الأسلوب القرآني في سورة الحجر بين الممكن العقلي والمحسوس المادي
الأسلوب القرآني في سورة الحجر بين الممكن العقلي والمحسوس المادي
الأستاذة هناء:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الخلق أجمعين. |
مُستمعينا نُحييكم في هذا اللقاء الطيِّب من برنامج التأملات والأنوار لألطاف آيات القرآن الكريم، في برنامجكم نوافذ دينية، فحيّاكم الله. |
مُستمعيَّ الكرام تحدثنا في حلقتنا السابقة عن سورةٍ ارتبط نزولها بآيةٍ عظيمة أحدثت فرقاً في حياة الحبيب صلوات ربّي وسلامه عليه، وفي حياة الصحابة رضي الله عنهم، كان يُلاحقه الأذى والاستهزاء حتى نزلت هذه الآية، وكانت السبب في دعوته الجهرية، هذه السورة والتي ما زلنا نتحدث عنها ونتفيأ ظلالها هي سورة الحجر، وأمّا الآية فهي قوله تعالى: |
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ(94)(سورة الحجر)
في هذه السورة يُسلّي الله رسوله الكريم ويوجهه إلى الإصرار على الحقّ الذي معه، والصدع به بقوةٍ في مواجهة الشرك وأهله، والصبر على بُطئ الاستجابة ووحشة العزلة وطول الطريق، ونحن نؤكد على هذه السِمة في القرآن الكريم كما بيَّنها علماؤنا الأفاضل، سِمة الواقعية الحركية، لأنها في نظرنا مفتاح للتعامل مع هذا الكتاب وفهمه، وإدراك معانيه ومراميه وأهدافه. |
مستمعينا للحديث بقية عن موضوعات وألطاف سورة الحجر، نكملها مع ضيفنا فضيلة الداعية الدكتور بلال نور الدين أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسُنَّة، أستاذ التفسير وعلوم القرآن، عضو رابطة علماء الشام، المشرف العام على الموقع الإلكتروني لفضيلة العالم الجليل الدكتور محمد راتب النابلسي. |
حيَّاكم الله دكتور وأهلاً ومرحباً بكم. |
الدكتور بلال نور الدين:
حيَّاكم الله أستاذة هناء، وحيَّا الله جميع المستمعين الكرام، وشكراً لهذه الاستضافة. |
الأستاذة هناء:
بارك الله بكم، دكتور وقبل البدء في حديثنا عن تأملات السورة العظيمة، وتعقيباً على ما جاء في هدف هذه السورة نودّ ربط هذا الهدف، المواساة لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بالأحداث الجارية الآن، صبر، ثبات، أهلنا في غزَّة، ماذا تقول لهم من خلال هذا الثبات، وهذا الصبر على المواجهة للشرك والكفر وأهله، والصبر على بطئ الاستجابة ووحشة العزلة وطول الطريق؟ تفضل يا دكتور. |
مهما طالت المحنة لا بدَّ أن تأتي المنحة الربانية:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، وشكراً لهذه اللفتة الطيَّبة، فالحديث دائماً ينبغي أن يرتبط بطريقةٍ أو بأُخرى بما يُعانيه أهلنا في غزَّة، ونحن نستيقظ كل صباح على أخبارٍ مفجعة من القِطاع يندى لها الجبين، جبين الإنسانية، وما فيها من بطشٍ وظُلمٍ وطغيان، وكما تفضلتِ فإن الله تعالى يواسي نبيَّه، والله تعالى يقول: |
لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(21)(سورة الأحزاب)
وبما أنَّ نبينا أسوة فإنه يقول: |
{ لقد أُخِفتُ في اللَّهِ وما يُخافُ أحدٌ . ولقد أوذيتُ في اللَّهِ وما يُؤذى أحدٌ . ولقد أتت عليَّ ثلاثونَ من بينِ يومٍ وليلةٍ وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأْكلُهُ ذو كبدٍ إلاَّ شيءٌ يواريهِ إبطُ بلالٍ }
(أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه)
فقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم المِحنة التي جاءت بعدها المنحة الربانيّة، وإن مِحنة أهلنا في غزَّة قد طالت مع تخاذل العالم المنافق الذي يدَّعي الحقوق، فطالت محنتهم ولم يجدوا لهم ناصراً إلا القليل، لكن أملنا بالله تعالى أنَّ المنحة قريبةٌ إن شاء الله، فإن أشدَّ ساعات الليل حلكةً هي تلك التي تسبق بزوغ الفجر، والله تعالى يتخذ من عباده شهداء، وهو يتخذ الآن من أهل غزَّة الشهداء الكرام الذين ارتقوا أول أمس في صلاة الفجر وهم بين يدي ربهم، فهؤلاء والله لا نحزن عليهم وإنما نعتزّ ونرفع رؤوسنا بهم فقد ذهبوا إلى خالقهم، وإنما نحزن إن لم يُهيئ الله لنا سبيلاً لنصرتهم، فندعو كل قادرٍ أن يمدَّ يد العون لهؤلاء، وكل إنسانٍ أن يدعو لهم إن شاء الله بالنصر والفرج القريب. |
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4)(سورة محمد)
فنحن الآن في مرحلة الابتلاء، والله يبلوهم بنا ويبلونا بهم، ونسأل الله أن ننجح في هذا الابتلاء، وأمّا تتمة الآية فتأخذ بالألباب: |
وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ(5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ(6)(سورة محمد)
الأستاذة هناء:
سبحان الله، إن شاء الله هذا الابتلاء يكون قبل التمكين، وسُئل الشافعي كيف نُمكَّن؟ قال: " لن تُمكَّن قبل أن تُبتلى" إن شاء الله أن تكون هذه من درجات التمكين يا رب. |
نعود يا دكتور لنتحدث عن أولى محاورنا في هذه الحلقة، نبدأ من حيث انتهينا في الحلقة السابقة عندما كنّا نتحدث على أنَّ الاستهزاء كان عن طريق مخاطبة النبي عليه الصلاة والسلام بصفة التسجيل، وكأنهم لا يعرفون اسمه، ثم اتهامه بالجنون ثم الكذب، نعود هنا إلى المواساة كما ذكرنا في المقدمة. |
السؤال: كيف واسى الله تعالى رسوله بعد ما رأى الكِبر العنت في هؤلاء القوم الكافرين، وهذه سُنَّة الأولين، وكما ذكرنا طلبوا رؤية الملائكة، ثم الحديث عن السحر وما إلى ذلك في هذه الآيات الكريمة، ونحن نتحدث هنا عن الآيات من الآية العاشرة وحتى الخامسة عشرة تفضل. |
أعظم مواساة من الله لنبيه أن يذكر له أخبار الأولين:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم بارك الله بكم، الحقيقة أنَّ المواساة وأعظم المواساة أن يَذكُر الله تعالى لنبيه أخبار الأولين، فالإنسان بطبيعته إذا أُصيب بمصيبةٍ فإنه إذا وجد له مثلاً في قومٍ آخرين، أو في سابقين له، فإنه يقوى ويشتَّد بهم، فالإنسان قويٌ بأخيه، والمرء ضعيفٌ بنفسه، هذه سُنَّة الحياة، فالله تعالى في قرآنه يُعلمنا طريقة المواساة، ونحن عندما واسينا قبل قليل أهلنا في غزَّة في مُصابِهم، كان لنا في رسول الله الأُسوة الحسنة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان له في الأنبياء السابقين، وفي السُنَّن، والسُنَّن تعني القوانين الماضية التي لا تتخلف، فإنَّ الله تعالى لمّا أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم وقال له ورقةُ بن نوفل: ليتني أكون حيَّاً إذ يُخرجك قومك، استغرب النبي صلى الله عليه وسلم ولماذا يُخرجني قومي؟! قال أوَ مُخرجي هُم؟! |
{ عَنْ عائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أنَّها قالَتْ: أوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيا إلَّا جاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلاءُ، وكانَ يَخْلُو بغارِ حِراءٍ فَيَتَحَنَّثُ فيه - وهو التَّعَبُّدُ - اللَّيالِيَ ذَواتِ العَدَدِ قَبْلَ أنْ يَنْزِعَ إلى أهْلِهِ، ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِها، حتَّى جاءَهُ الحَقُّ وهو في غارِ حِراءٍ ، فَجاءَهُ المَلَكُ فقالَ: اقْرَأْ، قالَ: ما أنا بقارِئٍ، قالَ: فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي ، فقالَ: اقْرَأْ، قُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي ، فقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أرْسَلَنِي ، فقالَ:{اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ (2) اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ} [العلق: 1- 3] فَرَجَعَ بها رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَرْجُفُ فُؤادُهُ، فَدَخَلَ علَى خَدِيجَةَ بنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فقالَ لِخَدِيجَةَ وأَخْبَرَها الخَبَرَ: لقَدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي فقالَتْ خَدِيجَةُ: كَلّا واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ، فانْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ بنِ أسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وكانَ امْرَأً تَنَصَّرَ في الجاهِلِيَّةِ، وكانَ يَكْتُبُ الكِتابَ العِبْرانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بالعِبْرانِيَّةِ ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَكْتُبَ، وكانَ شيخًا كَبِيرًا قدْ عَمِيَ، فقالَتْ له خَدِيجَةُ: يا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أخِيكَ، فقالَ له ورَقَةُ: يا ابْنَ أخِي ماذا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَبَرَ ما رَأَى، فقالَ له ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي نَزَّلَ اللَّهُ علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فيها جَذَعًا، لَيْتَنِي أكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ، قالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ، وفَتَرَ الوَحْيُ . وقال : يونس ومعمر (بوادره) }
(أخرجه البخاري ومسلم)
يعني ما الذي أفعله؟ آتي لأخرجهم من الظلمات إلى النور، فيُخرجوني من بلدي ومن وطني ومن مرتع صباي، (أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ قالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ) هذه سُنَّة. |
فالله تعالى عندما يواسي نبيه في هذه الآيات يُبين له قَصَص السابقين |
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ(13)(سورة الحجر)
هذه سُنَّة. |
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ(10) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(11)(سورة الحجر)
فكما وصفوك بالجنون، وبساحر، والقرآن الكريم من العجيب أنه يُثبت ذكر هذه التُهم، يذكرها في كتابه، يذكر أنهم وصفوه بكذا وكذا حاشاه صلى الله عليه وسلم، لماذا يذكرها في كتابه؟ يعني أستاذة هناء أنا اليوم إذا أردت أن أكتب سيرةً ذاتية تتعلق بي، وهناك شخصٌ ما نكِرة قد قال عني شيئاً سيئاً زوراً وبُهتاناً، أأُثبت ذلك في سيرتي أم أتجاهله؟ الله تعالى يُثبت ذلك في كتابه ليكون سلوى لكل من يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فيدعو إلى الله فيوصف ويُتهَم بما اتُهِم به رسول الله، أو أقل من ذلك أو أكثر، فالله تعالى بيَّن أنه اتُهِم صلى الله عليه وسلم، هذه التُهم مواساةً أيضاً لمن بعده، وذكر له من كان قبله من الأولين وكيف كذَّبهم قومهم، ثم علا صوت الحقّ في النهاية، وانتصر الحقّ، وانتصر أهل الحقّ، ليُسلّي عنه ويُخفف عنه، أيضاً ذكر مصير المُكذبين وهذا أمرٌ مهم جداً. |
الدين هو الإيمان بالغيب:
ذكرتِ أستاذة هناء جزاكِ الله خيراً ذكرهم لإنزال الملائكة، وذكرهم للصعود في السماء كما قال تعالى بعد ذلك: |
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ(14)(سورة الحجر)
وهنا أيضاً ملحظان مهمان جداً، الملحظ الأول أن أصل الدين هو الإيمان بالغيب، فالله تعالى في مُفتتح سورة البقرة أول ما ذكر من صفات المُتقين قال: |
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)(سورة البقرة)
فالدين هو أن يؤمن الإنسان بالغيب، عالم الشهادة عالم محسوس، ما الفائدة أن أقول لكِ الآن أنا أؤمن بهذه الطاولة التي أمامي، أيُّ إيمانٍ هذا؟! فالطاولة أمامي أنا أراها ومن معي يراها، فأيُّ فائدة في هذا الإيمان؟ أن أؤمن بشيءٍ أراه بعيني، الإيمان هو أن أؤمن بشيءٍ غاب عن نظري ولكنه جاءني بالخبر الصادق عن ربّي، فهذا هو الإيمان بالغيب، فلمّا أرادوا شيئاً من عالم الشهادة فقالوا: نريد أن تنزل الملائكة إلينا، ماذا قال تعالى في نهاية الآية؟ قال: |
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ(8)(سورة الحجر)
الإنظار هو الإمهال، سُنَّة الله تعالى في الحياة أنه إذا نزلت الآية التي تُرى عياناً ومشاهدةً فليس بعدها وقتٌ للإيمان، إمّا أن تؤمن فوراً، أو أن يأتيك العذاب والعياذ بالله، أمّا نحن لماذا يُمهلنا ربنا ويُعطينا الوقت الطويل؟ نعصي ويتركنا ويتوب علينا، ويُمهلنا لأننا نتعامل مع الغيب، لمّا الحواريون طلبوا شيئاً من عالم الشهادة، أن يُنزل الله عليهم مائدةً من السماء، قال لهم عيسى عليه السلام: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. |
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(112)(سورة المائدة)
فماذا قال الله تعالى بعد ذلك؟ قال: |
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ(115)(سورة المائدة)
الإيمان يتعلق بقرار الإنسان وليس برؤيته للشهادة:
إذاً نحن في بحبوحة لأننا في عالم الإيمان بالغيب، هذه بحبوحة عظيمة لا ينبغي أن نتجاهلها، الملحظ الثاني: أنَّ الإيمان قرار في داخل الإنسان، لا يتعلق برؤيته للشهادة وإنما يتعلق بقراره، لذلك قال تعالى: |
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ(14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ(15)(سورة الحجر)
طبعاً الآية فيها جانب من الإعجاز العلمي وهو الظلام في الفضاء الخارجي، لكن المعنى البسيط المُتبادر إلى الذهن أنَّ هؤلاء لو فتح الله عليهم باباً من السماء، والسماء بناء مُحكم فسمّاه باباً من السماء (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) صعدوا إلى السماء ورأوا الآيات العظيمة (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) لا نرى شيئاً (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ) إذاً الإيمان قرار، فلو نزلت الآيات، ولو شاهد الإنسان الآيات بأُمِّ عينه، إن لم يكن في داخله قرارٌ بالإيمان فإنه لن ينفعه ذلك شيئاً. |
الأستاذة هناء:
نعم بارك الله بكم، وأنت تتحدث عن الغيب يا دكتور، عاد القرآن ولفت نظرهم للغيب مرةً أُخرى، ولكن هنا انطلاقاً من مبدأين أو من نقطتين هي المحسوس المادي والممكن العقلي، لذلك بدأت الآيات بذكر السماء وما فيها، وهذا محسوس نراه بالعين والعِلم الحاصل بالرؤية هو الذي نُسمّيه باليقين، الجمالية هنا يا دكتور أنه مزج هذا اليقين المستحصل بظاهرة تجمع بين المحسوس المادي مثل الشُهب، وهي حقيقة يراها الناس والغيب من خلال تقديم تفسير له يقع في باب الممكن، إذاً هنا نتحدث عن هذا المحسوس وعن موقف الكفار والذي فيه الإنكار والتكذيب، هنا كيف مزج ربُّ العالمين هذا المحسوس المادي والممكن العقلي، نودّ إلقاء الضوء على هذه اللطيفة يا دكتور تفضل. |
النظر والأثر والخبر مزج الله تعالى بها المحسوس المادي والممكن والعقلي:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة أنَّ علاقتنا باليقين أو علاقتنا بالمعلومة التي تأتينا ينتظمها قانون يتألف من ثلاث كلمات: وهي نظر، أثر، خبر، النظر هو المحسوس، الذي أراه بعيني، أسمعه بأذني، أعظمه ما أراه بعيني فنُسمّيه نظر، الثاني هو الأثر وهو الذي أشرتِ إليه بالممكن العقلي، بمعنى أنَّ البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فكل شيء يدل على شيء، فشيء لا أراه بعيني لكن أستدل على وجوده بعقلي من الموجودات، والثالث هو الخبر وهو الشيء الذي لا علاقة للمحسوس به، ولا علاقة حتى للعقل به، وإنما يأتيني عن طريق الخبر الصادق، فإن كان المُخبر صادقاً آمنت به، كما حصل مع سيدنا أبي بكر الصديق لمّا قالوا له إنَّ صاحبك يزعم أنه أُسريَّ به إلى بيت المقدس ثم عُرِج به إلى السماء، لم يتردد ثانيةً، ما قال دعوني آخذ وقتي حتى أسأله، قال إن كان قال، أنا مشكلتي مع النقل الذي عندكم، لكن إن ثبت أنه قال فقد صدق، فلذلك سُمّي الصديّق، لأنه يُصدِّق بالخبر بالغيب، بالنقطة الثالثة، فهي نظر، أثر، خبر. |
{ لما أُسرِيَ بالنبيِّ إلى المسجدِ الأقْصى، أصبح يتحدَّثُ الناسُ بذلك، فارتدَّ ناسٌ ممن كانوا آمنوا به، وصدَّقوه، وسَعَوْا بذلك إلى أبي بكرٍ، فقالوا: هل لك إلى صاحبِك يزعم أنه أُسرِيَ به الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ؟ قال : أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدَقَ، قالوا : أو تُصَدِّقُه أنه ذهب الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ و جاء قبل أن يُصبِحَ؟ قال: نعم إني لَأُصَدِّقُه فيما هو أبعدُ من ذلك، أُصَدِّقُه بخبرِ السماءِ في غُدُوِّه أو رَوْحِه ، فلذلك سُمِّي أبو بكٍر الصِّديقَ }
(الألباني السلسلة الصحيحة)
فأشرتِ أنتِ إلى أنَّ الآيات هنا بعد الإيمان بالغيب جاءتهم بالنظر، يعني ليس كل شيء هو عالم غيب بالنسبة لنا، نحن خلق الله تعالى لنا هذا الكون بما فيه، ننظر إلى السماء هذا محسوس، ننظر إلى الشُهب هذا محسوس. |
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ(19)(سورة الحجر)
هذا محسوس (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) نرى الجبل بأُمّ أعيُننا، الرواسي هي الجبال التي تُثبِّت الأرض (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) هذا النبات أو الغطاء النباتي الذي فيه من كل شيء، ما معنى من كل شيء؟ يعني أنا عندما أريد أن آكل هذا نبات، وعندما أريد أن أشرب العصائر هذا أصله من النبات، وعندما أريد أن أصنع الليف هذا أصله من النبات، وعندما أريد أن أصنع سياجاً لبيتي فهذا من النبات، فهناك نباتات للسياج، هناك نبات من أجل تنظيف الأسنان الخُلَّة السواك، فكل شيء (مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) فهنا المحسوس الذي نراه بأعيُننا، يعني نقول دائماً كما قال بعض العلماء: " حسبكم الكون مُعجزة" يعني أنت تريد مُعجزة يكفيك الكون، الكون بما فيه وفق نظامه الذي خلقه الله تعالى عليه مُعجزة. |
يعني اليوم عندما يأتي طفلٌ صغير لم يرَ في حياته عصفوراً يطير في الهواء، أول مرة ينظر من النافذة فيرى عصفوراً يطير في الهواء، يأخذ العصفور بألبابه، يعني يفتح عينيه ويعلو صوته وهو مستغرب من هذه الكتلة من اللحم التي يكسوها شيءٌ من الريش، وهي تُحلِّق في الهواء لأنها فعلاً شيء يسترعي الاهتمام، والمؤمن كالطفل يلفت نظره أي شيءٍ في هذا الكون، لا يعتاد المنظر، لا يألفه، فهؤلاء ربنا جلَّ جلاله يلفِت نظرهم، أنتم تريدون ملائكة من السماء وأنتم لو صعدتم إلى السماء لن تؤمنوا، ولكن حسبُكم الكون، حسبكم ما في الكون من آياتٍ باهرة، هذه الآيات المحسوسة تنقلكم من خلالها إلى خالقها، فالمخلوق يدل على الخالق، والصنعة تدل على الصانع، فهذا هو المحسوس والممكن العقلي الذي يُحاجج الله تعالى به هؤلاء الأقوام كثيراً في كتابه، يعني حسب الإحصائيات العلمية، يقول علماء التفسير أنَّ سُدس القرآن الكريم تقريباً، يعني ألف ومائتا آية تقريباً تتحدث عن آيات الله في الأنفُس، وفي الكون، وفي الحياة، الآيات التي تدل على وجود الله وعلى وحدانيته، وعلى كماله جلَّ جلاله، فنحن نستدل من خلالها على خالقها، من هنا كما تفضلتِ جاءت الآيات: |
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ(16)(سورة الحجر)
وما بعدها من الآيات التي تُبيِّن عَظَمة الله في الرياح، في الماء الذي أنزله الله من السماء |
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ(22)(سورة الحجر)
الأستاذة هناء:
نعم حتى نلفت نظر المستمعين نحن نتحدث عن الآيات من الآية السادسة عشر وحتى الآية العشرين، هنا لمن يتتبع معنا هذا البرنامج الطيِّب من خلال الإذاعة الكريمة. |
بارك الله بكم يا دكتور، وأنت تتحدث عن هذه اللقطات الغيبية، وجماليات حديثكم فيها يا دكتور، نجد أن القرآن الكريم أعاد مستمعيه إلى العِلم الذي كان من شأنهم أن يستخلصوه، وهو هيئة الأرض وما فيها، أسباب الرزق فيها، شواهد على الرزق ما لا تقع مسؤولية إطعامه عليهم، مثل الطيور، الحشرات، الحيوانات البرية، هذا كله يأتي تحت عنوان المحسوس المُتيقن، ثم أردفه الله تعالى بممكنات كجعل خزائن كل شيءٍ عند الله، التعرُّض للحديث عن الرياح كيف تكون لواقح، نودّ إجمال ذلك كله بحديثٍ بياني مُعجز مُتعبَد عن القرآن الكريم، ونحن هنا نتحدث عن الآيات من الآية الواحد والعشرين وحتى الآية الخامسة والعشرين، تفضل يا دكتور. |
قواعد التفكُّر والنظر التي بيَّنها القرآن الكريم:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة أننا عندما نتفكر في مخلوقات الله تعالى وننظر في هذا الكون وهذا أمرٌ إلهي، فالله تعالى قال: |
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)(سورة آل عمران)
ويتفكرون فعل مضارع، والفعل المضارع في اللغة يفيد أنَّ هذا عمل مستمر يومي، يعني ليس عملاً طارئاً تفكروا وانتهى الأمر، وإنما (وَيَتَفَكَّرُونَ) يجعلون ذلك ديدناً لهم. |
فمن قواعد التفكُّر والنظر التي يُبينها القرآن الكريم، أن نتفكر في الشيء وعدمه، وفي الشيء وخلافه، وفي الشيء وخلاف ما هو عليه، وفي الشيء وأصله، ثلاث قواعد. |
التفكر في الشيء وأصله:
في الشيء وأصله يعني مثلاً قال تعالى: |
خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)(سورة العلق)
أنا الآن أنظر إلى الطفل الذي أمامي، عينان، وشعر، وأُذنان، وكلية، وكبد، ودورة دموية، ويتكلم، وأسنان، كل هذا ما أصله؟ علق، كان علقةً تعلَّق في جدار الرحم، لتأخذ غذائها منه لأنها لا تقوى على تغذية نفسها، ثم أصبح كل هذا الجسم الكامل أمامي، هذا الشيء وأصله. |
التفكر في الشيء وعدمه:
وهناك الشيء وعدمه |
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ(30)(سورة الملك)
غار الماء في الأرض، ولم يعد هناك ماء (فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ) فلو تخيلنا الحياة اليوم بغير ماء لا يمكن أن نعيش فيها. |
التفكر في الشيء وخلاف ما هو عليه:
الثالثة الشيء وخلاف ما هو عليه، الآن الماء موجود، لكن لو كان له طعم مشكلة، لو أنَّ له لوناً، ونزل المطر واصطبغ كل شيء باللون الأحمر مثلاً، بالشيء وخلاف ما هو عليه، فهنا هذا الذي أشرتِ إليه في الآيات الكريمة فالله تعالى قال: |
وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ(21)(سورة الحجر)
آية من آيات الله أنَّ كل شيء عند الله خزائنه، الماء، النبات، الهواء، كل شيء بلا استثناء خزائنه موجودة عند الله تعالى، لكن يُنزله جلَّ جلاله بقدرٍ معلوم، فلو تفكرنا بخلاف ما هو عليه، بخلاف ما الوضع عليه، مرَّةً في الصين فيما أذكر قرأت مقال أنهم أرادوا أن يقضوا على الجرذان أعزَّكم الله، فوضعوا مواد في الصرف الصحي للقضاء على الجرذان في بعض المقاطعات، وبعد حين طافت المقاطعة بالماء الآسن، لأنهم لم ينتبهوا إلى دور الجرذ الذي خلقه الله له. |
فالمفهوم أنَّ كل شيء خلقه الله خلقه بشكلٍ موزون ( وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) الماء عندما ينزل من السماء إذا قلّ جفاف، إذا زاد طوفان، تطوف الأرض بالماء، فهذا تفكرٌ بالشيء وخلاف ما هو عليه، فربنا جلَّ جلاله خلق الكون بهذه الصورة المتكاملة الموزونة بقدرٍ معلوم، قرأت مرةً أنهم اكتشفوا سحابةً في الفضاء الخارجي يمكن أن تملأ محيطات العالم بالمياه العذبة، لو تخيلنا المحيطات كلها بالمياه العذبة، لكن الله تعالى جعل الماء بقدرٍ معلوم، قد يؤدب أقوماً أحياناً بقلة الماء ويؤدب أقوماً بكثرته في مكانٍ آخر، هذا من باب التأديب، نحن عندما نُقلِّل، يعني أنا مثلاً أقول لك ليس معي إلا دينار لماذا لم تعطني دينارين؟ لأنه ليس معي إلا دينار، لكن ربنا جلَّ جلاله (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ) فعندما يُعطيك القليل فإنه يؤدبك بذلك، وعندما يعطيك الكثير فإنه يؤدبك بذلك، فتقليله تقليل تأديب وليس تقليل عجز، حاشاه جلَّ جلاله. |
الأستاذة هناء:
نفع الله بكم يا دكتور، أنت هنا تتحدث عن أسباب حياة، فكما أنَّ هنا أسباب حياة يا دكتور، أيضاً في السورة أسباب الموت، يعني لتبسيط الفهم للمستمع، اللواقح، الماء النازل من السماء أسباب حياة، المعاكس لها أسباب موت، الكافرون يوقنون بالموت لكونه محسوس ولا يعتقدون البعث لكونه غيب، جاءت الآيات لتنقلهم من الإنكار إلى اعتقاد الممكن والذي فيه الوصول للإيمان. |
كيف تجمل لنا هذه الجماليات المتناقضة في نفس هذه الآيات بارك الله بكم يا دكتور؟ |
الذي أحياك من العدم قادر على أن يعيد بعثك:
الدكتور بلال نور الدين:
حيّاكم الله، الحقيقة كما تفضلتم يومياً وأمام أعيُننا، هناك موت وهناك حياة، فنرى الموت والحياة بأعيُننا، نراه على البشر عندما نودع شخصاً ونواريه الثرى، ونراه بأعيُننا عندما يأتي لنا طفلٌ صغير في العائلة يملأ البيت بهجةً، فالله تعالى: |
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ(19)(سورة الروم)
فالله جلَّ جلاله أعطانا أمثلة موجودة في حياتنا، فمن يُنكر البعث هو في الحقيقة يتناقض مع خبر الله، طبعاً، يتناقض مع الغيب، طبعاً، لكنه قبل ذلك يتناقض مع عقله |
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78)(سورة يس)
أنت أين كنت؟ أنت كنت في العدم وأحياك الله، فهو قادرٌ على أن يُعيد بعثك، فالله تعالى ما كلفنا عسيراً في الإيمان، الإيمان سهل بسيط، لكن العناد والكِبر والمصالح هي التي تقف غشاوةً بين العبد وربه، الموضوع ليس مجرد خبر، الخبر طبعاً أنَّ الله سيبعثنا، نحن نؤمن به، لكن هل هذا الخبر ليس له شواهد في الأرض؟ لا، له شواهد كما تفضلتِ (فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) تكون الأرض اهتزت وربت. |
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(5)(سورة الحج)
هذه حياة انتقلت من الموت، لا حياة فيها، فأصبحت فيها الحياة بقوة الله، وبقدرة الله، فكل شيء في الوجود يدل على الحياة، يدل على أنَّ الله سيبعثُنا، وسيُعيد خلقنا، لماذا نتعجب؟ يعني مثلاً أنا أقول دائماً سيدنا موسى عليه السلام لمّا ألقى العصا فتحوَّلت إلى ثعبانٍ مبين، خاف موسى عليه السلام، قال الله تعالى له لا تخف: |
قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ(68)(سورة طه)
وهم المنظر أرعبهم أنَّ العصا تحولت إلى ثعبان، لأن المادة الجامدة أصحبت حياة، أليست المادة الجامدة في كل يوم تصبح حياةً؟ أليست النطفة والعلقة تصبح طفلاً؟! ما وجه الغرابة أليست البيضة تفقس فيخرج منها الفرخ الصغير، الطير يخرج من البيضة، البيضة جماد كيف خرجت منها الحياة؟! فنحن في كل يوم نرى المُعجزة التي رآها سحرة فرعون، في كل يوم نراها ماثلةً أمام أعيُننا، نرى الأرض وهي تتشقّق ويخرج من البذرة الحياة، فكل يوم تتحول المادة إلى حياة، ولكن الذي يحول بين إيمان العبد وبين ربِّه هو الغِشاوة، غِشاوة المصالح، غِشاوة العِناد، غِشاوة الكِبر، لكن الإيمان مُيسَّر للإنسان. |
الأستاذة هناء:
وكأن المراد من هذه الآيات يا دكتور هو إشعار الناس بأنّ ما يرونه من الآيات الكونيّة هو يقين، وأنَّ ما يبدو لهم ممكن هو واقع، وأنَّ الغيب حقيقة، وكأنه يُحرِّر العقل الإنساني بأن لا يقتصر فهمه على الإدراك الحسي فقط. |
الإنسان ينتقل من النظر إلى الأثر والمؤمن ينتقل إلى الخبر:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم مئة بالمئة، وشكراً لهذه اللفتة الطيِّبة، يعني كما قلنا نظر، أثر، خبر، النظر نشترك به مع بقية المخلوقات، يعني عفواً القطة تنظر وتحس، يعني ما فائدة أن تقول أنا لا أُصدِّق حتى أرى بعيني، أنا أقول لمن يقول ذلك: إياك أن تفعل ذلك، أنت تُقلِّل من شأنك، أنت تُسوي نفسك ببقية المخلوقات، أنت إنسان انتقل من النظر إلى الأثر، أن يدلك شيء على شيء، وإن كنت مؤمناً فانتقل من الأثر إلى الخبر، نحن معلومات كثيرة لا نتلقاها من محسوسات، ولا نتلقاها من معقولات، وإنما نتلقاها من الأخبار الصادقة، فالنظر هو أدنى مستويات المعرفة، فإيّاك أن تقتصر عليه، ينبغي أن تنتقل كإنسان إلى الأثر، وأن تنتقل كمؤمن إلى الخبر. |
الأستاذة هناء:
نعم بارك الله بك، بناءً على جميل ما تحدثت به يا دكتور القرآن الكريم نقل المستمع من اليقين والممكن وقرَّبه إلى تقبُّل ما كان يظنَّه مستحيلاً وهو الغيب، إذاً هنا نتحدث عن أروع القصَص والتي تحدثت عن خلق الإنسان، سجود الملائكة، رفض السجود من قِبَل إبليس، وذِكر قصص الأنبياء، كل هذه القصَص ما هي الغاية من وجودها مع بعضها البعض في سورة الحجر؟ |
القرآن الكريم دائماً يمزج بين المعلومة المجردة والقصة للوصول إلى الإيمان:
الدكتور بلال نور الدين:
جزاكم الله خيراً، الحقيقة بدايةً القصة في القرآن بشكلٍ عام، وضَّح الله تعالى أسباب ذكرها فقال: |
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(111)(سورة يوسف)
أصحاب العقول السليمة ينتفعون بهذه العِبر، ولمّا بيّن الله تعالى أهمية الإيمان بالغيب، ثم بيّن جلَّ جلاله المحسوسات التي تنقل المؤمن إلى نوعٍ من الإيمان وهو الإيمان الاستدلالي الذي يستدل الإنسان به من خلال الموجودات على الأشياء التي لا يدركها ببصره أو بحواسه، كان لا بُدَّ أن يذكر الله تعالى القصة، لأنَّ القصة هي حقيقةٌ مشاهدة، هي حقيقةٌ مع البرهان عليها، هي أشخاص، وبيئة مكانية وبيئة زمانية، فالقصة تُقرِّب المعلومة وتنقلها من المجرد إلى المحسوس أكثر، كل هذه القصص ستساعد المؤمن على الإيمان، ستساعد المؤمن، طبعاً المؤمن الراغب في الإيمان، على أن يصل إلى الله تعالى. |
فدائماً القرآن الكريم يمزج بين المعلومة المجردة، الشيء المحسوس، القصة وهذا أسلوب الدُعاة، كان من الممكن أن يكون القرآن عبارة عن أجزاء، جزءٌ قصصي، وجزءٌ كوني وجزء أحكام، يعني سور خاصة لكل نوع من الأنواع، لا، أراد الله تعالى أن تكون السورة الواحدة فيها آيات كونية تدل على وجود الله، فيها دعوة إلى الإيمان، فيها قصص للأقوام السابقين، تتمازج هذه الأمور جميعاً لتؤدي غرضاً واحداً وهو الوصول إلى الإيمان والتوحيد، فكما تعلمون وأظنّ أنكم أسلفتم ذلك في الحلقة الماضية، سورة الحجر تسعٌ وتسعون آية مكيَّة، وهدف القرآن المكيّ الأساسي ويأتي بعد ذلك بعض المحاور الفرعية، لكن الأساسي هو التوحيد، الأساسي هو المعاد واليوم الآخِر، ومصير المُكذبين، والآيات الكونية التي تدل على وجود الله، وهذا متوافر بشكلٍ كامل في سورة الحجر. |
من لا يتبع الهدى فإنه حتماً مُتبعٌ للهوى:
وكما تفضلتِ القصة الأولى التي ذكرها الله تعالى هنا هي قصة بداية الخلق، قصة آدم عليه السلام وبداية خلقه، لأنَّ بداية خلقه تدل على بداية خلقنا، ابتدأ الله تعالى هنا الآيات: |
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ(26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ(27)(سورة الحجر)
الجان من نار والإنسان من طين، ثم قال: |
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ(28)(سورة الحجر)
يُذكِّره بأصل الخليقة، ببداية الخليقة، ليستدل على خلقه من خلال بداية الخليقة، ثم ليقول له هذا أصل الخلق وهذه قصة البداية، وهي قصة نموذجية نعيشها في كل يوم، وهو بين أن تستجيب لربك أو تستجيب للشيطان، أنت بين استجابتين: |
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)(سورة القصص)
فليس هنالك حلٌّ ثالث، إمّا أنك تتبِع الهدى أو أنك تتبِع الهوى، ليس هناك حلٌّ ثالث، من لا يتبِع الهدى فأنه حتماً متبِعٌ للهوى، هذه قصة الخليقة فيبينها الله تعالى هنا في هذه السورة بشكلٍ واضح، وكيف أنَّ الكِبر والاستعلاء عن الإيمان رغم وجود الآيات، يعني إبليس هل كان ينقصه الآيات حتى يؤمن بالله؟ هم يريدون ملائكةً من السماء، هو كان يخاطب ربه مباشرة لا يُخاطب الملائكة، هو يعيش مع الملائكة، ما الذي كان ينقصه؟ يعني هذا هو الربط، هُم قالوا نريد الملائكة من السماء، هذا إبليس اللعين شاهد الملائكة وعاش معهم، لم ينزلوا عليه من السماء، وخاصم ربَّه وهو يعلم أنه عزيز، يقول له |
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)(سورة ص)
ويعلم أنَّ هناك يوماً آخِر فقال: |
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ(79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ(80)(سورة ص)
يعني هو لم يُنكِر اليوم الآخِر، قال أمهلني، فقط أعطني وقت ورغم ذلك لم يؤمن، إذاً لماذا تطلبون الآيات؟ هذا زعيمكم إبليس إن صحَّ التعبير، عاش الآيات بعينه لكنه لم يؤمن لأنه لا يريد الإيمان، فالإيمان قرارٌ ينبع من داخل الإنسان، فبيّنت هذه القصص أهمية الإيمان بالله تعالى من خلال الغيب وليس من خلال المحسوس. |
الأستاذة هناء:
نعم بارك الله بكم، وكأنك أجملت يا دكتور بأنَّ هذا الغيب لم نعلمه إلا عن طريق الرسول عليه الصلاة والسلام، من خلال القرآن، وأنَّ هناك كان مواساة فكِبر وتعنُّت إبليس بدأ من أول يوم للخلق، وفيه أيضاً بشارة للمسلمين بالنصر ولو بعد حين، فهذه أيضاً من الغايات التي ممكن أن نجملها في هذه الآيات العظيمة. |
الدكتور بلال نور الدين:
صحيح مئةً بالمئة |
الأستاذة هناء:
نأتي الآن يا دكتور وبعد هذا الحديث عن عظيم سورة الحجر، نختم الحلقة من خلال الحديث عن الآيات من الآية التاسعة والأربعين وحتى الآية الخمسين، قوله تعالى: |
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ(50) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ(51)(سورة الحجر)
تتعلق هاتان الآيتان بالمغفرة ثم الرحمة، وفي ثانيهما بالعذاب، ثم مباشرةً يأتي الحديث عن ضيف إبراهيم ولوط عليهما السلام، ما ألطاف هذه الآيات؟ لِمَ قدَّم المغفرة على الرحمة؟ لِمَ أتى بعدها مباشرةً الحديث عن العذاب الأليم، ثم بالترتيب بعدها الحديث عن ضيف إبراهيم تفضل يا دكتور. |
أصل العلاقة مع الله هي الرحمة فهو جلَّ جلاله خلقنا ليرحمنا:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة أنَّ الإنسان يطير إلى ربِّه بجناحين، جناح الرغبة، وجناح الرهبة، والرأس هو منهج الله تعالى، فإنه لا ينبغي أن يطغى جانبٌ على جانب، وأي دعوةٍ تقتصر على الترغيب دون الترهيب، فإنها تؤدي إلى طمع الناس بربهم وغرورٍ به |
يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6)(سورة الانفطار)
غير محمود وغير مطلوب، وفي المقابل أي دعوةٍ تقتصر على ترهيب الناس فإنها أيضاً تُنشئ خوفاً مرضياً في النفوس، وعلاقةً غير سليمةٍ مع الله تعالى، لذلك: |
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ(90)(سورة الأنبياء)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ(56)(سورة الأعراف)
وهنا هذه الآية تبيِّن ذلك: (نَبِّئْ عِبَادِي) والنبأ هو الشيء العظيم، يعني أنا أخبرك بخبرٍ قد يكون سخيفاً أو غير مهم بالنسبة لك، لكنني إذا نبأتك فإني أُنبئك بشيءٍ مهمٍ جداً، (نَبِّئْ عِبَادِي) أي هناك نبأٌ عظيم. |
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ(1)عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ(2)(سورة النبأ)
(نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ) يعني إيّاك أن تتمادى في جانب المغفرة، فتأخذك الذنوب إلى مآخذ شتّى وأنت تقول الله تعالى غفورٌ رحيم، أن يركن إلى رحمة الله التي هي حقّ لكنها ليست للركون إليها، وإنما لإعداد النفس من أجل أن تستحق تلك الرحمات، طبعاً بدأ بالمغفرة لأنَّ الله تعالى يقول في الحديث القدسي: |
{ إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهو مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ }
(أخرجه البخاري ومسلم)
ولأنَّ أصل العلاقة مع الله تعالى هي الرحمة، وأرسل نبيه بالرحمة |
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ(107)(سورة الأنبياء)
فدائماً العقوبة طارئة، خلقنا ليرحمنا، خلقنا لجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض. |
إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)(سورة هود)
فنحن مخلوقون ومطلوبون لرحمة الله تعالى في الأصل، العذاب طارئ، يعني نحن عندما نُنشئ مدرسة لا نُنشئها لنُعاقب الطلاب، نحن ننشئها لتعليمهم، للنهضة بهم، ليصبحوا عناصر فعّالين في المجتمع، أليس هناك عقوبة؟ نعم، لكن الجامعة لم تُخلق للعقوبة، العقوبة طارئة وجدت من أجل تصحيح المسار |
وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21)(سورة السجدة)
فلذلك بدأ بالرحمة لأنها الأصل، ودائماً في القرآن الكريم الأصل هو الرحمة، والله تعالى خلق الكون وخلق الإنسان ليرحمه، فلذلك بدأ (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) لكن في الوقت نفسه (وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) مباشرةً حتى لا يركن الإنسان إلى رحمة ربه بطريقةٍ ساذجة غير إيمانية، غير علمية، غير مدروسة فيأتيه العذاب |
يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7)(سورة الانفطار)
قصة ضيف إبراهيم عليه السلام:
ثم يقول المولى جلَّ جلاله: (وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ) ماذا كان في حادثة ضيف إبراهيم؟ دخلوا عليه فقالوا سلاماً، فأجابهم بأحسن من تحيتهم وقدَّم لهم عجلاً مشوياً ليأكلوه، ظنَّ أنهم بشر لكنهم لم يأكلوا منه، فقال: إنّا منكم خائفون، نهوه عن الخوف، لا توجل وبشروه بغلامٍ عليم. |
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ(52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ(53)(سورة الحجر)
وهنا التبشير بغلامٍ عليم هو من رحمة الله، لأنَّ الولد رحمة، فلمّا بدأ بالرحمة جاء بالبشارة التي تناسب هذه الرحمة من الله تعالى، فالولد من أعظم الرحمات، وفي الوقت نفسه جاء بالنموذج عن العذاب عندما قال: |
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ(58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ(59)(سورة الحجر)
فالقصة هي التعبير العملي عن الآيتين: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) جاءت تماماً في القصة: ( إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) الرحمة والمغفرة والنجاة جاءت لقوم لوط، لآل لوط الذين اتبعوه وناصروه ولم يكفروا به، لكنها استثنت: |
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا ۙ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ(60)(سورة الحجر)
فالنموذج العملي في المغفرة والرحمة من الله تعالى، وفي الوقت نفسه أنَّ الرحمة والمغفرة لا تطال المُعاندين المكذبين، جاءت بشكلٍ واضحٍ في هذه السورة، وأوضح شيء على ذلك لمّا قال تعالى: |
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)(سورة الأعراف)
بمعنى لو أنني قلت هذه القاعة تتسع لألف جالس، ما شاء الله قاعة كبيرة، ألف شخص يجلسون فيها، وتتسع لهم، لكن من يريد دخولها فيجب عليه أن يمتلك بطاقة للدعوة، فإذا جاء شخص لا يملك البطاقة فلم يدخل فقال: القاعة صغيرة لم تتسع لي، نقول له لم تتسع لك! لا، بل هي تتسع لك لكن لو أنك جئت بالبطاقة لدخلت، فهي واسعة لكن لمن يملك سبباً لدخولها، فرحمة الله عزَّ وجل واسعة جداً، لكن لمن يقدِّم سبباً لتشمله تلك الرحمات، فالقصة بعد (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) هي القصة التوضيحية تماماً مئة بالمئة لِمَا حصل مع ضيف إبراهيم في البشارة والرحمة، وما حصل مع آل لوط بالنجاة، رغم أن كل الأسباب كانت مغلقة في طريقهم، ثم استُثنيت منهم امرأته لأنها لا تستحق تلك المغفرة والرحمة لكنها تستحق العذاب الأليم. |
الأستاذة هناء:
نعم بارك الله بكم، وكأنَّ هذا النموذج هو نموذج الرحمة والمغفرة، كما ذكرت أنه حتى لو كانت زوجة نبي وكانت تعيش معه في نفس البيت، فسيطالها العذاب إن بقيت على كفرها وتعنُّتها، فلن ينفعها أنها زوجة نبي. |
الله خلق الإنسان فرداً مستقلاً في دينه ومحاسب وحده:
الدكتور بلال نور الدين:
أبداً وهذا دليل أخت هناء، دليل على أنَّ الإنسان في النهاية هو فرد، الله تعالى هو الفرد جلَّ جلاله لكن أعطى الإنسان بعضاً من صفاته فهو فرد في خلقه، بصمة العين، ورائحة الجلد، وبصمة الإصبع، والــ DNA وكل شيء فيه، فيه فردانية مُعيَّنة، والله تعالى أيضاً جعله فرداً بمعنى أنه محاسب وحده: |
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)(سورة الأنعام)
فلا ينفع زوجةً زوجها، ولا ينفع زوجٌ زوجته، فهذا فرعون وزوجته مؤمنة وهو أكفر كفار الأرض، وهذا لوط نبيٌ من أنبياء الله وزوجته كافرة، وهذا إبراهيم نبيٌ من أنبياء الله ومن هو أبوه، وهذا نوح عليه السلام نبيٌ من أنبياء الله وهذا ابنه، إذاً هي بيان بأن الإنسان في النهاية يُسأل عن ذاته، وبيان أنَّ المرأة مستقلةٌ في دينها عن زوجها وعن الدنيا كلها، فلا يُقبَل منها أن تقول هكذا أمرني زوجي، زوجي لم يسمح لي بالحجاب، زوجي يأمرني بالاختلاط غير المنضبط، زوجي يريدني أن اخرج بأبهى زينة، لا يسمح لكِ بذلك، أنتِ في تدينك لك الخاصية الكاملة، وحسابك على الله وحدكِ جنَّةً أو ناراً. |
الأستاذة هناء:
نعم بارك الله بكم يا دكتور، إذاً في الحديث عن ضيف إبراهيم نأتي لختام حلقة اليوم، نكمل أنوار وألطاف سورة الحجر في حلقتنا القادمة إن شاء الله، لا يسعنا هنا إلا أن نشكر فضيلة الدكتور الداعية بلال نور الدين الشكر الجزيل، نفع الله بكم يا دكتور وزادكم الله من علمه ومن فضله، شكراً جزيلاً لكم. |
الدكتور بلال نور الدين:
عفواً بارك الله بكم وشكراً لإذاعتكم الكريمة. |