سورة الكهف والنجاة من الفتن
سورة الكهف والنجاة من الفتن
المُحاوِرة هناء المجالي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله المُنعِم المُتفضِّل، الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنة، الحمد لله الذي علَّمنا وأخذ بنواصينا، وفتح قلوبنا وأجلسنا لمُدارسة كتابه، وهو القائل: |
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ(30)(سورة آل عمران)
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، حبيب الحقّ وشفيع الخلق، حيّاكم الله مستمعينا إلى هذا اللقاء الطيِّب من سلسلة أنوار وهدايات السور القرآنية في برنامجكم نوافذ دينية. |
مازلنا ندور في فَلَك سورة الكهف، ومازلنا نبحث في ثناياها. |
مستمعينا لإلقاء الضوء على مزيدٍ من هذه التأملات، والأنوار، والهِدايات، فإننا نكمل الحديث مع ضيفنا فضيلة الدكتور الداعية بلال نور الدين، أستاذ الإعجاز في الكتاب والسُنَّة، أستاذ التفسير وعلوم القرآن، المشرف والمدير العام لأعمال وموقع الدكتور محمد راتب النابلسي. |
دكتور بلال أسعد الله أوقاتكم. |
الدكتور بلال نور الدين:
أسعدكم الله، بارك الله بكم ونفع بكم، وأعلى قدركم. |
المُحاوِرة هناء المجالي:
بدايةً يا دكتور نشكرك على تعاونك الدائم معنا، فما بخلت علينا يوماً، ولا على المستمعين في معلومةٍ، ولا رددت لنا طلباً في أي حوارٍ أو مقابلة، فجزاكم الله خير الجزاء يا دكتور. |
الدكتور بلال نور الدين:
وإياكم، بارك الله بكم، أقل واجب، حيّاكم الله. |
المُحاوِرة هناء المجالي:
دكتور لعلَّنا نبدأ حلقتنا بالحديث عن الفِتن الكثيرة والمتلاحقة، والتي تحاصر الإنسان من كل جهة، تأتي سورة الكهف لتعطينا خيط النجاة، المَخرَج من هذه الفِتن، العصمة منها، نحن نستهل حديثنا عن القصة الثانية في سورة الكهف، وهي صاحب الجنَّتين، نلاحظ أنَّ الغلوّ والتطرُّف هما سمة الحضارة المادية، وهذا ما دلَّت عليه الآية الثامنة والعشرين في السورة، وهي قوله تعالى: |
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28)(سورة الكهف)
نودّ بيان ما دلَّت عليه هذه القصة، وهذا المدلول، وما هي القيمة لذلك؟ تفضل يا دكتور. |
تُعلّمنا سورة الكهف أن نعطي الدنيا حجمها الحقيقي:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة أنَّ الغلوَّ هو المبالغة في شيءٍ ما، والتشديد فيه بتجاوز الحدّ الذي وضعته الشريعة، أو هو مجاوزة الحدّ في تعظيم شيءٍ أو التنقيص منه، بمعنى: الحياة الدنيا لها حجمٌ مُعيَّن، هذا الحجم يجب أن تأخذه، فإذا أعطيناها حجماً أكبر منها فقد غلونا أو تطرَّفنا، وإذا أعطيناها حجماً أصغر من حجمها، فهذا غلوٌّ وتطرُّف، فالتطرُّف أن تأخذ طرفاً، فإذا ذهبت إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار، فأنت في تطرُّف، أمّا إذا وقفت في الوسط فأنت تأخذ الأمور على حقيقتها. |
الدنيا إذا أُعطيت أكبر من حجمها طغت على آخرتنا، جعلها الإنسان منتهى آماله ومحط رحاله، ثم يكتشف يوم القيامة أو عند الموت، أنها لا شيء، وأنه سعى إليها سعياً حثيثاً في معصية الله، فاستحقَّ غضب الله، وأذهب طيِّباته في الحياة الدنيا، وأمّا إذا أعطاها حجماً أقل من حجمها، فتركها وأهملها ولم يعبأ بها، فإنه عند ذلك يُخطئ خطأً آخر، في أنه ترك الدنيا لغيره، فأخذها غيره وتحكَّم به من خلالها، وأصبح هو لا يملك شيئاً من مقوماتها، فما استعان بها على آخرته. |
فإذاً نحن في سورة الكهف نتعلم أن نعطي الدنيا حجمها الحقيقي، في قصة صاحب الجنَّتين يتضح هذا المعنى بشكلٍ واضح، ما الذي فعله صاحب الجنَّتين؟ اغترَّ بالدنيا، والغرور أن ترى الشيء على غير حقيقته، على غير حجمه أيضاً، يعني كلها مصطلحاتٍ تلتقي في هذا المعنى، الغرور، الغلوّ، التطرُّف، كلها تلتقي في أن نعطي الشيء حجماً أكبر من حجمه، أو أحياناً أقل من حجمه، وكلاهما خطأ. |
لذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: |
{ اللهمَّ اقسمْ لنا من خشيتِك ما يحولُ بيننا وبين معاصيكَ، ومن طاعتِك ما تبلغُنا به جنتَك، ومن اليقينِ ما يهونُ علينا مصيباتِ الدنيا، ومتعنَا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوتِنا ما أحييتَنا، واجعلْه الوارثَ منا، واجعلْ ثأرنا على منْ ظلمَنا، وانصرْنا على منْ عادانا، ولا تجعلْ مصيبَتنا في دينِنا، ولا تجعلِ الدنيا أكبرَ همِّنا، ولا مبلغَ علمِنا، ولا تسلطْ علينا منْ لا يرحمُنا. }
(أخرجه الترمذي والنسائي والطبراني)
فتنة المال من أعظم فتن الدنيا:
الدنيا همٌّ من الهموم وعلمٌ من العلوم، لكن يا رب لا تجعلها أكبر الهَم، حتى لا نغتر بها وننسى آخرتنا، الدنيا نعمل فيها لكننا لا نعمل لها، نتحكَّم بها ولكنها لا تتحكَّم فينا، نخدم الناس بها ولكنها لا تأسرنا، نجعلها في أيدينا لكن ليس في قلوبنا، فسورة الكهف في قصة صاحب الجنَّتين تشير إلى هذه الفتنة، الفتنة بالدنيا، بالمال، والمال هو من أعظم الفتن في الدنيا حقيقةً، لذلك خصَّ المال بالذكر في سورة الكهف، فصاحب الجنَّتين اغترّ فقال: |
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا(34)(سورة الكهف)
فجاء الجواب: |
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46)(سورة الكهف)
فهذه زينة، فأنت هذه الزينة التي للحياة، ظننتها كل شيءٍ، ولم تعتبر بأنها مجرد زينةً للحياة الدنيا، فتفاخرت بها، والله تعالى في مطلع سورة الكهف: |
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا(7)(سورة الكهف)
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فإياك أن تتزين أنت بها وهي للحياة الدنيا، أن تتزين بها في المعصية طبعاً، في غضب الله، في التعالي على خلق الله، فقال: ( أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا). |
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا(35)(سورة الكهف)
إذاً الغلوّ يستمر هنا، التطرُّف يستمر (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) ثم (مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا) كيف لا تبيد وهي جزءٌ من هذه الدنيا الزائلة؟! بينما جنَّته كما قال تعالى: |
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا(33)(سورة الكهف)
فهي لم تَظلِم من الثمر شيئاً، فقد سخَّرها الله لخدمته فلم تَظلِم، أمّا هو (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ) هي لم تَظلِم، لكنه هو ظلم لأنه كائنٌ مُخيَّر فظَلم، أمّا هي فسيِّرها الله لخدمته فلم تَظلِم منه شيئاً، إذاً نحن أمام هذا الكِبر، أمام هذا الغلوّ والتطرُّف، لذلك ربنا جلَّ جلاله تعقيباً مباشرةً على هذه القصة قال: |
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا(45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46)(سورة الكهف)
المُحاوِرة هناء المجالي:
نعم يا دكتور، مقصود سورة الكهف وأنا ذكرت ذلك في المُقدِّمة، هو العصمة من هذه الفِتن، وأنت ذكرت من هذه الفِتن، هي فتنة المال وفتنة الدنيا، لو عقدنا مقارنةً يا دكتور، بين صاحب الجنَّتين وبين سيدنا يوسف عليه السلام، ونحن تحدثنا عن هذه السورة، وكان أبرز ما في هذه السورة، هي نسبة الفضل لله من قِبَل سيدنا يوسف، كل شيءٍ كان ينسبه إلى الله، لذلك مكَّن له الله في هذه الدنيا، لو عقدنا هذه المقارنة فماذا تقول بارك الله بكم. |
سيدنا يوسف انتقل من النعمة إلى المُنعِم أمّا صاحب الجنتين فإنه بقي مع النعمة:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم جميلٌ جداً هذه المقارنة، لو نظرنا في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، نجد أنه من اللحظة الأولى ينسب الفضل إلى الله تعالى في كل أحواله، بمعنى في لحظاته الأولى بمجرد أن بدأت تراوده امرأة العزيز عن نفسه قال: |
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23)(سورة يوسف)
ما قال أنا أستطيع أن أُقاوم الشهوة، قال: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) لمّا عقَدت العزم على إيقاعه في المعصية، ناجى ربه، قال: |
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ(33)(سورة يوسف)
ما اعتدَّ بنفسه، لمّا دخل السجن وجدنا ذلك، قال: |
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(37)(سورة يوسف)
ما قال علمي، ثم قال لهما، لصاحبي السجن: |
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ(38)(سورة يوسف)
الآن لمّا جاء أهله إليه قال: |
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(90)(سورة يوسف)
ثم يُخاطبهم: |
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(100)(سورة يوسف)
ثم في نهاية المطاف يقول: |
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(101)(سورة يوسف)
فنحن نجد في كل هذه المراحل من حياة يوسف عليه السلام، نجد فيها هذا الاعتصام بالله، نجد فيها نسبة الفضل إلى المُنعِم جلَّ جلاله، نجد فيها أن يوسف عليه السلام لم يبقَ مع النعمة، وإنما انتقل من النعمة إلى المُنعِم جلَّ جلاله. |
صاحب الجنَّتين بقي مع النعمة واستغرق فيها ونسي المُنعِم:
أمّا صاحب الجنَّتين، فإشكاله أنه بقي مع النعمة، واستغرق فيها، ونسي المُنعِم، وهذه مصيبة المصائب، أنا أُمثِّلها أحياناً ببعض الإخوة الشباب، أقول يعني لو دخل إنسانٌ إلى بيت مُضيفٍ دعاه إلى طعام ٍ نفيس، وبذل في بيته ما يستطيع لخدمة هذا الضيف، ثم الضيف استغرق في هذه المائدة وما فيها من الأطباق، وأكل واستمتع بها، ثم خرج ولم يفعل شيئاً بعد ذلك، فلمّا عُرض عليه الفيلم الذي صنعه، استغرب كيف لم أشكر المُضيف؟! كيف لم أقُل كلمة شكر للمُضيف؟! استغرقت مع النعمة ونسيت المُنعِم، الآن لله المثل الأعلى، نحن ربنا أنعم علينا بكل شيء، فلا ينبغي أن يكون موقفنا أن نستغرق في النعمة وننسى المُنعِم، هذا موقفٌ مُخجِل ومعيب، لذلك قال له صاحبه: |
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا(39)(سورة الكهف)
بينما هو قال: (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) فإذاً نحن أمام هذه المقارنة بين سيدنا يوسف عليه السلام وصاحب الجنَّتين، نجد أن الفاصل بينهما أنَّ سيدنا يوسف كان في النعمة لكنه لم ينسَ المُنعِم، بينما صاحب الجنَّتين استغرق في النعمة ونسي المُنعِم جلَّ جلاله. |
المُحاوِرة هناء المجالي:
إذاً في هذا الحديث يا دكتور، وكان الحوار بين صاحب الجنَّتين وصاحبه عندما ذكَّره بالله وقال له: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ) قبل ذلك قال له جميل العبارة: |
لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا(38)(سورة الكهف)
ما علاقة القصة بالشرك يا دكتور؟ |
أعظم الظلم أن يُشرك الإنسان بالله تعالى:
الدكتور بلال نور الدين:
الشرك أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على جَور وأن تكره على عدل، بمعنى أنَّ الإنسان أحياناً ينساق وراء شهواته، هذا نوعٌ من الشرك الخفي، بمعنى أنَّ الإنسان أحياناً قد يُرائي في صلاته هذا نوعٌ من الشرك الخفيّ الذي لا ينتبه إليه الإنسان، هنا في القصة ما معنى الشرك؟ لماذا يقول له: (وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)؟ لأنَّ هذا الرجل صاحب الجنَّتين أشرك نفسه مع الله أولاً (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا) أنا، لمجرد أن تقول أنا اعتزازاً وافتخاراً، فهذا للأسف من أخلاق إبليس قال: |
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ(12)(سورة الأعراف)
لمجرد أن تقول لي، فهذا من أخلاق فرعون، عندما تقول (لي) استكباراً: |
وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(51)(سورة الزخرف)
لمجرد أن تقول عندي، هذه أيضاً من أخلاق البائسين، فهذه الكلمات مُهلكات: أنا ونحن ولي وعندي. |
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ(78)(سورة القصص)
هذه أخلاق قارون. |
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ(33)(سورة النمل)
فلمجرد أن تقول: أنا ونحن ولي وعندي، فأنت تُهلِك نفسك والعياذ بالله، وأنت تُشرك بالله لأنك جعلت نفسك نِدّاً لله وهو خلقك، ثم هو بعد أن أشرك نفسه مع خالقه، أشرك ثروته التي ظنَّها أنها له، وأنها مُلكه وليست من مال الله تعالى، فانشغل بها عن طاعة الله، واستغنى بها عن طاعة الله، وأعظم الظلم أن يُشرك الإنسان بالله، قال تعالى: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ). |
وفي لقمان: |
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13)(سورة لقمان)
فهو ظُلمه لنفسه أنه جعل نفسه لله نِدّاً، فاستغنى عن طاعة الله تعالى، وتكبَّر على عباد الله تعالى، فأشرك نفسه وماله مع الله تعالى. |
المُحاوِرة هناء المجالي:
وهنالك أيضاً دليلٌ في سورة يوسف يا دكتور: |
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ(106)(سورة يوسف)
هنا جمع الإيمان ومع ذلك كان هنالك شرك، إذاً هذا الشرك الذي يُقصَد في هذه الآية. |
الدكتور بلال نور الدين:
نعم (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ) يعني الإيمان الخالص قلَّ أن يصل إليه الناس، الإيمان التوحيد يعني: |
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ(82)(سورة الأنعام)
الذين وصلوا إلى إيمانٍ (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) لا يوجد شرك نهائياً، إيمانٌ خالصٌ لله تعالى. |
المُحاوِرة هناء المجالي:
وتختم القصة الحديث بقوله تعالى: |
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ۚ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا(44)(سورة الكهف)
ربطٌ بين العون والعبادة، كيف نستدل على ذلك يا دكتور من خلال القصة؟ وما الحكمة من هذه النهاية العظيمة؟ |
من كان الله وليِّه فازَ بخيرَي الدنيا والآخرة:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم هذه القصة خُتمت بقوله تعالى: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ۚ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) خيرٌ ثواباً في الدنيا وَخَيْرٌ عُقْبًا في الآخرة، والولاية أن الإنسان خيرٌ له، كأنَّ الله تعالى يقول له عَقِب هذه القصة، أليس خيراً لك أيُّها الإنسان أنَّ تتولى ربك في كل حين؟ فمَن كان الله وليَّه فاز بخيرَي الدنيا والآخرة، وكانت له العُقبى في الآخرة |
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)(سورة القصص)
فإن الله تعالى يُبيِّن أنَّ هذا الرجُل قد تولى ماله، وجعل ماله وليَّه فاغترَّ به، لكن الولاية هنالك يوم القيامة لله الحقّ، فما دامت الولاية لله وحده، فيجب أن يكون مولاك هو الله |
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ(11)(سورة محمد)
الآن انظر إلى طفلين في الشارع، كلنا نمرُّ بهذين النموذجين: |
نرى طفلاً مؤدَّباً مرتَّباً ثيابه نظيفةٌ، يتكلم بأدبٍ، يتحرك بأدبٍ، ينظر بأدبٍ، فنقول فوراً بأنَّ هذا له مولى، يعني هناك أبٌ أو أمٌّ، والغالب الأم في هذه المرتبة العظيمة، قد ربَّت، ورعت، ورتَّبت، وأعدَّت الملابس، وعلَّمته كيف يأكل، كيف ينظر، فنقول أنَّ هذا له مولى، وقد نجد أحياناً طفلاً شارداً نسأل الله السلامة، ثيابه متسخة، ويتكلم بكلامٍ بذيءٍ في الشوارع، فنقول هذا أين وليّه؟ قال تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ) فعندما تنظر إلى المؤمن، تجد ولاية الله عليه واضحة، فإنَّ الله تولاه بالرعاية والتأديب، أدَّبه فأحسن تأديبه، وأمّا ما ذكرتِ من كلامٍ جميلٍ حول الربط بين العون والعبادة، فإننا نحن في كل صلاةٍ نقول: |
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)(سورة الفاتحة)
وهذا سرُّ الفاتحة ومركزها (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بمعنى أننا لا نعبد إلا الله، ولا نستعين على عبادته إلا به جلَّ جلاله، فإذاً (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) بمعنى أنَّ الإنسان المؤمن وليّه الله تعالى، وأمّا هذا صاحب الجنَّتين، فلقد أساء عندما وجَّه الولاية إلى غير الله تعالى. |
المُحاوِرة هناء المجالي:
نعم، إذاً العبادة حقٌّ لله والعَون حقٌّ للعبد، بارك الله بكم يا دكتور. |
نذهب مع ترتيب القصص في السورة، لنتحدث عن فتنة وقصة إبليس، هذه القصة تتكرر في سور القرآن الكريم، تكررت بمشهدٍ بيانيٍّ وبلاغيّ في سورة الإسراء، هنا تتوسط القصص، تتوسط الحديث عن الفِتن، هل لذلك مدلول يا دكتور؟ |
جاءت قصة إبليس مع ذكر الفتن لنتذكر عداوته وأنه أخذ العهد أن يغوينا:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم طبعاً المدلول عظيم كما تفضلتم، هي جاءت في الإسراء: |
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا(62)(سورة الإسراء)
وجاءت هنا: |
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا(50)(سورة الكهف)
وهذا يحسم الجدَل بالمناسبة، في أنَّ إبليس هل هو من الجن أو من الملائكة؟ الله تعالى ذكَر بوضوحٍ: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ) ولو أنه كان من الملائكة لما عصى ربه، لكنه (كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ) لأنه مُكلَّف، لمّا كُلِّف هنا بأمرٍ من الأوامر، فكان بإمكانه أن يعصي أو أن يفعل (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ). |
ثم قال تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)، هناك في الإسراء (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) هنا (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ) هناك هو أطلق عهداً على نفسه، أنه سيغوي بني آدم، وأنه سيحتنك ذُريّته، فجاء الجواب في الكهف (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ) يعني تفعلون ما عاهد عليه، وتفعلون ما أراده بكم، وتتركون إرادة الله في التوبة عليكم وهدايتكم! |
إذاً هذا الجَور في سورة الكهف، لأنَّ كل ما فعله صاحب الجنَّتين، وقد جاءت قصة إبليس مع الملائكة بعد صاحب الجنَّتين، لكن بكل السورة محور الشرّ كما يقال، هو عداوة إبليس، وينبغي أن نتذكر هذه العداوة، وأنه قد أخذ عهداً على نفسه أن يغوينا، فهل نتخذه وليّاً أم نتخذ الله تعالى وليّاً؟ |
(هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) كما تحدثنا قبل قليل، فهل يكون وليُّنا الله جلَّ جلاله، أم والعياذ بالله يتولى بعض الناس إبليس اللعين الذي قال: (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ)؟ فالقضية المحورية في ذِكر هذه القصة في ثنايا الكهف أو في مركزها، أن لا ننسى عداوة إبليس، وأن لا ننسى عداوة الشيطان لأبينا آدم، ولذريته من بعده، وأن نبقى على أُهبة الاستعداد لمكرِه ولعدائه، وأن نعرف أساليبه في الإغواء فنجتنبها. |
المُحاوِرة هناء المجالي:
نعم بارك الله بكم، الآن نذهب إلى قصة موسى والخضر عليهما السلام، هذه القصة يا دكتور تُلقي في النفس أنَّ وراء الأسباب قوة عظيمة، هي التي تُقدِّر الأشياء بحكمتها، لدينا عدة استيضاحات وأنوار حول هذه القصة، السؤال الأول يا دكتور، ما الحكمة من أنَّ القصة بدأت بالعهد الذي قطعه سيدنا موسى على نفسه؟ ولِمَ اتخذ موسى هذا العهد على نفسه؟ |
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا(60)(سورة الكهف)
تفضل يا دكتور. |
من الفِتن العظيمة فتنة العِلم التي يمكن أن يغتر بها الإنسان:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، قال لفتاه لا أبرح، لن أُغادر (لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) يروى أنَّ كما في أسباب النزول، أنَّ سيدنا موسى عليه السلام أُمر بهذا الأمر، أُمر أن يذهب إلى هذا المكان، خطب خُطبةً موسى عليه السلام، وسُئل بعدها مَن أعلم أهل الأرض؟ فقال: أنا، طبعاً سيدنا موسى الآن في موطن النبوُّة والرسالة، وهو نبي الله وكليم الله، فسيدنا موسى حاشاه أن يقولها كِبراً، وإنما الأنبياء يقولون ما يعلمونه، وهذا من التبليغ، سيدنا يوسف عليه السلام قال: |
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(55)(سورة يوسف)
هذا ليس في موطن الكِبر حاشا الأنبياء، لكنه في موطن البيان حتى يتلقى الناس عنهم، من هنا الله عزَّ وجل أراد أن يذكُر هذه القصة في سورة الكهف، ليُبيِّن فتنةً عظيمةً من الفتن سنأتي عليها، فتنة العِلم التي يمكن أن يغترّ الإنسان بها، أو يظنُ أنه قد بلغ من العِلم مُنتهاه، فلذلك هنا بدأنا بعهدٍ يدل على أنَّ موسى عليه السلام جادٌ جداً في طلب الحقيقة، وفي تنفيذ أمر الله، وفي الوصول إلى الحقّ، فلذلك (لَا أَبْرَحُ) هذا عهدٌ عليَّ (حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) تنفيذاً لأمر الله تعالى، ووصولاً إلى ما طلب الله تعالى منه. |
المُحاوِرة هناء المجالي:
نعم إذاً البدايات دائماً يا دكتور بحاجةٍ إلى صبرٍ، بحاجةٍ إلى عزيمةٍ صادقة، بحاجةٍ إلى ثباتٍ، ولذلك كان دعاء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام: |
{ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ يقولُ في صلاتِه: اللَّهمَّ إنِّي أسألُك الثَّباتَ في الأمرِ والعزيمةَ علَى الرُّشدِ، وأسألُك شُكرَ نعمتِك وحسنَ عبادتِك وأسألُك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا وأسألُك من خيرِ ما تعلمُ وأعوذُ بِك من شرِّ ما تعلمُ وأستغفرُك لما تعلمُ }
(ضعيف النسائي)
الدكتور بلال نور الدين:
نعم، دائماً البداية قد تكون مُحرقة، إلا أنَّ النهاية ستكون إن شاء الله مُشرقة، حتى اليوم طالب عِلم، أو طالب مدرسة، أو طالب جامعة إن لم تكن بدايته في أخذ العهد على نفسه بالعمل والاجتهاد والجد، فلن تكون نهايته عِلماً وخيراً وبركةً. |
المُحاوِرة هناء المجالي:
هل الخضر يُمثِّل القَدَر يا دكتور؟ وإن كان كذلك ما هي فلسفة القَدَر بناءً على هذه القصة وما ورَد فيها من غيبيات؟ |
الخضر كان يُنفِّذ أوامر الله تعالى من عِلم القَدَر الذي يُقدره الله عزَّ وجل:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم الخضر أو العبد الصالح، وهو الخضر في أرجح ما قاله المُفسّرون هو يُمثِّل القَدَر، سيدنا موسى عليه السلام يُمثِّل علم الشريعة بالضبط، هو يُنفِّذ أوامر الله تعالى، ما فعله الخضر كان يُمثِّل جانباً آخر. |
فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا(65)(سورة الكهف)
وهو إن صحَّ التعبير كما يقول بعض العلماء، موسى عليه السلام كان يُمثِّل علم الشريعة، والخضر علم الحقيقة الذي هو علم القَدَر، علم النهايات، فقه المآل، فسيدنا موسى عليه السلام كان يُنكِر من مبدأ العلم الذي عنده، وهو علم الشريعة |
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا(74)(سورة الكهف)
صحيح كلام سيدنا موسى، هذا لا يجوز في شريعة الله تعالى |
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا(71)(سورة الكهف)
فموسى عليه السلام كان يتكلم من منظور الشريعة التي يحملها، والأوامر التي أمره الله تعالى بها، أمّا الخضر فكان يُنفِّذ ما أمره الله تعالى به، من علم القَدَر الذي يُقدِّره الله تعالى، فهنا وقع الإشكال، وهنا وقعت التساؤلات المستمرة من سيدنا موسى، وسيدنا موسى شخصيته كما يظهر في القصص كلها، شخصية انفعالية. |
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ(15)(سورة القصص)
مع السحرة، فموسى عليه السلام شخصيةٌ انفعالية جداً، طبعاً انفعالية في الحق، فكان دائماً يعترض على هذه التصرفات بشكلٍ سريع، متناسياً العهد الذي قطعه على نفسه، الأقدار والغيبيات التي تحكمنا، قصة أصحاب الكهف بيّنتها كاملةً، بمعنى أنَّ الأقدار لا تُكشَف حكمتها في الدنيا، أو تُكشَف حكمتها في وقتٍ متأخرٍ، أو في وقتٍ مُبكِّر. |
أنواع الأقدار التي يُقدِّرها الله تعالى:
القَدَر الأول: الذي تُكشَف حكمته سريعاً ربما بعد ساعات، وهو (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) ما الذي حصل؟ أصحاب السُفن ذهبوا وهذه السفينة لم تذهب، لأنه قد خُرِقت فلا تستطيع أن تذهب في البحر، لكن تحتاج إلى يومٍ كاملٍ من الإصلاح حتى تعود إلى عملها، في المساء عاد أصحاب السفن الذين خرجوا، وقالوا لأصحاب هذه السفينة لماذا لم تخرجوا؟ قالوا: لم نخرج لأنَّ السفينة خُرِقت، قالوا: كان هناك ملكٌ أخذ السفن كلها ولم ينجُ إلا أنتم، فانقلب سخطهم وحزنهم على فوات المنفعة في سفينتهم، إلى شكرٍ وحمدٍ لله أن نجَّاهم من هذه المشكلة، فاكتشفوا الحكمة في وقتٍ مبكرٍ جداً، بعد ساعاتٍ ربما. |
القدَر الثاني: يتأخر كشفه ربما إلى عشر سنواتٍ و عشرون سنة، وهذا ما جرى مع بناء الجدار، لماذا بنى الجدار؟ لا أحد يعرف، يعني كيف تبني لهم جداراً، وهم لم يُضيِّفونا ونحن المتعبون؟! |
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا(77)(سورة الكهف)
فهو هنا بنى الجدار ولا أحد يعلم، بعد عشرين سنة ربما، والله أعلم، كبر الغلامان اليتيمان واستخرجا الكنز من تحت الجدار، وعلما الحكمة لماذا جاء هذا الرجل و بنى الجدار. |
وهناك قدرٌ وغيب لا نعلم حكمته، ونمضي إلى الله ولا نعلم لماذا جرى، وهذا في القدَر الثالث: قُتل الغلام، حزن أبواه عليه، وربما ماتا وهم يذكران أيامه وطفولته، ولا يدريان لماذا قُتل فجأةً، لكن يوم القيامة إن شاء الله تُكشف لهما الحكمة في ذلك، فيذوبان حُبَّاً لله تعالى، وتقول الخلائق كلها الحمد لله ربِّ العالمين. |
بالمناسبة هذه الأقدار كلها التي أنكرها موسى، قد وقعت معه أقداراً لكنه لم ينتبه إليها، فهو يقول له: (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) وأنت يا موسى عليه وعلى نبينا السلام، عندما وضِعت في التابوت وأُلقيت في اليم، هل غرقت أم نجوت؟! |
ولمّا قال له: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) وأنت لمّا حرَّكتك أقدار الله (فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ) ألم تنتبه؟ |
(قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) وأنت لمّا سقيت للفتاتين، لم تتخذ أجراً، وتولّيت إلى الظل وقلت: |
فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(24)(سورة القصص)
فعملت عملاً صالحاً دون أجر، لكن لمّا تحرِّكنا أقدار الله لا ننتبه، وتكون خيراً لنا، لكن لمّا ننظر إليها من بعيدٍ، فأحياناً نُنكِر بعضها، فنُنكِر بمعنى أننا نستغربه أو لا نفهم حكمته، إذاً يجب علينا أن نستسلم لقضاء الله تعالى. |
المُحاوِرة هناء المجالي:
بارك الله بكم يا دكتور، على هذا الربط وعلى هذه التأملات، لكن يا دكتور في هذه القصة تحدي للتفكير المادي، نحن ذكرنا أن وثنية هذا العصر، هو التفكير المادي، فالحياة هي التي يفهمها الإنسان، والحقيقة هي التي يُدركها الإنسان بحواسه، ما علاقة هذا التفكير وهذا المنطق بقوله تعالى: |
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا(82)(سورة الكهف)
لن تصبر حتى تعرف ولن تعرف حتى تصبر:
الدكتور بلال نور الدين:
تماماً، أقول كلمةً لن تصبر حتى تعرف، ولن تعرف حتى تصبر، بمعنى الإنسان لماذا لا يصبر أحياناً على شيءٍ يحدث معه؟ لأنه لا يعرف، لو كان يعرف المآل لصبَر، اليوم لو قيل لإنسانٍ ستُعاني من كذا وكذا، ثم سيكون كذا وكذا، الآن الصورة واضحة من أوَّلها إلى آخرها، فيصبر لأنها مادة، لأنها عالم الشهادة، لأنها مشاهدة بعينه. |
الآن ما هو الإيمان؟ الإيمان أن يُقال لك ستُعاني في الدنيا، وستُبتلى، وستُمتحن، وقد يحصل معك كذا وكذا، ثم ستنتقل إلى الله وهناك جنَّةٌ عرضها السماوات والأرض، إذاً المشهد كامل، إذاً نحن نعرف فيجب أن نصبر، قال له: |
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا(68)(سورة الكهف)
أنا أقول: المؤمن اليوم مع كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، يجب أن يصبر على ابتلاءات الدنيا وامتحاناتها، لأنه قد أحاط خُبراً بما سيكون بالمستقبل، بإعلام الله تعالى له، فاليوم المادية والنزعة المادية، تحاول أن تُخرِج الإنسان من الإيمان بالغيب إلى أنك يجب أن تقتنع بما تشاهده فقط، فيقول لك أنا لا أُصدِّق إلا ما أراه، هوِّن عليك يا أخي، لقد حططت من قدرك، وأنزلت من إنسانيتك، فالمخلوقات غير الإنسانية فقط هي التي تخاف بعينها، أنت يجب أن تخاف بعقلك. |
لذلك كان العلماء يقولون: "العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه" الموت سيأتي، فبالعقل أصل إلى أنني سأموت، فيجب أن أُحضِّر لهذه اللحظة، قبل أن أصل إليه بجسدي فيفوت الأوان، فننتقل من العالَم المادي البحت إلى الإيمان بالغيب، الذي يجعلنا نسير في عالَم الشهادة باتزانٍ ووضوحٍ خطوة، فنصبر على ما في الدنيا من ابتلاءاتٍ، لأننا ننتظر موعود الله تعالى. |
المُحاوِرة هناء المجالي:
بارك الله بكم يا دكتور، ونأتي في ختام هذه القصص للحديث عن قصة ذي القرنين، قصة الرجُل العادل الصالح، والذي مكَّن الله له في الأرض، وردت كلمة التمكين ومشتقاتها في القرآن الكريم في ثمانية عشر موضعاً، غلبت عليها الصيغة الفعلية، التي يبدو فيها التمكين وكأنه صيرورةً وليس مفهوماً ساكناً، وفيها يُنسِب الله تعالى التمكين إلى ذاته العليَّة، فهو وحده من يُمكِّن للإنسان، وليس الإنسان من يُمكِّن لذاته فرداً كان أو جماعةً. |
السؤال يا دكتور: الكهف بدأت بكهفٍ، بدأت بفتيةٍ ذهبوا وهربوا بدينهم، والتجأوا إلى كهفٍ، إلى قصةٍ فيها مُلكٌ وأرضٌ واسعة، ما بين المشرق والمغرب، ما مدلولات هذه القصة نفع الله بكم؟ |
من هو المُمكَّن في الأرض:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة أنَّ المُمكَّن في الأرض هو إنسانٌ بين يديه إمكانياتٌ يستطيع من خلالها تصريف أموره |
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا(84)(سورة الكهف)
بمعنى أنه أعطيناه أسباباً توصله إلى مُراده، فالتمكين مع الأسباب، عندما تكون الأسباب بين يديك وتستخدمها الاستخدام الصحيح، تُمكَّن في الأرض، والتمكين من الله كما تفضلتم، أنا لا أُمكِّن لنفسي، الله يُمكِّن لي، عندما أستحق هذا التمكين يُمكَّنه لي، أو عندما يريد الله تعالى لحكمةٍ بالغة، أن يمتحن عباده، فقد يُمكِّن لمن يريد، وقد يكون المُمكَّن له غير مؤمنٍ أو غير مستقيم، وهنا لا يُسمّيه القرآن الكريم تمكيناً، لأنَّ التمكين يجب أن يكون بالحق |
الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ(41)(سورة الحج)
حقيقة التوكل على الله والأخذ بالأسباب:
على كلٍّ، العقدة في القصة كما يقال، أو المركز في القصة التي يوضِّحها، هو قول الله تعالى يصف ذي القرنين، قال: |
فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85)(سورة الكهف)
ثم يقول: |
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا(89)(سورة الكهف)
ثلاث مراتٍ، إذاً نحن أمام أسباب بين أيدينا يجب ألّا نركَن إليها، ويجب ألّا نُعطلها، ويجب أن لا نعتمد عليها، هي موازنة صعبة نوعاً ما، لا يستطيعها إلا المؤمن، الإنسان عندما يجد الأسباب بين يديه يتّكل عليها، أو يعطِّلها، مثل شاب والده هيأ له كل الأسباب للدراسة والنجاح والتفوُّق، والحصول على أعلى شهادة ولكنه لم يفعل، هذا ما أتبع سبباً، لم يستخدم الأسباب بين يديه، سيندم أشدّ الندم، كان بين يدَي مئة سببٍ وسبب للتفوُّق ولم أفعل، بالمقابل بين يدَي الأسباب كلها، إذَن هي الأسباب، أظن أنها هي التي تخلُق النتائج، وهي لا تخلُق النتائج، بل هي سببٌ للنتائج، ومُسبِّب الأسباب جلَّ جلاله هو الذي يخلُق النتائج، إذاً هناك من يركَن إلى الأسباب ويعتمد عليها، ذو القرنين لم يترك الأسباب ولم يعطِّلها، بل أخذ بها، لكنه لم يعتمد عليها |
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95)(سورة الكهف)
أخذ بها (فَأَعِينُونِي) لكنه لم يركَن إليها (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ). |
ثم قال في النهاية: |
قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا(98)(سورة الكهف)
أنا فعّلت ما بين يدَي من أسبابٍ، فعّلتها في خدمة وحركة الحياة، فعَّلتها في خدمة المظلومين، في إعانة الناس، ولكنني لا أعتمد عليها، ولا أركَن إليها. |
إذاً: التوكل على الله في حقيقته، أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ونتوكل على الله وكأنها ليست بشيء. |
المُحاوِرة هناء المجالي:
بارك الله بكم يا دكتور، إذاً ما نعيشه اليوم يا دكتور، هو أنَّ الحضارة الغربية عبارة عن ثورةٍ على خالق الكون، رفض الإيمان بالغيب، تأسيس لحضارةٍ مادية، هذا كله شبيهٌ بعمل الدجَّال، فتلك الحضارة هي الفتنة الكبيرة، وهي الدجَّال الأكبر، التي تغوي الناس وتصرفهم عن الإيمان، فقصة الدجَّال المركزية، هي الكفر والفساد، كيف نربط هذه الحقيقة، وهذا الوصف، بما ورَد في الآية الكريمة: |
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)(سورة الكهف)
فتنة الحياة والمادية المقيتة:
الدكتور بلال نور الدين:
جزاكم الله خيراً على هذا التعقيب، الحقيقة الدجَّال بين يديه دجاجلة، وفتنة الحياة اليوم والمادية المقيتة |
{ عن أبي أميَّةَ الشَّعبانيِّ أنَّه قال لأبي ثعلبةَ الخشَنيِّ : كيف تصنعُ بهذه الآيةِ ؟ قال : أيَّةُ آيةٍ ؟ قلتُ: قولُه{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: أما واللهِ لقد سألتَ عنها خبيرًا ، سألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنها فقال : بل ائتمِروا بالمعروفِ وتناهَوْا عن المنكرِ حتَّى إذا رأيتَ شُحًّا مطاعًا وهوًى مُتَّبعًا ودنيا مُؤثِرةً وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيِه فعليك بخاصَّةِ نفسِك ودَعِ العوامَّ، فإنَّ من ورائِكم أيَّامًا الصَّبرُ فيهنَّ كالقبضِ على الجمرِ، للعاملِ فيهنَّ مثلُ أجرِ خمسين رجلًا يعملون مثلَ عملِكم. قال عبدُ اللهِ بنُ المباركِ: وزادني غيرُ عُتبةَ: قيل: يا رسولَ اللهِ أجرُ خمسين منَّا أو منهم ؟ قال: بل أجرُ خمسين منكم }
(أخرجه أبو داوود والترمذي وابن ماجه)
مادية (شُحًّا مطاعًا) يعني يُطيع الناس مالهم، يُطيع الناس ثروتهم، يتَّبِعون كل ناعق، فنحن أمام حالةٍ تُسهِّل اتباع الدجَّال، لأن كثيراً من الناس يتَّبِعون الدجَّال الآن قبل أن يظهر، الذي هو هذه المادية الحديثة التي أصبحت تغزو البيوت، وتغزو كل مكانٍ، فيتعلق الناس بها، ويتابعونها ويصفقون لها. |
الآن ربنا جلَّ جلاله يهدِم هذه الفكرة، فكرة المادية (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) هناك خاسر وهناك أخسر، والأخسرون الأشدُّ خسارةً، هذا اسم تفضيل في اللغة، فهناك طويل وهناك أطول، هناك خاسر وهناك أخسر، ثمن أخسر الناس عملاً قال: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) بمعنى أنهم اغترّوا بهذه الدنيا، اعتمدوا عليها، اتَّبعوا ما فيها من الدجَل والكذب والنفاق والتزوير، المصيبة (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) هم يظنون أنفسهم يفعلون ما فيه خدمتهم وراحتهم ورفاههم وعلو شأنهم في الأرض، لكنهم غفلوا عن الآخرة، لذلك قال تعالى: |
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)(سورة الروم)
لم يقل جلَّ جلاله: يعلمون الحياة الدنيا، لأنهم حتى الحياة الدنيا لم يصلوا إلى حقيقتها، قال: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يعني فقط ما يشاهدونه من بهرجها، من زخرفها، لكن لم يعلموا ما فيها من أسرارٍ، من مكنوناتٍ، من شيءٍ يدل على خالقهم، من شيءٍ يستعينوا فيه على رضا مولاهم، من مساعدةٍ للناس، من إعمار الحياة، قال: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أمّا الآخرة فغفلةٌ مطلقة (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) فهم في عالم الشهادة اكتفوا، لم ينتقلوا إلى شيءٍ من الغيب، لذلك ذمَّهم المولى جلَّ جلاله، وانظري إلى هذا الأسلوب (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم) حتى تلتفِت الأسماع والأنظار (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا)؟ نعم، قال: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا). |
المُحاوِرة هناء المجالي:
بارك الله بكم، وهنالك آيةٌ عظيمة أيضاً في سورة الأنفال، تركِّز على هذا المعنى يا دكتور |
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36)(سورة الأنفال)
إلى باقي الآية، بارك الله بكم يا دكتور، هذه الآية تُفسِّر بعضها بعضاً، تُفسِّر ما معنى الحياة، ما معنى كيف نكون نحن في الحياة، وكيف يكون هنالك توازن بين الحياة الدنيا وبين الآخرة، بارك الله بكم، ولكن في آخر الحديث يا دكتور، هنالك آيةٌ عظيمة في السورة، تكسر كبرياء العِلم وتعاليه، تجعله يتواضع أمام عِلم الله، وهي قوله تعالى: |
قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا(109)(سورة الكهف)
ما مدلولات هذه الآية؟ بارك الله بكم يا دكتور. |
القرآن الكريم أخبار:
الدكتور بلال نور الدين:
حيِّاكم الله، الحقيقة نحن أسلفنا أنَّ سورة الكهف افتُتِحت بذِكر كلمات الله تعالى بأنها الكتاب |
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ(1)(سورة الكهف)
وهنا نختتم (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي) كلمات الله هي قرآنه العظيم، هنا الله تعالى يُبيِّن عظمة كلامه، ويُبيِّن سعة القرآن الكريم (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) أي حتى لو أمددنا البحر ببحارٍ أُخرى، فلن يكفي لكلمات الله، فهي أكثر من ذلك. |
إذاً ما هي كلمات الله تعالى؟ لو قرأنا في القرآن الكريم فإننا نجد ما في كتابه هو إخبار، القرآن الكريم أخبار، هناك يوم قيامة، هناك حساب، هناك عذاب، هناك عقاب، ما في كتاب الله تعالى هو شيئان: أمرٌ ونهي، من قبيل المشاكلة، ثم بعد ذلك عندنا الأخبار |
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(115)(سورة الأنعام)
هذه كلمات الله، فالأخبار صادقة، والأوامر عادلة، ففي كلام الله تعالى، كثيرٌ من كلام الله تعالى إخبار، بمعنى أنه غيب، بمعنى أنه يخبرنا القرآن الكريم بهذه السعة، عن أخبار الماضين، وأخبار اللاحقين، الماضين لنعتبر، وما سيكون من أجل أن نسعى، فأمام هذه المنظومة أين بقيَّت المادية؟ المادية التي تسعى إلى تأليه الإنسان، وجعله محور الكون، وربما جعله آلةً أحياناً عند الطغاة والأقوياء، وجعله مادةً، الماديون يبحثون كم في جسم الإنسان من الحديد؟ وكم في جسمه من البوتاس؟ وكم وكم... |
إذاً نحن أمام آلةٍ، أصبح الإنسان جسداً وآلةً ومادةً، لكن القرآن الكريم ينقله إلى العالَم الأرحَب، إلى العالَم الأبعد، إلى الغيب، لذلك قال: (لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ) إذاً أنت أمام عالَمٍ رحبٍ واسع، لا تدركه مهما صنعت، فانتقل من عالَمك الضيِّق، فانتقل من ماديتك التي تعيشها وتظن أنها كل شيء، إلى هذا العالم الأرحَب، إلى كلام الله تعالى الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرَد. |
المُحاوِرة هناء المجالي:
بارك الله بكم، وفي النهاية زفَّت لنا السورة بُشرى لأهل الإيمان، الذين عصمهم الله من الفِتن، فاستحقّوا الفوز والخلود، اللهم اجعلنا منهم جميعاً |
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا(107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا(108)(سورة الكهف)
في هذا الختام يا دكتور، نتمنى من الله سبحانه وتعالى أن نكون جميعاً من أهل الجنَّة الخالدين فيها، ولكن أعكف دائماً في أواخر كل سورة، أن أربط ما بين نهاية السورة، وبداية السورة التي بعدها، فبعد الحديث عن كلمات الله، تبدأ سورة مريم، بسم الله الرحمن الرحيم: |
كهيعص(1)(سورة مريم)
ما مدلول النهاية مع البدايات؟ بارك الله بك. |
مدلولات الأحرف المُقطَّعة التي ترِد في أول السور:
الدكتور بلال نور الدين:
هذه الأحرف المُقطَّعة التي ترِد في أول السور، ترِد على شكل حرفٍ واحد، مثل: |
ق ۚ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)(سورة ق)
وترِد على شكل حرفين مثل: |
طه (1)(سورة طه)
حمٓ (1)(سورة غافر)
وترِد على شكل ثلاثة أحرف: |
الٓمٓ (1)(سورة الروم)
وعلى أربعة أحرف: |
الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ (1)(سورة الرعد)
وترِد على خمسة أحرف |
حمٓ(1) عٓسٓقٓ(2)(سورة الشورى)
وهنا: (كهيعص) فجاءت الأحرف هنا واسعة، امتداد البحر، يعني ليست حرفين، ولا ثلاثة، ولا أربعة، وإنما خمسة أحرف، لتناسب (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي) ونحن نعلم أنَّ أشهر التفاسير وأقربها، أنَّ هذه الأحرف هي الأحرف التي صيغ منها القرآن الكريم، كما قال المفسِّرون، المادة التي جُعل منها القرآن الكريم، والتي هي كلام الله تعالى العظيم، هي من هذه الأحرف، فأنتم أيُّها العرب الأحرف بين أيديكم، وسُلَّم العرب الأبجدية هو ثمان وعشرون حرفاً، فهذه الأحرف بين أيديكم، فخذوها واصنعوا منها، فعجزوا عن ذلك، لكن الله تعالى الواسع الذي كلماته (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) من هذه الأحرف العظيمة، كان كتاب الله تعالى العظيم، وكان ذِكره. |
أنا أُشبِّه أحياناً بمثلٍ، ولكتاب الله تعالى المثل الأعلى، أنَّنا أحياناً نأتي بمكوناتٍ مُعيِّنة لنصنع طعاماً، المكونات موجودة، لكن هذا يحتاج إلى من يصوغ هذه المكونات، ومن يجعل منها طعاماً لذيذاً، تأتي امرأةٌ تفعل ذلك فتُنشئ طعاماً لذيذاً، ويأتي شخصٌ مثلي لا يفقه في الطبخ شيئاً، فيضعها مع بعضها فتُنتج طعاماً لا يؤكل، فالعرب تحدَّاهم الله تعالى بالقرآن بالأحرف العربية. |
لذلك ناسب أنَّ الله تعالى جلَّ جلاله، لمّا ذكر في ختام الكهف: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) أن يأتي بسرّ الإعجاز في القرآن الكريم في قوله: (كهيعص) فهي حروفٌ معجزة، وسرٌّ من أسرار القرآن، ولو أخذنا بالتفسير الشائع، وهو أنَّ القرآن قد صيغ من هذه الأحرف، فأيضاً يناسب ذلك ما ذُكر في نهاية الكهف. |
المُحاوِرة هناء المجالي:
بارك الله بكم يا دكتور، وزادكم من علمه ومن فضله، في الختام من لا يشكر الناس لا يشكر الله، الشكر الجزيل لفضيلة الدكتور الداعية بلال نور الدين، على جماليات التفسير والبيان لآيات القرآن الكريم، طيَّب الله أنفاسكم يا دكتور وجزاكم الله خير الجزاء. |
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم وحفظكم. |