لكن القضية مازالت متفاعلة بين الشرك والتوحيد، بين أهل الإيمان وأهل الكفران، فأراد الله تعالى أن يبين أن هذه القضية حسمها النهائي ليس في الدنيا، وإنما يوم القيامة، فقال: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) وهذا تخويف، وإنذار، لأن هناك موقفاً بين يدي الله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إِنَّكَ) يا محمد صلى الله عليه وسلم (مَيِّتٌ) والميِّت باعتبار ما سيكون، لقوله تعالى:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
[ سورة البقرة]

أي سأجعل (إِنَّكَ مَيِّتٌ) أي إنك ستموت، عندنا ميّت، وعندنا مَيْت، فرق بينهما بعض أهل اللغة فقالوا: الميّت الذي سيموت، والمَيتْ هو من مات وانتهى الأمر، وقال بعضهم: بل هما سيان، واحدة مخففة من الأخرى، يقال: ميّت، أو مَيتْ لمن سيموت أو لمن مات، المتنبي يقول:
ليس من مات فاستراح بميّتٍ إنما الميْتُ ميِّتُ الأحياءِ
{ صالح بن عبد القدوس }
الموت قادم لا محالة
جمع بينهما المَيتْ والمَيّت، على كل (إِنَّكَ مَيِّتٌ) أي ستموت، ولما يقول تعالى لنبيه، ويبدأ به (إِنَّكَ مَيِّتٌ) وهو رسوله، وهو حبيبه، وهو عبده، وهو نبيه، وهو ذو الخلق العظيم، فيبدأ بموته، وبأن الموت قادم لا محالة فمن باب أولى أن يأتي للعباد الآخرين، فبدأ بنبيه، وفي ذلك أيضاً تنبيه، وكأن الله تعالى يقول: سارعوا إلى الاستفادة منه لما نزل القرآن، سارعوا إلى القرب منه، سارعوا إلى إجابة دعوته، لأنه سيموت، وأيضاً (إِنَّكَ مَيِّتٌ) بيان للتوحيد.

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
[ سورة آل عمران]

أيضاً بيان التوحيد، بمعنى أنه مهما بلغ من المنزلة فهو ميت، فهو بشر، حتى لا يغالي فيه قومه وأتباعه كما غالى أتباع عيسى عليه السلام فادعوا أنه ابن الله تعالى:

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43)
[ سورة الإسراء]

فكل هذه المعاني في قوله (إِنَّكَ مَيِّتٌ) بدأ برسوله، فنحن من باب أولى أننا سنقضي إلى الله، وسنمضي إليه، وبدأ برسوله فهلموا يا من تسمعون تلك الآيات تتنزل الآن للاعتصام بنبيكم، والاستفادة منه فإنه سيمضي إلى ربه، (إِنَّكَ مَيِّتٌ) فإياكم أن تغالوا فيه، أو تدعوا فيه شيئاً ليس له فهو بشر، على عظم قدره لكنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر.
نحن محكومون بالموت
(وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) إنهم هنا للمشركين، هؤلاء الذين نسبوا لله ولداً، هؤلاء الذين ادعوا لله ما ليس له، هؤلاء الذين يعبدون الأصنام (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) ونحن ميتون، كلنا ميتون، أي صائرون إلى الموت، لكن مع وقف التنفيذ، نحن محكومون بالموت مع وقف التنفيذ، وقد قيل: الموت سهمٌ وجه إليك، وعمرك بقدر وصول السهم إليك، السهم انطلق، وعمرك هو تلك المسافة التي تفصلك عن السهم فقط، فنحن محكومون بالموت، لكن هناك وقف تنفيذ حتى يحين الوقت النهائي لتنفيذ الحكم، فإذا أدرك الإنسان أنه ميت فهو صائر إلى الله، وإذا أدرك أنه صائر إلى الله فينبغي أن يُعد العُدة لهذا اليوم الذي سيقف فيه بين يدي الله.
يقول أحد الصالحين لابنه: يا بني إنك مُذ جئت إلى الدنيا، استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة، فكن مستعداً لما تستقبله.
إنسان مسافر من عمان إلى العقبة، لما يخرج من عمان يستعد للعقبة أم ينظر وراءه إلى عمان؟ يستعد للعقبة، لأنه صائر إليها، فالإنسان يستعد لما سيقدم عليه لا لما أصبح وراءه، الدنيا أصبحت وراءنا مُذ خلقنا، صارت الدنيا وراءنا، لأننا نمضي إلى الآخرة، الوجهة إلى الله فنستعد لما نتجه إليه لا لمَا مضى، وقد قال ابن القيم رحمه الله: أُغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء، وذكر منها: إدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها، وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها، إدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها، الدنيا وراءهم وهم يركضون وراءها وهي أصبحت خلفهم، وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها، وكل هذا الكلام من باب الاستعداد للموت لا يعني بحال ترك العمل وقد قلت ذلك مراراً، نحن لا نترك العمل في الدنيا، ولكننا نترك العمل للدنيا، العمل في الدنيا مطلوب، الدراسة في الدنيا مطلوبة.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خير، احرِصْ على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزْ، وإن أصابك شيء فلا تَقُل: لو أنَّي فعلتُ لكان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَّر الله وما شاءَ فَعَل، فإن ' لو ' تفتحُ عَمَلَ الشيطان }

[ أخرجه مسلم ]

بل إنها مطلوبة من أجل الآخرة، لأن خيارات القوي في العمل الصالح أكثر من خيارات الضعيف، القوي بعلمه، القوي بماله، القوي بجاهه، خيارات القوي أفضل من خيارات الضعيف، فنحن يُطلب إلينا أن نعمل في الدنيا، لكن لا يجوز لنا أن نعمل للدنيا وإنما نعمل في الدنيا للآخرة، فالدين ليس بعداً عن الدنيا، لكنه بعد عن الحرام، بعد عن الحرام لا بعد عن الدنيا.

الحكم العدل يوم القيامة:
الله تعالى هو الحكم العدل يوم القيامة
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) قدم (عِنْدَ رَبِّكُمْ) على قوله (تَخْتَصِمُونَ) طبعاً قد يقال مراعاة للفاصلة، أي (مَيِّتُونَ) (تَخْتَصِمُونَ) هذا صحيح، لكن أيضاً هذا التقديم تقديم أهمية، لأنه ليس المقصود هنا الاختصام بقدر ما المقصود أين سنقف للاختصام، فلما يكون هناك خصومة بين اثنين فأول ما يسأل الاثنان عنه من القاضي؟ لا يسألون عن موعد الخصومة، وعن وجودها، أو عدمه فقد استحقت، لكن يسأل الاثنان: من القاضي؟ لعلنا سمعنا عن عدله، أو البعض - نسأل الله السلامة- لعلنا سمعنا أنه يمكن أن يرتشى بمال أو بشيء فيغير الحكم فيكون الظالم دائماً يبحث عن هذا، والمظلوم يبحث عن العدل، والاثنان يريدان أن يعرفا من القاضي حتى يسألا عنه قبل أن يقفا بين يديه، فقدم (عِنْدَ رَبِّكُمْ) على (تَخْتَصِمُونَ) لأن الأهم هنا هو من سيحكم، والحكم هنا جل جلاله ربنا العدل (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) والوقوف بين يدي الله.
هنا قال: (تَخْتَصِمُونَ) أي يوجد خصومة، هنا الخصومة بمعنى الشرك مع التوحيد، المشركون مع الموحدين، الاختصام هنا بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: هناك يوم آخر، وهم يقولون:

وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)
[ سورة الواقعة]

النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: لا إله إلا الله وهم يعبدون أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى بزعمهم.
هذه الخصومة، فمن سيحكم؟ الله جل جلاله، (تَخْتَصِمُونَ) فيحكم الله بينكم.

أعظم أنواع الظلم:

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
[ سورة الزمر]

الظلم أن تضع الشيء في غير موضعه
الآن الخصومة نتيجتها حكم، والحكم عدل، وهذا الحكم هو الذي سيأتي الآن، لا يوجد أظلم(فَمَنْ أَظْلَمُ) أي ليس هناك أشد ظلماً (مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ) ما الظلم؟ الظلم أن تضع الشيء في غير موضعه، فإذا جاءك مثلاً رجل له مكانة كبيرة في المجتمع، له مكانة بين قومه في المجتمع، فما قدرته، فقد ظلمته، فإن وضعته في المكان الذي لا يليق به فقد ظلمته، فإن وجهت إليه كلاماً قاسياً فقد ظلمته، كل ذلك لأنك لم تضعه في موضعه اللائق به.

{ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشُّحّ، فإن الشحّ أهلك من كان قبلِكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم }

[أخرجه مسلم ]

فمن أظلم إنسان في الأرض؟ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ) قد تكذب عليّ فأنت ظالم، قد يكذب إنسان عليّ فهو ظالم، يقول: والله سمعته يقول كذا، ولم يسمعنِي أقول ذلك فقد ظلمني، أساء لسمعتي، ظلمني، لكن من أشد ظلماً منه؟ ذاك الذي يقول: إن الله له ولد، والعياذ بالله، هو هنا يكذب على الله، قيمة الظلم من قيمة من تفتري عليه الكذب، فإذا كان المشركون يفترون على الله الكذب فهم أظلم خلق الله، لذلك قال تعالى:

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
[ سورة لقمان]

أعظم أنواع الظلم أن يشرك العبد بالله تعالى، أعظم نوع من أنواع الظلم أن يشرك العبد بالله تعالى، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ) كذب على الله واسعة جداً، من ادّعى له الولد فقد كذب عليه، من عبد الأصنام فقد افترى على الله الكذب، من قال: هذا حلال، وهذا حرام بزعمه فقد افترى على الله الكذب، من المشرِّع؟ الله تعالى، فإذا كان إنسان لا علم عنده وقال لك: أنا رأيي هذا حلال لا شيء فيه، فقد كذب على الله، ما رأيك؟ هل تعلم حكم الشرع في المسألة؟ حكم ليس رأياً، هذا حكم في الشرع، يقول لك: هذا حلال وهذا حرام.

وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
[ سورة النحل]

إياك أن تقول: حلال وحرام، فالذي يقول حلال وحرام بغير علم يفتري على الله الكذب، وتحريم الحلال كتحليل الحرام، يقول لك: أنا قلت له: حرام، هذا أفضل، لا، كيف أفضل! إذا كان حلالاً فلماذا قلت له حرام؟ قد تكون سددت له باب رزق، لقولك حرام، فتحريم الحلال كتحريم الحلال عند الله، فالكذب على الله، من؟ من يدّعي أن الله أجبره على المعصية فقد كذب على الله، تقول له: لماذا تفعل هذا الأمر؟ هذا حرام؟ يقول لك: والله أنا مسير، مجبر، ما فعلته عن إرادتي، الله أراد ذلك، لا تتدخل بحكمة الله، يكذب على الله، الذي يقول: الله يعطي الحلاوة للذي ليس له أضراس، يكذب على الله، لأن الله تعالى حاشاه ألا يكون حكيماً فيعطي عشوائياً، والذي يقول: إن الله تعالى يعامل أحبابه كما يعامل أعداءه فقد كذب على الله، والذي يسيء الظن بالله عز وجل فيظن أن الله لا ينصر أولياءه مهما تأخر الوقت فقد كذب على الله، لو ذهبت أعدد لكم أنواع الكذب على الله لما انتهيت إلى الصباح، الكذب على الله واسع جداً، لذلك ينتبه الإنسان قد تكذب على إنسان، طبعاً هذا ظلم، وحقوق العباد لها مشكلة، لكن أهون من أن يكذب الإنسان على الله، لذلك لما رتب الله المعاصي ترتيباً تصاعدياً في سورة أخرى جعل أعلى أنواع المعاصي:

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
[ سورة البقرة ]

ماذا في القرآن الكريم لما قالوا:

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
[ سورة الأعراف ]

هذا افتراء، كذب على الله والعياذ بالله، يفعل الفاحشة ويقول: الله أمرنا بها.

تكذيب المشركين القرآن الكريم:
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ) الصدق هو كلام الله، القرآن الكريم، وقال: (إِذْ جَاءَهُ) بمعنى أنه كذب بالصدق فور مجيئه، أي لم يأخذ وقتاً من أجل أن يدرس ما فيه، إنسان بينك وبينه إشكال فقدمت له ورقة تثبت حقك فأمسكها هكذا، الورقة تحتاج إلى قراءة عشر دقائق، أمسكها هكذا وقال لك: خطأ هذه الورقة لا أقبل بها، قلت له: أقرأتها؟ هل قرأتها؟ اقرأها أولاً، ثم قرّر إذا كانت مزورة أم صحيحة، فهنا قال: (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ) أي فور مجيئه، لم يأخذ وقته لأنه ظالم، لأن القرآن يعارض مصالحه فكذب به دون أن يقرأ ما فيه، ودون أن يطلع عليه (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ) بالقرآن الكريم.

جهنم مثوى للكافرين:
يقول تعالى: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) المثوى؛ ثوى؛ أقام، قام في المكان؛ ثوى به، والمثوى يطلق على مكان الخير، ومكان الشر، (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) وفي سورة يوسف مرّ معنا:

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
[ سورة يوسف]

وذكرنا ذلك، فالمثوى يأتي للنار، ويأتي للجنة، وهو مكان الإقامة (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) هذا استفهام؟ جوابه: بلى، لأن هذا استفهام منفي، فلو قلت:

أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
[ سورة التين]

الاستفهام في الأصل يراد منه جواب
الجواب: بلى، لا تقول: نعم، تقول: بلى، جواب الاستفهام الذي يليه نفي، أما فعلت كذا؟ أليس كذا؟ جوابه: بلى للإقرار (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) الاستفهام في الأصل في اللغة العربية يراد منه جواب، إما لطلب التصور أو التصديق، بمعنى أن تقول: هل جاء محمد؟ الجواب: نعم أو لا، إذا سكتَّ ولم تجب هناك مشكلة، سألك ينبغي أن تجيبه، السؤال يحتاج جواباً، وأحياناً: أجاء محمد أم سعيد؟ هنا لا تقل لي: جاء أم لا، تقول لي: إما محمد أو سعيد، يجب أن تحدد لي واحداً، يجب أن تحدد لي أحدهم، الاستفهام يخرج عن معناه الأصلي إلى معان بلاغية، هذا من علم المعاني في اللغة العربية، من البلاغة، البلاغة فيها علم يسمى علم المعاني، منه معاني الاستفهام، يكون أحياناً استفهاماً إنكارياً أو تقريرياً، التقريري، كقوله تعالى:

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
[ سورة الشرح]

معنى الآية لقد شرحنا لك صدرك، لكن جاء بصيغة الاستفهام للفت النظر (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) لأن الاستفهام لما كان يحتاج جواباً فيلفت النظر أكثر من أن تقرر الحقيقة فوراً من غير استفهام، كثيراً ما نستخدمه في حياتنا، فتقول لإنسان: لمّا جئت إليّ ألم أكرمك؟ لا تقول له: لقد أكرمتك عندما جئت، تقول: ألم أكرمك؟ حتى يستحضر الأمر في ذهنه فيقر بإكرامك له، فلما قال تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) معنى الآية لقد شرحنا لك صدرك، هذا استفهام تقريري.
الإنكاري؛ ابن وضعه والده في أحسن مدرسة في البلد، وبذل له جهداً، وجاء له ببعض المدرسين الخصوصيين في بعض المواد، ووفر له بيئة جيدة، وما طلب منه طلبات مرهقة خلال العام الدراسي، ثم في نهاية العام جاء بأوراق علاماته فإذا هو قد رسب، فيتجه إليه الأب ويقول له: أهذه نتيجة تعبي معك؟ ويسكت الأب، ويسكت الابن، ويطرق خجلاً في الأرض، هو يستنكر عليه بطريقة الاستفهام، ومثل ذلك قوله تعالى:

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)
[ سورة الإسراء ]

أي أهذا كلام يعقل؟ العرب كانوا يحبون البنين، ويدعون أن الملائكة أولاد الرحمن إناث، فقال: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً) هذا استفهام إنكاري.
نرجع إلى هنا: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) هذا غالباً أغلب أهل التفسير قالوا: تقريري، كأن الله تعالى يقول: في جهنم مثوى للكافرين، وقال بعضهم: يحمل الاستنكار أيضاً، الإنكاري، أي من شدة إعراضكم عن الله، وبعدكم عنه، فيخاطبهم الله تعالى: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى) لكم، فهو استفهام تقريري أو إنكاري، يحمل الوجهين معاً.

من صدّق بمحمد فقد صدّق بالقرآن الذي جاء به:

وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ (33)
[ سورة الزمر]

بالقرآن الكريم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: جبريل، والصحيح والراجح هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جاء بالصدق لهم.
(وَصَدَّقَ بِهِ) في روايات كثيرة هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لأنه أول من صدق بالقرآن، وبالنبي صلى الله عليه وسلم، (وَصَدَّقَ بِهِ) الهاء تعود على الصدق، أو على الذي جاء بالصدق، وكلاهما واحد، فالذي صدّق بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد صدّق بالقرآن الذي جاء به، والذي صدّق بالقرآن فقد صدّق بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، (وَصَدَّقَ بِهِ) قد نرجعها على الصدق وهو أقرب مذكور، وقد نرجعها على كامل الكلام والذي جاء بالصدق، أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أبو بكر رضي الله عنه، وهو كل مؤمن صدّق من بعد أبي بكر، وصدّق به كل مؤمن، نحن إن شاء الله ممن (وَصَدَّقَ بِهِ) نصدق بالقرآن، ونصدق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الذين يتقون عذاب الله تعالى من خلال طاعته.

عِظم الجزاء عند الله عز وجل:

لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)
[ سورة الزمر]

ما تشتهيه الأنفس، وتلذ به الأعين.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ' قال الله عز وجل: أعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ }

[ أخرجه البخاري ومسلم ]

الجزاء عند الله جلّ جلاله
(مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) عند ربكم قبل قليل: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) استفدنا من عند ربكم الحكم جل جلاله، القضاء، هنا إذا كان الجزاء عند الله أيضاً نستفيد عِظم الجزاء، عِظم الجزاء عند الله، فإذا كنت في مجلس، وصار نقاش حول موضوع، واستحققت بناء على التحكيم مبلغاً مالياً، فقلت: وما أدراني أن فلاناً يرجعه؟ فقام أحد الوجهاء في المجلس، وقال لك: المبلغ عندي، انتهى، فلان يقول: المبلغ عندي، وفلان من أهل الوجاهة، إذا كان لا يدفع هو سأدفع أنا، المبلغ عندي، ولله المثل الأعلى، فلما يقول جلّ جلاله (مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فالجزاء عند الله جلّ جلاله فما عساه يكون.
(ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) هناك قال: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الآن (ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) الإحسان؛ هو أعلى مراتب التقوى، ما الإحسان؟ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإذا كنت تعتقد أن الله يطّلع عليك في كل لحظة من لحظات حياتك فأنت في أعلى درجات التقوى، لا يمكن أن تعصيه، فالإحسان هو درجة أعلى من التقوى، لكن هو مرتبط بالتقوى، فهو نهاية التقوى، الإحسان.

الشرك أسوأ عمل يعمله الإنسان:

لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
[ سورة الزمر]

هذه اللام لام التعليل، أي ذلك الوعد الذي وعدهم الله به في الجنة: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) أسوأ؛ التكفير تكفير الذنوب أو تكفير السيئات غالباً في القرآن تأتي المغفرة للذنوب، والتكفير للسيئات، السيئات أعظم من الذنوب، الذنوب الصغائر، السيئات أكبر من الذنوب، تصل إلى الكبائر، فالتكفير للسيئات، الكفر في الأصل هو الغطاء، ومنه سمي الزرّاع كفاراً، لغةً، وذكرها القرآن الكريم:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
[ سورة الحديد]

الكفر هو المكان الذي تكاثفت الأشجار فيه
أي الزرّاع، ولماذا سمي الزرّاع كفاراً؟ لأنهم يضعون البذرة في الأرض ويخفونها، والكفر هو الغطاء، وعندنا في دمشق، وبكثير من البلدان، وريف دمشق يقولون: كفر بطنا، والكفر هو المكان الذي تكاثفت الأشجار فيه فغطت وجه الأرض، فتكفير السيئات بمعنى أن الله عز وجل يسترها ثم يزيلها، العفو؛ إزالة، فالله عفو، وغفور، ويكفر السيئات جلّ جلاله.
فقال: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) أسوأ؛ اسم تفضيل، يوجد سيئ ويوجد أسوأ، يوجد جميل، ويوجد أجمل، أي يوجد تفاضل، فإذا كان الله تعالى يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا وقد يكون هذا الأسوأ هو الشرك، لأن أسوأ ما يعمله الإنسان هو الشرك، وقد تقول لي: وهل الشرك عمل؟ نعم، لأنه يؤدي إلى عمل، فالذي يشرك بالله شيئاً سيعمل أعمالاً لمن يشركه، فهم لما أشركوا بالله سجدوا للأصنام، فالشرك عمل بهذا المعنى (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) طبعاً:

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48)
[ سورة الأنعام]


لكلّ إنسان أجر مكافئ لعمله يوم القيامة:
لكن هؤلاء تركوا الشرك وأعرضوا عنه فيكفر الله عنهم ذلك (لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) لمن مات مشركاً، لا لمن رجع إلى التوحيد (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) فمن باب أولى أن يكفر عنهم السيئ الذي عملوه، فإن كفر الأسوأ فقد كفر ما دونه.
(وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ) ما قال أجراً، أجرهم، أي الأجر المكافئ لأعمالهم، فكل واحد له أجر خاص، فالذي قضى عمره في طاعة الله عز وجل، بذل حياته لله ليس كمن قصر في بعض الواجبات، والذي داوم على الصلوات ليس كمن فوت بعضها، والذي أكثر من النفقات ليس كمن أنفق القليل واكتفى به (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ).
الله تعالى يجزيك أجرك بأحسن عمل عملته
(بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) هذه أشبهها بتشبيه (بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) هذا من كرم الله عز وجل العميم، في الجامعة إذا كان عندك عشر مواد، وأخذت بالمادة الأولى سبعين، وبالثانية ثمانين، وبالثالثة تسعين، كيف يخرجون المعدل؟ يجمعون العلامات العشرة ويقسمونها على عشرة، فيكون معدلك 67,7 هذا معدلك، ما رأيك في جامعة تقول لك: في كل سنة قدم المواد كلها وأعلى علامة نحسبها لك المعدل، فعملياً الطالب ينتقي المادة البسيطة، السهلة، يتقنها مئة بالمئة، ويحقق فيها 98 بالمئة، والباقي يأخذ خمسينات، ينجح فيهم نجاحاً، أو يأخذ ستين لأن النجاح ببعض الكليات يكون ستين، ومعدله 98 أعلى مادة، هل من جامعة تفعلها؟ مستحيل!
لما قال تعالى: (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) فكأن الله تعالى يريد أن يجزيك أجرك بأحسن عمل عملته لله فيثيبك عليه، أكثر عمل كان إخلاصاً لله تعالى فيه، أكثر عمل كنت فيه متقرباً من الله، أكثر عمل ضحيت فيه في سبيل الله، يجزيك أجرك به وكأن أعمالك تقاس به، هذا من رحمة الله تعالى (بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ).

لكلّ مؤمن من الآية التالية نصيب:

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ (36)
[ سورة الزمر]

الله تعالى كافٍ عبده
بلى، هذا استفهام تقريري، الله تعالى كافٍ عبده، فإذا أعرضتم عنه، وتركتم نصرته أيها المشركون فإن الله تعالى يكفيه، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) وهذه الآيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لكل مؤمن منها نصيب بقدر استقامته على منهج الله، وإخلاصه لله، فكلنا نسأل الله تعالى أن يكفينا، والله كافينا إن شاء الله (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) وقرأ بعض القراء: عبده، ويوجد قراءة عباده، أي عباده المرسلين والمؤمنين.
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي إنسان يخوفك بشيء فهو دون الله، لأن الله ليس فوقه شيء، إذا كان هناك طالب بالجامعة، والده ملك البلاد، فأراد أحد الطلاب أن يخوفه بوالده، من والدك؟ مدير الشركة الفلانية، هل يخاف هذا الطالب؟ ابن الملك، فإذا خاف فهو أحمق، لأن الذي تخوفه به دون الملك الذي في البلد، فعندما يكون الله تعالى معك، والله مع المؤمنين، والله مع المحسنين، ومع المتقين، ومع الصابرين، لما تكون في معية الله، فإذا خوفك إنسان بأي شيء في الأرض ينبغي ألا تخاف لأنك مع الله.

الله تعالى لا يضل عبداً أراد الهداية:
(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) إذا أضلّ الله إنساناً فليس هناك جهة في الأرض تستطيع أن تهديه، وأكرر بأن إضلال الله تعالى دائماً هو الإضلال الجزائي المبني على الضلال الاختياري، فالله لا يضل عبداً أراد الهداية، وإنما يضل عبداً أراد الضلالة، فقط احفظوها حتى لا أحد يقول لك: الله عز وجل أضل فلاناً وهدى فلاناً، نحن ليس لنا علاقة، الله تعالى أضلّ من أراد الضلالة، وهدى من أراد الهداية، لكن لا يهتدي إنسان بنفسه.

{ اللَّهُمَّ لَوْلَا أنْتَ ما اهْتَدَيْنَا ... ولَا تَصَدَّقْنَا ولَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وثَبِّتِ الأقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا إنَّ الأُلَى قدْ بَغَوْا عَلَيْنَا }

[ صحيح البخاري]

فالهداية من الله، والإضلال من الله لكن السبب من العبد، تريد الهداية فيهديك وتريد الضلالة فيضلك، نسأل الله السلامة (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).

وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
[ سورة الزمر]

إذا أراد الله تعالى بعبد هداية.

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
[ سورة الزمر]

كما جاء معنا قبل آيات في سورة الزمر، فإذا شرح الله صدر إنسان للهداية فإنه لا يستطيع أحد أن يضله بعد ذلك.
الأسماء الحسنى صفات ملازمة له جل جلاله
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) فالله تعالى يهدي ويُضل، لكن ليس من أسمائه الهادي والمضل، هو يضر وينفع، لكن ليس من أسمائه الضار النافع، كما يذكر البعض، لا، لا يسمى الله تعالى ضاراً، ولا يسمى مضلاً جلّ جلاله، لكن من أفعاله أنه يهدي ويضل، لذلك ما كل فعل نستنبط منه اسماً، فإذا قلنا إن الله تعالى يكيد، نعم بمعنى المشاكلة رداً على كيدهم.

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16)
[ سورة الطارق]

لكن لا يسمى جلّ جلاله حاشاه الكائد، فالأسماء الحسنى حسنى، أصبحت صفات ملازمة له جل جلاله أي أصبحت اسماً، هو وصف بالأصل لما تقول: الله تعالى الرحيم، الرحيم وصف في الإنسان، فلان رحيم، وصف، لكن الله تعالى اسمه الرحيم، لأن الرحمة كلها عنده جلّ جلاله لكن لا تقول الله تعالى مضل، لا، لكنه يضل جلّ جلاله، فلا تسمي الله تعالى إلا بما سمّى به نفسه، الأفعال دعها أفعالاً، يضل؟ يضل، نعم نؤمن بذلك، لكن لا نقول: الله مضل جلّ جلاله.

الله تعالى عزيز ذو انتقام يكافئ على الشر بالشر:
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ) أيضاً استفهام تقريري، أي الله تعالى (بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ) عزيز يندر وجوده، يَغلب ولا يُغلب (ذِي انْتِقَامٍ) يكافئ على الشر بالشر، وحتى اسم المنتقم لم يرد، لكن الله ذو انتقام، ينتقم جل جلاله، لكن لم يرد أنه المنتقم، فالله تعالى ذو انتقام، أي يكافئ على الشر بالشر فينتقم في الدنيا، أو في الآخرة، أو في كليهما، فكم من أناس انتقم الله تعالى منهم في الدنيا، فجازاهم على شركهم وأعمالهم، ورأى الناس ذلك جهاراً نهاراً، وكم من أشخاص عاثوا في الأرض فساداً وأمهلهم الله، وترك لهم الحبل حتى فعلوا ما يحلو لهم، ومضوا إلى ربهم دون أن يذوقوا شيئاً من عذاب الدنيا كما تشاهده أعيننا، قد يكونون قد ذاقوا من عذاب النفس ما ذاقوا، لكن لم نشاهد عذابهم بأعيننا، لكن الله تعالى سينتقم منهم انتقاماً عظيماً يوم القيامة، فالانتقام في الدنيا قد يأتي، وقد يؤجل، وهو إن أتى فهو دفعة على الحساب من انتقام الآخرة، لكن الله عزيز، غالب لا يُغلب، وينتقم جلّ جلاله، بمعنى أنه يكافئ على الشر بالشر، وما علاقة العزيز بذي انتقام؟ علاقة واضحة، العزيز لا يمكن أن يفوت العقوبة، لا يمكن أن يترك مظلوماً دون أن يأخذ له حقه، عزيز، عزيز مصر في القرآن الكريم، العزيز له مرتبة كبيرة في قومه، فكيف يكون عزيزاً ثم يترك الناس ينهش بعضهم بعضاً دون أن يقتص لمظلومهم من ظالمهم، ولمقتولهم من قاتلهم؟ حاشاه العزيز جل جلاله، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ).
والحمد لله رب العالمين