أصناف الناس يوم القيامة

  • اللقاء الثاني عشر من تفسير سورة الزمر | شرح الآيات 71-75
  • 2022-09-10

أصناف الناس يوم القيامة

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسّلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللّهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبّلاً يا رب العالمين، وبعد:

الآيات الأخيرة في سورة الزمر:
أيها الأحباب؛ مع اللقاء الأخير من لقاءات سورة الزمر ومع الآية الواحدة والسبعين من السورة وهي قوله تعالى:

وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ(71)

الآيات الأخيرة في سورة الزمر سميت السورة باسم ما ورد في هذه الآيات (الزمر)، الزُّمَر: جمع زمرة، والزمرة هي الجماعة، ولا يقال زمرة إلا إذا كانت ستتلوها زمرة أخرى يعني فإذا مرّ بعض القوم –جماعة-يُقال: هذه زمرة إذاً ستأتي بعدها زمرة أخرى، فالزّمر جماعات متتالية تأتي عقب بعضها، وحال أهل النار أنهم يأتون إلى جهنم -والعياذ بالله-بعد أن يُحاسبوا يأتون زُمراً، وكذلك حال أهل الجنة جماعات جماعات يدخلون إلى الجنان التي أعدّها الله تعالى لهم.
(وَسِيقَ) هذه الواو للاستئناف كلام مُستأنف (َسِيقَ) فعل لم يُسمَّ فاعله، وقد أسلفت لكم سابقاً أن الأَولى في الفعل الذي نسميه مدرسياَ الفعل المبني للمجهول أن يُسمّى -لاسيما في القرآن-لم يُسمَّ فاعله؛ لأن فاعله كثيراً مالا يكون مجهولاً وإنما لم يُسمَّ لغرض بلاغي فإذا قال تعالى:

يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا(28)
(سورة النساء)


سوق الإنسان إلى مصيره:
ففاعل الخلق ليس مجهولاً بل هو أعرف المعروفين وعَلَم –جل جلاله-وهو الخالق لكن الفعل لم يُسمَّ فاعله لغرض بلاغي لشدة العلم به مثلاً، فلذلك الأَولى في الفعل إذا كان مبنياً لما أن نقول: مبني لما لم يسمَّ فاعله، (َسِيقَ) لم يسمَّ فاعله وفي آية أخرى:

وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ(21)
(سورة ق)

السَّوق عكس القود
فمن الذي يسوق؟ الملائكة الذين كلفهم الله تعالى بأن يسوقوا، السَّوق والقود، القود: يمشي القائد وخلفه من يتبعه، والسَّوق: يمشي السائق وأمامه من يسوقه، فالسَّوق عكس القود، القائد في المقدمة، السائق في مؤخرة الركب، السَّوق فيه إهانة إلى حد ما، وسيُشكل عليكم كيف أقول فيه إهانة وبعد قليل: (وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ) وسنأتي إلى ذلك، لكن أصل السَّوق يعني فيه بعض الإهانة أن يُساق الإنسان إلى مصيره، (وَسِيقَ) الملائكة يسوقون هؤلاء المستحقين للعذاب (ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا) ماهي هذه الزمر؟! يعني:

يَقْدُمُ قَوْمَهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ(98)
(سوة هود)

فرعون ومن معه ممن تبعه زمرة، زمرة الفراعنة، وقد نقول: إن الزمر مقسمة حسب العصاة، فهناك زمرة الزناة -والعياذ بالله-هناك زمرة المشركين، وهناك زمرة المُرابين، وهناك زمرة القاذفين للمحصنات، وهناك وهناك...، فيُقسّم أهل النار -والعياذ بالله-إلى زمر بعد أن يستحقوا العذاب.
(وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا) وصلوا إلى جهنم عند وصولهم فُتح الباب، (فُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا) جواب شرط (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا) يعني لما جاؤوها فتحت أبوابها إذاً كانت مغلقة قبل أن يصلوا إليها، وهذا فيه تهويل وتشديد في العذاب -والعياذ بالله-الباب مغلق، باب الرحمة مفتوح دائماً لكن باب العذاب في الأصل مغلق لكن لما وصلوا فُتح الباب فوجدوا مصيرهم ينتظرهم، ففيه تهويل (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا) إذاً فيه عنصر المفاجأة وعنصر التهويل وهذا جواب الشرط، وصلوا فُتحت الأبواب عند وصولهم،(وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا) الخزنة: جمع خازن وهم حراس النار قائمون عليها وهم غلاظ شداد لا يعصونَ اللَّه ما أمرهم:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6)
(سورة التحريم)

فهؤلاء خزنة النار يستقبلون الكفار بالإهانة والتقريع والتوبيخ فهم غلاظ شداد.

بشرية الأنبياء:
(فُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ) هذا استفهام تقريري كقائلٍ لابنه في نهاية العام الدراسي وقد رسب بعدما قدم له والده ما قدم، فيقول له عندما يأتي وقد رسب: ألم أقم بواجبي تجاهك؟! ألم أحذّرك مغبة الرسوب؟! ألم أقل لك إن مصيرك سيكون الرسوب إن لم تدرس؟! فهذا الاستفهام لا يُراد منه جواباً وإنما يُراد منه تقرير للحقيقة؛ وهي أن الرسل قد جاءت حتى تُلغى الحُجة فلا حجة لهم أمام الله:

قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَٰلِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَىٰكُمْ أَجْمَعِينَ(149)
(سورة الأنعام )

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ) وقال: منكم، بمعنى أنهم من جنسكم بشر مثلكم، فما بعثت لكم ملائكة قد لا تفهمون عليهم أو يقول قائل منكم: هؤلاء ملائكة ونحن بشر فكيف يأمروننا بشيء لا نستطيعه، لكن جاء الرسل منكم بلغتكم بلسانكم يتكلمون بكلامكم، يشتهون ما تشتهون، يرضون كما ترضون، يحبون كما تحبون، قال – صلى الله عليه وسلم-:

{ إنَّما أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَى كما يَرْضَى البَشَرُ، وَأَغْضَبُ كما يَغْضَبُ البَشَرُ }

(أخرجه مسلم عن أنس بن مالك)

وقال تعالى:

قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦ أَحَدًا(110)
(سورة الكهف )

الآيات هي العلامات
فبشرية الأنبياء حجة على الأتباع؛ لأنهم لو لم يكونوا بشراً لما كان الاتباع لهم منطقياً أو لقال بعض الناس: كيف نتبعهم وهم ليسوا منا؟ فهنا لإقامة الحجة قال: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ).
(يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ رَبِّكُمْ) التلاوة من قراءة الرسالة أو النص لأن الكلام يتبع بعضه بعضاً، يتلو بعضه بعضاً فسميت تلاوة، والآيات في الأصل هي آيات القرآن الكريم، وآيات الإنجيل، وآيات التورة، وآيات الزبور وآيات صحف إبراهيم وموسى كلها آيات، خطابنا لجميع الخلائق (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ)، ولكن يُستعار لفظ الآيات والآيات هي العلامات، يُقال: هذه الفتاة الصغيرة آية في الجمال، أي علامة على الجمال حُسنها علامة فارقة، فالآيات علامات دالة على وجود الله فتُستعار الآيات المتلوة في القرآن هي الآيات المتلوة في الكون كشجرة تُنبئك بوجود خالق لها، وشمس تُنبئك بوجود من أنارها، وهلاك قوم ظلموا وعتوا عن أمر ربهم ورأيت آثارهم.

قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ(11)
(سورة الأنعام )

إلى غير ذلك، فآيات الله إما أن تكون متلوة في الكتاب المسطور أو أن تكون مرئية في الكتاب المنظور وهو الكون، كلها آيات (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ) أي يخوفونكم.

تفصيل في كلمة العذاب:
يوم القيامة هو خبر ينذرنا به الله تعالى
(لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا) الآن اليوم أصبح واقعاً مُشاهداً، لكن في الدنيا كان اليوم خبراً، يوم القيامة الآن بالنسبة لنا جميعاً للعاصي والطائع للمؤمن والكافر هو خبر ينذرنا به الله تعالى، ينذرنا به الرسل، ينذرنا به العلماء الربانيون -من خلال القرآن والسُّنة طبعاً- فنحن الآن مُنذَرون بأن هناك يوماً سيأتي وهذا اليوم ستسوّى فيه الحسابات، وهذا اليوم سيدخل الطائعون الجنة وسيدخل الكفار النار، هذا اليوم آتٍ لامحالة لكنه الآن خبر، لكن هنا (وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا) أصبح اليوم حسّاً وليس خبراً.
(قَالُواْ بَلَىٰ) أقروا على أنفسهم (وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ) حقّت: أي وجبت، كلمة العذاب هي قوله تعالى:

وَلَوْ شِئْنَا لَءَاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَىٰهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13)
(سورة السجدة)

الكلمة في الأصل تقول: "كتب" كلمة، تقول: "محمد" كلمة، تقول: "في" كلمة، الكلمة اسم وفعل وحرف، لكن قد تقول: ألقيت كلمة في الاحتفال وأنت لم تتكلم بكلمة واحدة؛ لأن الكلمة وحدها لا تؤدي معنى، الجملة تؤدي معنى، فقد تكون قد ألقيت كلمة مدتها عشر دقائق فيها ألف وسبعمئة كلمة لكنها في مجموعها تسمى كلمة، قال تعالى:

لَعَلِّىٓ أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّآ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100)
(سورة المؤمنون)

وهنا الكلمة من هذا النوع، فهذه الكلمة هي: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، (وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ) هذا كلامهم، طبعاً تفصيله أن كلمة العذاب حقت عليهم بكفرهم، ثبتت عليهم ووجبت لهم النار بسبب بعدهم عن منهج الله تعالى وكفرهم به فليس الأمر عشوائياً بأنها ثبتت عليهم ولم تثبت على غيرهم – معاذ الله -حقت عليهم بما صنعوا، قيل:

قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)

جهنم لها أبواب، لها سبعة أبواب والجنة لها ثمانية أبواب، الجنة رحمة والرحمة أوسع فجُعل لها ثمانية أبواب في مقابل سبعة لأبواب العذاب، فأبواب جهنم سبعة، وما الفرق بين قيل: ادخلوا جهنم أو ادخلوا أبواب جهنم؟ أبواب جهنم أي أن العذاب يستقبلهم منذ لحظة دخولهم، يعني لا يوجد ممر بعد الباب وجهنم في الداخل، لمجرد أن دخلوا من الباب فقد بدأ العذاب -والعياذ بالله-(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا)، الخلود له بداية وليس له نهاية وفي القرآن الكريم غالب آيات العذاب يأتي فيها الخلود من غير تقييد بالأبد بينما غالب آيات الرحمة يُقيّد الخلود بالأبد.

وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا(57)
(سورة النساء)

ذلك أن الخلود في نار جهنم قد لا يكون إلى مالا نهاية؛ لأن هناك عصاة ومذنبين يستحقون النار ويُعاقبون على ذنوبهم ثم يُخرجون منها إلى الجنة، وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة؛ أما الجنة فخلود لا خروج بعده أبداً من الجنة.

التكبر على طاعة الله تعالى:
إياك أن تسعى إلى شرعنة هذه المعصية
(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) المثوى: هو مكان الإقامة، وهؤلاء استحقوا النار بتكبرهم لا بعصيانهم، هؤلاء استحقوا النار لا بسبب معصيتهم وإنما بسبب تأبيّهم على طاعة الله تعالى، لذلك كنا نقول ونعيد: ألف معصية يصنعها الإنسان تغلبه شهوته فيقع فيها ثم يندم ويستغفر لا تُعادل معصية واحدة يفعلها الإنسان متكبراً عن طاعة الله تعالى، ولذلك نقول دائماً: إذا زلت قدم إنسان فوقع في معصية فليستر على نفسه وليتب إلى الله تعالى منها والله توّاب رحيم، ولكن إياك ثم إياك ثم إياك أن تسعى إلى شرعنة هذه المعصية، فتقول: وماذا صنعنا؟! والموضوع فيه قولان، وأنتم تبالغون، وتجعل هذه المعصية -والعياذ بالله-وكأنها لا شيء فيها فتهونها في عيون الناس، المعصية معصية والحرام حرام، لكن هنا قال: (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) لأن ما أوردهم النار هو كِبرهم، وأول معصية عُصي الله تعالى بها في الأرض من الكِبر، إبليس:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لِءَادَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ(34)
(سورة البقرة)

أما ثاني معصية فكانت من الغلبة والضعف: وهاتان المعصيتان: معصية الكبر ومعصية الغلبة كل معاصي ابن آدم ستندرج تحت واحد منهما إلى يوم القيامة، معصية إبليس ومعصية آدم فالمؤمن معصيته من نوع معصية أبيه آدم -عليه السلام-تغلبه نفسه فيتوب:

فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ(37)
(سورة البقرة)

والبعيدون عن الله المنحرفون معاصيهم معاصي إبليس يستمرئون المعصية ويفعلونها ولا يرون أنهم قد فعلوا ما يوجب توبة ولا ندماً ولا استغفاراً، تكبّر-والعياذ بالله-فقال: (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ).

وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَٰلِدِينَ(73)

(وَسِيقَ) هنا جاءت من باب المشاكلة في اللغة العربية، والمشاكلة من المحسنات البديعية فإذا ذكرت:

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا(15) وَأَكِيدُ كَيْدًا(16)
(سورة الطارق)

فهذا من المشاكلة.

وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَٰكِرِينَ(54)
(سورة آل عمران)

فهذا من المشاكلة؛ لأن المكر بمعناه اللغوي الدقيق يفعله غالباً الضعفاء.

مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ(10)
(سورة فاطر)

وامرأة العزيز:

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَـًٔا وَءَاتَتْ كُلَّ وَٰحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُۥ أَكْبَرْنَهُۥ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ(31)
(سورة يوسف)

وكذلك الكيد يكيد الضعفاء، لكن الله تعالى سمّى رده على كيدهم كيداً، وسمّى رده على مكرهم مكراً من باب المشاكلة، فلما قال تعالى هنا: (وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ) فشتان بين سَوق أهل النار إلى النار، وبين سَوق أهل الجنة إلى الجنة فأهل الجنة يأتون إلى الرحمن وفداً.

يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَٰنِ وَفْدًا(85) وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا(86)
(سورة مريم)

عطاشاً يأتون عطاشاً فشتان بين من يأتي إلى الله تعالى وهم وفد الرحمن وبين من يأتي عطشان يريد شربة ماء فلا يجدها، فسَوق عن سَوق يختلف لكنه من باب المشاكلة.

معنى الزمر:
(وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ زُمَرًا) أيضاً جماعات، ورد في بعض الأحاديث الصحيحة باب الصدقة للمتصدقين، وباب الجهاد يدخل منه أهل الجهاد، وباب الريان يدخل منه الصائمون، قال أبو بكر –رضي الله عنه-انظر إلى طموح أبي بكر دائماً:

{ فَهلْ يُدْعَى أحَدٌ مِن تِلكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا، قالَ: نَعَمْ وأَرْجُو أنْ تَكُونَ منهمْ }

(صحيح البخاري عن أبي هريرة )

وفي الحديث:

{ ويَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ ألْفًا بغَيرِ حِسَابٍ... }

- زمرة من أمتي قال يدخلون الجنة مع النبيين بغير حساب ولا عقاب-

{ فَقالَ عُكَاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ: ادْعُ اللهَ لي يا رسولَ اللهِ أن يجعَلَني منهم. فقال «اللهُمَّ اجعَلْه منهم»، فطَمِع رجلٌ آخرُ في أنْ يكونَ منهم، فقام فقال: «أمِنْهُم أَنا؟ قالَ: سَبَقَكَ بِها عُكَّاشَةُ }

(صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس )

يبدو الجالسون كانوا كثراً وكل واحد قال له: وأنا-طموح-، الطموح جيد، ولكن النبي –صلى الله عليه وسلم-أوقف لأن هذا بحاجة عمل، فلو كل واحد اتكأ على الدعاء مشكلة، الدعاء مطلوب لكن مع العمل فقال: (سَبَقَكَ بِها عُكَّاشَةُ) يعني توقفوا، انهضوا إلى العمل، قال له:

{ أسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ. قالَ: أوْ غيرَ ذلكَ، قُلتُ: هو ذَاكَ. قالَ: فأعِنِّي علَى نَفْسِكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ }

(صحيح مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي )

يعلمنا النبي -صلى الله عليه وسلم-أن طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب، تريد مرافقتي في الجنة لازم عمل، قال له: (أوْ غيرَ ذلكَ) حاول معه، قال له: فقط، قال له: سلني حاجتك في بداية الحديث، أخذ وقته، حاجتك إذا قال له: أعطني مزرعة يعطيه النبي-صلى الله عليه وسلم-يقول له: أعطني الغنائم كلها، هناك حلول، هناك خيارات، قال: لا أريد إلا مرافقتك في الجنة، قال: (فأعِنِّي علَى نَفْسِكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ)، ساعدني قدم شيئاً حتى أنا أسأل الله أن ترافقني في الجنة.
فهؤلاء زمر: زمرة الصائمين، زمرة المجاهدين، زمرة طلبة العلم، زمرة المنفقين في سبيل الله، فنوطن أنفسنا أن نكون في أكثر من زمرة، إذا قصّر بنا السبيل في زمرة المنفقين فنكون في زمرة طلاب العلم -إن شاء الله- يعني يوطن الإنسان نفسه أن يكون في زمرة من زمر أهل الخير وكل إنسان ربنا-عزّ و جلّ- فاتح له باباً، هناك إنسان الله فتح له باب ببر الوالدين زمرة من الزمر ، يقول لك: والله يعني دخلي قليل لا يكاد يكفيني، وأنا رجل طلب علم ضعيف جداً أكاد أحسن بعض الآيات وأصلي بها، لكن عندي والدين حياتي كلها أبذلها في رضاهما حسناً زمرة جيدة، فكل إنسان ربنا -عزّ و جلّ- فتح له باباً من أبواب الخير يلج منه في زمرة من هذه الزمر.

الوصول إلى أبواب الجنة:
(وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا) هناك قال: (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ) هذا جواب الشرط، الأبواب مغلقة (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ) جواب شرط، هذا هنا ليس جواب الشرط هذه واو الحال (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَٰلِدِينَ) أين جواب الشرط؟ لا يوجد جواب شرط، جواب الشرط أعظم من أن يكون (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا َفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا) وتوقف الذهن عند (فُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا) الجواب (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا) هناك:

{ يقول اللهُ تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحينَ، ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ }

(أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة )

الأبواب المفتوحة مزيد من التكريم
فلو قال لك: (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا) وجدوا كذا وكذا لكان وصف لك الشيء الموجود وهو لا يُوصف، فتركه- جل جلاله- من غير جواب، أنت تخيل الجواب من عندك، هذا سبب الواو (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا) أنت تنتظر جواب الشرط، لم يأتِ جواب الشرط، أنا إذا قلت لك: إن جئتني وطرقت الباب، ووقفت قليلاً ثم طرقت الجرس -جرس الباب- وناديتني، إلى الآن أنا لم أعطِ جواب الشرط، أما إذا قلت لك : إن جئتني طرقتَ الباب، انتهى الكلام، فصار طرق الباب هو جواب الشرط.
(حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا َفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا) أجاب عن الشرط، (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا) لم يجب عن الشرط، والأبواب هناك فتحت عند مجيئهم وعند وصولهم، لكن (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا) جاؤوها وهي مفتوحة أبوابها من قبل وصولهم إليها، وهذا من مزيد التكريم، إذا أنت عندك موعد مع شخص مهم جداً تفتح الباب قبل أن يصل، تسمع صوت المصعد تخرج تفتح الباب وتنتظره، فلا تنتظر حتى يصل تفتح له الباب هذا من التكريم، فالأبواب هنا مفتوحة من قبل وصولهم.
قال البعض: إن هذه الواو هي واو الثمانية، والحقيقة هناك وهم هذا الأمر لا أوافق على ذلك، ولكن سأقول لكم ماهي واو الثمانية، أبواب الجنة ثمانية ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة.
هناك واو في اللغة العربية هي واو الثمانية، وهي أن العرب عندما تعدّ عدة أشياء تضع واواً قبل الشيء الثامن، كقوله تعالى:

ٱلتَّٰٓئِبُونَ ٱلْعَٰبِدُونَ ٱلْحَٰمِدُونَ ٱلسَّٰٓئِحُونَ ٱلرَّٰكِعُونَ ٱلسَّٰجِدُونَ ٱلْءَامِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ(112)
(سورة التوبة)

إلى أن قال: (ٱلْءَامِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ)السابعة (وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ).

عَسَىٰ رَبُّهُۥ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥ أَزْوَٰجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَٰتٍ مُّؤْمِنَٰتٍ قَٰنِتَٰتٍ تَٰٓئِبَٰتٍ عَٰبِدَٰتٍ سَٰٓئِحَٰتٍ ثَيِّبَٰتٍ وَأَبْكَارًا(5)
(سورة التحريم)

سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّىٓ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَآءً ظَٰهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا(22)
(سورة الكهف )

لها عدة أمثلة أن العرب تأتي بالواو قبل الشيء الثامن، في اللغة الإنجليزية يضعون واواً قبل آخر مذكور، يعدّون الصفات كلها آخر شيء يضعون(and) وكذا، وهذا موجود في اللغة العربية من قبل الإنجليزية لكن يستخدمونه مع الثامن؛ لأنه في الأصل السبعة هو العدد الكثير في اللغة سبعة تأتي للتكثير فسبعة تكون انت أكثرت من الكلام فصار من المناسب أن تقول: واو، السبعة ومشتقاتها في اللغة العربية للتكثير.

ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ(80)
(سورة التوبة)

فالبعض قال: هذه الواو واو الثمانية جاءت مع أبواب الجنة الثمانية (وَفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا) لأنها ثمانية، لكن لا أجد ذلك مناسباً هنا في هذا المقام لكن هذه هي قصة واو الثمانية، لكن هنا -والله أعلم-هي هذه الواو هي واو الحال (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا) حال كون أبوابها مفتوحة تنتظر قدومهم ولم يذكر جواب الشرط ليترك الأمر كما وصفه -صلى الله عليه وسلم-: (ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ).

وعد الله تعالى للمؤمنين:
(وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا) وخزنة الجنة أيضاً غير خزنة النار (سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ) تحية السلام (طِبْتُمْ) طابت إقامتكم من الطيب وحسن الإقامة (فَٱدْخُلُوهَا خَٰلِدِينَ) استقبال جميل جداً، وقالوا أهل الجنة:

وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُۥ وَأَوْرَثَنَا ٱلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَٰمِلِينَ(74)

وعد الله صادق لا محالة، قالوا هنا: الحمد لله الذي جعلنا أهلاً لأن يصدق فينا وعده -جل جلاله-الوعد صادق، لكن هل أنا أهل لهذا الوعد أم لا ؟! لما نقول اليوم:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ(47)
( سورة الروم)

الله تعالى ينصر المؤمنين
فهل نشك للحظة في أن الله تعالى ينصر المؤمنين، لا نشك (حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ) ولكن الشك هل نحن مستحقون لهذا النصر كمجموع أمة أم لا؟!
فلما يرون ما أعد الله تعالى لهم يقولون : (ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُۥ) أي صدق وعدُه فينا بأن كنا أهلاً لذلك، ولو قلنا: (ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُۥ) بمعنى المُتبادر إلى الذهن -وهو أن- فهذا لا يعني أنهم كانوا يشكّون في أن الله تعالى سيصدق وعده في الجنة، ولكن انتقلوا من علم اليقين إلى حق اليقين إلى عين اليقين، فهو فقط انتقال من مرحلة ليست فيها شهود بالعين مباشر إلى مرحلة فيها شهود، فهنا صدق الوعد بمعنى أنهم انتقلوا في الدنيا كانوا يعلمون علم اليقين بأن الله تعالى سيدخلهم الجنة إن هم أطاعوه، الآن لما رأوا الجنة صار عين اليقين، لما قيل لهم: ادخلوها وأصبحوا في الداخل صار حق اليقين لا لبس فيه.
(وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُۥ وَأَوْرَثَنَا ٱلْأَرْضَ) الإرث يأتي غالباً من غير كد ولاسعي ولا تعب، فاستُعير هنا للدلالة على أنهم أخذوا الجنة من غير ما يكافئها من جهد، العوام يقولون لك: فلان وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب، لم يتعب بالمال يعني توفي والده فأخذ كل أموال والده فورثها، فالإرث لا يكون هناك استحقاق لمن يأخذه لم يبذل شيئا ًفي مقابله، أصحاب الجنة بذلوا:

وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلْأَنْهَٰرُ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلَآ أَنْ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ وَنُودُوٓاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(43)
(سورة الأعراف)

لكن للدلالة على أن ما قدموه ليس مُكافئاً لما أخذوه، ولا يمكن مقارنة ما حصّلوه بما قدّموه، فما الذي قدّمه الإنسان في ستين سبعين سنة من طاعات وقربات حتى يستحق جنة إلى أبد الأبدين فيها (ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ) فمن هنا جاء الميراث (أَوْرَثَنَا ٱلْأَرْضَ) الأرض هنا هي الجنة وقال تعالى:

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّٰلِحُونَ(105)
(سورة الأنبياء)

وهنا أيضاً قال ابن عباس: الأرض هي الجنة، الأرض فيها تربة والنبي -صلى الله عليه وسلم-قال عن الجنة تربتها مسك، فالجنة أرض (أَوْرَثَنَا ٱلْأَرْضَ) أي أعطانا من غير حق لنا فيها أعطانا الجنة.
(نَتَبَوَّأُ) التبوء: هو السكنى والنزول في المكان، (نَتَبَوَّأُ) أي ننزل فيها، (مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ) يعني لك مطلق الحرية في الحركة في الجنة فجعلها الله لك منزلاً يوم القيامة (نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَٰمِلِينَ) الذين عملوا لهذا اليوم فالجنة تحتاج إلى عمل، صحيح أن العمل ليس ثمناً للجنة لكنه سبب لدخولها، هذا معنى قوله-صلى الله عليه وسلم-:

{ فإنَّه لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ قالوا: ولا أنْتَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ منه برَحْمَةٍ }

(أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين )

كيف نوفّق بين هذا وبين قوله تعالى: (تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بسبب عملكم؟ الجنة محض فضل من الله تقدم سببها لكنك لا تقدم ثمنها، فإذا قال لك إنسان: أعطني القلم الذي في جيبك وانزل خذ سيارتي ثم جلست في مجلس فقلت: اشتريت اليوم سيارة، قال لك إنسان: وماذا دفعت ثمنها؟ قلت: قلم، يضحكون عليك، القلم ثمن السيارة ؟! لكن هو جعله سبباً، هو أحب القلم وأراد أن يكرمك بسيارته ويهبها لك فقال لك: هات القلم، فالقلم سبب لو لم تعطه القلم ما أعطاك السيارة، لكنه سبب لها وليس ثمناً لها، فإن قال: دفعت ثمنها يضحكون عليك، والجنة ثمنها ليس العمل إذ لا ثمن لها وإنما هي فضل من الله تعالى ورحمة، لكن لابد من أن تقدم سببها وهو العمل فقال: (فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَٰمِلِينَ)، ونعم: للمدح عكس بئس للذم.

الملائكة حول العرش:

وَتَرَى ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ(75)

(وَتَرَى ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ) وترى يامحمد-صلى الله عليه وسلم-فالخطاب له وكلنا –إن شاء الله-سنرى هذا المشهد الجميل، (وَتَرَى ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ حَآفِّينَ) حافين: من حواف الشيء وهو جوانبه فعندما يحفّه يكون حوله على جوانبه.
التسبيح هو تنزيه وحمد معاً
(حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ) عرش الرحمن – جل جلاله-، (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) الباء هذه اسمها في العربية باء الملابسة، (يُسَبِّحُونَ) ينزّهون الله تعالى ويمجدونه ويقدسونه، ويلابس في الوقت نفسه يلابس هذا التسبيح حمد لله تعالى، فهو تنزيه وحمد معاً، عندما تقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، يعني تنزّهه وأنت تحمده على نعمائه معاً.
(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ) بينهم: أي بين الملائكة، وقال بعضهم: بل قُضي بينهم بين أهل الجنة وأهل النار وغير ذلك، لكن السياق (قُضِىَ بَيْنَهُم) الملائكة لأن الملائكة في الأصل مراتب ، هناك الملائكة العالون، هؤلاء الذين لم يُؤمروا بالسجود لآدم قال:

قَالَ يَٰٓإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ(75)
(سورة ص)

أنت أُمرت بالسجود مع الملائكة، إبليس كان يسمى طاووس الملائكة هو ليس ملاكاُ، قال تعالى:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لِءَادَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِۦ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلًا(50)
(سورة الكهف)

ولو كان ملكاً لما عصى ربه لأن ما عنده تكليف، إبليس من الجن، لكن جلس مع الملائكة وتباهى عليهم وكان هو له مكانة حتى سُمي بطاووس الملائكة لكنه عصى ربه فأصبح إبليس اللعين، ليس بين الله تعالى وأحد من خلقه نسب ولا قرابة، فالملائكة منهم العالون، فلما أُمر بالسجود أُمر مع الملائكة لذلك قال تعالى:

فَسَجَدَ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)
(سورة ص)

فيتوهم البعض أن إبليس منهم، هو لأنه أُمر معهم فاستُثني منهم، كما تقول في الصف: جاء الطلاب إلا معلمهم، فهل المعلم طالب؟ لا، لكن المعلم مع الطلاب فاستُثني منهم، هذا يسمونه استثناء منقطع، فإبليس ليس مَلكاً ولكنه أُمر بالسجود مع الملائكة فأبى، فالملائكة منهم العالون ومنهم غير ذلك ممن أُمروا بالسجود لآدم، ومنهم الكرام الكاتبون، ومنهم الحفظة، ومنهم ومنهم .... فهم أيضاً أصناف عند الله تعالى، فيُقضى بينهم بحيث يأخذ كل منهم مكانه وأجره في الجنة، حتى الملائكة يُقضى بينهم فيأخذ كل منهم موقعه في جنان الله تعالى، هم كلهم في الجنة، لكن يُقضى بينهم بالحق أيضاً فيأخذ كل منهم مكانه.

حمد الله تعالى:
المؤمنون يحمدون الله على ما أنعم به عليهم
(وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ) أيضاً قيل لم يسمَّ فاعله، فمن القائل؟ لو أراد الله أن يسمي فاعله لقال، وقال بعضهم: وقال الله: الحمد لله رب العالمين؛ لأنه لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، فيثني على نفسه، ولو قلنا: الملائكة، لقال تعالى: وقال الملائكة: الحمد لله رب العالمين، وهم الآن يطوفون حول العرش ويسبحون بحمد ربهم، ولو قلنا: قال الطائعون المؤمنون: الحمد لله رب العالمين لصح ذلك، فالمؤمنون يحمدون الله على ما أنعم به عليهم، وقد قالوا قبل قليل:(ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُۥ ) فالآن يؤكدون ويقولون : الحمد لله رب العالمين، أُطلقت وكأن صوتاً ما سيملأ هذا الموقف المهيب بالحمد لله تعالى وكأنك لا تعرف مصدره لتقول: إن كل من في هذا الموقف سيحمد الله تعالى، كل من في الموقف على عدله، على حكمته، على جنته، على ناره، لأن من استحق النار استحقها بعدله-جل جلاله-ومن استحق الجنة استحقها بفضله، فيُحمد على العدل ويُحمد على الفضل، ويُحمد على العقاب ويُحمد على الثواب، وقد ورد في بعض الآثار: (إن العار ليلزم العاصي حتى الكافر حتى يقول: يا رب لإرسالك بي إلى النار أهون عليّ مما ألقى، وهو يعلم ما بها من شدة العذاب).
فالحمد هنا يشمل كل المخلوقات، كل ما خلقه الله تعالى وكأنما الكل بصوت واحد يقول: الحمد لله رب العالمين، فالحمد أول الأمر وآخره، مبتدؤه ومنتهاه، لذلك ما أنعم الله تعالى على عبد من نعمة فحمد الله عليها إلا كان حمده على النعمة أفضل من النعمة؛ لأنك إذا شربت الشربة فقلت : الحمد لله ،فالشربة ذهبت ولن تعود لكن الحمد بقي إلى يوم القيامة، فالحمد أفضل من النعمة، فالذي تأتيه النعمة فلا يحمد الله عليها فقد فوّت الباقي وانشغل بالفاني ، أما المؤمن فيحمد الله على كل نعمائه بل يحمد الله على ضرائه كما يحمده على سرائه، فإذا جاءه شيء من السوء أو مسّه شيء من الضرّ قال: الحمد لله، يحمد الله على كل شيء لأن الحمد يدوم لكن البلاء يزول، والحمد يدوم لكن النعمة تفنى، فالحمد أهم من كل شيء، فلذلك آخر الأمر وآخر كلمة تُقال بعد أن يدخل في الحساب أن يُقال في السماء والأرض : الحمد لله رب العالمين، وبعدها نعيم لا ينفد، ونار لا ينفد عذابها- العياذ بالله تعالى- (وَقِيلَ) ولم يسمَّ فاعله (ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ)، والحمد لله رب العالمين