عبادة الهوى

  • محاضرة في الأردن
  • 2024-09-30
  • عمان
  • الأردن

عبادة الهوى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد أيُّها الإخوة الأكارم: سنتحدث اليوم إن شاء الله عن عبادةٍ مُحرَّمة، هل هناك عبادة مُحرَّمة؟! عبادة الهوى، عبادةٌ مُحرَّمة، طبعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنَّ هناك من يعبُد عبادةً مُحرَّمة، قال:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تَعِسَ عَبْدُ الدينار، تَعِسَ عَبْدُ الدرهم، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَة، تعس عَبْدُ الخَمِيلَة، إن أُعْطِيَ رَضِيَ، وإن لم يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انتَقَشَ، طُوبَى لعبد آخذ بعِنَانِ فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مُغْبَرَّةً قدماه، إن كان في الحِرَاسَةِ كان في الحِرَاسَةِ، وإن كان في السَّاقَةِ كان في السَّاقَةِ، إن استأذن لم يُؤْذَنْ له، وإن شَفَعَ لم يُشَفَّعْ }

(رواه البخاري)


العبادة المحرَّمة هي عبادة الهوى:
فالعبادة المُحرَّمة هي عبادة الهوى، أن يعبُد الإنسان هواه، وأن يتخذ إلهه هواه، قال تعالى:

أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(23)
(سورة الجاثية)

الهوى هو المَيل، أن يميل الإنسان إلى شيءٍ مُحرَّم، فيتعلق به ثم يعبده من دون الله، فيتخذه إلهً (اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ) والعياذ بالله، مَيل النفس إلى الشيء المُحرَّم، هوى إليه، مال إليه، قال الشاعر:
إنَّ الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت لقد لقيت هوانا
{ ابن المقفع }
أعظم الهوان أن يعبُد الإنسان هوى نفسه، قال تعالى:

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41)
(سورة النازعات)

ما هو سبب دخول الجنَّة؟ أن ينهى الإنسان نفسه عن الهوى، تأمره بشيءٍ فينهاها عنه، والمبتعدون عن منهج الله تعالى، قال تعالى:

فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)
(سورة القصص)

فالإنسان إمّا أنه يتجه إلى الهدى، أو يتجه إلى الهوى، ولا ثالث لهذين الأمرين لأن الله تعالى قال: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) هما طريقان لا ثالث لهما، فإمّا أن يتَّبِع الإنسان الهُدى أو أن يتَّبِع الهوى، قال صلى الله عليه وسلم:

{ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثٌ مهلكاتٌ، وثلاثٌ منجياتٌ، وثلاثٌ كفاراتٌ، وثلاثُ درجاتٍ، فأمَّا المهلكات: فشُحٌّ مطاع، وهوًى مُتَّبعٌ، وإعجابُ المرء بنفسِه، وأما المنجياتُ: فالعدل في الغضب والرضا، والقصدُ في الفقر والغنى، وخشية الله تعالى في السر والعلانية، وأما الكفارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السَبَرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام }

(رواه الطبراني في معجمه الأوسط)


معظم الناس يتعلقون بالمادة فيتبعون الشُحّ:
هذه مهلكاتٌ ثلاث، شحٌّ مطاع: أي بخلٌ يطيعه الإنسان، يعني جَيبه تأمره، لا تنفق، لا تُعطِ، دع الأموال لأولادك من بعدك، شحٌّ مطاع، أي مادية، بالعُرف الحديث اليوم الناس تطيع المادة، معظم الناس تتعلق بالمادة وليس بالروح، الإنسان قبضةٌ من الأرض ونفخةٌ من روح السماء، فمعظم الناس يميلون إلى الأرض، يتعلقون بالمادة، فيتبعون الشُحّ

{ إِيَّاكم والشّح فإنما هلك من كان قبلكم بالشحّ، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا }

(رواه أبو داوود وصححه الألباني)

اليوم المادية مسيطرة، المادية المقيتة مسيطرة على الناس، الحديث عن الروح، عن الغيب، عن الآخرة، لا تجد إلا قليلاً من الناس يتحدثون بهذه المعاني، حتى ثبت هذه اللوثة إلى كثيرٍ من المسلمين، فيقول لك أنا عقلاني، تكلم معي بالورقة والقلم، لا تكلمني عن الغيب، ديننا كله غيب، فإن لم أُحدثك عن الغيب فعن ماذا أُحدثك؟! القرآن كثيرٌ منه غيب، إيمان باليوم الآخِر، وبالملائكة، وبالكتب، وبالرسُل، وإيمان بالبعث، وإيمان بالحساب.

فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ(55)
(سورة الصافات)

عن ماذا يحدثنا القرآن؟ عن الغيب (فشُحٌّ مطاع) أي المادية مسيطرة على الناس، لا يتحدثون عن الآخرة، لا يتحدثون عن الروح، وإنما تعلقوا بالدنيا، وكأنها منتهى الآمال، ومحط الرحال.
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا" ذلك مبلغهم من العِلم، الدنيا مبلغ العِلم، أي هو آخِر ما يصل إليه الدنيا، بعد الدنيا بلحظةٍ لا يعرف شيئاً، اليوم أحياناً يُجرون مقابلات تخرج على اليوتيوب، ربما يكون بعضٌ منها مصطنع، لكنها تُشير إلى حقيقةٍ موجودة للأسف، وهو أنه يسأل بعض الناس أسئلة بسيطة جداً في الدين، يقول له أكمل سورة الإخلاص أو أكمل سورة الناس، يقول له لا أعرف، لا أحفظها، يسأله من النبي الذي كذَّبه قومه

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ(14)
(سورة العنكبوت)

يقول لا أعرف، اسأله كم هو سعر الدولار اليوم فيُجيبك فوراً، فالناس عموماً أعرضوا عن الدين، أعرضوا عن الآخرة، أعرضوا عن الغيب، تعلقوا بالمادة، هذا معنى (شُحٌّ مطاع).
قال: (وهوًى مُتَّبعٌ) موضوع حديثنا، يتَّبِع هواه (وإعجابُ المرء بنفسِه) سنعود إلى اتباع الهوى، (وإعجابُ المرء بنفسِه) أي أنا أفهم وغيري لا يفهم، هذا هو الرأي وهذا هو الحق، وما أعرفه هو الصواب وغيري على خطأ، أمّا هذا منهج الإمام الشافعي: " قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب" لا يعرفه (وإعجابُ المرء بنفسِه) فالمُهلكة الثانية هي الهوى المُتَّبع، أن يتَّبِع الإنسان هواه، انظروا إلى قوله تعالى:

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ(175 (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(176)
(سورة الأعراف)

هذا كلام القرآن العظيم (آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا) آتاه الله الهدى، الكون يدل على وجود الله ووحدانيته وكماله، آيات كونية، الآيات القرآنية (آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) يقرأ القرآن الكريم، الآيات التكوينية تدل على الله

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6)
(سورة الفجر)

مصَارِع الأُمم السابقة، ما فعله الله بالطُغاة والجبابرة، كأنه لا يرها (فَانسَلَخَ مِنْهَا) خرج منها تماماً، قال: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) كان يمكن أن يجعله الهدى في السماء، أن يرفعه الله إلى عالم الروح، إلى عالم السكينة، إلى عالم الراحة والطمأنينة (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) لو سأل إنسان لماذا لم يرفعه الله ما دام ولو شئنا؟ (وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) بسببه هو، بقي في الطين، في أوحال الأرض، لم يرقَ إلى وحي السماء (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) فالهوى المُتبَع اليوم مصيبة، والمصيبة الأكبر أنَّ الهوى المُتبَع اليوم لا يُسمّى هوى، النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يقول:

{ عن أبو مالك الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا }

(صحيح البخاري)


المصيبة الأكبر أنَّ الهوى المُتبَع اليوم يسمونه بغير أسمائه فلا يُسمّى هوى:
مشروبات روحية، لا يُسمّيها خمر، يعطيها أسماء برَّاقة، هذا ينسحب على كثيرٍ من واقعنا اليوم، الرِبا يُسمّونه بغير أسمائه، فوائد، التفلُّت من منهج الله يُسمّونه تقدُّم، الالتزام بمنهج الله رجعية، النفاق لباقة، دبلوماسية، الرشوة هدية، العمل الملتوي فلان شاطر، يُسمّونها بغير أسمائها، منهج عام، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب على الخمر، لكنه أصبح منهجاً عامَّاً، وبالمناسبة أعمق من ذلك، الدجَّال سيأتي، وهذا نصٌ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤمن به، شخصٌ له مواصفاته، لكن هو الآن للأسف الشديد جاء بكل مواصفاته قبل أن يأتي بنفسه، فالأرض مُهيئة له، نسأل الله السلامة، وأن يعصمنا من فتنة الدجَّال.
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يُسلِّم من صلاته إلا يستعيذ من أربع، واحدة منها فتنة الدجَّال

{ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير، فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجَّال }

(رواه مسلم)

وكان يُحذِّر أمته منه، لكن مواصفاته أصبحت موجودة في العصر، الطاغية المجرم الإرهابي يصف من يقف ضده ليحمي نفسه من شرِّه يصفه بالإرهابي، دجَل، الإعلام دجَل، خلاف الحقائق، فمواصفات الدجَّال وهو أنه قمة الكذب، ليس الكذب، الدجَل، الكذب يكون القصة لها أصلٌ مُعيَّن، لكن يُحرِّفها يكذب، كذب، لكن هذا دجَّال يُدجِّل، اليوم الأمور التبست إلى درجة الدجَل، ما أكثر الدجاجلة، فأصبح العصر للأسف مُهيأً للدجَّال، بعض الناس كانوا يقولون كيف سيأتي الدجَّال مع كل هذا التحذير! والنبي صلى الله عليه وسلم وصفه، والعين طافية، ويشرب طبرية، كل الأمور واضحة، كيف يمكن لشخصٍ به عقل أن يتَّبِعه؟! الآن هناك دجَّالون يدجِّلون ويعلمون أنهم يدجِّلون، وهناك من الناس من يمدحونهم، ويقفون في صفهم، ويناصرونهم على طغيانهم، أين المشكلة؟! اليوم بعض الناس يمسكون علبة السجائر ويقرؤون عليها خطر مميت يسبب السرطان والموت، وبعد ذلك يُشعِل السيجارة ويأخذها! فالمعلومة ليست دائماً تُجبِر صاحبها على الصواب، إذا لم يكن هناك منهجٌ إلهي لا يُجبِره، فالدجَل موجود اليوم والناس يتَّبِعون كل ناعق، وكل صيحة، وكل كلامٍ من شرق الدنيا أو من غربها (وإعجابُ المرء بنفسِه) الهوى المُتبَع اليوم للأسف، هو السِمة العامة التي يعيش عليها الناس نسأل الله السلامة.
لكن المصيبة كما قلت في أنهم يُسمّونها بغير أسمائها، ذكرت الخمر والرِبا وغيرها، والهوى اليوم يُسمّى بغير أسمائه، والآن سأدخل في العمق قليلاً، الهوى اليوم يُسمّيه البعض عقل، اليوم بعض من يتَّبِعون أهوائهم يُسمّونه اتباع العقل، عبارة لطيفة برَّاقة، هل هناك أحداً تقول له عقل يقول لك دعني منه؟ عقل، فهم، نضج، فهناك اليوم من يتَّبِعون الهوى بإسم اتباع العقل، يقول لك نحن المدرسة العقلانية، نحن نتَّبِع عقولنا، ليس الهوى، طبعاً العقل نحن لا نُنكِر دوره، ولا نُنكِر أنه عملية مهمة، وأنَّ هذه العملية إن وجهِت توجيهاً صحيحاً العقل هو الفهم، لأن العقل ليس جوهراً، لا تشريحياً، سريرياً لم يجدوه كموجود، ربنا عزَّ وجل قال العقل في القلب، عملية تتم في القلب، الله أعلم بقلب النفس أم بالقلب المضخة أم بالدماغ، لكن ليس له جوهر، فالعقل هو عملية، عملية مهمة جداً يقوم بها الإنسان تميّزه عن سائر المخلوقات أنه يعقل، يربط الأمور ببعضها، كلمة العقل في الأصل من الربط

{ قال عليه الصلاة والسلام للذي سأله: يا رسول الله أعقلها -أي الناقة- وأتوكَّل، أو أطلقها وأتوكَّل؟! قال: اعقلها وتوكَّل }

(رواه الترمذي)

فالعقل ربط، والعقل فهم.

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(164)
(سورة البقرة)


العقل هو فهم الأشياء وربطها:
يربط صاحبه، يمنعه من الأشياء التي تشينه في الدنيا والآخرة، ففي إنسان عاقل، وإنسان ليس بعاقل، فالعقل مهم، والعقل أداة مهمة جداً من خلالها يتبيَّن الإنسان صحة النقل ويفهم من خلالها النقل، الآن أنا أُمارس عمليات عقلية، أُحدثكم بحديثٍ صحيح، من أين أتيت أنه صحيح؟ نقلاً عن من صحَّحه من أهل العِلم بناءً على معطيات عقلية، ثم أشرحه بما يفتح الله تعالى به، من أين أشرحه؟ بالربط، أربط بين الآية مع الحديث، فالعقل عملية مهمة جداً، لكن أن يتَّبِع الإنسان العقل أو أن يتَّبِع هواه تحت مُسمّى العقل فهنا المشكلة، عندما يبدأ ويقول لك قال لي عقلي، فانتظر الكوارث، لأن العقل لا يقول لك شيئاً، الذي يقول هو المنهج، القرآن والسُنَّة، عقلك يفهم المنهج أمّا عندما عقله يقول له ما الذي يجب أن يفعله، عقلها يقول لها الحجاب تخلُّف، عقله يقول له الرِبا اليوم لم يعد رِبا، هذا عمليات تبادل، انتهى، هذا الرِبا القديم لم يعد موجوداً، عقله يقول له، عقله يقول له الاختلاط غير المنضبط اليوم حضارة وتقدُّم، يقول لك والله أنا بعقلي لا أرى شيئاً في ذلك، ومن قال لك إنَّ عقلك يستطيع أن يقول لك ما الذي يصح وما الذي لا يصح، عقلك يؤيِّد النَص، أمّا إذا هناك نَص نقف جميعاً أمامه، إذا قال الله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(278)
(سورة البقرة)

نترك الرِبا، فالعقل لا يأتي بمعلومة أنا سأضرب لكم مثالاً: افترضوا أننا اليوم لا نعرف التيمُّم، نحن لم يصلنا حكم التيمُّم، الآن فقدنا الماء لسببٍ أو لآخر، قمت أنا لأتوضأ لا يوجد ماء، واقترب أذان العشاء، وسيفوت وقت المغرب، سألت الجيران لا يوجد عندهم ماء، وإذا أردت الذهاب من أجل الماء فالمكان بعيد، ماذا أفعل؟ الآن كل واحدٍ سيقول له عقله شيئاً، الأول سيقول له عقله صلِّ بلا وضوء، الثاني قال له عقله بالثلاجة يوجد حليب توضأ باللبن، الثالث قال له عقله أجِّل الصلاة حتى تجد الماء، غداً أو بعد غد تقضي ما فاتك من صلوات، كل واحد يقول له عقله، أمّا النَص أنه إذا ما وجدت ماءً فهناك تراب، بالظاهر الماء للنظافة، التراب ليس به نظافة، هذا هو النَص، الآن كلنا أوقفنا عقولنا واتبعنا النَص، هذا هو اتباع الهدى، وهذا الذي قصدته بأنَّ اتباع العقل أحياناً هو اتباعٌ للهوى، فالعقل مهم، والعقل هو فهم الأشياء وربطها، وهو مطلوبٌ شرعاً، والله تعالى ذكر:

وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ(68)
(سورة يس)

وَبِاللَّيْلِ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(138)
(سورة الصافات)

في القرآن الكريم:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)
(سورة آل عمران)

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)
(سورة محمد)


اتباع الهوى أحياناً يكون عبر تسمية اتباع العقل:
يقال أنها في ألف آيةٍ تقريباً، متعلقات التفكُّر والتدبُّر والتذكُّر والتعقُّل كلها في كتاب الله، أمعِن النظر، أشغِل عقلك، لكن عندما يصبح العقل شيءٌ ثمينٌ جداً في مقابل النَص، يُحكَّم العقل في النقل ثم في اتباع الهوى، المدرسة العقلانية، نحن جماعة العقل، ما أدراك أنَّ هذا الكلام صحيح، تغيرت الأحكام اليوم، الزمن تغير، هذا الذي نتابعه اليوم عبر وسائل التواصل، فاتباع الهوى أحياناً يكون عبر تسمية اتباع العقل، أحياناً يكون عن طريق تسمية اتباع العصر، العِلم، متطلبات العصر، والكلمات برَّاقة، والجيل الشاب نشأ على أنَّ هذا العصر هو عصر العِلم، وعصر العقل، وعصر التقدُّم والحضارة، فتجذبه هذه المصطلحات، نقول له نعم نحن مع الفهم والتطور وتقدُّم المسلمين، لكن لسنا مع إحلال العقل مكان النقل، بحيث يصبح أداةً تشريعية، العقل لا يُشرِّع، العقل يفهم الشرع، لكنه لا يُشرِّع.

العقل مربوط بالبيئة ولا يُلزم صاحبه بالصواب دائماً:
أحبابنا الكرام:
أولاً: العقل مرتبط بالبيئة، مرتبط بالواقع، الآن أخرِج إنساناً من قبره جدلاً، مات قبل مئة سنة، وقل له الآن أنا أتكلم هذا الكلام والناس في الولايات المتحدة الأمريكية بأقصى الدنيا يتابعون الآن بالصوت والصورة بهذه اللحظة، يقول لك كيف ذلك؟! تقول له هل ترى هذا الكرت الصغير، هذا يحتوي كل هذه المكتبة من هذا الحائط إلى هذا الحائط، حفظناها هنا، يقول لك أنت مجنون، تقول له بل أنت المجنون، لا هو سيقتنع بعقلك ولا أنت ستقتنع بعقله، هو لم يخطئ، لكن هو بيئته ومعطيات عصره لا تسمح له بأن يتخيل أنه يمكن أن يجمع هذا الكم من المعلومات في رُقاقةٍ صغيرة، لا يستطيع تحمل ذلك، أمّا نحن معطيات عصرنا تسمح لنا بذلك، فالعقل مربوط بالبيئة، فإذا إنسان قال لك أريد أن أتبع عقلي، قل له حدد لي أي عقل؟ لأن اليوم هناك ثمانية مليار إنسان أي ثمانية مليار عقل، فإذا كان المرجع هو العقل فأي عقلٍ تتحدث عنه أنت، حدد لي ما هي مواصفاته، عقلي أو عقلك أو عقل الأمريكي، حدد لي أي عقل، فالعقل مربوط بالبيئة.
الأمر الثاني: أنَّ العقل لا يُلزم صاحبه بالصواب دائماً، ليس بالضرورة، اليوم أُناسٌ كثيرون وصلوا بعقولهم إلى أنَّ الرياضة مفيدة، لكن الذين يخرجون صباحاً للرياضة قلائل جداً، لا يشكلون عشرة بالمئة من مجموع المقتنعين عقلاً بأهمية الرياضة، مليون مدخن ثمانمئة ألف منهم مقتنعون بأنَّ الدخان مضرٌ بالصحة، لكن الذين ألزمهم عقلهم بهذا الصواب لا يجاوزون واحد بالمئة، فالعقل لا يستطيع أن يُلزم صاحبه بالصواب، ولو وصل إلى الصواب لا يُلزمه، ربنا عزَّ وجل يريد أن يلزمنا بالصواب من خلال شرعه ودينه

لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)
(سورة فصلت)

لمّا وصف الله تعالى نُطق نبيِّه، زكَّى كلامه فقال:

وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ(4)
(سورة النجم)

(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ) ما قال وما ينطق عن عقله، لأن الهوى أشكالٌ وألوان، منها أنه يقول نطق عن عقله، (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) مرة شيخنا الدكتور راتب حفظه الله، شرح لي هذه الآية منذ عشرين عاماً بطريقةٍ جميلةٍ جداً، قال لي ذهبت إلى دكان لبيع الستائر فقال لبائع الستائر أريد ستارةً للحائط عندي، والحائط عندي عرضه متر فكم متر أحتاج؟ فقال: القاعدة عندنا معروفة بعالم الستائر، تأخذ عرض الحائط وتضرب باثنان وتزيد نصف، فإذا كان عندك متر تحتاج إلى مترين ونصف، فاتفقوا على القاعدة، فبحث الشيخ عن الستارة المناسبة باللون المناسب والنقش المناسب، قال له هذه، فلما قاسها وجدها مترين فقط، والقاعدة تقول يلزمه مترين ونصف، والشيخ يريد هذه حصراً لأنه اقتنع فيها، فنظر البائع قليلاً وقال له هذا المُطرَّز إذا فردناه يكون أجمل، فلا يحتاج إلى مترين ونصف، يكفي مترين فقط، بلحظةٍ واحدة غيَّر القاعدة من أجل أن يبيع، فهذا نطق عن الهوى، هو هوى نفسه أن يبيع، فلم تعد قاعدة ما دام أنت تُغيِّر القاعدة لكل شخص حسب البيع، فالنطق عن الهوى كثيرٌ اليوم، الناس كثيراً يحدثونك بطريقةٍ يكون هناك هوى نفس بالداخل، فهو يتكلم بطريقةٍ توافق هوى نفسه (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ).

من أسوأ الأمور التي تؤدي إلى اتباع الهوى مجالسة أصحاب الأهواء:
من أسوأ الأمور التي تؤدي إلى اتباع الهوى مجالسة أصحاب الأهواء، يعني الإنسان عندما يُكثِر الجلوس مع أصحاب الأهواء، يهواهم ويهوي إليهم فيعبُد هواه بعد حين، لذلك كان الحسن البصري يقول: " إيَّاكم ومجالسة أصحاب الأهواء" الذين يتكلمون كثيراً بهوى النفس من غير انضباطٍ بمنهج الله، بكتاب الله وسُنَّة رسوله لا تجالسه، ومما يؤدي أيضاً إلى اتباع الهوى طول الأمل، كان السلف يقولون: أخوف ما نخاف عليكم طول الأمل و اتباع الهوى، يوجد ربط بين طول الأمل واتباع الهوى، لأن الإنسان عندما يطول أمله وينسى أن هناك موعداً للرحيل، يتَّبِع هوى نفسه، لكن عندما يدرك أن الوقوف بين يدي الله قريب يتَّبِع هدى الله، حسب النظرة عنده، شيئان اثنان يؤديان إلى اتباع الهوى، مجالسة أصحاب الأهواء وطول الأمل، بحيث لا يذكر الإنسان الموت ولا يتذكره فيتَّبِع هواه، لأنه يريد الدنيا، والدنيا هوى.
أمّا العلاج لاتباع الهوى، فإن الله تعالى ذكره في الآية التي ذكرتها في بداية اللقاء (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ) وذكره البوصيري في قوله:
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ وَخَالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا وَإِنْ هُمَـا مَحَضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ
{ البوصيري }
فعلاج اتباع الهوى أن ينهى الإنسان النفس عن الهوى، أي المجاهدة، أن يجاهد نفسه، قال تعالى:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69)
(سورة العنكبوت)

قال السلف: (جَاهَدُوا فِينَا) أي عملوا بما علموا فأورثهم الله علم ما لم يعلموا، ربنا عزَّ وجل من يعمل بما علم يورثه علماً جديداً يتعلمه، أمّا الذي يقف عند المعلومة دون أن يجاهد نفسه ويحمل نفسه على القيام بها، فهذه مشكلةٌ كبيرة (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) فعلاج اتباع الهوى أن يحمل الإنسان نفسه.
مثال: الفِراش دافئ وأذَّن الفجر ما العلاج؟ الهوى أن تبقى في الفراش، اتباع الهوى أن يبقى في الفراش، اتباع الهدى أن تقوم للصلاة، ما المطلوب لعلاج هذا الاتباع للهوى؟ أن تنهض وتجبر نفسك، ثاني يوم أسهل، ثالث يوم أسهل، رابع يوم أصبحت عادة ألفها الإنسان، يصبح بالعكس تماماً، يقول لك إن لم أُصلِّ الفجر اليوم لا أعلم ما يحدث لي، أكون مُعكَّر، لأنه ألِف صلاة الفجر بعد حين، وأيضاً كل شيء كذلك، غض البصر، حفظ اللسان، إنفاق المال في سبيل الله، ترك المال الحرام، كله يحتاج إلى مجاهدة، وهذا من أعظم الخوض في نفس الإنسان، النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ }

(رواه الطبراني وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة)

انظر إلى الدقة، اليوم يقول لك عوِّد نفسك، يعطيك هذه الكلمات البرَّاقة، جميل لا مانع، بالبرمجة اللغوية العصرية بالعلوم الحديثة، ابدأ من النهاية، عوِّد نفسك، استيقظ للهمّة، قال صلى الله عليه و سلم (إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ) وقِس عليها، الكرم بالتكرُّم، العِفَّة بالتعفُّف، أن تبذل جهداً في سبيل الوصول إلى العِلم فتتعلم، أنا غضوب لا أستطيع، إذا إنسان تكلم كلمةً أمامي أغضب، لا تحدثني أنا هكذا خلقني الله، لا هذا غير صحيح (الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ) درِّب نفسك، أول مرة صعبة، أن تُستفز وأن تقول أعوذ بالله، بسم الله وتجلس مكانك، تُغيِّر موضعك، تنصرف من المكان صعبة، مُعتاد إذا أحد أثاره أن يُثار فوراً، عوَّد نفسه على الحلم فتحلَّم فأصبح حليماً، فكل الأخلاق الحسنة يكتسبها الإنسان.

الطِباع لا يؤاخذ عليها الإنسان لكن الأخلاق التي سوف يُحاسب عليها:
لا نُنكِر أنَّ هناك طباعاً نحن نختلف عن بعض، هناك طباعٌ كثيرة، هناك إنسانٌ كلِّي وهناك إنسانٌ جزئي، هناك إنسان يحب السمَر، هناك إنسان يميل إلى النوم، هذه طِباع لا يؤاخذ عليها الإنسان، لكن الأخلاق التي سوف يُحاسب عليها لو لم يكن بإمكانه أن يغيِّرها لكان التكليف عبثاً، كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني، قال : لا تغضب، فردّد، قال :لا تغضب }

(رواه البخاري)

إذا كان غير قادر على ترك الغضب فكيف يوصيه؟ معناها التكليف عبث، إذا إنسان قال لك أنا غضوب لا أستطيع إلا أن أغضب، والنبي يقول له لا تغضب، ولا يستطيع، هل يأمر الله أو نبيِّه بشيءٍ لا يُستطاع؟! حاشاه.

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(286)
(سورة البقرة)

فما دام الشرع كلَّفنا بالأمانة، فنستطيع أن نحمل أنفسنا عليها، وما دام كلَّفنا بالحلم فنستطيع أن نتحلَّم، وما دام كلَّفنا بالكرم فينبغي أن نتكرَّم حتى نصبح كرماء.
أحياناً الإنسان يكسب طبع، من بيئته، من مجتمعه، من ثقافته، من ظروفٍ مرَّ بها، لكن هل هي قدرٌ محتوم لا يستطيع تغييره؟ إذا كان لا يستطيع تغييره وهو مكلفٌ بتغييره فإذاً هناك مشكلة، ما لست مكلَّفاً بتغييره يُطبَع المرء على الخِلال كلها، هناك طباع يُطبَع الإنسان عليها، يعني طبعه، طبعه أنه كلِّي، طبعه أنه جزئي، بعلم النفس يقول لك هناك واحد كلِّي وواحد جزئي.
مثل إنسان ذهب لزيارة الوزير الفلاني من أجل إمضاء معاملة، فذهب فلم يجده، هناك نوعان من الشخصيات، الشخص الأول تلقاه تقول له قابلت الوزير؟ يقول لك قابلته ورفض، لم يرضَ أن يوقِّع، الثاني يحكي لك القصة بشكلٍ مختلف، والله اليوم خرجت من الصباح وجلست عنده نصف ساعة، والدخول لعنده صعبٌ جداً لكثرة المواعيد، فتقول له يعني قابلته؟ فيقول لك انتظر سآتيك بالكلام، جلسنا أكثر من نصف ساعة، وبعدها قال لديه اجتماع، تقول له يعني لم تقابله؟ فيقول لك انتظر سأكمل كلامي، ثم انتظرت نصف ساعة، وبعد ذلك؟ عاد من الاجتماع، قابلته؟ سآتيك بالكلام، وآخر المطاف أدخلوني لعنده، قلت له وشرحت له وأخذت وأعطيت معه، بالنتيجة يعني وقَّع؟ لا لم يوقِّع، ولكن القصة أخذت عشر دقائق كلام، الثاني قابلت الوزير؟ قابلته ورفض، كلمتين، لا يحب الخوض في التفاصيل، هذه طِباع، الناس طِباع، شخصٌ كلِّي وشخصٌ جزئي تفصيلي.

يجب على الإنسان أن يحمل نفسه على أن يتَّبِع الهُدى وأن يترك الهوى:
وعلى فكرة النساء بالأكثر تفصيلية، الرجال بالأكثر كليِّة، النساء تفصيلي أكثر، وهذا شيءٌ طبَع الله عليه المرأة من أجل أن ترعى بيتها، جزئيات البيت، تربية الأولاد، متابعة الولد، فربنا فطرها على الجزئيات بشكلٍ أكثر، تتبُّع التفاصيل، جزئية أكثر، الرجال غالباً يحب أن يقصر الكلام من آخره، فقصدت أنه هذه طِباع كلّي وجزئي، هذه لن يحاسب عليها الإنسان إن كان كلّي أو جزئي، تفصيلي أو شمولي لن يحاسب، لكن ما نحن محاسبون عليه يجب أن نحمل أنفسنا على تغييره، اتباع الهوى ليس موضوع محاسبين عليه، الموضوع أن اتباع الهوى يودي بصاحبه في النار والعياذ بالله.
فيجب على الإنسان أن يحمل نفسه على أن يتَّبِع الهُدى وأن يترك الهوى، وهذا علاجه كما قلنا بأن ينهى النفس عن الهوى، هي تطلب شيئاً وهو يمنعها، كيف ابنك أحياناً أنت تربّيه، دائماً يطلب الحلوى وهذه السكريات الكثيرة أصبحت مُضرة به، وأصبح عنده سمنة، والطبيب قال لك يجب أن توقف له الحلويات وهو معتاد، فأنت في المرة الأولى تعاني معه، يصل صوته لآخِر الحي، ويزعجك وينزعج ويبكي وأنت تنهاه، ثاني يوم أخف، وثالث يوم أخف، وبعد ذلك تضع له برنامج تقول له بالأسبوع عندك مرة واحدة الحلويات فقط حتى يعتاد، فينتقل من مرحلة المجاهدة إلى التعوُّد على الحالة الجديدة، إلى التعوُّد عليها، والنفس عاملها أنت كالطفل، دائماً لديه احتياجات، قد تذهب باتجاه الهوى لأنه أسهل على النفس من الهُدى، الهوى لا تكليف فيه، افعل ما شئت، فهو أسهل، فالنفس تذهب باتجاه الهوى، لكن مصيره أنه يهوي بصاحبه في النار

فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9)
(سورة القارعة)

والعياذ بالله، فاحمل نفسك ولأحمل نفسي دائماً على أن ننهى النفس عن الهوى ونأخذها باتباع الهُدى، والحمد لله رب العالمين.