التوحيد والعبادة

  • اللقاء الحادي عشر من تفسير سورة الزمر - شرح الآيات 63-70
  • 2022-07-23

التوحيد والعبادة

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلّي وأسلّم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللّهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبّلاً يا رب العالمين، وبعد: مع اللقاء الحادي عشر من لقاءات سورة الزمر ومع الآية الثانية والستين من السورة وهي قوله تعالى:

ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ(62)
(سورة الزمر)

هذه الآية إن صحّ التعبير هي الآية المفصليّة في سورة الزمر؛ لأنها تصرح بحقيقة التوحيد ومقتضيات التوحيد بشكل واضح تماماً، (ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍ) هذا الجزء الأول، (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ) الجزء الثاني.

كل شيء بيد الله:

لَّهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ(63)
(سورة الزمر)

الجزء الثالث؛ ثلاثة أمور: خالق، وكيل، له مقاليد السماوات والأرض، إذا أيقن العبد بهذه الثلاثة فالطريق إلى التوحيد أصبحت سالكة.
كل شيء مخلوق فقد خلقه الله
(ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍ) الشيء: لعلها أعمّ كلمة في اللغة العربية، فكل شيء مخلوق فقد خلقه الله، طبعاً بدلالة المنطق لا يشمل خلق كل شيء اللهَ تعالى وصفاته وأسماءه لأن ذلك يستلزم ما يسميّه العلماء الدور، يعني إذا كان الخالق خلق نفسه فمن خلقه؟! وهكذا، فنصل إلى طريق مسدود فعندما تقول: الله خالق كل شيء فبدلالة المنطق أن هذا الشيء لا يشمله -جل جلاله-لأنه الخالق فهو خالق كل شيء.
الآن هل أفعال العباد من الأشياء التي يخلقها الله تعالى؟ طبعاً، لماذا أقول ذلك؟ لأن أقواماً ضلوا في فهم هذه الآية فقالوا: خالق كل شيء إلا أفعال العباد، أرادوا أن ينسبوا العدل لله تعالى فوقعوا فيما هو أسوء من مرادهم بحيث نفَوا عن الله تعالى أن يكون -جل جلاله-يخلق أفعال العباد؛ لأنهم توهموا بزعمهم أنه إذا كان خالقاً لأفعال العباد يعني خالق المعصية وخالق الطاعة، معنى هذا الإنسان مجبر.
وضل أقوام آخرون فقالوا: خالق المعصية وخالق الطاعة، إذاً الإنسان ليس له شيء فهو مجبر، لا. الله تعالى خالق كل شيء بما فيها أفعال العباد حتماً، كل شيء على حقيقتها على العموم، عندما يعصي الإنسان ربه فالله قد خلق فعله، وعندما يطيع ربه فالله قد خلق فعله، لكن باختصار الله تعالى خلق العين ولأن الإنسان مخيّر فهو يستطيع أن يستخدم عينه للنظر في الحلال وللنظر في الحرام، فطبيعة ما خلقه الله تعالى في الإنسان أنه يمكن أن يتوجه إلى الخير وإلى الشر لأنه مخيّر.

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6)
(سورة التحريم)

الملائكة (لَّا يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) انتهى الأمر، لكن الإنس والجن مخلوقات مكلّفة، معنى مكلّفة: أنها تستطيع أن تستخدم ما أعطاها الله تعالى إياه في طريقين، فالإنسان هو الذي يتوجّه إلى الخير والشر، هو الذي يتوجّه إلى الخير أو الشر، لكن من يخلق فعله؟ الله تعالى.
الله خلق لك القدرة على النظر
هو الإنسان عندما ينظر إلى الحرام هو الذي يحرك عضلات العين والشبكية والقزحية والقرنية أم الله الذي يسمح له بذلك؟ الله تعالى، إذاً هو خالق الفعل -جل جلاله-لكن هل هذا يُعفي الإنسان من مسؤوليته؟ أبداً، هو أعطاك العين تستطيع بالعين أن ترى ما تشاء لأنك مخيّر، فأنت تتوجه إلى الفعل تريد أن تنظر إلى الحرام فالله يخلق لك القدرة على النظر إلى الحرام، تريد أن تنظر إلى الحلال يخلق فيك القدرة لأنك مخيّر، فالمسألة بهذه البساطة فلا داعي لأن نذهب باتجاه الجبر؛ لأن الله لم يجبر عباده على شيء.

وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوُجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا(29)
(سورة الكهف)

إِنَّا هَدَيْنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)
(سورة الإنسان)

ولا داعي لأن ننفي عن الله تعالى أنه يخلق أفعال العباد؛ لأنه فعلاً هو الذي يخلق فعل العباد ولو كان معصية، لكن الإنسان يتوجّه إلى الشيء، الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض والجبال قال:

إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72)
(سورة الأحزاب)

يعني ربنا -جل جلاله-ابتداءً خيّر كل المخلوقات حتى السماوات والأرض والجبال لما قال لهم: هل تحمل الأمانة أم لا تحملها؟ أليس هذا تخييراً؟! يعني حتى الجبال مخيّرة كانت، إذا أردت أن تحمل فاحمل، وإذا أردت ألّا تحمل فلا تحمل، الإنسان قَبِل حمل الأمانة، هناك فرق بين أن تحمل الشيء وبين أن تؤديه، قال تعالى:

مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَىٰةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ(5)
(سورة الجمعة)

يعني: لم يؤدوها، يعني إنسان قلت له: هل تستطيع أن تحمل مئة كيلو في يدك؟ قال: نعم أستطيع، قَبِل تحملَها لكن هل يستطيع فعلاً؟ جاء إليها فلم يستطع رفعها ضعيف، فنقول: حملها ولم يحملها؛ حملها في أنه قَبِلها ولم يستطع فعلها، فلذلك وصفه الله تعالى قال: (إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) لأنه قال: أنا لها، وهو لا يستطيع حملها؛ أمّا المؤمن هذا استثني من الإنسان صار شيئاً آخراً لأنه قال: أحملها وحملها، هذا ليس ظلوماً جهولاً لأنه سيستحق جنة عرضها السماوات والأرض (وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) لأنه قبل شيئاً لا يستطيع فعله؛ هذا المراد.
فالله خالق كل شيء لأن هذا كل شيء، يعني سواءً بالذوات يعني هو الذي خلقك وخلق الكلية والكبد والعين وإلى آخره....، وهو الذي يخلق أفعالك -جل جلاله-من غير إجبار، وهو الذي خلق كل ما في الأرض مما تراه عينك كل شيء (ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍ).

الله عز وجل هو الوكيل:
الجزء الثاني: (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ) لا يستقيم إيمان الإنسان بأن يقول: الله خالق كل شيء لأنه حتى كثير من المشركين -مشركي العرب-قالوا: (ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍ).

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَٰتُ رَحْمَتِهِۦ قُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ(38)
(سورة الزمر)

لكن الجزء الثاني حتى يستقيم إيمانك قال: (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ).
الوكيل هو المتصرّف في الشيء
الوكيل: هو المتصرّف في الشيء لا معقّب له، يعني لا أحد يراجعه فيما يتصرف به، أحياناً أنت يكون لك تصرف في شيء تتصرف فيأتي المدير ويقول لك: لا هذا الموضوع غير صحيح، تصرّف ارجع عنه، هذا مُتصرِّف له معقب.
الله تعالى وكيل على كل شيء بمعنى أنه يتصرف في كل شيء لا معقّب لحكمه ولا لتصرفه -جل جلاله-هذه هي القيّوميّة بأن كل شيء في الوجود يقوم به، فما خلق الخلق وتركهم لكن في كل لحظة هو وكيل على عينك حتى تنظر، وعلى كليتك حتى تصفي الدم، وعلى الشجرة حتى تثمر، وعلى كل شيء -جل جلاله-وما قال: وهو على كل شيء وكيل بكذا، لا مطلقاً، يعني تصرفه بكل شيء وفي كل الشؤون، في كل شؤون هذا الشيء الذي يتصرف به (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ) فهو -جل جلاله-يتصرّف كيف يشاء في مُلكه -جل جلاله-خلق وهو الوكيل.
(ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍ) هذا الإيجاد (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ) هذا الإمداد، الإيجاد والإمداد أن يؤمن الإنسان بأن الله أوجده إن لم يفعل شُكَّ في مقدراته، لكن ينبغي أن يؤمن مع أن الله خلقه أن الله تعالى حفيظ عليه متصرف به كيفما يشاء وأنه مفتقر إليه في كل لحظة (إيجاد وإمداد) (ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ).
الثالثة: (لَّهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ) مقاليد: جمع مِقلاد مثل مفتاح مفاتيح، وقيل جمع إقليد، قيل كلمة أصلها فارسية قيل يونانية -الله أعلم -لا يقدح ذلك في كون القرآن عربياً؛ لأن هناك في اللغة ما هو معرّب يعني في لغة العرب دخلت ألفاظ من الأعجمية -وهي قليلة جداً في كتاب الله-واستخدمها العرب فأصبحت معرّبةً: أي جزءاً من لغتهم يتكلمونها، فالعرب تعرف المقاليد ليست كلمة غير معروفة عند العرب فهي عربية بالمآل وإن لم يكن لها أصل عربي.
على كلٍّ المقاليد بمعنى المفاتيح، وكأن السماوات والأرض خزائن نفيسة فيها من كل شيء نفيس، فجُعل لها مفاتيح، والله تعالى يملك مفاتيحها كناية عن أنه -جل جلاله-هو المالك لها المتصرف فيها وحده، فإذاً هو خالق إيجاد، هو وكيل إمداد، ومن يخلق ويُمدُّ فهو المالك وهذا أعظم أنواع المُلك، هناك مُلك ولكنك لم تخلق الشيء تقول: أنا مالك هذا البيت، أنت أنشأته؟ لا، وهناك مُلك لكن لا يحق لك التصرف فيه، هناك أموال محجوزة، وهناك بيت لا أملكه أو أملك التصرف فيه جزئياً فما أملك أن أغيّر مكان الحمامات مثلاً، فالتصرف ناقص، لكن الله تعالى ملكه أنه هو الذي خلق، وهو الذي يُمدّ ويتصرف كيفما يشاء فهذا أعظم أنواع الملك.
(لَّهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ) إذاً هذه الثلاثة من يؤمن بها حقيقةً: أن الله خلق كل شيء، و أنه المُتصرّف في كل شيء، و أنه المالك لكل شيء؛ هذه مقتضيات التوحيد من يؤمن بهذه الثلاثة فهو لا يتوجّه إلا إلى الله تعالى، أيُقبَل أن تطلب ممن لا يملك لك موتاً و لا حياةً ولا نشوراً؟ تطلب من المالك، تطلب من المتصرف، تطلب من الخالق، خلقَ و أمدَّ و مَلك إذاً التوجه إليه وحده، هذا حجاج عقلي لهؤلاء الذين ينكرون وحدانية الله تعالى.
(لَّهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ) آيات الله سواءً كانت المنظورة (الكون) بما فيه مما يدل على وحدانية الله وما سبق من أنه خالق، هذه كلها آيات خلقه آية، وإمداده آية، وملكه آية -جل جلاله-، فالآيات هنا تتوجه أولاً إلى الآيات الكونية التي بثّها الله في الأكوان والتي تدل على وجوده و وحدانيته و كماله، و قد تتوجه إلى المعجزات التي جاء بها الرسل فهي آية، المعجزة آية، وتتوجه إلى آيات الكتاب المسطور بما فيه القرآن الكريم.
(وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ) كفروا إنكاراً واستعلاءً، (أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ) و في قوله: (أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ) إشارة إلى أنه لا خاسر غيرهم، يعني لا تقارن خسارتهم بخسارة غيرهم، أولئك: هذا اسم الإشارة يفيد ذلك، (أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ) مع ضمير الفصل ما قال: أولئك الخاسرون، قال: (أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ) و كأنه قصْرٌ على أن الخسارة الحقيقة هي لهؤلاء الذين أعرضوا عن منهج الله تعالى وكفروا بآياته، و كل خسارة دونها لا تسمى خسارة أمام خسارتهم لأنهم خسروا الآخرة.

التوحه لغير الله شرك:
قل يا محمد -صلى الله عليه وسلم-وهذا للتنبيه وبيان عِظَم ما يأتي بعده:

قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُوٓنِّىٓ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَٰهِلُونَ(64)
(سورة الزمر)

التوجه بالعبادة إلى غير الله جهل
بعدما تقدم من أنه الخالق والمُمد والمتصرف والمالك هذا استفهام إنكاري، إنكاري ينكر عليهم أن يأمروه أن يعبد غير الله (قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُوٓنِّىٓ) و قُرئت (تأمرونني) على الأصل قبل حذف النون، وكلاهما قراءتان، قراءة حفص( تَأْمُرُوٓنِّىٓ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَٰهِلُونَ) ،فالتوجّه إلى غير الله تعالى بالعبادة جهل، التوجه بالعبادة إلى غير الله جهل؛ هذا التوحيد، لما كان الله تعالى خالقاً لكل شيء، متصرفاً في كل شيء، مالكاً لكل شيء فإن العقل يقول: أن الإنسان ينبغي أن يتوجّه إلى خالقه ومالكه، فإذا توجّه إلى غيره مشركاً بذلك فهو جاهل، وهذا جهل مركّب، الجاهل جهلاً عادياً قد يسمى أميّاً وهو خالي المعرفة، وهذا أسهل من الجاهل جهلاً مركّباً.
يعني إذا إنسان لا يملك معلومة تعطيه المعلومة الصحيحة فيأخذها، لكن إذا كان يملك معلومة خاطئة فهذا هو الجهل، و هنا الجهل ضد العلم لأن المعلومة إذا كانت خاطئة فهي جهل، بل هي أشد من جهل خالي الوفاض تماماً، خالي الوفاض تستطيع أن تعلمه، يأتيك يقول: أنا لا أعرف فتقول له: هذه الحقيقة، فتعلمه العلم الصحيح، أما الجاهل هذا الذي يعرف معلومة خاطئة لسبب أو لآخر، فأنت ينبغي أنت تقنعه أولاً بفساد معلومته ثم تعطيه المعلومة الصحيحة، يحتاج إلى تخلية و تحلية، فالأمي خير من الجاهل، الجهل يأتي ضد العلم كما هو هنا لأن هذا ليس بعالم و لو كان عنده معلومة و لكن معلومته الخطأ أشد من أن يكون بلا معلومة.
ويأتي الجهل ضد الحلم، وهو ما يسميه أدباء العصر الجاهلي، العصر الجاهلي ليس نسبة إلى جهلهم بعدم وجود المعلومات وإنما إلى جهلهم بعدم وجود الحلم.
أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا
{ عمرو بن كلثوم }
يعني ما عندهم حِلم، يقال: فلان جاهل بمعنى أنه لا يحلم ولو كان معه دكتوراة ما دام ما عنده حلم وأناة، فوراً يأتي المؤثر فيستجيب له بالسوء، ما يتأنى ويسأل وينظر وكذا، هذا جاهل، جاهل ضد الحلم ليس حليماً وهناك جاهل ضد العلم كما في هذه الآية، والعرب كانت تستخدم الجهل ضد العلم وتستخدمه ضد الحلم كلاهما، هنا ضد العلم هذا الذي يأمر غيره أو يريد أن يعبد غير الله ممن لا يملك له ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا نشوراً فهو جاهل لأنه يتوجه إلى غير خالقه ومالكه.

نتيجة الشرك:

وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ(65)
(سورة الزمر)

وهل يشرك النبي -صلى الله عليه وسلم؟ - حاشاه-هذا افتراض، لكن النبي معصوم والأنبياء معصومون لكن هذا افتراض وتأديب للأمة وبيان للأمة.
(وَلَقَدْ أُوحِىَ) الوحي: هو الإعلام بخفاء في اللغة، وفي الشرع: هو الإعلام عن طريق واسطة من الله لأنبيائه؛ الوحي.
(وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ) هذه اللام (لقد) لام القسم تشير إلى قسم في الآية لبيان أهمية الأمر، (وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ) من الأنبياء والرسل، يعني هذا منهج عام، التوحيد ليس منهجاً جاء به النبي-صلى الله عليه وسلم-:

وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِىٓ إِلَيْهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعْبُدُونِ(25)
(سورة الأنبياء)

الشرك مُحبط للعمل
(وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) هذه اللام موطئة للقسم وجواب القسم (ليحبطن)، (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الشرك مُحبط للعمل، ما معنى محبط للعمل؟ مفسد للعمل وملغي للعمل؛ فمهما جاء الإنسان من الخيرات إن لم يكن موحداً لله تعالى فعمله فاسد، يجازيه الله تعالى عليه في الدنيا لأن الله شكور -جل جلاله-وودود فلو أطعم الجوعى وأنصف المظلومين وفعل من الخيرات ما فعل في الدنيا فإن الله يكافئه على ذلك، لكن هذا لا ينجّيه من عقوبة شركه ولا يجعله مسلماً، هذا الموضوع ينبغي أن ننتبه إليه اليوم يوجد خلط كبير بهذه الأمور، يقول لك: يا فلان من الناس اخترع اختراعاً عظيماً أفاد البشرية كلها، وأنت ماذا فعلت حتى تدخل الجنة ويدخل النار؟ الأمران المقارنة بينهما في الأصل صورة غير صحيحة إذ تقارن شيئاً بشيء آخر غير صحيح، هذه للآخرة وتلك للدنيا، فهذا أفاد الدنيا، لكن قوانين الآخرة ينبغي أن يأتي الإنسان ربه موحّداً.

{ يا ابنَ آدمَ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لاتُشْرِكْ بِيْ شَيْئَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً. }

(أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك)

الأصل هو التوحيد
فالأصل في الآخرة هو التوحيد، قولنا: الأصل هو التوحيد لا يعني أننا نلغي العمل -مَعاذَ الله-ولا يعني أن نقول لإنسان: ما دمت موحداً فاصنع ما شئت والجنة موعدك، لا أبداً، هذا أيضاً فهم سقيم، لكن نقول: قليل العمل مع التوحيد ينفع وكثيره مع الشرك لا ينفع، هذا ما نريد قوله: قليل العمل مع التوحيد ينفع وكثيره مع الشرك لا ينفع، وبعض الخطايا مع التوحيد تُغفر، فكان الإنسان عنده صغائر لكن قلبه معلق بالله فإن الله يغفر له ذلك.
الكبائر تحتاج إلى توبة، توبة نصوح أن يُعلم منه توبة، وإلا لو جاء الله موحداً ولكنه ما التزم بشيء من أوامر الإسلام وظلم وقتل وسفك دم هذا، ثم قال: جئت الله موحداً، هذا فهم سقيم، لكن التوحيد هو الأصل فّإذا استقام لك التوحيد فبعد ذلك مهما قلّت أعمالك فتنفعك، وإذا كان الإنسان مشركاً فمهما كثرت أعماله التي ظاهرها الصلاح فإنها لا تنفعه بشيء لأنه مشرك، فالأصل هو التوحيد وبعده العمل لكن لا ننكر أهمية العمل.
(وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) إحباط العمل يعني: فساده وبطلانه وزواله، (وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ) لأنه خسر نفسه فأوردها موارد الهلاك وخسر آخرته.

الإخلاص في عبادة الله عز وجل:

بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ(66)
(سورة الزمر)

بل: حرف إضراب أسميه في اللغة العربية حرف إضراب، معنى حرف إضراب يعني عندما أقول: بل، كأنني ألغي ما قبلها، ما قبلها لم يكن مطلوباً ولا صحيحاً ولا مرغوباً.
فهنا لما يقول تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ. بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ) أي اترك الشرك وأهل الشرك وتوجّه إلى الله تعالى وحده.
(بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ) وقدّم الله-لفظ الجلالة-على الفعل (فاعبد) وأصل الترتيب (فاعبد الله) قال: (بل الله فاعبد) كما في الفاتحة (إياك نعبد) للقصر والحصر؛ أي لا تعبد إلا الله هذا هو التوحيد: لا إله إلا الله؛ أي لا إله معبود بحق إلا الله. (بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ) وكأن الآية تشير إلى أنك إن توجهت إلى الله تعالى وحده بالعبادة فانتظر من الله خيراً كثيراً يقتضي منك شكراً جزيلاً (بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ).
إن أخلصت العبادة لله تعالى وحده فلن يسعك الكون شكراً له لأن ما ينتظرك من عطائه بعد ذلك كثير كثير في الدنيا وفي الآخرة، وأعظم العطاء عطاء الآخرة (بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ).

تعظيم الله تعالى:

وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦ وَٱلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّٰتٌ بِيَمِينِهِۦ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)
(سورة الزمر)

أي ما عظّموه حق تعظيمه.

مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا(13)
(سورة نوح)

أي لا ترجون له عظمة (وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦ وَٱلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ).
ثلاث آيات في كتاب الله (وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ).

وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِى جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوٓاْ أَنتُمْ وَلَآ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ(91)
(سورة الأنعام)

لمّا أنكروا الوحي ما قدروا الله حق قدره، وهذه (وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦ وَٱلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ) لما لم يفهموا مُلكه العظيم وأن أمر الآخرة بيده ما عظّموه حق عظمته، والثالثة:

مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ(74)
(سورة الحج)

لمّا لم يتعرفوا إلى أسمائه الحسنى ما عظّموه حق عظمته؛ ثلاث آيات، هنا (وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦ وَٱلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ) أي في قبضته، أي في ملكه، (وَٱلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّٰتٌ بِيَمِينِهِۦ) كل ما ورد في القرآن متعلق بصفات الله تعالى نفهمه كما جاء ونستحضر معه قوله تعالى:

فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَمِنَ ٱلْأَنْعَٰمِ أَزْوَٰجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِۦ شَىْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ(11)
(سورة الشورى)

الأمة اليوم تُذبح من الوريد إلى الوريد
نقطة انتهى، ولا ندخل في غير ذلك، للأسف الشديد الشديد الشديد الأمة اليوم تُذبح من الوريد إلى الوريد وأعداؤها قد تكالبوا عليها وكادوا لها و تآمروا عليها، و ما يزال في الأمة إلى اليوم من يناطح غيره في قضايا صفات الله تعالى التي ما وصلنا أن صحابياً من صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سأل عنها أو خاض فيها، فما تزال تجد الأشعريّ الذي يقول: إن يده هي قدرته، ثم تجد السلفي -يعني حسب المصطلحات- الذي يقول: إنه له يد ليست كيدنا، و المفوضة الذي يقول: الله أعلم بمراده، و ليست المشكلة في أن تتعدد الأقوال في فهم مسألة ما، و لكن المشكلة في أن تُقام العداوات و يكفّر المسلمون بعضهم بعضاً بناءً عليها هنا المصيبة، لذلك عندما يقرأ الإنسان قوله تعالى:(وَٱلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ) يفهم أن الأرض في قبضة الله وفي ملكه وأن الأرض بيده -جل جلاله-و(لَيْسَ كَمِثْلِهِۦ شَىْءٌ) نقطة انتهى، ولا يخوض في غير ذلك ولن يسألك الله تعالى يوم القيامة عن ذلك، سيسألك عن إيمانك وعن توحيدك وعن طاعتك له -جل جلاله-.
ثم اليوم أسألكم بالله -ولو استطردنا قليلاً-لو ذهبت إلى 90% من المسلمين وما أردت أن أبالغ فأقول: إلى 99% ولو قلتها ما أظن نفسي أخطأت، لكن لو ذهبت إلى 90%من المسلمين اليوم وطرحت عليهم هذه القضية، هل ينزل إلى السماء الدنيا أم لا ينزل؟ بمعنى هل ينزل نزولاً يليق بعظمته أم هي كناية عن نزول أمره مثلاً؟! فمن من المسلمين 90 % من مسلمين سمع بهذا الأمر أو علم عنه أو فكر فيه يوماً؟90 %من المسلمين هذا الأمر لم يسمعوا به لأنه من القضايا الموجودة في بطون الكتب وهو في حياته لم يفتح كتاباً في العقيدة الإسلامية، فهل يعقل أن نبقى في هذه الدوامة إلى يوم القيامة والمسلمون معظمهم لم يسمع بها أصلاً؟! وهل الله يوم القيامة سيأتي بـ 90 %من المسلمين الذين لم يسمعوا بالأمر ويسألهم ماذا كنت تقول في قول:

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(10)
(سورة الفتح)

هل آمنت باليد أم لم تؤمن؟ أنا لا أهوّن من شؤون الإيمان لكن في الوقت نفسه طفح الكيل -كما يقال-في هذه المسألة في أن المسلمين يعني يتقاتلون على هذه المسألة، أنا عندما أقرأ قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦ وَٱلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ) أفهم منها فوراً أن الأرض ستكون في ملك الله تعالى، وأثبت له ما أثبته بنفسه وأفوض الأمر إليه مع استحضار قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِۦ شَىْءٌ).
فهو السميع -جل جلاله-وبصير لكن سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، وهذا القدر مشترك بين الجميع لا ينكره مسلم (أن يشبّه الله تعالى بشيء من خلقه-حاشاه جل جلاله-) فأؤمن بأنه سميع وبأنه بصير لكن أفوض هذا الأمر -طريقة السمع والبصر- الكيف أفوضه إلى الله تعالى( وَٱلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ)كل شيء في ملكه(وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّٰتٌ بِيَمِينِهِۦ).

{ وكلتا يديه يمين }

(صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو)

كما جاء في الصحيح -جل جلاله-.
(وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّٰتٌ بِيَمِينِهِۦ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) يعني لو أن إنساناً بدأ يريد أن يقول :قبضته و يمينه سبحانه، جاءت الآية فوراً نزّهه عن كل مخلوقاته، و إياك بأن تشبّهه بشيء من مخلوقاته، هذا القدر الذي هو مطلوب منك أيها المسلم، سبحانه: أنت تسبحه و أنت تنزّهه عن أن يشبه شيء من خلقه هذا معنى التسبيح، سبحانه و تعالى -جل جلاله- عما يشركون .

النفخ في الصور:

وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ(68)
(سورة الزمر)

نفخ: هذا الفعل يقول أهل اللغة مبني للمجهول، أهل البلاغة والتفسير يقول: هذا فعل لم يُسمَّ فاعله وهو الأصح والأفصح.

يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا(28)
(سورة النساء)

نُفِخَ فعل لم يسمَّ فاعله
إذا قلنا خلق: مبني للمجهول من المجهول -حاشاه جل جلاله-هذا أدب أدب المفسرين هذا لم يسمَّ فاعله لكنه معلوم، (وَخُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا) خلق: لا تعربها فعل مبني للمجهول، بل قل: هذا فعل لم يسمَّ فاعله لكنه معلوم ولشدة العلم به لم يُسمَّ لأنه الخالق -جل جلاله-لا أحد غيره.
ونفخ: فعل لم يسمَّ فاعله، من الفاعل؟ إسرافيل على ما تضافرت به الروايات ووقعت إشارات إليه في بعض الآثار أنه إسرافيل هو من ينفخ في الصور، والصور سئل عنه النبي-صلى الله عليه وسلم-فقال:

{ الصُّورُ قَرنٌ يُنفَخُ فيه }

(رواه أبو داود والترمذي عن عبدِ الله بن عمرو)

قرن يعني يشبه البوق، اليهود عندما كانوا يدعون الناس إلى الصلاة كانوا يدعونهم بالقرن يعني ما يشبه البوق فهو إعلام بالصلاة، والناقوس كان عند النصارى وأراد الله تعالى للمسلمين أن يُدعى إلى الصلاة لا بأنغام تنغّم وإنما بكلمات عظيمة توحّد وتكبّر الله تعالى، وشُرِع الأذان كما هي القصة معلومة لديكم، فهذا هو الصور:(هو قرن ينفخ فيه) كما قال-صلى الله عليه وسلم-.
(وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَصَعِقَ) أي مات (مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ) كل شيء قال: (إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُ) قيل: هم حملة العرش، وقيل: هو إسرافيل الذي سينفخ في الصور ثانيةً؛ لأن النفخة نفختان: نفخة للصعق ونفخة للبعث، والحقيقة أن النفخة لا تصعق ولا تبعث وإنما هي إعلان وإيذان، النفخة بذاتها لا تصعق ولا تبعث وإنما هي إعلان وإيذان لبدأ الحساب، البداً الموت ثم البعث.
(فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ) ثم: للترتيب على التراخي وكأن بين النفختين وقتاً زمنياً، ما هو هذا الوقت؟ ذكر أبو هريرة -رضي الله عنه-أنه في حديثه في الصحيح أنه كما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-:

{ ما بيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ. قالوا: يا أبا هُرَيْرَةَ أرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قالَ: أبَيْتُ، قالوا: أرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قالَ: أبَيْتُ، قالوا: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قالَ: أبَيْتُ }

(أخرجه البخاري ومسلم )

يعني أبيت أن أجزم في هذا الأمر أنا أعلم أنها أربعون لكن لا أعلم كم هي؟ يوم أم شهر أم سنة أم ساعة -الله أعلم-لكن بينهما أربعون، نؤمن بها كما جاءت، لكن(ثم) تشير إلى وقت، وقت بعد الصعق ثم تأتي النفخة الأخر (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى) أي نفخة أخرى.
(فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ) قيام: أي قاموا من مرقدهم، ينظرون: النظر إشارة إلى أنهم يعني قاموا بكامل أهليتهم ينظرون، ويعني النظر كناية عن أنهم قاموا بكامل أهليتهم.

إشراق الأرض بنور اللله تعالى:

وَأَشْرَقَتِ ٱلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ وَجِاْىٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۦنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(69)
(سورة الزمر)

الأرض هذه (ال التعريف) (وَأَشْرَقَتِ ٱلْأَرْضُ) عهدية يعني الأرض المعهودة، الأرض هنا هي الساهرة.

فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ(14)
(سورة النازعات)

أرض المحشر وليست الأرض التي نعرفها، وهي الأرض التي نعيش عليها الآن، (وَأَشْرَقَتِ ٱلْأَرْضُ) أرض المحشر وهي التي تسمى الساهرة، (وَأَشْرَقَتِ ٱلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا) ونسبة النور إلى الرب تشريف لهذا النور.
أرضنا الآن طبعاً تشرق بنور الله لأن الشمس خلق الله، لكن هناك سبب مباشر وهي الشمس، فالله تعالى جعل الشمس لتنير أرضنا.
الأرض مظلمة الآن
الأرض اليوم فيها ظلم وفيها عدل، الظلم ظلمات والعدل نور، الأرض مظلمة الآن، الأرض مظلمة لما فيها من الظلم، لو لا أن الشمس تنيرها، أرض المحشر منيرة بنور الله تعالى لا تحتاج إلى شمس تنيرها، لا تحتاج إلى واسطة لأن العدل الإلهي فيها سيتجلى على جميع المخلوقات (وَأَشْرَقَتِ ٱلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا).
(وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ)الكتاب كناية عن أو هو الكتاب: أعمال العباد، كل إنسان له كتاب.

فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ(7)
(سورة الإنشقاق)

(وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ) أعمال الخلائق التي سيحاسبون عليها (وَجِاْىٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۦنَ وَٱلشُّهَدَآءِ).

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدًا(41)
(سورة النساء)

فالأنبياء شهداء على قومهم، والمسلمون شهداء على الأمم الأخرى، قال تعالى:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ(143)
(سورة البقرة)

فالشهداء هنا بمعنى الشهادة، وليس بمعنى الإصطلاحي وهم الذين قُتلوا في أرض المعركة وإنما من يشهدون على ذلك، فالأنبياء شهود وهناك لله شهود في خلقه.
(وَجِاْىٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۦنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) هذا أول من يُقضى بينهم بالحق النبيون والشهداء الذين سيشهدون على حساب بقية المخلوقات (وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).

وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ(70)
(سورة الزمر)

وفّيته حقه: أي أعطيته إياه كاملاً غير منقوص،(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) كل نفس على العموم (كل) من ألفاظ العموم.
(مَا عَمِلَتْ) أي وفّيت جزاء ما عملت، وفيت جزاء عملها، (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ-جل جلاله-أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ) فقد يكون الفعل ظاهره صلاح وباطنه سوء، نيته سيئة فهو-جل جلاله -أعلم بما يفعلون وأعلم بما إذا كان هذا الفعل صحيحاً يستوجب الثواب أو حراماً يستوجب العقاب (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَأَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ).
والحمد لله رب العالمين.