حال المتقين وحال الكفرين يوم القيامة

  • اللقاء العاشر من تفسير سورة الزمر - شرح الآيات 53-62
  • 2022-07-02

حال المتقين وحال الكفرين يوم القيامة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وأنفعنا بما علمتنا، وزدْنا علماً وعملاً مُتقبلاً يا رب العالمين. اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، وبعد:

التوازن بين الخوف والرجاء:
مع اللقاء العاشر من لقاءات سورة الزمر ومع الآية الثالثة والخمسين من السورة، وهي قوله تعالى:

قُلْ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ(53)

هذه الآية كما ورد عن بعض الصحابة الكرام، ومنهم ابن مسعود، وابن عمر -رضي الله عنهم جميعاً-هي أرجى آية في كتاب الله تعالى؛ أي أشد الآيات رجاءً، فإذا قرأها الإنسان سكنت نفسه، واطمأنت لرحمة الله، ومغفرة الله، وعفو الله.
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "بل أرجى آية

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلَٰتُ ۗ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍۢ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ(6)
[سورة الرعد]

وعلى كل حال، فلا شك أن هذه الآية فيها رجاء؛ لأن الله تعالى بعد أن ذكر في الآيات السابقة ما ذكر من الحديث عن هؤلاء الشاردين عن الله تعالى.

وَبَدَا لَهُمْ سَيِّـَٔاتُ مَا كَسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسْتَهْزِءُونَ(48) فَأَصَابَهُمْ سَيِّـَٔاتُ مَا كَسَبُواْ ۚ وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَٰٓؤُلَآءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّـَٔاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ(51)
[سورة الزمر]

لا بُدَّ من التوازن في حال المؤمن
فعلى عادة القرآن الكريم أنه إذا ذكر مصير الظالمين، ذكر نجاة المتقين، وإذا ذكر حال أهل النار، بادر إلى ذكر حال أهل الجنة؛ حتى لا تيأس القلوب، وحتى يبقى الإنسان بين رغب ورهب، بين خوف وطمع، فلا ينبغي أن يجره الخوف إلى اليأس، ولا أن يجره الطمع إلى التمادي، والتقصير في جنب الله عز وجل.
فلا بُدَّ من التوازن في حال المؤمن، فهو يطير إلى الله تعالى بجناحين، لا يمكن للطائر أن يطير إلا بجناحين، ولا يمكن للمؤمن أن يسلك إلى الله إلا بجناحي الرغبة والرهبة، فمتى وجد اليأس قد تسلل إلى قلبه، فينبغي أن يسارع إلى تذكر رحمات الله تعالى، وتذكر عفو الله تعالى ومغفرته، ومتى وجد نفسه قد تمادت في التقصير في جنب الله تعالى، فيجب أن يذكرها ويخوفها بالله، وبذلك يستقيم طريقه إلى الله، فالله بعد أن ذكر هؤلاء المعرضين الشاردين، كان من عادة القرآن أن يفتح الباب للتوبة والإنابة حتى لا يتصور أن الباب مغلق، وأن هؤلاء استحقوا مصيرهم، وأنهم لا نجاة لهم، فقال:( قُلْ يَٰعِبَادِىَ) فالقرآن الكريم عندما يقول: (يَٰعِبَادِىَ) غالباً يخاطب العباد المؤمنين، فينسبهم إلى ذاته العلية تشريفاً وتكريماً(يَٰعِبَادِىَ)

وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ٱلْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا(63)
[ سورة الفرقان ]


الإسراف على النفس:

قُلْ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍۢ(10)
[سورة الزمر]

إلا أنه في هذه الآية يخاطب المشركين قبل المقصرين من المؤمنين، ومع ذلك قال لهم: (يَٰعِبَادِىَ)ونسبهم إلى ذاته تشريفاً، ولم تُحذف الياء قبل آيات في سورة الزمر (قُلْ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ ۚ) نقرأ بالكسرة، في اللغة يجوز الأمران، يجوز أن تحذف الياء تخفيفاً (يا عبادِ) ويجوز (يا عبادي) بالياء، لكن هنا أثبت الياء رغم جواز حذفها لغةً مبالغةً أو بياناً، لنسبتك له تشريفاً وتكريماً، فأثبت هذه الياء.
الإسراف هو الإكثار
(قُلْ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ) الإسراف هو: الإكثار، فلو أن إنساناً كان على ماء، وأسرف في الماء، أي أكثر من الماء، يحتاج لوضوئه لتراً فاستهلك لترين، فهذا أسرف في استهلاك الماء؛ لأنه جاوز الحد المقبول، فالإسراف هو: الإكثار من الشيء، وهؤلاء أسرفوا على أنفسهم، وعَدّى الإسراف بعلى، نقول: أسرف في، وأسرف على، هذا اسمه تعدية بحرف الجر، هذا له أهمية كبيرة في لغة العرب، عندما تقول: رغب في الأمر أي أحبه وأراده، لكن إذا قلت: رغب عنه أي كرهه، وما أراده، فحرف الجر الذي عُدّي به الفعل أعطى معنيين متعاكسين، رغب فيه، رغب عنه. وعندما تقول: صبر على الطاعة، أي صَابَرَ وأمسك نفسه على أداء الصلاة.

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْـَٔلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ(132)
[ سورة طه]

لكن تقول: صبر عن المعصية، أي حبس نفسه عن الفعل، لم يفعل أبداَ، فصبر عن، وصبر على، هذا معنى تعدية الفعل بحرف الجر الذي بعده؛ يعطي المعنى.
فهنا ما قال: أسرفوا في المعاصي، قال:( أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ) لماذا جاء بعلى؟ لأن الإنسان عندما يعصي الله تعالى ويأتي الذنوب، ويأتي الآثام، فإنما يحمّل نفسه فوق طاقتها، يحمل نفسه الأوزار، والآثام التي ستكون يوم القيامة عذاباً، وناراً تحرقه، فهو يسرف على نفسه، يحملها شيئاً لا ينبغي أن تحمله، لذلك قال: أسرف على، (قُلْ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ) أي أكثروا من المعاصي والآثام، (لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ) القنوط: هو شدة اليأس، هناك يأس، وهناك قنوط، القنوط أشد حالات اليأس يسمى قنوطاً، اليائس لعله يبصر نوراً، أو بصيص أمل من بعيد، لكنه يئس، القانط-والعياذ بالله-لا يرى نوراً أبداً. فهنا (لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ) يعني إياك أن تيأس، أو أن تقنط من عفو الله تعالى ومغفرته، مهما كان عندك من الذنوب.
وهذه الآية كما قلنا: فيها خطاب للمشركين، وفيها خطاب للمسلمين العصاة، والمذنبين لكليهما، حتى من أسرف على نفسه، فأشرك؛ إن تاب تاب الله عليه، حتى من أسرف على نفسه فكفر بالله، وليس بعد الكفر ذنب.

العودة إلى الله تعالى:
هذه الآية تفتح له باب العودة إلى الله تعالى، وكذلك المسلم الذي أسرف على نفسه؛ بأن أكثر من المعاصي ولم يتب منها، فهذا أيضاً تخاطبه الآية (لَا تقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ) (جميعاً) إعرابها في اللغة العربية حال، يعني حال كونها مجتمعة على العبد، يعني مهما كثرت الذنوب فإن الله تعالى يغفرها، ومهما عظُم الذنب الواحد فإن الله يغفره.

{ يا ابنَ آدمَ ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لاتُشْرِكْ بِيْ شَيْئَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً }

[أخرجه الترمذي]

الله تعالى يغفر الذنب مهما عظُم
فالله تعالى يغفر الذنب مهما عظُم، ويغفر الذنوب مهما كثرت (إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ) والغفر مشتق من الستر، ولذلك نقول في العربية: هذا جمع غفير؛ لأن الناس تكاثروا على الأرض حتى ستروا وجه الأرض، فما عدت ترى وجه الأرض من كثرة الناس الذين اجتمعوا فوقها، فهم جمع غفير، فالغفر مشتق من الستر، فالذنب موجود، والله تعالى يؤاخذ به، لكنه يغفره، بمعنى أنه يستره فلا يؤاخذك به، يعني كأنه أبطل أثره، لم يعد هناك مؤاخذة بالذنب.
(إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ) الغفور والرحيم اسمان من أسماء الله تعالى الحسنى، الغفور على وزن فعول، والرحيم على وزن فعيل، وكلاهما مبالغة من اسم الفاعل، ما قال: إن الله هو الغافر الراحم، وإنما قال: (إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيم) يعني كثير المغفرة، كثير الرحمة -جل جلاله- فلن يعجزه أن يغفر ذنوبك مهما كثُرت، بعض الناس يقرؤون هذه الآية، ويقفون هنا، والواجب لمن قرأ هذه الآية أن يتابع ما بعدها، حتى لا يتوهم أن المغفرة والرحمة ليس لها شروط، قال تعالى في آية أخرى:

وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ(82)
[ سورة طه]


الإنابة والتوبة:
فبعض الناس يفتحون باب الرحمة من الله، وهذا شيء جيد، ويثلج الصدر، وكلنا نتوق إلى رحمة الله، ونثق ونظن به أنه يغفر الذنوب -جل جلاله- قال تعالى في الحديث القدسي:

{ أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظُنَّ بي ما شاء }

[ أخرجه أحمد ، والدارمي، وابن حبان ]

فنحن ظننا بالله أنه غفّار وغفور ورحيم، لكن ينبغي أن نتابع حتى لا نقع في الغرور.

يَٰٓأَيُّهَا ٱلْإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ(6)
[سورة الانفطار]

حتى لا نغتر بالله، ثم نُفاجأ بأنه سيجازي على العمل، وهذا هو الأصل، فنتابع الآيات، قال:

وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ(54)

يعني ما دام الله تعالى يريد أن يغفر الذنوب، وأن يرحم عباده، فالواجب عليك أيها الإنسان -سواءً كان غير مسلم أو مسلم-أن تٌنيب إلى الله، والإنابة تعني: الرجوع، والتوبة: الرجوع.

وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31)
‏[‏ سورة النور‏]

يعني ارجعوا إليه (وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ) ارجعوا إليه (وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُۥ) الإسلام لله: هو الانقياد له، أسلم أمره لفلان، انقاد له، وأسلم أمره لله أي انقاد له، ومنه الإسلام.

إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلْإِسْلَٰمُ ۗ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ(19)
[سورة الانفطار]

فالله تعالى دينه الذي جاء به الأنبياءُ كلهم، من لدن آدم إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، كان دين الإسلام.
الدين هو الاستسلام لله
إن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً، بالمعنى اللغوي وهو الاستسلام، والانقياد، والطاعة لله تعالى، الدين هو الاستسلام لله، لكن الشرعة شرعتنا نحن اسمها شرعة الإسلام؛ لأنها تمثل أعلى ما تمثل حالة الانقياد، والطاعة، والتسليم لأمر الله، لكن كل دين جاء من الله تعالى فهو الإسلام، بغض النظر عن تسمية الشريعة، اليهودية، النصرانية، لكن كل الأنبياء كانوا مسلمين لله تعالى.
(وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) العذاب هنا تحتمل العذاب الدنيوي، والعذاب الأخروي، وقوله: (مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ) يوحي بأن العذاب قريب -سواء كان عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة-في عذاب الدنيا لحظة واحدة سُجل على مقياس ريختر سبع درجات أو أقل، الضحايا بالألوف المؤلفة، والجرحى بالألوف، والمنازل مدمرة، والناس في العراء، صاعقة من السماء.

ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ(16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ(17)
[سورة الملك ]

فالعذاب قد يأتي في الدنيا، وقد يأتي في الدنيا فلا يميز بين مستقيم ومنحرف، لكن المستقيم يأخذه هذا الابتلاء إلى الله فيسعد إلى أبد الآبدين، ومنحرف يأخذه إلى الله فيشقى إلى أبد الآبدين، لكن قال تعالى:

وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ۖ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ(25)
[سورة الأنفال]

تصيب الجميع، فالعذاب قد يأتي في الدنيا، وقد يأتي في الآخرة.

وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنۢ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ ۚ وَلَعَذَابُ ٱلْءَاخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰٓ(127)
[سورة طه ]

أشد في أثره على النفس والجسد، وأبقى أدوم لا ينتهي، (مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ) الدنيوي أو الأخروي (ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ)، أي لا تجدون من ينصركم من الله.
أنت في الدنيا إذا كان لك عدو قوي يريد بك الشر، ثم تعرفت إلى شخص، قال لك: أنا أنصرك، أي سأزيل أسباب الغلبة والقوة من عدوك عليك، فأنا أقوى منه، لكن لما يكون الأمر مع خالقك -جل جلاله- فلا يوجد في الأرض كلها من يستطيع أن يقف معك، فينصرك من عذاب الله تعالى -معاذ الله- (ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ).

وَٱتَّبِعُوٓاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(55)

إذاً: وأنيبوا واتبعوا هذه شروط المغفرة حتى تستحق مغفرة الله ورحمته، ارجع إليه، واستسلم له، واتبع منهجه (وَٱتَّبِعُوٓاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) أحسن هنا: هو ليس بمعنى أن هناك شيئين أحدهما أحسن من الآخر، لا، ولكن أحسن ما أُنزل. بمعنى أن كلام الله تعالى هو الأحسن، باللغة الإنجليزية يقولون: - the most- -يعني لم يبق مفاضلة بين شيئين: الأعلى، الأحسن.
(وَٱتَّبِعُوٓاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم) القرآن الكريم؛ لأن ما فيه كله حسن، وهو أحسن شيء، (مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً) بغتة: من غير إشعار سابق، لو أن هناك إشعاراً لجهز الإنسان نفسه للعذاب، الدنيوي أو الأخروي كما أسلفنا، لكنه يأتي بغتة من غير إشعار سابق، فجأة ( وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) من غير أن تشعر تجد العذاب قد حل، لا يوجد أي جهة ترصد لك أن زلزالاً قادماً، أو أن عاصفة ستأتي.

قُل لَّآ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوٓءُ ۚ إِنْ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ(88)
[ سورة الأعراف]

وفي الآخرة ما يدري الإنسان متى تأتي لحظة وفاته، فيقابل ربه ( وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).

الحسرة على التفريط:

أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِى جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّٰخِرِينَ(56)

ما معنى أن تقول: هنا يوجد محذوفان: الأول: هو اللام، يعني لئلا.
والثاني: هو لا النافية، وهذا كثير في لغة العرب، وكثير في القرآن الكريم-أن تقول، يعني لئلا تقول نفسك، يعني: افعلوا كل ذلك حتى لا يأتي يوم تقول فيه نفسٌ هذا الأمر، (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِى جَنۢبِ ٱللَّهِ) الحسرة: هي الندامة.

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍۢ ظَلَمَتْ مَا فِى ٱلْأَرْضِ لَٱفْتَدَتْ بِهِۦ ۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ ۖ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ ۚ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(54)
[ سورة يونس]

الحسرة هي الندامة
الحسرة: هي الندامة، ويا حسرتا: يا: ياء النداء. ونحن ننادي من؟ ننادي العاقل، أنا لا أنادي الحائط، فأقول: يا حائط، بل أنادي رجلاً فأقول: يا فلان، يا محمد، أنادي العاقل، فالحسرة عاقل أم غير عاقل؟ غير عاقل، الحسرة هي أمر معنوي، ليس له وجود؛ هذا من باب الاستعارة في اللغة العربية، وكأنه يقول من شدة ألمه: يا حسرتي، هذا وقتكِ فاحضري، أصبح يستدعي الحسرة من شدة ألمه، ومن شدة ندمه لمّا رأى العذاب -والعياذ بالله-(أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَٰحَسْرَتَىٰ) أصلها يا حسرتي، و حُذفت ياء المتكلم، و أُبدل عنها بالألف( ٰيا حَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِى جَنۢبِ ٱللَّهِ) فرطت أي ضيعت و قصّرت، فرّط الإنسان بالأمر: ضيّعه وقصّر في حفظه.
فلو أن إنساناً أودع عندك مالاً أمانة، كان ذاهباً إلى الحج، وقال لك: سأدع عندك هذه الصرة من الليرات الذهبية أمانة عندك، ثم إنك وضعتها في خزنة المال، وأقفلت عليها مع أموالك، وفي الليل اجتاح لص بيتك، وأخذ هذه الصرة، وأخذها مع مالك، أو لم يأخذ معها مالك –سيان-أخذ هذه الصرة، وانصرف بها، أو جاء سيل شديد، وأمطار عارمة فاستاقت هذه الصرة، وأودت بها -عارض سماوي أو سارق- ثم جاء صاحب المال، وقال لك: أين مالي؟ تقول له: والله، ضاع المال، أنا حفظته وما فرطت فيه، لكنه ضاع، ماذا نقول في الفقه؟ نقول له: لا شيء عليك، أنت مؤتمن على المال وحفظته، ولا تُلزم بدفع تعويض أبداً، مهما يكن، لكن لو أنك فرطت في حفظ الأمانة، يسميه الفقهاء (التفريط-التضييع)، فأودع عندك صرة المال، فوضعتها في البيت، ولم تقفل الباب، وخرجت والباب مفتوح، فدخل السارق وسرقها، وهي ليست في حرز. نقول: عليك التعويض، يجب أن تدفع له ثمنها، أو ما يعادلها، لماذا؟ لأنك فرطت.
المؤتمن على شيء يضمن
فالمؤتمن على شيء يضمن، يعني يضمن مثل الذي سُرق، أو ذهب إذا فرّط، أو تعدّى، تعدّى يعني وضع عندك هاتف فاستخدمته، ووضعته بين يدي أولادك، فتعدَّوا عليه فانكسر؛ فينبغي أن يضمن، فيضمن بالتفريط أو التعدي، ولا يضمن إن لم يفرط، ولم يتعدَّ، هذا حكم فقهي جئت به لأبيّن معنى (فَرَّطتُ فِى جَنۢبِ ٱللَّهِ) هذا الإنسان كانت نفسه أمانة بين جنبيه، وكان ماله أمانة عنده من الله، وكانت جوارحه أمانة عنده من الله، العين والأنف والأذن كلها أمانات بين يدي، ففرّط في حفظها وضيّعها، وقصّر في حفظها، فينبغي أن يضمن، ولا يستطيع أن يضمن فعليه العذاب! فرّط وضيّع الأمانة، فلا بد من العقاب (يَٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِى جَنۢبِ ٱللَّهِ) في جنب أو جانب، يعني في جانب أمر الله، ونهيه، يعني كم تركت من أمور أمر بها الله؟ وكم أتيت من أمور نهى عنها الله؟ (وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّٰخِرِينَ) هذه اللام في اللغة العربية تُسمى -لام الفارقة- ما معنى لام الفارقة (لَمن)؟ لام الفارقة حتى تميز بين (إنْ) النافية، يعني لو قال إنسان: إنْ كنت ساخراً، يعني ما كنت ساخراً، لكن لو قال: إنْ كنت لساخراً، يعني لقد كنت ساخراً مئة بالمئة، بعكس بعضهم تماماً. فتسمى هذا اللام لام الفارقة.
هنا يقول: (وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّٰخِرِينَ) يعني يؤكد أن ما فعله لم يكن فعل غفلة فقط، وإنما سخرية أيضاً، كان يسخر من عباد الله.

وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)
[ سورة المطففين]

يسخر من عباد الله.

وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِۦ سَخِرُواْ مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ(38)
[ سورة هود]

فهؤلاء المشركون المنحرفون كانوا يسخرون من المؤمنين الملتزمين (وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّٰخِرِينَ) اعتراف، يعني لقد كنت من الساخرين؟ هذه (إنْ) المخففة من الثقيلة، (إنَّ) تخفف تصبح (إن) مع لام الفارقة.

أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَىٰنِى لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ (57)

وهذه كانوا يقولونها في الدنيا للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن لو شاء الله لهدانا، هم كانوا يقولون في الدنيا: لو شاء الله لهدانا، طبعاً كلام مرفوض، ليس له أي صحة في الشرع. أعادوه وقد علق في أذهانهم يوم القيامة (لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَىٰنِى لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ) لكنت اتقيت عذاب الله تعالى، اتقيت العذاب، وابتعدت عنه، ولكن الله ما هداني، كلام ليس صحيحاً، هم يقولون ذلك: (لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَىٰنِى لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ).

تمني العودة عند رؤية العذاب:

أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ (58)

(تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ) -هذا حق اليقين- رؤية العذاب بالعين، قلت لكم في لقاء سابق: المؤمنون يرون العذاب، والجحيم في الدنيا.

كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ(6)
[سورة التكاثر]

الآن في الدنيا، فيجد الجحيم في معصية الله تعالى قبل أن يأتي الجحيم، لكن هؤلاء (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ) حق اليقين. (لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً) أي رجعة.
الكرّة هي الرجعة
الحرب كر وفر؛ الفر: الهروب، الكر: العودة بعدها، لذلك النبي-صلى الله عليه وسلم-لما جاء بعض الصحابة، قالوا لهم:" أنتم الفرارون؛ لأنهم تركوا المعركة، قال-صلى الله عليه وسلم-بتفاؤل وبمحبة، بل أنتم الكرارون-إن شاء الله" يعني جئتم وستعودون للحرب، فالكرّة: هي الرجعة ( أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ)، إذن اعترف أنه كان من المسيئين، هو الآن اعترف على نفسه أنه كان مسيئاً في الدنيا، مسيئاً لنفسه، مسيئاً للمؤمنين، مسيئاً لعموم الناس.
(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً) أي رجعة إلى الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ) وهذه للتمني فقط (لو) للتمني، أمنيات لن تتحقق.
ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً فأخبرهُ بما فعلَ المشيبُ
{ أبو العتاهية }
لن يعود الشباب، ولن تخبره بما فعل المشيب، فلو للتمني (لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ) انظر إلى الترتيب القرآني، هذا الكلام؛ كلام الله تعالى يداخل نفسك، ويخبرك كيف تتعامل النفس عند حالة الإقرار بالذنب، إنسان فعل شيئاً خطأ، أخطأ في شيء، أول ما يرد في ذهنه للخطأ، أول شيء الندم، اللحظة الأولى، مثلاً إنسان سرق، أودع في السجن، اللحظة الأولى ندم، يعض أصابعه ندماً، ينظر، أصبح في غرفة مظلمة، باب مغلق، طعام خشن، سجان سيئ الخلق، ماذا فعلت بنفسي؟ هذا المرتبة الأولى.
بعد قليل يوم يومان، يبدأ بالتنصل حتى يريح نفسه، وبالاعتذار، لو أن فلاناً لم يقل لي: افعل، لما فعلت، لو أنه وافق أن نذهب في الصباح لما وجدنا الناس في البيت، وأُمسِكنا بالجرم المشهود، لو أنني تعلمت في المدرسة، وأبي لم يخرجني من المدرسة كنت ما سرقت، يبدأ يبحث عن الأعذار حتى يريح نفسه، لكن لن تنفعه الاعتذارات الآن، انتهى الأمر، الآن جربوا، أخرجوني ولن أعيدها؛ هذه المرحلة الثالثة، أخرجوني من السجن، وانظروا سأصبح إنساناً آخر، أرجوكم، غلطة وانتهى، لن ينفعه شيء، تماماً هذا الذي يُحاك في داخل الإنسان، يخبرك عنه القرآن الكريم بالترتيب (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِى جَنۢبِ ٱللَّهِ) معترف تماماً.
(وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّٰخِرِينَ) ويعترف أنه كان يسخر بالمؤمنين ليس غفلة، عناد واستكبار، اليوم الثاني (لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَىٰنِى لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ). أخي؛ أنا الله لم يهدني، أولئك الله هداهم، كذب، ما نفعه شيء.
(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً) أرجعوني (فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ) الآن انظروا الرد القرآني على كل كلمة بينهم.

رفض الإنسان للهداية:

بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَٰتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ(59)

هذا الرد على ماذا؟ أو تقول: لو أن الله هداني، قال له:( بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَٰتِى) هديتك، أنت تكذب على نفسك، تحاول أن تتنصل وتعتذر.
( بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَٰتِى) أليست هذه هداية من الله أن تأتيك الآيات؟ ألم تسمع كلام الله؟ ألم تنظر في آيات الله الكونية التي في كل شيء له آية تدل على أنه واحد؟ ألم تنظر كيف أهلك الله القرون الأولى؟ أتتك الآيات، الآيات بجميع أنواعها أتتك، لكن أنت ما قبلتها فما اهتديت.
لا تلقي اللوم على خالقك
لا تلقي اللوم على خالقك، هذا كذب على الله، هذا كذب على الله أن تقول: لو أن الله هداني، كما يقول كثير من المسلمين اليوم، تقول له: لماذا لا تصلي، لو أن الله هداني لصليت، لا الله هداك، والدليل أنه قال لك: يا أيها الذين آمنوا أٌقيموا الصلاة، وبلغت مسمعك، إذاً هداك الله هداية الدلالة، لكن أنت رفضتها، فما هداك هداية التوفيق؛ لأنك أنت رفضت الهداية.
فقال له: (بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَٰتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا) هو قال: (لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ) لا، كذبت بها، رد عليه، (وَٱسْتَكْبَرْتَ) هو قال: (وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّٰخِرِينَ) لم يكن فعلك هذا سخرية فقط، بل استكباراً وعناداً وعلواً في الأرض بغير الحق (وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ) هو قال: ( فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ) كنت من الكافرين. رد عليه في آية واحدة على كل هذه الدعاوى الباطلة، (وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ) هذا أسلوب القرآن الكريم، قال:

من صور يوم القيامة:

وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ(60)

يُكنّي الله تعالى في يوم القيامة بابيضاض الوجه عن التقوى، والفلاح، والصلاح، وباسوداد الوجه عن السوء، والرسوب، حتى في دنيانا يقول الأب لابنه: لا تسود وجهي، بيّض وجهي، فابيضاض الوجه، قال تعالى:

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(106) وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ(107)
[سورة ال عمران]

فهؤلاء وجوههم مسودة، كناية عن العذاب.
(أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) المثوى مكان الإقامة. المتكبر سواء كان متكبراً بشركه، وهو أعلى أنواع الكِبر.

{ لا يدخلُ الجنَّةَ من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن كِبرِ }

[ صحيح مسلم ]

هنا بمعنى الشرك، الذي عنده الكبر بمعنى الشرك، يستكبر عن عبادة الله، مهما كان قليلاً هذا الشرك لا يدخل الجنة، لكن هناك مستويات للتكبر، هناك إنسان ليس مشركاً بالله، لكن عنده أنفة، يرى نفسه فوق الآخرين، هذه معصية، ويمكن أن يتوب منها (أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) فناسب اسوداد الوجه تكبر هذا الإنسان، فالمتكبر يريد أن يظهر بأحسن مظهر، وأفضل شيء أمام الناس، فأصبح وجهه مسوداً (أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ).

نجاة المتقين يوم القيامة:

وَيُنَجِّى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوٓءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(61)

(وَيُنَجِّى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ) الباء هنا، إما للملابسة يعني ينجي الله الذين اتقوا، يسمونها باء الملابسة، يعني بفوزهم هذا الأمر مُلابس، يعني موافق لفوزهم، أو باء السبب، يعني بسبب فوزهم، يعني لما حققوا الفوز نجاهم الله تعالى، والمفازة هذا مصدر ميمي مثل تاب متاباً.

وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَإِنَّهُۥ يَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتَابًا(71)
[سورة الفرقان]

العرب تُطلق على الصحراء من باب التفاؤل
فاز مفازاً، وأُلحقت به (هاء التأنيث، التاء المربوطة) مفازة، والمفازة في لغة العرب هي: الفلاة، الأرض الفلاة، وسُميت مفازة لأن الإنسان إذا وصل إليها نجا من أعدائه، ففاز، وحتى إن العرب تُطلق على الصحراء مفازة، مع أن الصحراء مهلكة، وليست مفازة، وهذا من باب التفاؤل، فالعرب تسمي اللديغ الذي لدغته عقرب سليماً تفاؤلاً بسلامته، وتسمي الصحراء التي قد يضيع فيها الإنسان، فلا يفوز مفازة تفاؤلاً بفوزه، فإذا أخذنا المفازة هنا على أنها الواحة أو الفلاة، فهي الجنة (وَيُنَجِّى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ) مثل قوله تعالى:

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)
[سورة النبأ]

فالمفاز في سورة النبأ هي الجنة، فهنا أيضاً يمكن أن نقول: (وَيُنَجِّى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ) إما بسبب فوزهم، أو ينجيهم بملابسة فوزهم، أو ينجيهم فيدخلهم الجنة، وكلها معانٍ صحيحة، وهذا من بلاغة القرآن الكريم.
(وَيُنَجِّى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوٓءُ) المس: هو أدنى الحالات، لا يمسه حتى مس، لا يصل إليه السوء حتى مساً، ولا يصيبه قطعاً، ولكن حتى مساً لا يمسهم (لَا يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوٓءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
الحزن في النفس، ومس السوء في الجسد، فهو سليم جسداً، سليم نفساً، لكن لما تكلم على الجسد قال: (لَا يَمَسُّهُمُ) جملة فعلية، ولما تكلم على الحزن، قال:(وَلَا هُمْ) جملة اسمية، الاسمية تفيد الاستمرار، فالحزن إذا استقر في الإنسان يدوم، لكن العذاب الجسدي يتجدد بتجدد مسبباته، فيكنّى عن عذاب النفس بالجملة الاسمية؛ لأن الحزن إذا وجد في النفوس يستمر طويلاً، والسوء إذا أصاب الجسد، قال تعالى:

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا(56)
[سورة النساء]

فلا بد أن يستمر تجدد الجلود حتى يستمر العذاب، فلذلك جاء بالجملة الفعلية (لَا يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوٓءُ ) فالمؤمنون لا يأتي إليهم أي سوء، ولا يتجدد عليهم (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) أي ليس عندهم حزن في الداخل، فالنفس سليمة من الحزن، و الجسد سليم من السوء، وهذا من أرفع درجات النعيم (وَيُنَجِّى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوٓءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

لله الخلق والأمر:

ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ(62)

(ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ ۖ ) كل شيء من الذرة إلى المجرة، يعني هو خالق الميكروبات والفيروسات -جل جلاله- و هو خالق الحوت و الفيل أكبر كائن بري، وأكبر كائن بحري، النملة والفيل.

ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍۢ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍۢ ۖ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍۢ(3)
[ سورة الملك]

كل شيء خلقه الله تعالى هو وكيل عليه
سواءً نظرت إلى البعوضة في صِغر حجمها، فإنك تجد من بديع صنع الله فيها ما يقشعر له جلدك، أو نظرت إلى الحوت الأزرق الذي قد يصل وزنه إلى 150 طناً، فإنك تجد فيه من إبداع الله في الخلق ما تجده.
(خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ) يعني له الخلق والأمر، لا يكفي أن تعتقد أن الله تعالى خلق، بعض المشركين اعترفوا بالخلق، ومر معنا ذلك.

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَٰتُ رَحْمَتِهِۦ ۚ قُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ(38)
[سورة الزمر]

ولكن الأمر لمن؟ لله، له الخلق والأمر أن تعتقد أنه خلق، ثم تقول: الأمر بيد فلان من الناس، لا يستقيم هذا الإيمان، قال تعالى:

وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُۥ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)
[ سورة هود]

فهو على كل شيء وكيل، فهو -جل جلاله-خلق، وهو القيوم. كل شيء خلقه الله تعالى هو وكيل عليه، فالأمر فيه إليه، فخلقك وخلقني، وهو وكيل علينا -جل جلاله-فالكلية تعمل بأمره، والقلب يعمل بأمره، والكبد يعمل بأمره، والعين تبصر بأمره، فهو على كل شيء وكيل، فنقرُّ له بالخلق، ونقرُّ له بالأمر -جل جلاله-حتى نحسن التوجه إليه (ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ). والحمد لله رب العالمين.