آيات تدل على عظمة الله تعالى

  • اللقاء الثاني من تفسير سورة المؤمنون : شرح الآيات 17-30
  • 2024-08-03

آيات تدل على عظمة الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم عَلِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا عِلماً وعَملاً مُتقبّلاً يا ربَّ العالمين، مع اللقاء الثاني من تدبُّر سورة المؤمنون، ومع الآية السابعة عشرة وهي قوله تعالى:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
(سورة المؤمنون)

بعد أن ذكر المولى جلَّ جلاله سبعة مراحل يمر بها الجنين وهي: سلالة من طين، نطفة، علقة، مُضغة، عظام، لحم

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
(سورة المؤمنون)


للعدد سبعة شأنٌ في كتاب الله تعالى؟
فناسب أن يذكر أنه خَلَق فوق هذا المخلوق الذي خُلِق في سبعة مراحل، خَلَق فوقه سبع طرائق، وطرائق جمع طريقة وهذه السماوات بما فيها تُطرَق بالملائكة، فسُمّيت طرائق، وقال بعضهم: هي السماوات نفسها، وقال بعضهم: بل هي الطُرق التي هي أفلاك السماوات التي تدور فيها السماوات، الأفلاك، فعلى كل حال هي إشارة إلى سبع سماوات، والله تعالى يُشير في كتابه إلى أنه خلق سبع سماواتٍ في أكثر من موضع، والعدد سبعة له في كتاب الله تعالى شأن، يعني ربنا عزَّ وجل يُكرر ذكر العدد سبعة في كتاب الله، حتى ذهب بعضهم إلى أنَّ المراد به التكثير وليس مدلول العدد، العدد أحياناً يكون له مفهوم وأحياناً لا يكون له مفهوم، مثلاً قوله تعالى:

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
(سورة التوبة)

النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب، عَلِم أنَّ هذا العدد ليس له مفهوم بحدِّ ذاته، بمعنى أنَّ السبعين لا يُغفر لكن الواحد والسبعين يُغفر فقال:

{ لمَّا تُوُفِّيَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ دُعِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للصَّلاةِ عليه؛ فقامَ إليه، فلمَّا وقَفَ عليه يُريدُ الصَّلاةَ تحوَّلْتُ حتَّى قُمتُ في صدرِهِ، فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ أَعَلَى عدُوِّ اللهِ عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ القائلِ يومَ كذا: كذا وكذا؟ يَعُدُّ أيَّامَهُ، قال: ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يتبسَّمُ، حتَّى إذا أَكْثَرْتُ عليه قال: أَخِّرْ عنِّي يا عمرُ، إنِّي قدْ خُيِّرْتُ فاخترْتُ، قد قيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، لو أعلَمُ أنِّي لو زِدْتُ على السَّبعينَ غُفِرَ له لَزِدْتُ، قال: ثمَّ صلَّى عليه، ومَشَى معه، فقام على قبرِهِ حتَّى فرَغَ منه، قال: فعَجَبٌ لي وجُرْأَتي على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، فواللهِ ما كان إلَّا يسيرًا حتَّى نزلَتْ هاتانِ الآيتانِ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] إلى آخِرِ الآيةِ، قال: فما صلَّى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعدَه على مُنافِقٍ، ولا قام على قبرِهِ، حتَّى قبَضَهُ اللهُ. }

(صحيح الترمذي)

لكن القضية ليست في السبعين، كما تقول الأم لابنها: قلت لك سبعين مرة، وسبعمائة مرة، وسبع مرات لا تفعل كذا وهي تريد العدد الكثير، على كلٍ العدد سبعة فعلاً له شيء في ديننا، الطواف سبع مرات، هذه السورة مثلاً ذكرت في البداية سبعة أوصاف للمؤمنين، ثم ذكرت سبع مراحل لتخلُّق الجنين، ثم ذكرت سبع طرائق خلقها الله تعالى فوقنا، ثم ذكرت سبع نِعَم أنعم الله تعالى بها علينا، بهذا التوافق أو التناسق.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) ولعل العِلم يُفصِح وهو أفصح الآن على أنَّ السماوات متعددة، طبقات، وأعظمها التي نحن كل ما وصلنا إليه وصلنا إلى السماء الدنيا.

إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
(سورة الصافات)

لكن النبي صلى الله عليه وسلم عُرِج به إلى الثانية والثالثة، ووصل إلى السماء السابعة التي تحت العرش، فهذا من علم الغيب الذي نَكِلُ فيه الأمر إلى الله تعالى، ونؤمن به على ما جاءنا.

الله قيوم السماوات والأرض لا يغفل عن خلقه فالغفلة من شأن البشر:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) الغفلة ليست من شأن الإله، لأنَّ الغفلة هي شأنٌ بشري، تقول: غَفِلت عن هذا الأمر، غَفِلت عن ابني فوقع، غفِلت عن الموعد ففاتني، لأنه يتعرض الإنسان للنسيان أو لطارئ بشري، مرض أو نحوه فيغفل عن شيءٍ في الموضوع، لكن ربنا جلَّ جلاله لا تأخذه سِنةٌ وهي الجزء البسيط من النوم، وهو أول النوم الوسن ولا نوم

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
(سورة البقرة)

فهو قيُّوم السماوات والأرض، والقيوم يعني أنه قائمٌ على السماوات والأرض، وعلى أرزاق العباد، وعلى أمر الخلق، في كل ثانية، في كل جزء من ثانية ربنا عزَّ وجل قائم، قيُّوم، كثير القيام على خلقه فلا يغفل جلَّ جلاله.
وهنا مناسبة (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) يعني أنك تنظر إلى السماء فوقك فتخاف أن يخرَّ عليك السقف، السماء سقف، جعلها الله سقفاً محفوظاً، لكنها لا تخرُّ على الخلق لأنَّ الله لا يغفل عنها

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (65)
(سورة الحج)

فالله تعالى يُمسك السماء فلا تقع على الأرض، فقال: (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)، وبالعموم (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) فهو جلَّ جلاله لا يغفل عني ولا عنك، فأعمالنا يُحصيها علينا ويُثيبُنا عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وليس بغافلٍ عن الخلق الآخر، لا عن الملائكة، ولا عن الجن، ولا عن النباتات، ولا عن الحيوانات، فهذه العبارة شاملة (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)، أنا يمكن أن أكون مُعلِّم صف وأغفل عن بعض طلابي، أو لا بُدَّ أن أغفل وليس يمكن، أنا مُدرِّس وأعرف، يعني عندي ثلاثون طالباً في الصف، إن وجهت جهدي فأوجِهه إلى زاويةٍ مُعيَّنة لمراقبة الطلاب، لكن أغفل عن البقية في هذه اللحظة التي أتوجه بها لأستمع من طالبٍ مُعيَّن، أغفل عن الثاني الذي ربما أكل طعاماً في الصف أو ضرب زميله، لأنه يشغلني شيءٌ عن شيء، هذه هي الغفلة يشغلك شيءٌ عن شيء، لكن ربنا جلَّ جلاله وسِع سمعه الأصوات

{ عَن عائشةَ ، قالَت : الحمدُ للهِ الذي وسِعَ سمعُه الأصواتَ ، لقَد جاءتِ المُجادلةُ إلى رسولِ اللَّهِ ، صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ، تُكَلِّمُه في جانبِ البيتِ ما أسمعُ ما تَقولُ فأنزلَ اللَّهُ ، عزَّ وجلَّ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ الآيةَ }

(صحيح ابن ماجه)

لا يشغله صوتٌ عن صوت، ولا بصرٌ عن بصر، فهو يُراقب عباده ويسمع أصواتهم، تذهب إلى الحج تجد مليوني حاج كلٌ يُناجي الله تعالى بلغته، لا يخطر في بال أحد الحجاج أنَّ الله الآن لا يسمعني لأنه مشغولٌ عني حاشاه جلَّ جلاله(وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)، فالله تعالى خَلَق الخلق، ورزقهم، وأعطاهم، ويُمدهم، ويسمع نجواهم، ويُربّيهم، يُربّي أجسادهم ويُربّي نفوسهم،(وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)، ثم يمتنّ الله تعالى على عباده لمّا ذكر السماوات، فما علاقتنا بالسماء؟ قال:

وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
(سورة المؤمنون)


الماء من أعظم نِعَم الله على خلقه وأنزله بقدر:
وهذه أعظم نِعَم الله تعالى على الإنسان وهي نعمة الماء، أقصِد من النِعَم المحسوسة، لأنَّ الحياة لا تقوم إلا بالماء (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ) بقدر: بمعنى أنَّ هذا الماء لا يكثر فتطوف الأرض، ولا يقلُّ فيعطش الناس، وبقدر معناها فيها حكمة، قد يُقدِّر الله تعالى بمعنى يُضيِّق على عباده، لكن التضييق هنا يكون تضييق تأديب وليس تضييق عجز، تقليل تأديب لا تقليل عجز.

وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21)
(سورة الحجر)

فعندما نقول هذه السنة فيها جفاف فليس معنى ذلك أنَّ الماء قليل عند الله، ولكن معنى ذلك أنَّ الله عزَّ وجل يريد أن يُؤدِّب عباده بالجفاف، وقد يُرسلها طوفاناً في مكانٍ آخر ويؤدِّب عباده، يمتحنهم، يؤدِّبهم، يفتنهم.

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (131)
(سورة طه)

فربنا جلَّ جلاله يقول (بِقَدَرٍ) لا تعني بقدر أنه دائماً يأتي بالقدر الكافي، ولكنه يأتي بقدر الحكمة الإلهية فيه، فقد يزيد في مكان وينقص في مكان وهذا هو القدر الذي يريده الله تعالى منه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث وإن كان في إسناده ضعف، ولكن كَثُر على الألسنة وهو:

{ ما عامٌ بأمطرَ من عامٍ، ولا هبَّت جنوبٌ إلَّا سالَ الوادي }

(أخرجه البيهقي)

يعني كل الأعوام متساوية بالمطر، ويؤكد العِلم الحديث أنَّ كميات الهطولات التي تهطل في العالم متساوية في كل عام، فما يهطل في عام 2022 يهطل في عام 2023 ولكن هنا جفاف وهنا زيادة والأكثر ماء يكفي، ويؤدِّب البعض بالجفاف، ويؤدِّب البعض بالفيضان أو يبتليهم أو يمتحنهم، يعني لا أقول يؤدِّبهم دائماً لأنَّ التأديب يكون للمُقصِّر، أمّا الآخر قد يُمتحَن فيصبِر فينجح، فالكلمة الأدق: يبتليهم بنقص الماء ويبتليهم بكثرته.
(وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) هو الماء للأرض وليس للسماء، لذلك لمّا خلق الله الأرض خلق فيها ستة وسبعون بالمئة ماءً وجعله مالحاً.
يا رجال العلم يا ملح البلد من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد!؟
{ سفيان الثوري }

الله يُخزن الماء في الأرض ليُخرجه في الوقت المناسب:
الملح يحفظ الماء فهو لا يفسد لأن المادة الحافظة هي الملح، فجعل فيه هذه المادة الحافظة في البحار، ثم يتبخَّر فيعود إلينا ماءً عذباً يسكُن في الأرض، (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي استقر في الأرض، وسَكنُه في الأرض في قرار الأرض يشبه سكن الجنين في قرارٍ مكين كما سبق قبل ذلك في الآيات السابقة:

ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13)
(سورة المؤمنون)

(فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) كما أسكن الله النطفة في رحم المرأة، أسكن الماء في الأرض.
(وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) الماء يجري في باطن الأرض، المياه الجوفية أصلها من السماء سكنت في الأرض.
نبع الفيجة في الشام الذي يشرب منه أهل دمشق، ملايين الناس، الماء العذب الزلال منذ مئات السنين، مستودعاته في جبال لبنان، ويسري في طرائق في الأرض، وقد يكون هناك مياه مالحة ومياه عذبة، وجعل الله تعالى بينهما برزخاً، ليس في البحار حتى في الأرض، فكلٌ له مجراه، ثم يتفجر في مكان معين.

وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
(سورة الحجر)

إذا كنت فالحاً فخزِّن الماء، أنت لا تُخزِّنه الله هو الذي يُخزِّنه داخل الأرض، داخل الصخور، ثم يُخرجه لك في المكان المناسب وفي الوقت المناسب.
(وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) وجاء بالنكرة هنا لم يقل وإنّا على الذهاب به، ولكنه قال على ذهابٍ بمعنى أنَّ الله تعالى له ألف خيار، بل مليون خيار، ومليار خيار ليذهب بالماء، هذا تنكير تهويل (وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) يغور في الأرض

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ (30)
(سورة الملك)

يتوقف ماء السماء، والسَنة التي بعدها تجف الينابيع، تتوقف الهطولات المطرية بشكلٍ كامل، يحصل حرب مُعيَّنة فلا تستطيع استخراج الماء، (وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ).

نِعَم الله متعددة ومتنوعة:

فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
(سورة المؤمنون)

الجنَّات جمع جنَّة، وكما قلنا سابقاً الأصل اللغوي الجنَّة من السِتر والخفاء، فأغصان الأشجار تشابكت حتى سترت وجه الأرض، فسُمّيت جنَّة تستر من بداخلها، ظل ظليل.
(مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) جاء بمثَلين وهو مثَل النخيل الذي يُنبِت التمر والأعناب، وهي الأمثلة التي كان يُحبُّها العربي، وحتى الآن العِنَب من الفواكه التي يُضرب فيها المثَل، والنخيل التمر غذاءٌ متكامل، فجاء بنوعين (مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ) يعني تفاح، وعِنَب، وإجاص وإلى آخره...
(وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) الفواكه طبيعتها الإكرام، والأكل طبيعته الإدام، فربنا جلَّ جلاله خلق لك الخبز، كان يمكن أن يخلق الخبز فقط، يعني قمح كل النبات قمح ينزل الماء فيُنبِت القمح فندرسه ونجعل منه طعامنا وانتهى الأمر، لكن ربنا عزَّ وجل خلق لك اللحم، اللحم فيه فيتامينات مُعيَّنة، الفقير الذي لا يملِك ثمن اللحم، نفس المعادن والفيتامينات موجودة في البقوليات، يعني الحديد الموجود باللحم الأحمر موجود في العدس، بل ربما أكثر بالنبات، فنوَّع الأصناف جلَّ جلاله، وفيما بعد جعل لك الفواكه، والفواكه هي حالة رفاهية بعد الطعام، وبعدها هناك الودّ من الله تعالى، كاجو، ولوز، وفستق، وصنوبر، يعني هذا ودّ إضافي، فلمّا قال تعالى: (لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) الأكل منها، الأكل هو الأساس والفاكهة هي زيادة الإكرام من الله تعالى.

منَّ الله تعالى على عباده بشجرةٍ مباركة فيها الزيت:

وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ (20)
(سورة المؤمنون)

سيناء المنطقة المعروفة اليوم على الحدود المصرية، وفي التاريخ يقال أنَّ سيناء هي العقبة المعروفة اليوم، يعني هي بهذا المكان تقريباً، الله أعلم ما تسميتها الجغرافية لكن هي منطقة موجودة، والطور هو الجبل الموجود في سيناء الذي كلَّم الله تعالى فيه موسى تكليماً، وهذه الشجرة أصلها من هناك، شجرة الزيتون، ثم انتشرت في بلاد الشام وحول بيت المقدس بشكلٍ أكثر، وأقسم الله تعالى بها في كتابه فقال:

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
(سورة التين)

فطور سينين هو موطن التين والزيتون، فهي أصلها من هناك.
(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ) يعني هي تُنبِت الدُهن، ممكن أن نقول بمعنى تُنبِت دهناً، وهو الزيت، فالذي يُدَّهن به الزيت، أو (تَنبُتُ بِالدُّهْنِ)أي تنبت يلابسها الدهن، يعني أصلها دهن فهذه الباء للملابسة، (تَنبُتُ بِالدُّهْنِ) وكأنها تنبُت والدهن لا ينفك عنها.
(وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ) ائتِ بالخبز وهذا كان طعاماً في فلسطين وغيرها، من أطيب الطعام في فترة عصير الزيتون، أن تأتي بالخبز وتصبغه بهذا الدُهن الزيت وتأكله، وإذا كان معه زعتر يصبح أفضل.
(تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ) فيمُنُّ الله تعالى بهذه الصورة الجميلة على عباده بشجرةٍ مباركةٍ فيها الزيت، الذي هو كما يقول صلى الله عليه وسلم:

{ كُلُوا الزَّيْتَ وادَّهِنوا بِهِ فإِنَّه مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ }

(أخرجه الترمذي)

وهي الشجرة التي ضرب الله تعالى بها في سورة النور المثَل:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
(سورة النور)

فهذه الشجرة لها بركة في كتاب الله، وجزءٌ من بركتها هو الأقصى، الذي نسأل الله تعالى أن يُحرّره من أيدي الغاصبين، لأن أصل هذه الشجرة من تلك المناطق التي بارك الله تعالى بها حول المسجد الأقصى من بلاد الشام.
(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ) يعني كانوا سابقاً يُحذِّرون الناس من زيت الزيتون أنه زيت ثقيل، وأصبحوا يتحدثوا عن الزيت الفاتح وهو الزيت النباتي، ثم بعد ذلك تراجعوا لكن بعد أن غرَّروا بأجيالٍ كثيرة، أنَّ زيت الزيتون يسبب مشاكل، وتبيَّن أنَّ زيت الزيتون هو الذي يُطيل عمر الشرايين ويمنع تصلبها.
الإنسان يعني ربنا عزَّ وجل قدَّر عليه الموت وجعل لموته مخارج، فواحد يخرج بحادث سيارة نسأل الله السلامة، والآخر بمرضٍ مميت، والثالث يخرج بسقوطه من مكانٍ إلى آخر، تعددت الأسباب والموت واحد:
ومن لم يمت بالسيفِ مات بغيرهِ تعددتِ الأسبابُ والموتُ واحدُ
{ ابن نباتة السعدي }
ربنا جلَّ جلاله جعل للموت أسباباً، لكن لو أنَّ إنساناً لم يُصَب لسببٍ من الأسباب فكيف يموت؟ ما آلية الموت في النهاية؟ لأنه لا بُدَّ ميت، آلية الموت أنه يُصاب بتصلب الشرايين، بمعنى أنها لم تعد قادرة، لم يعُد فيها المرونة التي تستطيع من خلالها دفع الدم بالعروق والأوردة، تترهل إلى درجةٍ غير قادرة فلا يصل الدم إلى الجسم فيموت الإنسان، هذه الآلية الأخيرة، لأنَّ الشرايين هي قلوب، كل شريان هو كالقلب، كله مضخات عندما يصل إليه الدم يتحرك فيضخه، لمَّا يفقد المرونة يتصلب، هذا تصلب الشرايين، فالآلية التي يموت بها الإنسان تصلب الشرايين، ما هي المادة الأولى في العالم لمنع هذا التصلب؟ زيت الزيتون وليس الزيت النباتي الذي يؤدي إلى تراكمات في الجسم، فزيت الزيتون هو نعمةٌ عظيمة من نِعَم الله تعالى، ومن استطاع منكم أن يستغني به عن كل الزيوت فليفعل (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ).

الأنعام من نِعَم الله تعالى التي منَّ بها على عباده:

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
(سورة المؤمنون)

نعمة جديدة من نِعَم الله وهي الأنعام، ومن اسمها يدل على أنها نعمة، النِعَم ثلاثة الإبل، والبقر، والغنم.

حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
(سورة هود)

فربنا جلَّ جلاله من هذه الأنعام الإبل، والبقر، والغنم، جعل لنا عِبرة، وهنا ينتقل بنا المولى جلَّ جلاله، من الفائدة الدنيوية إلى الفائدة الأُخروية، من الفائدة المادية إلى الفائدة المعنوية، من الفائدة الزائلة إلى الفائدة الباقية، الناس جميعاً يشتركون بالفائدة الدنيا، كل الناس تقول له كيف الطعام؟ يقول لك: والله طعام لذيذ جداً، فهل حمدتم الله عليه؟ هل قادكم إلى المُنعِم؟ هل تفكرتم في آلاء الله؟ لا أحد خطر في باله، كم إنسان إذا اجتمع على المائدة مئة شخص من مختلف المشارب، وليس المؤمنين فقط، كم واحد إذا دخل ليأكل يقول سبحان الله العظيم الذي خلق هذه الأنواع، ثم إذا انقضى الطعام يقول: الحمد لله؟

يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
(سورة سبأ)

نسأل الله السلامة.

الحمد على النعمة أعظم من النعمة فالحمد هو الذي يبقى :
فانتقل إلى العِبرة (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً) ما هي العِبرة؟ هي العبور، العبور هو الانتقال من الرصيف إلى الرصيف الآخر تكون عبرت الطريق، والعَبرة: الدمعة سُمّيت عَبرةً لأنها تنقل مشاعرك من الداخل إلى الخارج، تعبُر، يعني إذا إنسان حزين ولم نرى عَبرته لا نعرف أنه حزين، فالعَبرة تعبُر المشاعر من داخل الإنسان إلى خارجه، والعِبرة الدرس، تنتقل من الظاهر إلى الباطن، من الحدث إلى الدرس الذي ينبغي أن تستفيده من الحدث، ولمّا قال الملك للوزراء في قصة سيدنا يوسف:

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
(سورة يوسف)

يعني تعبرون بها من خيالاتٍ وأحداثٍ لا أدري ما هي في المنام إلى واقع، اعبروا بها لي، عبَّر الرؤيا: انتقل بها من أحلامٍ إلى وقائع سيحدث معك كذا، فهو العبور، والعبّارة: اليوم يعبر بها الناس داخل البحر من مكانٍ إلى آخر، فقال: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً) يعني يجب أن تنتقل، أن تعبُر من النِعمة إلى المُنعِم، أن تنتقل من الحالة المادية وهي الانتفاع التي يشترك بها جميع المخلوقات، إلى الحالة المعنوية التي تجعلك تعرف ربك فتعبده، فتصل إلى رضاه فتستحق جنَّةً عرضها السماوات والأرض، اعبر لا تبقَ مع النعمة، اعبر إلى المُنعِم، إذا انقضت النعمة قل الحمد لله، إذا أكلت قل الحمد لله.

{ إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا. }

(صحيح مسلم)

والحمد على النعمة أفضل من النعمة لأنَّ النعمة تزول والحمد يبقى، فالحمد أفضل من النعمة، ومع ذلك الناس يبقون مع الفاني ويتركون الباقي.
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا) في سورة النحل وضَّح الصورة بشكل يأخذ بالألباب

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ(66)
(سورة النحل)

يأتي اللبن السائغ للشاربين، الفرث عفواً هو المصران والفضلات الذي رائحته لا تُطاق، والدم، ويخرج اللبن سائغاً للشاربين! فقال:(نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ) ليس الموضوع سقيا فقط، أشعار، وأوبار، وأصواف، وجلود، وركوب وإلى آخره...
(مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) من لحومها ومن ألبانها.

من فوائد الأنعام أيضاً الحمل:

وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
(سورة المؤمنون)

فائدة جديدة وهي الحمل

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (7)
(سورة النحل)

ولمّا كانت الكرة الأرضية ستة وسبعون بالمئة ماءً كما قلنا، فلا بُدَّ من وسائط نقل أُخرى فقال: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ) تطلق على الجمع وعلى المفرد يعني السفن (تُحْمَلُونَ) يحملكم الله تعالى في البر والبحر، لم يكن الناس يعرفون الحمل في الجو، لكن ربنا عزَّ وجل أيضاً سخَّر الجو لنا، يعني الوسائط الثلاث، لذلك قال:

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
(سورة النحل)

فكله خلق الله، يعني سخَّر الجو في الأصل بعلمه ليكون قادراً على حمل هذه الطائرة، قال:

أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(79)
(سورة النحل)

والطائرة مُسخَّرة في جو السماء، فجعل وسائط النقل ثلاثةً، لكنه لم يُخاطب العربي بالواسطة الثالثة، تركها عامة، (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) لأنه لا يستطيع في عصر نزول القرآن أن يفهم أنه سيكون طائرة تطير في الجو.
(وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) ولمّا ذكر الفُلك جلَّ جلاله، بدأ بذكر نبيٍ من أنبيائه، يعني قابل قومه النعمة بالجحود ولم ينتفعوا بنبيهم، بعد كل هذه النِعَم وكانت قصتهم متعلقةً بالفُلك، وهو نبي الله نوح عليه السلام فقال:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
(سورة المؤمنون)


كل الأنبياء جاؤوا برسالةٍ واحدة وهي العبادة والتوحيد:
هناك رسالة، ومُرسِل، ومُرسَل إليه، ويجب على المُرسَل إليه أن يتلقى هذه الرسالة بالقبول من المُرسِل جلّ جلاله، ممن يحمل الرسالة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ) كل الأنبياء جاؤوا إلى قومهم بهذه العبارة (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ) العبادة والتوحيد.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
(سورة الأنبياء)

التوحيد والعبادة، لأن الإنسان يتعلم علوماً شتى، وأعظم عِلمٍ يتعلمه التوحيد، ويعمل أعمالاً شتى، وأعظم عمل يعمله هو العبادة، فأنت بين علمٍ وعمل، فالعِلم توحيد والعمل عبادة، فإذا حققت ذلك حققت دعوة الأنبياء جميعاً(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ) أي ليس هناك معبودٌ بحقّ غير الله، والعبادة كما قلنا سابقاً، أن تُعبِّد حياتك لمنهج الله، وهي تشمل كل فعلٍ وكل حركةٍ وكل سكنة من سكناتك، فليس المقصود بها الشعائر فقط، وإنما المقصود بها كل حركات حياتك.
(أَفَلَا تَتَّقُونَ) أي ألا تتقون ربكم فتتركون ما نهى عنه وتأتون ما أمركم به، وتتقون ناره التي أعدَّها للكافرين.

بشرية الأنبياء هي جزء من دعوتهم:

فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)
(سورة المؤمنون)

الملأ من الملء الذين يكونون ملء العين، الملأ واجهة القوم الذين تتعلق بهم العيون، يجلسون في مكانٍ يملؤه بجاههم فسُمّوا ملأً، لكن أول من يعترض هم الملأ، لأنَّ المصالح التي حققوها باستعباد الناس، تمنعهم من أن يسمحوا لأحد أن يطلق الحرية للناس، لأنهم إذا أصبحوا أحراراً سيختارون ربهم، وإذا اختاروا ربهم سيواجهون الطواغيت، فهم الملأ، يملؤون عيون الناس لكنهم عند الله ليس لهم قيمة.
(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) أي أنت تأتيهم بدعوةٍ عظيمة فيكون الجواب (مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ)، يعني انتقدوا بشريته، والحقيقة أن بشرية الأنبياء هي جزءٌ من دعوتهم، لأنه لا تتحقق الأسوة إلا أن يكون المُتأسى به شبيهاً بك، أنت اليوم لا تقبل إذا كنت إنسان فقير وجاءك إنساناً يملك الملايين وجلس يُحدِّثك عن الصبر، أنت لا تستطيع أن تقبل منه، تقول له: أنت عِش ما أنا أعيشه ثم كلمني عن الصبر، هكذا طبيعة الناس، أن يكون المتأسى به من جنسك، قريبٌ منك، لذلك موعظة المريض للمريض أعظم من موعظة الصحيح للمريض، وإذا أردت أن تعظ مريضاً فاضرب له مثلاً بالمرضى الذين كانوا مثله ليس بك، فالتأسي من تمامه أن يكون المُتأسى به من جنسك، فلو جعله الله ملَكاً قال لجعلناه رجُلاً:

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9)
(سورة الأنعام)

وعُدنا إلى الحيرة نفسها، لا أبعث لك ملَكاً، الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
(سورة التحريم)

لو قالوا لك: لا تطلق بصرك، لقلت له: أنت مَلَك ليس عندك شهوة، ألا تعرف ما في داخلي، لكن لأنه بشر يقول لك: أنا أشعر ما أنت تشعر به، وأنا انتصرت على بشريتي فلماذا لا تنتصر على بشريتك أنت؟ فالبشرية مهمة، قال صلى الله عليه وسلم:

{ يا أُمَّ سُلَيْمٍ ! أَمَا تَعْلَمِينَ إني اشتَرَطْتُ على ربي فقلتُ : إنما أنا بَشَرٌ أَرْضَى كما يَرْضَى البَشَرُ، وأَغْضَبُ كما يَغْضَبُ [ البَشَرُ]، فأَيُّما أحدٍ دَعَوْتُ عليه من أُمَّتِي بدعوةٍ ليس لها بأهلٍ أن تَجْعَلَها له طَهورًا، وزكاةً وقُرْبَةً تُقَرِّبُه بها منكَ يومَ القيامةِ }

(أخرجه مسلم)

فقال: (مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ)،هو ليس مثلكم، هو مثلكم في بشريته لكن في إيمانه بالله أصبح فوقكم.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
(سورة الحجرات)

(يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي أن يجعل لنفسه فضلاً عليكم، أي زيادة في أنه نبي، طبيعة ردّ الجاهلين، هذا ردّ الجاهلين، بدل أن يُناقش الفكرة أو يتابع الموضوع، يتِّهمك وينتقص منك،( يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ).
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) يردِّدون حُجة بعد حُجة، وآخر حُجة أنَّ ذلك لم نسمع به في آبائنا الأولين، مع العِلم أنَّ كل جيل يغيِّر عن الجيل السابق، يعني جيلنا غير جيل الذين سبقونا، وأولادنا سيكونون غيرنا، لكن إذا جاء الأمر بتغيير العقيدة والسلوك، يقول لك: هكذا رُبّينا، وهكذا كان أبي، يتحجَّج بالآبائية، وهذا تقليدٌ أعمى.

معاناة سيدنا نوح مع قومه وثباته في دعوتهم:

إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ (25)
(سورة المؤمنون)

بدؤوا باتهامه، (بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون، مستور العقل، (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ) انتظروه حتى موعد، ما هذا الموعد؟ يموت، يُغيِّر، نرى فيه أمرنا، نفعل به فعلنا (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ) أي أجِّل الموضوع إلى وقتٍ آخر.

قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
(سورة المؤمنون)

سيدنا نوح لبث في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ(14)
(سورة العنكبوت)

سيدنا نوح عانى من قومه ما عانى، وما آمن معه إلا قليل، يُعلِّمنا الثبات

حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
(سورة هود)

يُعلِّمنا الثبات، يُعلِّمنا أنك الحقّ ولو كنت وحدك، لكن في مرحلةٍ مُعيَّنة أوحيَّ إليه:

وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
(سورة هود)

فقال: (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ) بسبب تكذيبهم لي انصرني عليهم.

أوحى الله لنبيه أن يصنع الفُلك وهو معه بدوام الحب والمراقبة:

فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (27)
(سورة المؤمنون)

كما قلنا قبل قليل أنَّ الطائرة فضلٌ من الله عزَّ وجل، الفُلك لا أحد يعرفه، ما الذي حصل؟ أوحى إليه الله تعالى أن اصنع الفُلك، وذكر ذلك في سورة القمر

وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)
(سورة القمر)

الدُسُر: هي الحبال، فأحضر الخشب الجاف جداً وربطه بالحبال، طبعاً الجاف جداً حتى إذا شرب الماء ينتفش فيُغطّي المسام كاملة، (وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ).
فأوحى إليه أن يصنع الفُلك

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
(سورة هود)

البعض قال: أنَّ المنطقة ليس فيها بحر، بعض المفسرين قالوا: أنهم كانوا لا يعرفون الفُلك، ماذا تصنع؟! ما هذا الذي تصنعه؟!
(فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) بأعيننا دوام المراقبة، ودوام الحُبّ، ودوام الودّ

وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
(سورة الطور)

أجمل كلمة قيلت لرسول الله: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)، أحياناً الأم تُحب ابنها كثيراً، فتذهب في نزهة فتخاف عليه، من تعلقها به لا تغادر عينها ابنها، فهو في عينها، فربنا جلَّ جلاله قال: (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) وحينا يعني الوحي من الله بأن يصنعه، والأعيُن تحت مراقبة الله ومودة الله، (بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا).

جاء أمر الطوفان من الله تعالى:
(فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا) أي أمر الطوفان (وَفَارَ التَّنُّورُ) التنور تعني المكان الذي يُخبَز فيه، الفُرن الذي يُخبَز فيه، البعض قال: (وَفَارَ التَّنُّورُ) كناية عن وجه الأرض، يعني كل الأرض فارت بالماء، والبعض قال: كان عنده تنور وربنا عزَّ وجل أعطاه علامة، إذا وجدت الماء خرج مغلياً من التنور فصار الموعد، وأنا أميَّل إلى أن الموضوع كناية، يعني فار التنور كناية عن الطوفان، وليس المقصود تنور بعينه فيخرج منه الماء والله أعلم.

{ كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأَحْيَا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهْلَهُ. }

(صحيح البخاري)

كناية عن القوة في العبادة (وَفَارَ التَّنُّورُ) يعني صار الوقت، كناية والله أعلم.
(وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الزوج هو الواحد يعني إذا كان لك زوج فأنت زوج وهو زوج، (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) يعني ليس أربعة بل اثنان ذكر وأنثى، (مِن كُلٍّ) بالتنكير لأنَّ الله عزَّ وجل يريد أن لا تفنى البشرية والكائنات، لأنَّ الطوفان سيعمُّ الأرض، فأمَره أن يسلك فيها (مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكر وأنثى.

الأهل هم أهل الإيمان وليس أهل النسب:
(وَأَهْلَكَ) قيل إنَّ نوحاً عليه السلام تزوج اثنتين، الأولى هي التي كانت كافرة وابنها كنعان، أو يام ببعض الروايات والله أعلم

قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
(سورة هود)

وفي قراءة أنه عَمِلَ غير صالح، (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)، فالأهل هنا ليس المقصود بها الأهل النسبي وإنما أهل الإيمان، فزوجته ليست من أهله، وابنه ليس من أهله، وأمّا المؤمنون به فهم أهله فحملهم معه، المؤمنون (وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)، فحمل فيها المؤمنين من أهله، وحمل فيها من كلٍّ زوجين اثنين لدوام الأرض.

الحياة يجب أن تمشي وفق السُنَّن وليس وفق المعجزات والخوارق:
كان من الممكن ربنا جلَّ جلاله أن يُرسل له فُلك من السماء، وأن لا يحمل فيها من كلٍّ زوجين اثنين فيُعيد الله الخلق من جديد فيُخلَق، لكن ربنا جلَّ جلاله هنا يعلِّمنا قضية الأسباب، وأن كل شيءٍ له سبب، والمُعجزة شيءٌ آخر، يحلو للبعض دائماً أن يكثروا من العجائب والخوارق في الدعوة، لعلها تُقنع الناس، والحقيقة أنَّ هذا بُعدٌ عن الحقيقة، الأصل أنَّ ديننا دين أسباب ونتائج، والمُعجزات هي تلك الخوارق التي أجراها الله تعالى على يد أنبيائه إشعاراً منه للناس بأنَّ هذا نبيٌ من عندي، هذه مهمتها، أمّا الحياة ينبغي أن تمشي وفق السُنَّن، وليس وفق الخوارق.

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
(سورة مريم)

هي نُفساء مُتعبة، وجذع النخلة لا يستطيع أن يهزّه رجُلٌ بشاربين، وليس امرأةً ضعيفة! لكن هُزّي حتى نُساقط فالحياة سُنَّن، يعني دائماً إذا بقينا مع السُنَّن الكونية والسُنَّن الشرعية يكون هذا أدعى لقبول الناس لدعوتنا.

من عوَّد نفسه أن يُحكِّم عقله في نصوص الله تعالى سيغرق في جهالاته:
(فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) من سبق عليه القول يعني ابنه وزوجته التي ذكرها الله في سورة التحريم

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
(سورة التحريم)

وابنه الذي فصّله الله في سورة أُخرى:

قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
(سورة هود)

ابن نوح عليه السلام وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام (قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ)، هو كان يحاول أن يُحكِّم عقله، يعني الطوفان إلى أين سيصل؟ سأقف على الجبل، يعني أنا أصدقك يا أبي سيأتي الطوفان ولكن إلى أين سيصل؟ هل سيصل إلى الجبل؟! لن يصل، نوح أعطاه النص قال له:(قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) الموضوع ليس بعقلك الموضوع بنَص (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) فكل من عوَّد نفسه أن يُحكِّم عقله في نصوص الله تعالى، سيكون من المُغرقين في جهالاته (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) ولكرامة نوحٍ على ربه وإشارة إلى أنَّ الولد لا يُقتل أمام والده (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) فلم يُرِه بعينه وفاة ابنه، رحمةً به، وتعليماً لنا أن لا نقتل ابناً أمام والده ولو استحقَّ القتل، رحمة من الأب.
(إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) القرار صدر لا مراجعة (إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) وإذا صدر القرار من الإله فلا أحد يراجعه فيه.

دائماً ارجع إلى المُنعِم ولا تبقى مع النعمة:

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
(سورة المؤمنون)

ارجع إلى المُنعِم جلَّ جلاله ولا تبقى مع النعمة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) المُكذبين.

وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29)
(سورة المؤمنون)

فإذا وصلت إلى المكان الذي سيُنزلك الله تعالى به فقل: (وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ) وهل غير الله يُنزل؟ ممكن أن تذهب عند شخص يُنزلك مُنزل طيِّب في بيته لكن الله خير المُنزلين.

الابتلاء هو علِّة وجودنا:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
(سورة المؤمنون)

يعني إنَّ فيما سبق آيات وعلامات، آيات أي علامات دالة على وجود الله وعلى صدق أنبيائه وعلى تحقق وعده، ووعيده، (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) يعني هذه اللام تُسمّى في اللغة اللام الفارقة، وإن هذه المُخففة من الثقيلة، يعني نحن كنّا منذ الأزل وإلى الأبد مبتلين، نبتلي عبادنا، نمتحنهم، نمتحن المُرسل إليهم بمن أرسلناه، ونمتحن من أرسلناه بمن أُرسِل إليهم

فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
(سورة الأعراف)

فالابتلاء هو علِّة وجودنا، والله خلقنا ليبتلينا (وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) فينجح من ينجح، ويفشل من يفشل.

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)
(سورة المؤمنون)

والحمد لله رب العالمين