الاستجابة إلى التوحيد

  • اللقاء الثامن من تفسير سورة الزمر - شرح الآيات 38-44
  • 2022-06-04

الاستجابة إلى التوحيد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وأنفعنا بما علمتنا، وزدْنا علماً وعملاً مُتقبلاً يا رب العالمين. اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، وبعد:
مع اللقاء الثامن من لقاءات سورة الزمر ومع الآية الثامنة والثلاثين من السورة، وهي قوله تعالى:

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إن أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَٰتُ رَحْمَتِهِۦ ۚ قُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ(38)
(سورة الزمر)

دائماً نذكّر أنفسنا بموضوع السورة وهو التوحيد. كلّ الآيات تصبّ في موضوع السورة الرئيس، وهو إثبات الوحدانية لله تعالى، وهذه الآية تتابع الحديث ضمن موضوع التوحيد وبشكل مباشر، وبشكل يتعلق بما يسميه العلماء اليوم توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.

توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية:
التوحيد جزء واحد
التوحيد حقيقةً هو واحد، ليس هناك أنواع للتوحيد أو أقسام للتوحيد، التوحيد جزء واحد. لكن مدرسيّاً تقسيم مدرسي، يقولون: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ويضيف بعضهم توحيد الأسماء والصفات؛ بمعنى أن توحيد الربوبية هو: أن تؤمن بأن الله تعالى هو الخالق، هو الرازق، هو المُمد، هو الرب.
الرب هو: الذي يربيك، هو الذي يُمدك. فإذا سألنا أي عاقل بالأرض: من خلقك؟ سيقول: الله، إذا كأن متجرداً، من غير ضغوطات، من غير عوامل بيئية. إنكار الخالق هذا يُشَك في عقله لا في دينه. يعني إذا قال لك: أنا وُجدت من غير مُوجِد، معنى هذا ما عنده محاكمة، مصادفة، يقول لك. كيف مصادفة ؟! وأنت لا تستطيع أن تصدق أن كأساً انتقل من طاولة إلى طاولة أخرى دون أن ينقله إنسان، فكيف صدقت أن كليتين تعملان بانتظام؟! وأن كبد يقوم بآلاف الوظائف، وأن ثلاثمئة ألف شعرة في رأسك، لكل شعرة غدة دهنية، وغدة صبغية، وشريان، ووريد، وعضلة، وعصب. وعين وقرنية وشبكية وقزحية و

وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ ۚ إن فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّلْعَٰلِمِينَ(22)
(سورة الروم)

كيف تريد أن تصدق أن هذا وُجد مصادفة؟! مستحيل. فالربوبية هي: أن تؤمن أن الله هو الذي خلق، وهو الذي يرزق، هو الذي ينزل المطر، هو الذي ينبت الزرع. يعني ما يأتينا من الله هو الربوبية.
الألوهية هو: التوجه. تتوجه إلى من؟ معظم المشركين ليس عندهم إشكال في الربوبية حتى مشركي العرب الذين كانوا يعبدون اللات والعزى، كانوا يقولون:

أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ ۚ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىٰٓ إن ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إن ٱللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَٰاذِبٌ كَفَّارٌ(3)
(سورة الزمر)

وهنا يثبت الله تعالى ذلك (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ۚ) ما عندهم مشكلة في نسب الفضل في خلقهم، وفي رزقهم إلى الله. ومع ذلك هم مشركون. لماذا؟ لأنهم بعد أن أقروا بأن الله تعالى هو الذي يخلق، وهو الذي يرزق، اتجهوا إلى غيره يطلبون منهم حاجاتهم. فيذهب إلى صنمه ويسأله، ويدعوه، ويرجوه، تماماً؟ وهو يعلم أنه لا يملك له ضراً، ولا نفعاً، ولم يخلقه، ولم يرزقه. إذاً هنا الإشكال. فقال تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ۚ)
طبعاً، السموات والأرض مصطلح قرآني يعني كل ما سوى الله. أينما قرأت في القرآن: السموات والأرض. تعني كل ما سوى الله. يسميه العلماء المعاصرون الكون. يعني مصدر كان، يكون، كوناً. يعني كل ما هو كائن، كل ما هو موجود، السموات والأرض هو التعبير القرآني المصطلح المعاصر الكون. (لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ۚ) يُقرون بأن الله تعالى هو الذي خلق.
الآن، (قل) يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ( أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ) أفرأيتم هنا الرؤية القلبية، وليست الرؤية البصرية. رأى في اللغة العربية تأتي للبصر، وتأتي للقلب. تقول: رأيت الطاولة، هذا بصر. رأيت العلم نافعاً، هذه رؤية قلبية. رأى القلبية تأخذ مفعولين. تقول: رأيت الله في الدنيا. الله لا يُرى في الدنيا أكبرَ كل شيء مفعول به ثاني يوضح، رأيت الله أكبر كل شيء، رأيت العلم نافعاً، أمّا رأيت الجدار، انتهى المعنى بمفعول به واحد. فرأى البصرية تأخذ مفعولاً به واحداً، رأى القلبية تأخذ مفعولين؛ مفعول أول، مفعول ثاني حتى يتضح المعنى، فهذه الرؤية هنا هي رؤية القلب. (قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ) تتوجه إليه، تدعوه، ترجو منه، تطلب منه.

درء المفاسد:
(إن أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرّ)ٍ هنا المفعول به الثاني، لا أريد أن أدخل كثيراً بتفاصيل اللغة، لكن المفعول به ثاني هنا سد مسده الشرط، تتمة الكلام. (إن أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ) أصنامكم التي تدعونها من دون الله، وتعبدونها من دون الله، وتتوجهون إليها (إن أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦ) هل تستطيع أصنامكم أن تكشف الضر الذي أراده الله بي؟ أن تزيله، أن تلغيه؟ إذا ربنا عز وجل أراد بإنسان مرضاً، هل هناك من هذه الأصنام من يستطيع نزع الضر عنه؟ هذا المعنى.
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح
(أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَٰتُ رَحْمَتِهِۦ) وإذا أراد الله تعالى بإنسان رحمة، مال، جاه، خير، خير الدنيا. (أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَٰتُ رَحْمَتِهِۦ) يعني تمنع رحمته عن الناس إن أراد بهم الرحمة. طبعاً، بدأ بالضر وثنَّى بالرحمة؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. الإنسان دائماً، يبتعد عما يضره قبل أن يرجو ما ينفعه. إذا أنت كنت تريد أن تعبر الشارع. في الطرف المقابل رأيت مبلغاً مالياً، وتريد أن تعبر الشارع لالتقاط المبلغ المالي، هذه منفعة تريدها. إذا هناك سيارة مسرعة ألا تعود فوراً وتترك المنفعة من أجل ألا تصدمك السيارة المسرعة؟ فدائماً الإنسان يقدم درء المفسدة على جلب المصلحة. وفي الفقه الإسلامي درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فإذا إنسان قال لك: أنا سأتاجر بهذه المادة المحرمة، وما يأتيني من أرباح منها سأنفقه على الفقراء والمساكين. فهل يجوز ذلك؟ نقول له: درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة. نحن لا نريد أن نبيع الناس مواد محرمة ثم نتصدق بالمال على الفقراء والمساكين

{ إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا }

(رواه مسلم)

هذه درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. لما نبدأ بالقرآن الكريم نبدأ بدرء المفسدة.

فَإذا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَأن فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ(98)
(سورة النحل)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يعني: أنا أعوذ بالله من شر الشيطان، ليحميني من الشيطان، يعني درء المفسدة.
بسم الله الرحمن الرحيم لجلب الرحمة والمصلحة، فدائماً تخلية ثم تحلية. العوذ بالمناسبة. العوذ هو: الالتجاء إلى قوي لكي يقيك من الشر، واللوذ هو: الالتجاء إلى قوي لكي يجلب لك الخير. العوذ هو درء المفسدة، واللوذ طلب المصلحة، فنحن نعوذ بالله ونلوذ إليه. نلوذ إليه طالبين رحمته، ونعوذ به ليقينا من شر الدنيا وشر الشياطين. المتنبي قال:
يا مَنْ ألُوذُ بِهِ فيمَا أُؤمّلُهُ وَمَنْ أعُوذُ بهِ مِمّا أُحاذِرُه لا يَجْبُرُ النّاسُ عَظْماً أنتَ كاسِرُهُ وَلا يَهيضُونَ عَظْماً أنتَ جابِرُهُ
{ (المتنبي) }
إذا لذت فلذ بباب الكريم
للأسف المتنبي لم يكن يتكلم مع الله جل جلاله كان يتكلم مع سيف الدولة-الله يصلحه- لكن درجت على ألسنة الناس أنها مخاطبة لله. هو كن يمدح سيف الدولة، ولكن يمدحه بكلام لا يقال إلا في حضرة الله، فمن الجهل أن يعوذ الإنسان بشخص هو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً. فتقول: أعوذ به مما أحاذره. وهل يستطيع هو أن يرد عن نفسه مرضاً إذا جاءه حتى تعوذ به. جهل مطبق أن يعوذ الإنسان بمن لا يملك، أو أن يلوذ بمن لا يملك. إذا لذت فلذ بباب الكريم ليمنحك السكينة والقرب، فإذا عذت به ليحميك من شر الدنيا وشر الشهوات وشر الشياطين.
(إن أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَٰتُ رَحْمَتِهِۦ) الله تعالى هو الذي يريد الضر بالإنسان، وهو الذي يريد الرحمة به، فإرادة الله متعلقة بكل ممكن، بكل الممكنات. فإذا مرض الإنسان فقد أراد الله تعالى. فإذا أراد بإنسان ضراً مرضاً، هذه إرادة الله. قد يكون مسببات الضر من الإنسان، لكن التنفيذ من الله يعني مثلاً: إنسان بأبسط مثال: اغتسل في الشتاء، ودون أن يجفف رأسه، ودون أن يلبس ثياب سميكة، خرج فوراً إلى الشارع، والحرارة ثلاثة تحت الصفر، فأصابه مرض. من الذي أصابه بالضر؟ السبب منه، والله تعالى أمرضه. لذلك من الأدب مع الله عزو جل:

وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)
(سورة الشعراء)

لأنه كثيراً ما تكون أسباب المرض من الإنسان، ولكن حتى لو لم يكن سبباً، وأراد الله به مرضاً ممكن. فالإرادة من الله، بمعنى أنه لا يحدث شيء في كون الله لا يريده الله، مستحيل. فيسرق السارق بإرادته، ويمرض المريض بإرادته، ويقع الزلزال بإرادته، لكن ما كل ما يريده الله تعالى يرضاه، فقد يريد شيئاً لا يرضاه، كأن يريد كفر أبي جهل وهو لا يرضاه، ويريد إيمان أبي بكر و يرضاه، فالإرادة ليست قرينة الرضا دائماً. رضا الله عزو جل متعلق بما يريده بإرادته الشرعية فقط، افعل ولا تفعل، فإذا ائتمرت بما أمر رضي عنك، و إذا انتهيت عما نهى عنه وزجر رضي عنك، أما إذا خرجت عن المنهج فيريد وقوع الشيء دون أن يرضاه، لكن يسمح بوقوعه لحكمة بالغة جل جلاله، فهذا معنى (إن أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ) فقد يريد الله تعالى إنساناً بضر ليرفع درجته، ليكفر عنه سيئاته، ليلفت نظره إليه، ليكون عمله لا يبلّغه درجة عالية، فيريد أن يبلّغه إياها بالابتلاء، ليعاقبه على فعلٍ فعله... حكم كثيرة.
(إن أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَٰتُ رَحْمَتِهِۦ ۚ قُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ ۖ) الحسب هو: الكافي، الكفاية. الحسب الكفاية. (قُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ ۖ) يعني الله كافيني. لاأريد أصنامكم ولا ما تشركون من دون الله تعالى. (قُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ) وقدم الجار والمجرور لإفادة القصر والحصر، بأن المتوكلين لا يتوكلون إلا على خالقهم جل جلاله.والتوكل هو: وضع الأمر كاملاً بيد الله تعالى، فلا تتوكل على أحد غيره. فالتوجه إلى الله تعالى بالكلية. ومن معلوماتكم أن التوكل شيء، والاتكال أو التواكل شيء آخر. فالتوكل هو أن يأخذ الإنسان بالأسباب التي بين يديه ثم يتوجه إلى الله تعالى، مؤمناً بأن الأسباب لا تفعل فعلها إلا إن أراد الله تعالى لها ذلك، أما الاتكال، فيترك الأخذ بالأسباب، ويدّعي التوكل على رب الأرباب، فيمرض فلا يأخذ الدواء، ويقول: الله يشفيني .فترك الأخذ بالأسباب مع ادعاء التوكل هو اتكال أو تواكل، أما التوكل الحقيقي فهو أن تأخذ بالأسباب ثم تتوكل على رب الأرباب، فلا تتعلق بالأسباب وإنما تتعلق بمسبب الأسباب (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ)

الثبات على الحق:

قُلْ يَٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَٰمِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ(40)
(سورة الزمر)

استشراف النبي الكريم للمستقبل
يعني مع كل ما فعلوا به يأمره الله تعالى أن يخاطبه بـ (يا قومي) يعني هنا السياق سياق تهديد ووعيد، والسياق سياق شرك وتوحيد، وهؤلاء لم يستجيبوا إلى التوحيد، ومع ذلك ما قال له: قل: يا أيها المشركون. قال: قل: يا قومي. وما يخفى عليكم ما فيها من تودد أن تخاطب إنساناً رغم كل ما بينك وبينه من خلاف، أن تقول له: يا قومي، يعني لن أتخلى عنك. لعل الله عز وجل يهديه يوماً، وهذا ما حصل. يعني هناك أشخاص خُوطبوا بهذه الآيات، قل: يا قومي، ثم اهتدوا إلى الله. فما تخلى النبي صلى الله عليه وسلم عن قومه يوماً، حتى أهل الطائف يوم آذوه وضربوه وأغروا صبيانهم به، قال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون

{ بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً }

(رواه البخاري)

انظر إلى هذا البعد، اليوم يجتاح العالم الإسلامي موجة من الكآبة بسبب تتالي النكبات على الأمة. النبي صلى الله عليه وسلم كان في أشد حالات النكبة. ما استجاب شخص واحد بالطائف. ولا شخص، ثم يقول: عسى الله أن يخرج أصلابهم. يعني تعبير كأنه لا أقول: يأس منهم، لكن يعني الأمل شبه معدوم بهؤلاء لأنه الآن بدأ يتطلع إلى الذرية (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً).
هذا الاستشراف للمستقبل، نظرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلاً كان من أصلابهم من يوحد الله ويعبده. اليوم هناك أناس من أهل الطائف أجدادهم هم هؤلاء، لكن اليوم يوحدون الله، ويعبدونه وينزلون إلى مكة ويطوفون بالبيت، فهذا البعد النبوي صلى الله عليه وسلم.
(قُلْ يَٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ) على مكانتكم، يعني على طريقتكم، وعلى قدر استطاعتكم، يعني أنتم ابذلوا جهدكم في الصد عن الدعوة إلى الله عزو وجل. ابذلوا جهدكم في شرككم، افعل ما تريد ( ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَٰامِلٌ) بمعنى أن الطرف الآخر مهما وجدت منه قوة في باطله، إياك أن تتوقف عن المطالبة بحقك، أو عن التحدث بالحق، إياك أن يحملك تمادي الباطل على أن تكف عن النطق بالحق. اليوم يقول لك أحدهم: أخي كما ترى الوضع سيئ جداً، كأننا ننفخ في رماد، ما أحد يرد علينا أبداً. يكفيك أن تبقى على النطق بالحق والثبات عليه. ( إِنِّى عَٰامِلٌ ) لن أتوقف. وانظروا لما قال:( قُلْ يَٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ) اعملوا، يعني حدوث وتجدد. الفعل في اللغة العربية يفيد الحدوث والتجدد. الفعل دائماً يفيد الحدوث، فعل يحدث. إذاً هم لن يتوقفوا، وهو يعلم أنهم لن يتوقفوا (ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ) هنا ما قال: إني سأعمل، قال: إني عامل، هنا الثبات. اسم الفاعل يفيد الثبات. الاسم يفيد الثبات. الفعل يفيد الحدوث والتجدد، فأنتم لن تتوقفوا وستحدثون كل يوم مشكلة، وأنا سأبقى ثابتاً على العمل، إني عامل، أصبحت صفة ملازمة لي، التوقف عن العمل ليس من شأني، إني عامل، وما قال: ماذا سيعمل؟ لتفيد أن هذا العمل سيكون متنامياً دائماً ومتكرراً، وبطرق مختلفة من أجل هداية الخلق.

العذاب في الدنيا والآخرة:
(إِنِّى عَٰمِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) سوف للمستقبل، وسوف للمستقبل البعيد ليس القريب جداً. السين للمستقبل القريب، سوف للمستقبل البعيد. يعني ربما لا يُتاح أن تعلم الحقيقة الآن. ربما كافرٌ يعلم الحقيقة في الدنيا، وربما آخر يعلمها عند الموت، لكن سوف تعلمون.
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ) لا يخفى ما في (يأتيه) من عنصر المفاجأة. يأتيه، يعني العذاب يأتيه بغتةً. هذا في الدنيا، من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا، يخزيه عذاب الخزي من أعظم أنواع العذاب. خاصة الآن هنا النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب قومه. يخاطب قريش، هؤلاء عزة العرب يعني تقول له: سوف يأتيك عذاب يخزيك. الخزي. هو العربي صاحب أنفة، لا يحب الخزي. كل إنسان لا يحب الخزي. أيضاً الكلام لقومه القرشيين أشد (مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ) أي ملازم دائماً، هذا يوم القيامة. فالعذاب في الدنيا خزي لهم، و في الآخرة مقيم معهم؛ أي لا يفارقهم.

الكتاب أنزل بالحق:

إنآ أنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ لِلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ ۖ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن ضَلَّ فَأنمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَآ أنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ(41)
(سورة الزمر)

في مطلع السورة، قرأنا:

إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2)
(سورة الزمر)

الحق هو الشيء الثابت والهادف
(إِلَيْكَ)هناك في مقام المواساة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيها تشريف. أنزلناه إليك، وقد يقول: أنزلنا عليك. هنا (إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ لِلنَّاسِ بِٱلْحَقّ)ِ و خلق الله السموات بالأرض بالحق، فالحق لابس خلق السموات و الأرض، قارن خلق السموات و الأرض، ولابس إنزال الكتاب. فالكتاب أُنزل بالحق، و السموات و الأرض خُلقتا بالحق، بمعنى ما هو الحق؟ من حق الشيء يحق، إذا ثبت، وكان له هدف. أنت عندما تنشئ جامعة ملتزمة بأهدافها في إنشاء جيل مؤمن عنده علم. هذه الجامعة حق. لما تنشئ سركاً في أيام العيد للعب الأطفال تنشئه بشكل خيمة تُزال بعد نهاية العيد. هذا باطل، لهو، لعب، أما هناك جامعات عمرها يزيد على المائة سنة لأنها أنشئت على بالحق فالحق هو الشيء الثابت والهادف والباطل هو الشيء العابث ليس له هدف وزائل:

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)
(سورة الإسراء)

مهما رأيت من انتفاش الباطل فإنه زهوق وزائل (إنآ أنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ لِلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ ۖ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإنمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) الهدى لك، والضلال عليك. عليك تحمل الوزر، وعليك تحمل المنفعة. (َمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ) هداه يكون لنفسه مصلحة الهدى لنفسه (وَمَن ضَلَّ فَإنمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) أي يحمل وزر ضلاله. وهذه الآية تأكد أن الإنسان هو الذي يضل. في الأصل هو الذي يتخذ قراره بأن يهتدي أو يضل. فمن اهتدى هداه الله، ومن ضل أضله الله ( وَمَن ضَلَّ فَإنمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَآ أنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ).
أي لست موكّلاً بهم أن ترغمهم على الهداية، فهذا تخفيف عن النبي صلى الله عليه وسلم. أن المطلوب منك، والمطلوب مني اليوم، والمطلوب منا جميعاً في دعوتنا إلى الله تعالى أن نُسمع الحق للناس، لكن ليس المطلوب أن نضعهم على الطريق، المطلوب منا أن ندل الناس على طريق الحق، لا أن نرغمهم على المشي فيه؛ لأن الله تعالى لو أراد أن يرغمهم لأرغمهم هو جل جلاله، وما ترك هذا الأمر لنا. قال تعالى:

وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَءَامَنَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ(99)
(سورة يونس)

وَلَوْ شِئْنَا لَءَاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَىٰهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13)
(سورة السجدة )

لو شاء الله تعالى أن يجعل الهدى قسرياً لأرغم الناس جميعاً على الطاعة، ألم يفعل ذلك مع ملائكته؟

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
(سورة التحريم)

لكن الله تعالى ما أراد أن تكون علاقته بعباده علاقة قسر، قال:

لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256)
(سورة البقرة)

وإنما أرادها علاقة حب قال:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَآئِمٍۢ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ (54)
(سورة المائدة)

فقال: (وَمَآ أنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ).

الله تعالى هو الذي يتوفى:

ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَٱلَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ ٱلَّتِى قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلْأُخْرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ(42)
(سورة الزمر)

الإنسان يتوفى أجله كاملاً غير منقوص
الآن، آية من آيات الله تشير إلى توحيد الله، ومتعلقة بإنزال الكتاب. كيف متعلقة بإنزال الكتاب؟ في الأصل فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. حسناً، إنسان ضل عن الطريق المستقيم، وأخذته العزة بالإثم. هل يمكن أن يعود يوماً؟ لا تيأس منه. يمكن. وهذه آية كونية تثبت ذلك. هناك أشخاص ينامون فيتوفاهم الله تعالى في موتهم، فلا يستيقظون بعدها، وهناك أشخاص يستيقظون، ويعودون إلى الحياة. فكما أن الله تعالى يعيد إنساناً بعد أن يتوفاه في منامه إلى الحياة صباحاً، فإنه يمكن أن يعيد إنساناً بعد أن سلك طريق الضلال أن يعيده إلى طريق الهدى، هذه المناسبة بين الآيتين، فقال:( ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) الله تعالى هو المتوفي، قد يقال لملك الموت أيضاً متوفي، من باب أنه المباشر بالتنفيذ، لكن في الحقيقة الله تعالى هو الذي يتوفى. ولماذا سميت الوفاة وفاةً؟ لأن الإنسان يتوفى أجله كاملاً غير منقوص. يعني الإنسان الذي يموت وعمره 70 سنة، و 3 أشهر، و 4 أيام، و 5 ساعات، و7 ثوانٍ. هذا استوفى أجله كاملاً المقرر له ولا ينقص ثانية واحدة.

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ(34)
(سورة الأعراف)

الوفاة تأتي في الوقت الذي أراده الله تماماً
ساعة يعني برهة بسيطة من الوقت، وليس ساعة زمنية. الوفاة تأتي في الوقت الذي أراده الله تماماً، لذلك المتوفي هو الله. ومن الخطأ لغةً أن نقول: من المتوفي؟ أبو فلان، أبو فلان المتوفى وليس المتوفي؛ لأنه وقع عليه فعل الوفاة، أما المتوفي فهو الله. ويقال مجازاً للملك الموكل بقبض الأرواح متوفي؛ لأنه يقوم بذلك بأمر الله تعالى. فالله هو المتوفي. (ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلْأَنفُسَ) الأنفس هي الذات والشخص سواءً جسده أو نفسه، عندما تُنزع الروح من الجسد فيصبح جثةً هامدة، فقد توفاه الله أجله، يعني ارتباط الروح بالنفس بالجسد، هذه التركيبة الثلاثية تعطي مدة زمنية مرتبطة بوقت محدد من الله عز وجل هي مدة الاختبار، الموت نُزعت الروح تُوفي الله أيامك كاملةً التي منحك إياها، كمقوم من مقومات التكليف، لما كلفك أعطاك زمن. أنت تقول لإنسان: أريدك أن تركض ثلاثة كيلو متر، لكن ليس معك وقت. كيف أستطيع أن ركض دون وعاء زمني؟ فحياتنا هي الوعاء الزمني للتكليف. حقيقةً. حسناً. سوف تقول لي: هناك إنسان أخذ زمن أكثر. هذا في علم الله

{ خير الناس من طال عمره، وحسن عمله. }

(رواه الترمذي)

هناك إنسان يمد الله في عمره و في عمله الحسن، هناك إنسان يعيش 90 سنة، ولا يفكر أن يتجه للقبلة، فالله تعالى أعلم بعباده.

وَلَا تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا ٱكْتَسَبُواْ ۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا ٱكْتَسَبْنَ ۚ وَسْـَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِۦٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا(32)
(سورة النساء)

التفضيل لا يعني الأفضلية عند الله
هناك تفضيل، ما ننكر أن هناك تفضيلاً، لكن هذا التفضيل لا يعني الأفضلية عند الله. تقول لي: هذا الإنسان مات في الستين، حسناً، لو عاش للسبعين كان أخذ عشر سنوات زيادة، كان أكثر من الأعمال الصالحة. وما أدراك أنه بعد الستين سيترك دينه وعبادته؟ ما أدراك؟ فهذه حكمة الله. لكل إنسان أعطاه وقتاً، لكن الوقت كافي. مادام كُلف. من تكليفه لوفاته، ولو ساعة فهي كافية لأن يطيع أو يعصي. هناك أشخاص مع النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا، وخرجوا للجهاد، فماتوا ولم يركعوا لله ركعة. يعني هو عاش بالإسلام عشر ساعات، أربع ساعات، كانت كافية لكي يعبر عن موقفه الكامل، وانتهى بالنسبة لربنا عز وجل. الموضوع أصبح واضحاً جداً، هذا إلى الجنة. تمام؟ يعني أنت أحياناً في امتحان شفهي للتقريب. هناك امتحان شفهي. أنا كنت أقوم للطلاب بامتحان. مقابلة هذه ليست على الورق. مقابلة هناك طالب بعد دقيقة واحدة أكتشف أن هذا الطالب ناجح بعد دقيقة واحدة. في سؤال مفصلي لما يجيب عليه معناه كل الاسئلة الباقية أصبحت من المسلمات، أنا كمدرس أعلم ذلك, فبعد دقيقة أضع له نجاح. وهناك طالب أعطيه ربع ساعة حتى أكتشف أن هذا الطالب يستحق الرسوب مئة بالمئة. ولله المثل الأعلى طبعاً، لكن حتى أبين أن المدة هذه في علم الله. (وَلَا تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ ۚ) لكن أنا أخذت مدتي الكافية.
(ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَٱلَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا) أي ويتوفى التي لم تمت في منامها، فسمّى النوم. النوم هنا وفاة، لأنه يشبه الوفاة في أن الإنسان في النوم لا يستطيع أن يدير جسده. طبعاً، تبقى بعض الحركات التي من نعم الله علينا أنها تبقى. يعني التنفس لو كان إراديا لما نام الإنسان؛ لأنه إذا نام يموت. هناك أشياء تعمل، الكلية تعمل، كبد يعمل. هذه من نعم الله علينا، لكن الإنسان في النوم،اين يذهب بالمنام؟ لذلك المنام أحياناً الإنسان يكون في عمان يرى نفسه في القطب الشمالي، و يعني يعتقد بأنه أصبح هناك و كأنه في عالم آخر. إذاً الله توفى نفسه، لم يعد هو قادراً على إدارة جسده، لذلك قال:( وَٱلَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا) يعني في نومها،( فَيُمْسِكُ ٱلَّتِى قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ) لما يتوفى الإنسان في منامه. هناك أشخاص ينامون فلا يستيقظون، هذه قضى الله عليها الموت انتهى. قضاء الله نافذ. ،( فَيُمْسِكُ ٱلَّتِى قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ) لا يستيقظ ، لذلك من الدعاء النبوي قبل النوم.

{ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبي، وَبِكَ أرْفَعُهُ، إنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإنْ أَرْسَلْتَهَا، فاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ }

(متفق عَلَيْهِ)

إن أرسلتها، يعني أطلقتها ليوم جديد فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين (فَيُمْسِكُ ٱلَّتِى قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلْأُخْرَىٰٓ) يطلق الأخرى. يرسلها من الإرسال، وهو من الإطلاق، (إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّى) التسمية بمعنى أن هذا الأجل معين، مسمى من باب التعيين يعني أنه قد عُيّن وقته. فحتى الذي يستيقظ من نومه لا يعني ذلك أنه سيستيقظ كل يوم. استيقظ اليوم لكن قد لا يستيقظ غداً، فالإنسان هناك يوم سيأتي عليه ينام فلا يستيقظ، أو يستيقظ فلا ينام. هذه سنة الله (إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ) أي في هذا الآية، آية الموت، وآية المنام الذي يشبه الموت. هذا فيه آية لمن يتفكر. والتفكّر هو: زيادة في إعمال الفكر. فكر وتفكّر يعني أكثر من إعمال فكره في هذه الآية فنفعته.

مفهوم الشفع:

أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ ۚ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَعْقِلُونَ(43)
(سورة الزمر)

ما زلنا في موضوع التوحيد (أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ) في الأصل الشفع هو الزوج، والوتر هو الفرد، قال تعالى:

وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)
(سورة الفجر)

أقسم بالشفع، وأقسم بالوتر. فالله تعالى من أسمائه الوتر؛ لأنه فرد صمد لا ثاني له.

{ إنَّ اللَّه وِترٌ يُحِبُّ الْوتْرَ، فأَوْتِرُوا، يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ }

(رواه أبو داود والترمذي)

الوتر: صلاة الوتر, فالشفع هو الزوج. ما معنى أن يشفع لك إنسان؟ هنا الزوجية.

مَّن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٌ مِّنْهَا ۖ وَمَن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُۥ كِفْلٌ مِّنْهَا ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ مُّقِيتًا
(سورة النساء)

النبي الكريم سيشفع لنا يوم القيامة
يعني لما يذهب إنسان ويوفِق بين زوجين، يشفع بينهما. يا جماعة فلان رجل صالح، وأعلمه صالحاً، وإن شاء الله يحفظ ابنتكم، فنريد أن نخفف عنه بعض المهر، أو بعض الحاجات حتى تكسبوا شاباً صالحاً، هذا شفع. جمع بين شيئين زوج. هذه شفاعة. شخص ذهب إلى آخر فلان له معه مبلغ من المال، وفلان أمين لكنه معسر، وأنا أعلم أنه معسر فلو أمهلتَه، أو لو قسطت له المبلغ أو لو تصدقت عليه ببعضه، هذا يشفع. يجمع بين الشيئين. فالنبي صلى الله عليه وسلم سيشفع لنا يوم القيامة هو شفيعنا صلى الله عليه وسلم. شفاعة بالمفهوم الحقيقي للكلمة لمن يطيع الله تعالى. لمن لا يهجر سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فمن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرِج أقواماً من النار فيدخلهم الجنة، هذه ثابتة. من شفاعته صلى الله عليه وسلم أن يبدأ الحساب بعد الوقوف في أرض المحشر. من شفاعته أن يرفع أقواماً من درجة إلى درجة في الجنة. فشفاعة النبي متعددة، لكن لا يشفعون إلا لمن ارتضى، يعني الشفاعة تحتاج إلى إذن الله تعالى. لا يمكن لأحد أن يشفع لأحد إلا بإذن الله.

قُل لِّلَّهِ ٱلشَّفَٰعَةُ جَمِيعًا ۖ لَّهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(44)
(سورة الزمر)

مادام الإذن من الله فالشفاعة له جل جلاله هو يأذن لمخلوق فيشفع، ولا يأذن لآخر فلا يشفع. إذاً الشفاعة من الله، قال :(أم ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ ۚ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَعْقِلُونَ) أنت كيف توكل إنساناً أن يشفع لك وهو لا يملك شيئا أبداً. والأشد من ذلك أنه لا يعقل. قلت لكم سابقاً العقل هو عملية المحاكمة. أنت تعقل الأشياء، تفهمها. فهؤلاء لا يعقلون، العقل له معنيان المعنى الأول: الربط، اعقلْ الناقة، أي اربطها. والعاقل يعقل نفسه، فيمنعها من الوقوع في المحرمات وفيما يشينها في الدنيا وفي الآخرة، عند الله، وعند الناس. لذلك لا تجد عاقلاً يشرب خمراً؛ لأنه يعقل يعني يربط نفسه. ولا تجد عاقلاً يأخذ ما ليس له؛ لأنه عقل نفسه، منعها من السرقة. فالعقل هو المنع. والعقل هو الفهم محاكمة الأشياء وفهمها. فهؤلاء لا يعقلون، يعني لا هم قادرون على عقل شهواتهم ولا لهم محاكمة وعقل يجعلهم يتصرفون بالشكل الصحيح. كالمجنون فهؤلاء الشفعاء سواءً كانوا أصناماً يتحدثون مع قريش الذين كانوا يعبدون الأصنام واتخذوهم شفعاء. لكن اليوم في أنواع للشرك كثيرة، فكم منا من الناس من المسلمين -نسأل الله السلامة-يتخذ شفعاء من خلق الله تعالى و يظن أنهم يشفعون له عند الله و الأمر ليس كذلك ( قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَعْقِلُونَ) (قُل لِّلَّهِ ٱلشَّفَٰعَةُ جَمِيعًا ) الشفاعة له جل جلاله ،حال كونها جميعاً ،جميعاً حال. (قُل لِّلَّهِ ٱلشَّفَٰعَةُ جَمِيعًا ۖ لَّهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) وكأن هذه الجملة الأخيرة تعليلية، يعني بالمنطق إن عقلتَ الأشياء عقلاً صحيحا. من الذي يملك الشفاعة؟ هو الذي يملك. الذي لا يملك لا يملك شفاعةً، فقال:(قل لِّلَّهِ ٱلشَّفَٰعَةُ جَمِيعًا ۖ لَّهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ ) فهو يتصرف كيف يشاء جل جلاله (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) فوق أنه يملك كل شيء مرجعك إليه (قُل لِّلَّهِ ٱلشَّفَٰعَةُ جَمِيعًا ۖ لَّهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، و الحمد لله رب العالمين.