القيم التي يجب أن يتصف بها المؤمن

  • اللقاء الخامس من تفسير سورة المؤمنون : شرح الآيات 57-74
  • 2024-10-12

القيم التي يجب أن يتصف بها المؤمن

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا علماً وعملاً متقبَّلاً يا رب العالمين.
وبعد: هذا لقاؤنا الخامس من لقاءات سورة المؤمنون، ومع الآية السابعة والخمسين من السورة وهي قوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ(57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ(59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(60) أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ(61)
(سورة المؤمنون)


العقل أن تصل إلى الشيء بفكرك قبل أن تصل إليه بجسدك:
ذكر المولى جلَّ جلاله في هذه الآيات صفاتٍ للمؤمنين، وابتدأها بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ) أي من خوف عذاب ربهم حذرون، أشفق الإنسان من الشيء، خاف منه وحذره، والخشية هي شدة الخوف، والخشية غالباً ما ترتبط بالغيب

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(12)
(سورة الملك)

فالأقل عقلاً هم الذين يخافون الشيء المُشاهَد، يخافون العذاب الذي يشاهدونه بأعينهم، والأكثر عقلاً ووعياً وإدراكاً، هم الذين يخشون شيئاً لم يصلوا إليه بعد ولكن يعلمون أنهم قد يصلون إليه، فيحذرونه قبل الوصول إليه، لذلك قالوا: العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه، بمعنى أن تصل إليه بفكرك قبل أن تصل إليه بجسدك، لأنه عند وصولك إلى الشيء بجسدك قد يكون الأوان قد فات، وعندها لا تنفعك هذه المعرفة بشيء، يشبه ذلك والمثل طريف: إنسان أمسك بيده شيئاً وجده في الأرض، وتأمل به أهوَ قنبلة أم ليست قنبلة، ثم أخذ يقلبه بين يديه فانفجر، في اللحظة التي انفجر علم أنها قنبلة لكن فات الأوان، لم ينتفع بتلك المعرفة، العاقل يبتعد عنها قبل أن يصل إليها، قبل أن يمسكها بيده، فليست العبرة في أن تصل إلى خطورة الشيء عند وصولك إليه بجسدك، وإنما أن تصل إليه بعقلك قبل أن تصل إليه بجسدك، فالخشية غالباً ما ترتبط بالخوف بالغيب، بالحذر من الأشياء التي لا نراها بأعيننا (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) والإيمان كله هو هذه الخشية بالغيب، هو أن يخاف الإنسان ربه بالغيب قبل أن يصل إلى الشهادة، كل الناس سيصلون إلى الشهادة، حتى فرعون أكفر كفار الأرض

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91)
(سورة يونس)


المؤمن حاله مع الله أنه يعمل الصالحات ويخشى ألّا تُتقبَل منه تلك الصالحات:
فات الأوان (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ) يحذرون عذاب ربهم وهم في الدنيا، لأنهم موقنون بوقوعه (وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) يقرؤون القرآن فيصدِّقون ما فيه من الوعد والوعيد، والجنَّة والنار، فيحذرون النار ويرجون الجنَّة.
(وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) وجهتهم خالصةً لوجه الله تعالى الكريم وحده، لا يشركون بالله تعالى شركاً جلياً ولا شركاً خفياً، لا شركاً أكبر ولا شركاً أصغر.

{ عن عائشة قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} قالت عائشة : أهم الذين يشربون الخمر، ويسرقون؟ قال: لا، يا بنت الصديق أو يا بنت أبي بكر، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات }

(رواه الترمذي)

فليس السياق سياق من يذنب، السياق سياق إحسان (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ(57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ(59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا) من الخيرات، من الطاعات، من النفقات، من الصيام، من الصلوات، من العبادات (وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) وفيهم وجَل، خوف شديد في القلب، وجَل القلب شدّة خوفه، اضطراب القلب، لماذا؟ (أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) لأنهم يعلمون يقيناً أن المرجع إلى الله، فيخافون أن يقفوا بين يديه وألّا تُقبَل أعمالهم التي فعلوها، فالمؤمن حاله مع الله أنه يعمل الصالحات، ويخشى ألّا تُتقبَل منه تلك الصالحات.
ثم قال المولى يصف هؤلاء (أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) يسارعون من الفعل سارع، سارع تدل على المشاركة، كأن هناك سباقاً وأنت تسارع فيه، هناك غيرك معك فيه، لو قلنا أسرع يسرع وحده، بذاته، أسرع وحده قد يكون هو الراكض الوحيد فهو أسرع يسرع، أمّا يسارع أو سارع أو

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)
(سورة آل عمران)

تدل على وجود جماعة، المسارعة تدل على الجماعة، فيسارعون في الخيرات وكأنهم في سباقٍ، يتنافسون مع الآخرين فيه، وما قال يسارعون إلى الخيرات، وإنما قال يسارعون في الخيرات، فلو قال إلى الخيرات، فالخيرات خارجة عنهم، ليسوا فيها، فهي في مكان وهم يذهبون للوصول إليها، لكن عندما قال يسارعون في الخيرات فهم متلبسون في الخير، لكنهم وهم في الخير يحاولون أن يكثروا من هذا الخير وهم بداخله، فسارَع فيه غير سارَع إليه، (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) أي هي الهدف المغفرة، والهدف الجنَّة، فنحن نسارع إلى الجنَّة، لكن ينبغي أن نسارع في الخيرات وليس إلى الخيرات، حتى نكون دائماً متلبسين بالخير، فالخير يُحيط بنا من كل جانب، فنحن مع الخير ومع أهل الخير، وفي الخير وفي العمل الصالح، ونسرع في داخل هذه البوتقة لنُحصِّل أكبر قدرٍ ممكنٍ من الخيرات، (أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) كأن إنساناً قال لك كأني لا أستطيع فقلت له بل أنت أهلٌ لذلك، فقال: (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) وكأنه إقرارٌ من المولى جلًّ جلاله أنَّ من هؤلاء مَن هذه هي صفاتهم من خشية الله تعالى بالغيب، ومن الإيمان بالله، وتوحيده، والخوف من عدم قبول العمل، من كانت هذه صفاتهم من المسارعة في الخيرات فسيحصِّلون هذا السبق ويصلون إلى غايتهم في الدنيا وفي الآخرة (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).
ولمّا ذكر المولى هذه الصفات، لكأن بعض الناس يستثقلها أو يقول كيف أستطيعها، أو إنها صعبة، شاقَّة على النفس، فأجاب المولى جلَّ جلاله

وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ ۚ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(62)
(سورة المؤمنون)


تكليف الله تعالى للإنسان دائماً ضمن الوسع:
وهذا الأمر فيه تخفيف وفيه تقرير، التقرير أن التكليف دائماً ضمن الوسع، وأنه لا ينبغي لإنسانٍ أن يدَّعي أن الله كلَّفه فوق وسعه، فيقول مثلاً غض البصر في هذا الزمن غير ممكن، أو يقول مثلاً هذه الفتن شديدة لا أستطيع تحمُّلها، فنقول له:

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(286)
(سورة البقرة)

(وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).
وفيه تخفيف، لعلَّ إنساناً لم يستطع لسببٍ أو لآخر أن يدرك ما أدركه الآخرون فنقول له (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) فالله تعالى إن لم يُعطِك المؤهلات لتصل إلى ما وصل إليه فلان، فأنت مكلفٌ ضمن الوسع الذي عندك، فقال لك فلان بنى مسجد أنا لا أستطيع، فنقول له: (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) في هذا الموطأ، بمعنى أنك أنت لم يؤتك الله مالاً فما طلب منك إنفاق المال، وهذا معنى قوله تعالى:

لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا(7)
(سورة الطلاق)

تفسير للوسع بما آتاه الله تعالى، فكل إنسانٍ آتاه الله شيئاً سيكلِّفه بناءً عليه، فلا يَسألُ إنسان عن إنسانٍ آخر، أنت اسأل عن نفسك، فلان لم يبلغه من الدعوة ما بلغني (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) فلان ما عنده قدرة على القيام بالأعمال الصالحة التي أقوم بها، ضعيف، مريض، لا يكاد يستطيع النوم، (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) أنت مكلَّف بشيءٍ هو غير مكلف به، فالتكليف على قدر الوسِع وعلى قدر الإيتاء.
فهذه الآية نصٌ في أنَّ التكاليف العامة يستطيعها الإنسان (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) وأنَّ ما عجز عن الوصول إليه لشيءٍ خلقه الله فيه، أو لظرفٍ أُحيط به خارج عن إرادته، فإنَّ الله لا يكلفه به، فتؤخذ من زاويتين، أمّا أن تؤخذ من الزاوية الثالثة وهي الاحتجاج على ترك الأعمال بالنظر إلى وسع الإنسان وتقديره لوسعه هو كما يحب، فهذا شيءٌ ما أراده الله من الآية، وما فهمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته، ولا سلف هذه الأمة، بمعنى أنه ينظر إلى نفسه فيجد نفسه لا يريد القيام بهذا العمل فيحتج بالآية فيقول لك: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) أنت انظر إلى التكليف لا تنظر إلى نفسك، التكليف هل هو ضمن الوسع أم ليس ضمن الوسع، يعني يسعك، تستطيعه، بإمكانك أن تفعله، وإلا لما كلَّفك الله تعالى به، فإن كنت عاجزاً عن فعله فأنت لست مكلَّفاً به أصلاً، فالقيام في الصلاة ضمن وسّعنا، المشلول لا يكلّفه الله بالقيام أصلاً، (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) لكن لمّا أنت تستطيع القيام فالتكليف ضمن وسعك أنت، لمّا كلَّفك بالزكاة أنت تستطيع أن تنفقها، لكن لمّا عجز الفقير عنها فهو لا يُكلَّف بها، وهكذا.
(وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ ۚ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) وبعد ذلك بعد أن الله تعالى كلَّف كل نفسٍ ما تستطيعه، جعل هناك كتاباً ينطق من النطق

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(65)
(سورة يس)

وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21)
(سورة فصلت)

فالكتاب ينطق أيضاً، ينطق أي إشارةً إلى أهمية هذا الكتاب (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ) سُجِّلت فيه أعمال الإنسان وسُجِّلت فيه الحسنات والسيئات (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) أي لا يظلمهم المولى جلَّ جلاله، لا بإنقاص حسناتهم ولا بزيادة سيئاتهم (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ(63)
(سورة المؤمنون)

هذه الآية، (بَلْ) حرف إضراب، انتهى ما قبلها وبدأنا بمعاني جديدة، بعض المفسرين وهموا في هذه الآية، أو أوَّلوها ففهموها على أنها متابعة لما قبلها، يعني قلوب الصالحين (فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا) أي في غفلةٍ من هذه الأمور (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ) من النوافل (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) لكن الصحيح أنَّ هذه الآية هي بداية لفئةٍ جديدةٍ من الناس (قُلُوبُهُمْ) أي قلوب المشركين، قلوب الغافلين، لأن الله تعالى لن يصف قلوب المؤمنين بالغمرة والسهو والغفلة، لم يرد ذلك في السياق القرآني أبداً، أن توصف قلوب المؤمنين بأنها في غمرة، الغمرة أن يغمرك الماء حتى لا تستطيع أن تتنفَس، والتعبير هنا (قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ) أي في غفلةٍ تامة، وكأنها قد غمرتهم تلك الغفلة.
الإنسان ربما لا يأكل لأيام، وربما لا يشرب ليوم أو يومين، لكنه لا يستطيع أن لا يتنفس إلا بمقدار ما تحويه رئتاه من الهواء، فأكثر حاجة الإنسان لا يستطيع الفكاك عنها هو النفَس، لذلك لمّا يكون في غمرة يُقطع نفَسه فوراً لا يستطيع، ومن هنا جاء التنافس، تنافس من النفَس، يتنافس المتنافسون أي يبذل كلٌ أقصى جهده للوصول إلى الهدف، وكأنه يكاد يفقد نفَسه من شدّة المنافسة، يقول لك احترق نفَس فلان من شدّة الأمر، فالنفَس دائماً هو الشيء الذي لا يستطيع الإنسان الفكاك منه أبداً، مفتقرون إلى الطعام والشراب لكن النفَس تحديداً لا يصبر الإنسان إلا دقيقة أو دقيقة ونصف أو دقيقتين، بمقدار ما في رئتيه من الهواء، فإذا انتهى ما في رئتيه من الهواء، فارق الدنيا، أمّا الطعام والشراب يصبر أكثر.

الإنسان عندما يغفل من كتاب الله تعالى يستمرئ المعصية ويبالغ فيها:
(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا) هذا اسم إشارة يعود على الكتاب الذي سبق (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ ۚ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (بَلْ قُلُوبُهُمْ) قلوب المعرضين الغافلين في غفلةٍ من هذا الكتاب، أي هم غافلون عن أنَّ أعمالهم تُحصى عليهم، وأنَّ الحسنات تُسجَّل، وأنَّ السيئات تُسجَّل، فالإنسان عندما يغفل عن هذه الحقيقة يستمرئ المعصية ويبالغ فيها، عندما يستحضر دائماً أنَّ الله يُسجِّل عليه ويحصي عليه أعماله يتمادى، اليوم سائق السيارة ما دام مستحضراً أنَّ الكاميرا تصوِّر فلا يسرع، عندما يغفل عن المراقبة يتجاوز السرعة، عندما يغفل عن وجود الشرطي يقطع الطريق مخالفاً، فالإنسان يتجاوز ويعصي ويخالف عندما يغفل عن وجود الرقيب، فقال: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا) أي هم غافلون عن هذا الكتاب الذي ينطق بالحق، فيظنون أنهم يعملون ما يشاؤون، وأنه ليس هناك شيءٌ مُسجَّلٌ عليهم، فيعملون ما يريدون، (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا) من الكتاب.
(وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) أي من دون ما هم عليه من الكفر، ليس بعد الكفر ذنب، فقلوبهم قد امتلأت غفلةً، فأشركوا بالله (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) كل شيءٍ بعد الكفر هو من دون الكفر، لذلك قالوا: ليس بعد الكفر ذنب.
مثل شخص أوتيَ به ليُنفَذ به حكم الإعدام لأنه قتل إنساناً، على حبل المشنقة جاءت إدارة السير وقالت توقفوا عليه مخالفة سير عشرة دنانير، مخالفة السير تذهب لكن هو سوف يُعدَم، لا تحتاج إلى استيفاء مخالفة السير، وهذا ما فهمه بعض المفسرين من قوله تعالى:

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ(78)
(سورة القصص)

المجرم لا يُسأل لماذا أطلقت بصرك، هو الآن مستحق للعذاب الأليم قاتل مجرم، انتهك الحرمات فلا يُسأل عن الذنوب الصغيرة، هذه تندرج تحت الكبائر.

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ(63) حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ(64)
(سورة المؤمنون)

(أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم) الأخذ هو العقاب بشدّةٍ وبسرعة

وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102)
(سورة هود)

قال صلى الله عليه وسلم في تعليقه على هذه الآية:

{ عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ }

(متفق عليه)


المترفون لم يردوا في كتاب الله تعالى إلا منبوذين مذمومين:
يرخي له الحبل، انتهى، أخذةً واحدة، فقال: (حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم) أي منعَّميهم، والمترفون لم يردوا في كتاب الله تعالى إلا منبوذين مذمومين، ما ورَد الترف إلا قرين الذنب، ما ورَد الترف إلا قرين الكفر، والعياذ بالله، فأصبح مصطلحاً قرآنياً أن الترف منهيٌ عنه، الترف هو التنعُّم بالدنيا مع الغفلة عن الآخرة، التنعم بالدنيا بالمعاصي والآثام، أمّا أن يأخذ الإنسان من الدنيا سيتنعَّم، كلنا منعَّمون بالدنيا، الماء البارد من النعيم، الآن أهلنا في غزَّة نسأل الله أن يفرِّج عنهم وأن يزيل غُمَّتهم وأن يفرِّج كربهم، في مناطق ليس بها ماء صالح للشرب، بارد أو غير بارد، فإذا شربت كأس ماء بارد فأنت في نعيم، المسكن نعيم، أنَّ هناك سقفاً يأويك ولو كان عشرة أمتار فهو نعيم، فنحن منعَّمون في الدنيا، لكن الترف مذموم، والمترفون يأمرهم الله تعالى بالطاعة فيخالفون

وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16)
(سورة الإسراء)

فالفاسقون والمترفون قرناء، الفسق مع الترف.

{ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا بعَث معاذ بن جبل إلى اليمنِ قال له: إيَّاك والتَّنَعُّمَ فإنَّ عباد الله ليسوا بالمُتَنَعِّمين }

(الألباني صحيح الجامع)

قال أهل العلم: إياك أن تجعل التنعم هدفاً وغايةً لك، اجعل التنعم بالدنيا وسيلةً لك إلى الله، لكن أن تستهدفه وتجعله هدفاً لك في الحياة (فإنَّ عبادَ اللهِ ليسوا بالمُتَنَعِّمينَ).

النعيم إذا استهُدِف بحد ذاته ينقلب إلى نِقمة:
وبالمناسبة النعيم إذا استهُدِف بحد ذاته ينقلب بعد حينٍ إلى نِقمة، أهل علم النفس يقولون اللذَّة إذا استهُدِفت انقلبت إلى تعاسة، لأن الإنسان يكتفي منها فيريد غيرها، وهذا سبب الشذوذ في العالم الغربي والانتقال من العلاقة الآثمة، لكن التي وفق المجرى الطبيعي إلى العلاقة الثانية ثم إلى حيوانات والعياذ بالله، فهم يتنقلون من دركةٍ إلى دركة، السبب أنَّ اللذَّة لا تُستهدف بذاتها، الإنسان يتزوج ليُحصِّن نفسه، لولدٍ صالحٍ يدعو له، ليعمُر الأرض، ليكون خيراً على الناس والآخرين، لكن ما يتزوج فقط ليقضي شهوته، أي هو لا يستهدف قضاء الشهوة، كل إنسان يقضي شهوته، لكن هو يقضيها ضمن الحلال، ضمن منظومة قيَمية، أمّا الزاني والعياذ بالله يتجه إلى الزِنا لقضاء الشهوة فقط، كان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: " أقوم إلى زوجتي وما بي من شهوةٍ إلا رجاء ولدٍ صالحٍ ينفع الناس من بعدي"، فالقيَم عند المؤمن أعلى من مجرد الشهوة، هذا لا يعني أنه لا يشتهي، ولا يعني أنه ينبغي أن يقضي شهوته بالحلال، لكن يعني أنَّ المنظومة القيَمية في الإسلام أكبر من مجرد قضاء الشهوة، قضاء الشهوة جزءٌ منها، فهو لا يستهدف النعيم بذاته، بل يستهدفه ضمن منظومة قيَمية (حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي يرفعون أصواتهم مستغيثين بالله تعالى، رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة والجأر (يَجْأَرُونَ).

لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ۖ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ(65)
(سورة المؤمنون)

لا ترفعوا أصواتكم، انتهى (إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ) فات الأوان، لن ينصركم الله تعالى.

قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ(66)
(سورة المؤمنون)

يعني كانت آياتي في الدنيا تُقرأ عليكم، فكنتم ترجعون مولّين عنها إذا سمعتموها كراهيةً لها، العقِب هو مؤخِر القدَم، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وعائشة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ويلٌ للأعْقَاب من النَّار }

(رواه مسلم)

إذا إنسان توضأ ولم ينتبه لإسباغ الوضوء، فهذا مما يُفسِد وضوُءه فيُبطل صلاته، فحذَّر النبي صلى الله عليه وسلم (ويلٌ للأعْقَاب من النَّار) لأن الإنسان قد يغسل قدمه ولا ينتبه إلى وصول الماء إلى العقب، فالأعقاب هي مؤخِر القدَم، (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ) في الدنيا آيات القرآن الكريم (فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ) ترجعون، الإنسان عندما يمشي إلى الأمام يمشي على هُدى، يرى أمامه، لكن لمّا يعود إلى الخلف على أعقابه، فهذه صورةٌ ذهنية تُشير إلى أنه سيقع ويرجع، المطلوب أن يتقدم.

قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ(66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ(67)
(سورة المؤمنون)


السَمَر بعد العشاء مكروه عند أهل العِلم:
(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) ما هو؟ جمهور أهل التفسير على أنه الحرَم، قال لأنه ورَد في أكثر من آيةٍ، القرآن يفسِّر بعضه بعضاً، ورَد استكبارهم بالحرَم، وبأنهم يعتزّون بأنهم من أهل الحرَم، وبأنهم سدنةُ الكعبة، إلى غير ذلك، فيستكبرون بذلك، فيقول لهم جلَّ جلاله: كنتم تفعلون ذلك مستكبرين على الناس بما تزعمونه من أنكم أهل الحرَم وأنتم لستم بأهله، لأن أهله يجب أن يكونوا على تقى وخير وأنتم لستم كذلك، (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) وقال بعضهم (بِهِ) بما سبق من الآيات التي كانت تُتلى عليهم من القرآن الكريم (سَامِرًا تَهْجُرُونَ) أي تتسامرون حوله ولا تقدِّسونه، وتهجرونه (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) بأنكم من أهل الحرَم، (سَامِرًا) أي حالة كونكم متسامرين، والسَمَر هو الجلوس بعد العشاء لأطراف الحديث

{ جدبَ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم السَمَر بعد العشاء }

(أخرجه ابن ماجه وأحمد)

واستثنى أهل العِلم من هذا السَمَر، ما يكون من مجالسة الرجُل أهله، جلس هو وزوجته هذا لا مانع منه، أو المسامرة في طلب العِلم، بالحق بالخير، أمّا السَمَر بعد العشاء لغير هذين الشيئين مكروه عند أهل العِلم، (جدب لنا) أي نهانا رسول الله عن السَمَر بعد العشاء، فالسَمَر هو المسامرة، وهو تبادل الحديث أو الأحاديث المسائية، فأنتم كنتم تفعلون هذه الأمور استكباراً واعتزازاً بأنكم من أهل الحرَم وأنتم لستم من أهله، لأنكم تشركون بالله، والحرَم لله، وتهجرون آيات القرآن الكريم متسامرين بالحديث عنه، بالحديث عن القرآن بأنه أساطير الأولين، وقال بعض أهل العِلم، تتسامرون بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ساحر، مجنون به جِنَّة، لأنَّ الآيات جاءت بعد ذلك تتحدث عن القرآن، وتتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيمكن أن نقول تهجرون القرآن الكريم وآياته وأحكامه وما فيه، أو تتسامرون بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بما تصفونه به من الأباطيل.

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ(68)
(سورة المؤمنون)


تدبُّر القرآن الكريم:
تدبُّر القرآن أن تنظر في أدباره، في عاقبته، في نهايته (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) أم جاءهم ما لم يأتِ أسلافهم من قبلهم، فأعرضوا عنه وكذَّبوا به

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(69)
(سورة المؤمنون)

عرفوه، عرفوا صدقه، عرفوا أمانته، ثم هم ينكرونه، وينكرون رسالته، وينكرون صدقه، وهنا عتاب من الله عزَّ وجل للأُمة التي لا تتعرف إلى رسولها، إلى سيرته، إلى سُنَّته (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) كانوا يقولون عنه الصادق الأمين، لمّا جاءهم كذَّبوه، وهم يعرفون صدقه وأمانته.

أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ۚ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(70)
(سورة المؤمنون)

والجِنَّة هي غياب العقل (بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) بل حرف إضراب، أي ليس به جِنَّة حاشاه صلى الله عليه وسلم، لكنه جاءهم بالحق وهو القرآن الكريم، وأكثرهم للحق كارهون، وقلنا كثيراً إنَّ الأكثرية في القرآن مذمومة، فلا تكن مع الأكثرية ولكن مع الحق

وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ(71)
(سورة المؤمنون)

يعني لو أجرى الله الأمور ودبَّرها على وفق ما تهواه أنفسهم لفسدت السماوات والأرض، الفساد هو تغيُّر الشيء عن طبيعته، أو أن يوضع الشيء في غير موضعه، فلو أنَّ الحق اتبع أهواء هؤلاء لفسدت السماوات والأرض.

الفساد ليس أصلاً في الخلق:
الحق أنَّ المرأة مقدَّسة لها مكانتها، وأنَّ سبيلها هو الزواج، وأنها بنتٌ تملأ البيت خيراً، أو أختٌ تكون سنداً لأهل بيتها، أو زوجةٌ تعتني بزوجها وأولادها، أو أُمٌّ يُقبِّل أولادها رأسها، أو جدةٌ لها صدر البيت، هذا هو الحق، لكن ليس في الإسلام المرأة عشيقة، ولا وسيلة إعلانية، لا يُسمح في الإسلام أن تُجعل المرأة وسيلة إعلانية، توضع على المنتجات، بصيغةٍ فاضحة ليشتري الناس المنتج، ليست هذه مكانتها، (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) فلمّا تخرج المرأة من البيت إلى العمل وهي بأبهى زينة، وتوضع لتكون فيٍ مكان ينظر إليها الرجال، أو تُسلَّع تصبح سلعةً، أو تصبح عشيقةً، أو يرتكب معها ما حرَّمه الله خارج الزواج، أفسدناها وأخرجناها عن طبيعتها.
الهواء ربنا عزَّ وجل خلقه نقيّاً، لمّا نُكثِر من المصانع داخل المُدن نُفسِد الهواء، هو ليس كذلك الهواء في الأصل، هو نقي لكن نحن أفسدناه بعوادم السيارات وعوادم المصانع، الماء لمّا يخرج من الينابيع ويسيل في الأنهار، نقي عذب اشرب من حيث شئت من النهر، بأي مكانٍ انزل واشرب، لكن لمّا نُلقي به القاذورات، ونُسلِّط عليه مياه المجاري، يفسُد.

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(41)
(سورة الروم)

فالفساد ليس أصلاً في الخلق، الله لم يخلق شيئاً فاسداً، الله خلق كل شيء صالحاً، حتى الإنسان خلقه على الفطرة صالح، لو تُرك لفطرته لبقيَ على الخير، لكن أفسدوه، غيروه، وضعوه في غير موضعه، فقال: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ) لو أنَّ الحق جلَّ جلاله، أو لو أنَّ القرآن وهو حقٌ من الله تعالى، أو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وهو حقٌ من الله، أراد أن يتَّبِع أهواء هؤلاء، أهواءهم أن يصلوا إلى المرأة، يدَّعون أنهم يريدون حقوقها وحريتها، وهم يريدون حرية الوصول إليها، أهواءهم أنهم يريدون المال من الرِبا، أهواءهم أنهم يريدون أن تبقى آلهتهم المزعومة الشركيَّة الأصنام، من أجل أن يستعبدوا الناس بها، هذه أهواء، لكن الحق لا يتَّبِع الهوى، الحق هُدى من الله وليس هوى (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ) من المخلوقات.
(بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ) بل أتيناهم بما فيه عزهم وشرفهم وهو القرآن الكريم (بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ) القرآن ذِكرٌ لكم

وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ(44)
(سورة الزخرف)

لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(10)
(سورة الأنبياء)


القرآن فيه ذكرنا ورفعنا:
(بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ) يعني من أعجب العجب أن آتيك بشيءٍ فيه شرفك وعزك وسؤددك ومكانتك ثم تُعرِض عنه، الإنسان يُعرِض عمّا فيه دناءةٌ وخِسّة، لكن لا يُعرِض عمّا فيه رفعةٌ، لكن هم يُعرِضون عمّا فيه رفعتهم، القرآن رفع العرب، وجعلهم في مكانٍ عليّ (بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ) فالقرآن فيه ذكرنا.
والمعنى الثاني (بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ) أي بالقرآن الذي يذكرهم، ويبين لهم أحوالهم، حال المنافقين، وحال الصالحين، وحال الفاسدين، وحال المؤمنين، لكنهم أعرضوا عن ذكرهم ولم ينتبهوا إلى ما جاء من أوصافٍ في كتاب الله ينبغي أن يمتثلوها، ولا من أوصافٍ في كتاب الله ينبغي أن يجتنبوها.

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(72)
(سورة المؤمنون)

أي هل طلبت أجراً من هؤلاء (خَرْجًا) أن يُخرجوا لك شيئاً من أموالهم في مقابل تلك الهداية (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا) هل سألتهم مالاً؟ لمّا قالوا لذي القرنين:

قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا(94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95)
(سورة الكهف)

فالخرج هو ما تُخرجه من مالك، ومنه الخراج، خراج الأرض ما تُخرجه الأرض (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) ما يُخرجه الله لك من الثواب العظيم خيرٌ من أموالهم كلها (فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) جلَّ جلاله.

وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(73)
(سورة المؤمنون)

لا اعوجاج فيه وهو طريق الإسلام.

وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ(74)
(سورة المؤمنون)


التلازم وثيق بين ما يعتقده الإنسان وما يتحرك به:
(لَنَاكِبُونَ) أي لمائلون، نكبَ عن الصرط، مالَ عنه (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) هذه الآية أصلٌ في التلازم الوثيق بين ما يعتقده الإنسان وما يتحرك به.

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)
(سورة الماعون)

(يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) عقيدة (فذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) سلوك، هناك ترابط، دعّ اليتيم لا تجعل التكذيب بالدين، الترابط بين ما يعتقده الإنسان وما يسلكه، قال صلى الله عليه وسلم:

{ مَن كان يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليُكْرِمْ جارَه، ومَن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليُكرِم ضيفَه جائزتَه قيلَ: وما جائزتُه يا رَسولَ اللهِ؟ قال: يومٌ وليلةٌ، والضِّيافةُ ثلاثةُ أيَّامٍ، فما كان وَراءَ ذلِكَ فهوَ صَدقةٌ عليهِ ولا يَحلُّ لهُ أن يَثوي عِندَه حتَّى يُحْرِجَه مَن كانَ يؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخرِ فليقُل خيرًا أو ليَصمُتْ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

الإيمان انقلب لإكرام ضيف، فالتلازم الوثيق بين ما يؤمن به الإنسان ما يعتقده وما يقوم به (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) لا يريد أن يؤمن بالآخرة، أين المشكلة؟ (عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) سيميلون عن الصراط المستقيم، يعني لن تجد إنساناً لا يؤمن بالآخرة وهو مستقيمٌ على المنهج، يمكن أن تجد عنده أخلاق فطرية، تجد عنده أشياء تعلَّمها من والديه، اعتاد على الصدق، لكن أن تجد عنده مسير صحيح مستقيم بمنظومةٍ متكاملة وهو لا يؤمن بالآخرة لماذا؟! سينتقي، يقول لك هذه الأشياء تربينا عليها، أنا لا أغش الناس، وبالنسبة للعلاقة مع النساء؟ يقول لك لا دخل لها بذلك، بموافقتي وموافقتها، أنا لا أغش، ولكنه يرتكب الفاحشة مع امرأة، فبعض الناس يحتاروا، يقول لك رأيت إنساناً لا يؤمن بالأخرة لكنه ملتزم معي ما غشَّني، نعم هو ما غشَّك، ولكن هل المطلوب لتنتظم الحياة أن لا يغش الإنسان أو أن لا يلقي القمامة من السيارة فقط؟! لا، المطلوب منظومة قيَمية كاملة، حفظ أعراض، حفظ دماء، حفظ أموال، حفظ العقل، حفظ الدين.
هناك مقاصد كُليَّة للشريعة ينبغي أن تتوفر في هذا الإنسان، فليست القيَم جزئيةً، بمعنى أنه يأتي بشيءٍ ولا يأتي بشيء، فهذه الآية أصلٌ في أنَّ الالتزام بالطريق المستقيم ناتجٌ عن إيمانٍ بالآخرة، فالذي لا يؤمن بالآخرة سيميل عن الطريق المستقيم، هذا المَيل قد يكون شديداً، يُصبح مجرماً، يقتل، يسفك الدماء، يعتدي على الأعراض، يعتدي على الأموال، وقد يكون قليلاً، لكن أي مَيل مهما يكن قليلاً نهايته ستكون زاوية منفرجة كبيرة، أي ستكون المشكلة في النهاية كبيرة، مهما كان المَيل في بدايته قليلاً، لكنه سيكون عن الصراط ناكباً أي مائلاً، والحمد لله رب العالمين.