تأملات في سورة الزلزلة

  • 2023-02-23

تأملات في سورة الزلزلة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:


مقصد سورة الزلزلة:
الحديث عن مظهرٍ من مظاهر يوم القيامة
أيها الإخوة الأحباب، في الجزء الثلاثين من كتاب الله تعالى سورةٌ مكيةٌ في قول كثيرٍ من أهل العلم، وهي سورة الزلزلة، ونحن في أجواء الزلزلة -نسأل الله السلامة لكم وللجميع- هذه السورة لها وقع خاص؛ لأنها تتحدث عن مظهرٍ من مظاهر يوم القيامة، والإنسان عندما يقرأ هذه السورة يشعر بتلك المَهابَة، ومقصِد السورة أن تحقق هذا الشعور في داخلك وفي داخلي؛ لأن الإنسان إذا خاف ارعَوى، وانتهى، كثيرٌ من الناس يأتون بالرجاء، يأتون بالطمع، يأتون بالحب، لكن لا بد بين الفينة والأخرى مع الرجاء، والطمع، والحب، أن يكون هناك رهَبٌ وخوف، لأن الإنسان عند الرهب والخوف يسرع الخُطا أكثر مما يسرعها عند الرجاء، هَبْ أن إنساناً قلت له: في نهاية هذا الطريق لؤلؤةٌ ثمينةٌ فاذهب وخذها، لا شك أنه يسرع الخُطا، ويسرع ليصل بأسرع وقتٍ، ويأخذ تلك اللؤلؤة، ويحوز عليها وينتفع بها أو بثمنها، لكن كيف يمكن أن يسرع أكثر من تلك السرعة؟ لو أن إنساناً وراءه يركض وهو يحمل خنجراً في يده يريد أن ينال منه-نسأل الله السلامة- لا شك أن خطواته ستكون أسرع؛ فالإنسان في حالة الخوف غالباً ما يسرع أكثر من حالة الرجاء، لذلك يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

{ من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة }

(رواه الترمذي)


بين الخوف والرجاء:
لا بد من الخوف والرجاء معاً
فالله تعالى لا يقدّم لنا شيئاً يسيراً، يقدم لنا جنةً عرضها السماوات والأرض، فمع خوف من الله تعالى يجعل الخُطا سريعة للوصول إلى تلك الجنة، فلا بد من الخوف والرجاء، لا بد أن يتعاضد الخوف والرجاء معاً، فلا يكتفي الإنسان بالرجاء فقط، فيقعد عن العمل، ويغترّ برحمة ربه دون عمل، ولا ينبغي أيضاً أن يكتفي بالخوف فيقنط، ويخاف خوفاً مرضياً يدفعه إلى سوء علاقةٍ بينه وبين ربه، وإنما المطلوب خوفٌ وأملٌ، طمعٌ وخوفٌ، رغَبٌ ورهَبٌ، لذلك قال تعالى:

تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(16)
(سورة السجدة)

وفي آية أخرى:

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ(90)
(سورة الأنبياء)

ولذلك قال تعالى:

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
(سورة الحجر)

لا بد أن تنبّئهم بالأمرين معاً، أنّ الله غفورٌ رحيمٌ، وفي الوقت نفسه عذابه أليم لمن أصرّ على المعاصي، والآثام، والظلم، والاعتداء، فالله تعالى بقدر مغفرته ورحمته فهو أيضاً شديد العذاب، فلا بد أن يجتمع في قلب المؤمن ذاك الخوف، وذاك الرجاء معاً، سورة الزلزلة تتحدث عن جانب الخوف، عن الجانب الثاني، وفي هذه الأيام ونحن نعيش تلك الأجواء التي فيها تلك الزلزلة، وهي من زلزلة الدنيا، وما أهون زلزلة الدنيا أمام زلزلة الآخرة، لا بد أن نقرأ هذه السورة ونفهم معانيها، يقول تعالى:

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3)يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا (5)
(سورة الزلزلة)


الزلزلة أمر واقع:
الزلزلة أمرٌ واقعٌ لا بد منه
(إِذَا زُلْزِلَتِ): يتحدث عن وقت الزلزلة، أي حين وقوع الزلزلة، وكأن الزلزلة أمرٌ واقعٌ لا بد منه، لا داعي للحديث عنه، نتحدث الآن عن وقتها فقط، الإنسان عموماً يتأكد من الحدث ثم يسأل عن وقته، فإذا قيل له: صدر قرار بتخفيض الجمارك، يقول له: هل تأكدت من الخبر؟ يقول له: نعم، يقول: متى التنفيذ؟ فالإنسان يتأكد من وقوع الحدث، ثم يسأل عن وقته، وقت وقوعه، الآية هنا تتحدث مباشرة عن وقت الوقوع؛ لأن الحدوث مُؤكَّد، لأنه خبرٌ من الله:

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا(87)
(سورة النساء)

فلا يُتَصَوَّر أن مسلماً ينكر وقوع هذا الزلزال العظيم، لكن السؤال فقط متى يقع، هذا في علم الله، وكلُّ آتٍ قريب، فقال: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) وبنى زُلزلت إلى ما لم يُسمَّ فاعله، في المدارس يعلموننا أن نقول: فعل مبنيٌّ للمعلوم وفعلٌ مبنيٌّ للمجهول، المبني للمعلوم: أكلَ الولدُ التفاحةَ، للمجهول: أُكِلَت التفاحةُ، لكن في كتاب الله تعالى لا تقولوا: فعل مبنيٌّ للمجهول، بل قولوا: فعل مبنيٌّ لِمَا لم يُسمَّ فاعله، إذ كثيراً ما يكون هذا الفاعل الذي لم يُسمَّ هو الله، وحاشاه أن يكون مجهولاً، وإنما لشدة العلم به لم يُسمَّ، بعكس المجهول تماماً، أحياناً أنت تقول: سُرِق البيتُ، فأنت لا تعرف من سرقه، فتقول: سُرق لأنك لا تعرف من سرقه، لكن إذا قلت كما في قوله تعالى:

يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا(28)
(سورة النساء)

من خلقه؟ الله، فمن شدة العلم به لم يُسمَّ الفاعل في القرآن، فنقول: هذا فعل لم يُسمَّ فاعله، ولا نقول: هذا فعل مبني للمجهول، لم يُسمَّ فاعله لحكمة بليغة بيانية.

الحكمة من استخدام فعل لم يُسمَّ فاعله:
هنا لم يُسمَّ فاعله لحكمتين:

الحكمة الأولى:
مُسبِّب الأسباب هو الله
هي شدة العلم بالفاعل، فالفاعل هو الله، هو الذي يحرك الأرض في الدنيا والآخرة، وما نراه من تفسيرات علمية أحياناً لزلزلة الدنيا هي أسباب أرضية لا ينكرها عاقل، لكن مُسبِّب الأسباب هو الله، يحركها متى يشاء، ويوقفها متى يشاء، لكن البعيدون الغافلون عن الله تعالى دائماً يحبون التفسيرات الأرضية وأن يُكتفَى بها، لا يحبون ذكر التفسيرات الشرعية، قال تعالى:

وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
(سورة الزمر)

يستبشرون عندما تذكر لهم الأسباب الأرضية، فإذا ذهبت لتحدثهم عن الله الفاعل جل جلاله مُسبِّب الأسباب فإنهم يشمئزّون، يريدون فقط تفسيراً أرضياً لِمَا يجري، فقال: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا) السبب الأول لإخفاء الفاعل: هو شدة العلم به، فالله تعالى هو الذي سيحرّك الأرض في الدنيا وفي الآخرة فهو مسبب الأسباب.

الحكمة الثانية:
أن البناء لما لم يُسمَّ فاعله يعطي في النفس هيبة، (إِذَا زُلْزِلَتِ وكأن شيئاً لا ننتبه له سيأتي بغتةً (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) ولو قال: إذا زلزلت الأرض لتحقق المعنى، ولكن قال زلزالها للتوكيد، ولو قال جل جلاله: إذا زلزلت الأرض زلزالاً لتحقق المعنى مع التوكيد، ولكنه قال: زلزالها ليؤكد، وليبين أن لها زلزالاً خاصاً بها ليس الذي تعرفونه، زلزال الأرض يوم القيامة ليس الذي نعرفه، اليوم يقول لك: الزلزال على مقياس ريختر 7.5 تهتز الأرض، ويقضي إلى ربهم 40 ألفاً نسأل الله أن يرحمهم برحمته، لكن أحياناً يقول لك: 5.5 على مقياس ريختر لم يحدث شيئاً، إذا قال 9 على مقياس ريختر لا تبقي ولا تذر، لكن زلزال الآخرة ليس 7 ولا 9، زلزال الآخرة الله أعلم بشدته، ثم هو ليس خاصاً بمكان معين، ليس في مدن، أو في محيط، أو في كيلو مترات، وإنما الأرض كلها ستُزلزَل بكل ما فيها، بكل قاراتها، ببحارها، بجبالها، كلها ستُزلزَل لذلك قال: زلزالها.

أثقال الأرض:
(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا) الأثقال التي داخل الأرض كثيرة منها ما هو طبيعيٌّ ماديٌّ ومنها ما هو بشري، يعني الأثقال التي في الأرض من نفطٍ ومعادن وحديد ويورانيوم، وكل ما في الأرض من أثقال، حتى البحار أثقال، حتى الجبال أثقال، وهناك أثقال تحملها الأرض في داخلها هؤلاء الذين ماتوا ودُفِنوا فيها من آدم إلى يوم القيامة، وما أكثرهم، كلها أثقال الأرض.
(وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا) الإنسان هنا ليس مقصوداً به مؤمن ولا كافر، وإنما الإنسان بجنس الإنسان، يقول: (مَا لَهَا) لشدة هول ما يحصل، يقول: ما الذي يحصل؟ ما للأرض؟ ماذا حدث؟ (مَا لَهَا) لشدة هول الموقف، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2)
(سورة الحج)

هَولُ زلزال يوم القيامة، الذين ذاقوا -نسأل الله السلامة- من هول هذا الزلزال الأخير قالوا شعرنا كأنه يوم القيامة؛ لأنهم لا يعرفون إلا ما ذاقوه، ولكن هو أشد من ذلك بكثير.

شهادة الأرض على الإنسان:
الأرض فيها أخبار
(وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا) الجواب قال: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) الأرض تحدث أخبارها، الأرض فيها أخبار، هذا المجلس الذي نجلس به الآن خبرٌ من أخبار الأرض، مُسجَّلٌ عند الله تعالى، هذا خبرٌ من الأخبار؛ اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت المسلمين يتدارسون آيات من كتاب الله، ويتلونها بينهم، هذا خبر من الأخبار، وفي الوقت نفسه هناك مجموعة من البشر تجمعوا يغتابون، وينمّون، ويخوضون في الأعراض، وفي الوقت نفسه هناك مجموعة تجمعوا يشربون الخمور، ويتابعون الكاسيات العاريات، هذه أخبار الأرض، الأخبار في الأرض سوف تحدث الأرض بها، الأرض سوف تنطق فتقول: في يوم كذا وكذا جرى في مكان كذا وكذا مجلس ذكر، وفي يوم كذا جرى مجلس ظلم في مكان آخر، تحدث الأرض أخبارها، وقد جاء في الحديث أن الصحابة الكرام سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: ما تحدث أخبارها؟ قال: تشهدُ على عملِ كلِّ عبدٍ أو أَمَةٍ عمِلَه. كل عبدٍ أو أَمَة تشهد الأرض على عملٍ عمله عليها، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر.

{ قرأ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ( يومئذ تحدث أخبارها ) قال: أتدرون ما أخبارُها ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلمُ, قال فإن أخبارَها أن تشهدَ على كلِّ عبدٍ أو أمةٍ بما عَمِلَ على ظهرِها أن تقولَ عمل كذا وكذا يومَ كذا وكذا, قال: فهذا إخبارُها ، فهذا أمرُها فهذه أخبارُها. }

(أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح)

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) لماذا حدثت بأخبارها الآن؟ (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا) أو لو سأل سائل كيف للأرض أن تتكلم؟ الأرض جماد، ونحن قد عهدنا أن المتكلم هو الإنسان، الكائنات الحية تتكلم، الإنسان نفقه كلامه، وربما تتكلم كائنات أخرى، ولا نفقه طريقة تواصلها، لكن أن يتكلم الجماد، الأرض، الصخور، الجبال، الجدران كيف تتكلم؟ قال: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا) هذه باء السبب، فالله تعالى الذي أنطقك يُنطِقُها:

وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
(سورة فصلت)

فالجلود تنطق، الأيدي والأرجل تتكلم بما كسبت أيدي الناس، فكل شيء يتكلم يوم القيامة، إلا الإنسان الذي أمضى حياته متكلماً هو الوحيد الصامت، هو أمضى حياته يتحدث ويدافع عن نفسه، يوم القيامة يقول ليده ورجله بعد أن تشهد عليه: عنكن كنت أناضل، ثم شهدتم ضدي! فكل حياتي كانت من أجل إمتاعكم، كي تأخذ اليد ما تريد، والرجل تمشي إلى المكان الذي تريد، والفرج يفعل الذي يريد، عنكن كنت أناضل، دافعت عنكم في الدنيا، فالإنسان البعيد عن الله يوم القيامة يقول تعالى:

قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
(سورة المؤمنون)

النطق هناك للشهادة، تشهد الأيدي والأرجل، تشهد الجلود، والأرض تشهد وتحدث أخبارها (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)

معنى الوحي:
الوحي لغة: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا) بوحي من الله، الوحي في اللغة في الأصل: هو الإعلام بخفاء، أوحيت إليه؛ أي أعلمته بشيء من غير أن ينتبه الناس، فلو أردت من أخ من الموجودين شيئاً ولا أريد أن أُعلِم الناس به فإني أشير له إشارةً بيدي فيفهم ماذا أريده، فأقول أوحيت إليه، أي أعلمته من غير أن يشعر أحد بما أريد، فالوحي لغةً: هو الإعلام بخفاء.
والوحي اصطلاحاً: هو ما ينزل به جبريل الأمين على قلب نبيٍّ من أنبياء الله، بما يُعلِمه من كلام الله تعالى.

الوحي بمعناه اللغوي في القرآن الكريم:
لكن استُخدم الوحي بمعناه اللغوي في القرآن الكريم، مثل ذلك قوله تعالى:

وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
(سورة النحل)

فهو ليس الوحي المعروف بمعناه الاصطلاحي، وإنما هو الغريزة، أوحى لها: أي أعلمها كيف تبني بيوتها، فلذلك تجد نسبة الخطأ تكاد تكون معدومة عند النحل؛ لأنه وحي من الله.
الإنسان مُكلَّف ويخطئ
الإنسان مُكلَّف يخطئ، الإنسان يبني بيتاً فيخطئ إما بجهلٍ، أو يخطئ ظلماً وسرقة من المواد، فينهار البيت بأقلّ هزّة، يخطئ الإنسان إما جهلاً؛ معلوماته ناقصة بالهندسة، أو معلوماته كاملة لكنه يريد أن يسرق من مواد البناء، لأنه مُكلَّف سيُحاسَب.
النحل لما أوحى إليها الله جل جلاله، تبدأ النحلات كل نحلة من مكان ليبنوا بيوتهم بالشكل السداسي الذي هو الشكل الوحيد المُضلَّع الأكثر متانةً لقِصر أضلاعه، والذي زواياه منفرجة لسهولة إخراج العسل منها، بخلاف الأشكال التي أضلاعها طويلة، فمقاومتها أضعف، أو زواياها قائمة أو حادة فإخراج العسل من داخلها أصعب، ومن غير فراغات بينية حتى لا يهدر مكاناً، لو بنى الشكل دائرياً يبقى هناك فراغات بينية تدخل فيها الأوساخ، وتهدر مكاناً، فشكل مُضلع لا يترك فراغات بينية هو الأفضل بين المضلعات؛ لقِصر أضلاعه، ولأن زواياه منفرجة فيكون إخراج العسل منها سهلاً، وتبدأ كل نحلة من مكان في الخلية، ويجتمعن في الوسط، ويختمن الخلية السداسية كما هي، وفي المكان نفسه، ولو جئت اليوم وكنت على عجلة فقلت: دع كل بلاط يبدأ بالبَلاط من زاوية من الغرفة يكاد يكون مستحيلاً أن يجتمعوا في نقطة المنتصف بشكل صحيح، يقول لك، ولو كنت مستعجلاً لكن تحتاج لبلاط واحد حتى يبلط بالشكل الصحيح، والنحل يبدأ من كل زاوية، وينشئ خلية، لماذا؟ لأن الله أوحى لها، ولما أوحى لها الله لم يعد هناك نسبة للخطأ، لا ظلماً أن تظلم في المواد، ولا جهلاً لأن الوحي من الله وحي غريزة، فقال: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)
فالوحي يأتي في القرآن بالمعنى اللغوي، وهنا بالمعنى اللغوي (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا) يعني أعطاها أمراً وأنتم لم تشعروا به، لا نشعر كيف أخذت الأمر، لكنها أخذت الأمر بأن تنطق، فبدأت تحدث أخبارها.

انتهاء حكم الوقت والزمن في الآخرة:
الزمن يحكمنا في الدنيا، وسينتهي حكمه، مثلاً: القاضي في اليوم إلى كم قضية ينظر؟ 3، 4، 10، وبعدها سيقول لك انتهى، ربنا جل جلاله سينظر في مليارات القضايا، عدد لا متناهٍ من القضايا.

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
(سورة الأنعام)

الزمن يحكمنا في الدنيا
جل جلاله لأن الزمن لم يعد له حكم، كان مخلوقاً من مخلوقات الله يحكمنا، فتقول أستطيع أن أنجز معاملتين في الساعة، في ساعتين أربع معاملات، وإن ضغطت نفسي ممكن أن أنجز خمسة، ولكن أكثر لا أقدر؛ لأن الزمن يحكمك، الزمن يحكمني ويحكمك، لكن الزمن ما هو؟ مخلوق، فإذا أراد الله تعالى أن تنتهي مهمة الزمن كمخلوق يحكمنا فانتهى كل شيء، ستحدث أخبارها بكل ما فيها، ربما بثوانٍ من زمن أهل الأرض، ربما بيوم، الله أعلم.
(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا) بسبب أن ربك أوحى لها.

يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
(سورة الزلزلة)

الآن انتقلنا لموقف ما بعد الحساب؛ لدينا في اللغة وردَ وصدرَ، الشاعر الذي كان يفتخر قال:
وَنَشرَبُ إِن وَرَدنا الماءَ صَفواً وَيَشرَبُ غَيرُنا كَدَراً وَطينا
{ عمرو بن كلثوم }
لأنهم أول من يردون الماء.

وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ(23)
(سورة القصص)

يفتخر بشجاعة قومه فقال:
بِأَنّا نورِدُ الراياتِ بيضاً وَنُصدِرُهُنَّ حُمراً قَد رَوينا
{ عمرو بن كلثوم }
ندخل على المعركة والريات بيضاء، نخرج ونُصدِر عن المعركة والرايات حُمرٌ من شدة الدماء والنصر، هذا من شعراء الجاهلية:
بِأَنّا نورِدُ الراياتِ بيضاً وَنُصدِرُهُنَّ حُمراً قَد رَوينا
{ عمرو بن كلثوم }
فالصُّدور بعد الورود، فلما انتهى الحساب يصدُر الناس، وكلٌّ قد أخذ كتابه، فهذا الصدور سيكون أشتاتاً، يعني متفرقين، الأب ليس بالضرورة أن يخرج مع ابنه؛ لأن الأب استحق الجنة، والابن -والعياذ بالله- استحق النار، والعكس صحيح، ليس بالضرورة أن يصدر الزوج مع زوجته، ليس بالضرورة أن يصدر الشريك مع شريكه، ولا الصديق مع صديقه:

فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56)
(سورة الصافات)

أشتاتاً، يعني متفرقين؛ منهم من أخذ كتابه بيمينه، ومنهم من أخذ كتابه بشماله، ومنهم من استحق الجنة، ومنهم من استحق النار، ومنهم، ومنهم، فلذلك قال: أَشْتَاتًا ، كل إنسان كتابه وحسابه، ويتجه إلى المكان الذي أعده الله له.

رؤية الناس نتيجة أعمالهم:
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) أيضاً هذا الفعل مبني لما لم يُسمَّ فاعله، أي ليريهم الله أعمالهم، هنا المقصود ليس أعمالهم أي العمل، وإنما نتيجة العمل، هم صدروا بالحساب، فالآن عندما يرى، مثال: إذا كان هناك طالب تعب واجتهد، وحصّل شهادة عليا، ثم أخذ له والده عيادة في مكان مرموق في المدينة، وقال له الآن ادخل إلى العيادة، وانظر إلى عملك، هذا الذي يراه هو عَمَلُه الذي عَمِلَه، باللحظة التي ينظر بها إلى الكرسي والمكتب المرتب، وغرفة المراجعة، والتكييف، والده أعدّ له عيادة جيدة، اللحظة التي ينظر لها بلحظة يمر عليه كل عمله، ويتذكّر كل دقيقة قضاها في الدراسة، والتعب، والنَّصب، والسفر، والاختصاص، والآن رأى عمله، فالذي رآه الآن هو نتيجة العمل، لكن في الحقيقة هو العمل نفسه، فقال: (لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُم) أي نتائج عملهم.

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)


الخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وعلَى رَجُلٍ وِزْرٌ:
في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم في حديث طويل عن الخيل فقال:

{ الخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وعلَى رَجُلٍ وِزْرٌ؛ فأمَّا الَّذي له أَجْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا في سَبيلِ اللَّهِ، فأطَالَ بهَا في مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَما أَصَابَتْ في طِيَلِهَا ذلكَ مِنَ المَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ، كَانَتْ له حَسَنَاتٍ، ولو أنَّهُ انْقَطَعَ طِيَلُهَا، فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ له، ولو أنَّهَا مَرَّتْ بنَهَرٍ، فَشَرِبَتْ منه وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ، كانَ ذلكَ حَسَنَاتٍ له، فَهي لِذلكَ أَجْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ في رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا؛ فَهي لِذلكَ سِتْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لأهْلِ الإسْلَامِ، فَهي علَى ذلكَ وِزْرٌ. وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الحُمُرِ، فَقالَ: ما أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيءٌ إِلَّا هذِه الآيَةُ الجَامِعَةُ الفَاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} }

(صحيح البخاري)

يعني الخيل التي يركبها الناس قد تكون لرجل أجراً: (فأمَّا الَّذي هيَ لَهُ أجرٌ فرجُلٌ ربطَها في سبيلِ اللَّهِ) وإذا عممنا كلام الأجر؛ يعني إذا استخدمها في طاعة الله، في خدمة عباد الله، فهي له أجر.
وقد تكون للإنسان ستراً تستره، لا يأتي فيها مُحرَّماً، لكن لا يأتي فيها طاعة، ستر؛ يعني لا يأتي فيها أقصد خدمة للناس، وقد تكون وزراً لإنسان جعلها في عداوة الحق، وأهل الحق.
فلينظر كل منا في سيارته
بالمناسبة قبل أن نتمّ الحديث وما علاقته بسورة الزلزلة، اليوم السيارة محل الخيل، كل منا، أو ممن منا يملك سيارة، أو يستأجر سيارة، فهذه السيارة التي بين يديك الآن، التي هي لله في يدي وفي يدك هي مكان الخيل، فيمكن أن تكون أجراً، أو سِتراً، أو وزراً، كل إنسان ينظر لسيارته من أي نوع؟ إذا كان يستخدمها للخير والحق، إذا وجد إنساناً مقطوعاً يركبه معه ويوصله، إذا كان هناك مساعدات يأخذهم، ويوصلهم، يركبها فيأخذ أغراضاً لجيرانه الذين لا يملكون سيارة، وعندهم شخص مريض يوصله، مُسخِّرها لخدمة الحق، هذه السيارة أجر، حتى إذا كان لخدمة عائلته لا تخلو من أجر.
وأحياناً تكون ستراً، يعني لا يوجد أعمال صالحة كثيرة للسيارة، لكنها تكفيه مذلّة انتظار الوسائط العامة، وأتى الباص ولم يأتِ، وربما معه زوجته، والخروج بالوسائط العامة صعب، فزوجته محجبة لا تستطيع الدخول بمكان فيه ازدحام أو كذا، فتستره وتستر أهله، فهذه ستر.
وربما بعض الناس -والعياذ بالله- السيارة له وزر، يذهب بها إلى أماكن اللهو المحرمة، يخرج فيها معه من النساء ممن لا تحل له، فأصبحت السيارة وزراً عليه؛ لأنه يستخدمها في الباطل، فالسيارة كالخيل؛ أجر- كما قال صلى الله عليه وسلم- وستر ووزر، انظروا إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لا تستطيع أن تجد من هذه البلاغة، قال:
(الخيلُ لرجلٍ أجرٌ ولرجلٍ سترٌ وعلى رجلٍ وزرٌ) باختصار، فكل إنسان ينظر في مركبته نسأل الله أن تكون جميع مركباتنا من باب الأجر والستر.
فأتم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتكلم عن الأجر، والوزر، والستر، والحديث في البخاري، فلما انتهى سأله أحد الصحابة قال: فماذا عن الحُمُر؟ يعني جمع حمار، هذه عن الخيل، لو الإنسان اشترى حماراً، ممكن أم يكون وزراً وأجراً وستراً؟ يسأله، يبدو أن السائل ليس عنده خيل، عنده حمار، فأراد أن يسأل عن كل الدواب، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ما أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيءٌ إِلَّا هذِه الآيَةُ الجَامِعَةُ الفَاذَّةُ): الفاذة: يعني الفريدة التي ليس لها مثيل، الجامعة: يعني التي فيها معانٍ جامعة لكل شيء (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ يعني أجابه بآية عامة، جامعة، شاملة، فريدة، وكأنه قال له: حتى الحُمر، وحتى كل شيء في حياتك، وحتى في المستقبل كما قلت لكم قبل قليل السيارات، وكل ما تملكه يدخل ضمن هذا الحديث لأنه: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

آياتن جامعتان:
لو لم يكن في كتاب الله تعالى كما قال بعض أهل العلم إلا هاتان الآيتان لكفتا (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وابن مسعود يقول: هذه أحكم آية في كتاب الله، آية محكمة واضحة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) الذرة عند العرب: النملة الصغيرة عند الولادة، اليوم الذرة في مصطلحاتنا العلمية لها معانٍ؛ الشيء الذي لا يُرى بالعين، وحتى بكثير من المجاهر والتيلسكوبات لا يُرى، وهي أصغر جُزيء موجود، لكن الذرة في وقت نزول الوحي، وهذا الذي يعنينا، لأننا نفسر الآيات وقت نزول الوحي، الذرة هي النمل الصغير، وقال بعضهم: الهَباء الذي في الهواء، الآن لا نرى هباءً في الهواء، لكن لو أن الشمس دخلت صباحاً من النافذة ونظرت في دخول الشمس تجد ذرات بسيطة في الهواء لا تُرى إلا مع شمس قوية، هذه هي الذرة، أو النملة الصغيرة حديثة الولادة، هذه معاني الذرة.
مثقال: يعني بوزن هذه النملة، كم وزنها؟ أقل من غرام.
خيراً: يعني يعمل خيراً بمقدار هذا الأمر. يره: يعني يره يوم القيامة ويرى نتيجته، ويرى ثوابه، ويرى مقعده من الجنة بسببه.

نتيجة الخير والشر:
لا يضيع شيء عند الله عز وجل
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) يعني شراً بوزن الذرة، فإنه يراه يوم القيامة، لا يضيع شيء عند الله عز وجل، عند البشر ممكن أن يضيع، ممكن أن تقول أحسنت لأحدهم الدهر كله، ثم إذا رأت منك -كما قال صلى الله عليه وسلم- شيئاً قالت: لم أر منك خيراً قط، تهدر العمل بثانية، حتى في علاقاتنا البينية نحن نهدر أعمال بعضنا، طبعاً هذا ليس من الموضوعية، وينبغي أن ننتبه له، لكن هذا واقع، يكون الإنسان أمضى حياته في الخير، والدعوة، ونشر الحق والخير، ثم يخطئ خطأ فينسى الناس كل معروفه، وكل إصلاحه، وكل خيره، ويتجهون إلى خطئه فيشيرون إليه بالبنان، فالناس ينسون كثيراً من الصالحات، وأحياناً بالعكس، يكون الإنسان قد أمضى حياته بالفسق، والفجور، ونشر الباطل بين الناس، ثم يظهر منه عمل إنساني فيه دعم أو كذا، فيقول الناس انظر لفلان ماذا يفعل وأنتم لا تفعلون، وينسى ماضيه بما فيه، هو لم يتب، لا أقول تاب، إذا تاب فلننسَ ماضيه، لكن ما زال على أخطائه، ونشره للباطل، لكن لمجرد أنه صدر منه عمل إنساني يمدحه الناس، فالناس أحياناً تنكر الماضي الحسن بشيء سيئ، وتنكر الماضي السيئ بشيء حسن، عند ربنا جل جلاله لا يضيع شيء، الله تعالى الحساب عنده دقيق جداً، يسأل عن كل شيء، ويحاسب عن كل شيء، فالخير له نتيجة خير، والشر له نتيجة شر (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
والله لو أن إنساناً أنقذ نملة وهو عند المغسلة بحقل أو ببستان، فتأخر قليلاً في غسل يديه حتى خرجت النملة، هذا مقدار الذرة، هذا سوف يراه خيراً يوم القيامة، لا يضيع شيء عند الله عز وجل، وسيُفاجَأ الإنسان يوم القيامة أن هناك أعمال كثيرة فعلها ونسيها سيثقل بها ميزانه، وينجو بها عند ربه، لشدة إخلاصه في هذا العمل الذي لم يأبه له، ولم ينتبه له، وفعله وهو لا يدري أنه سيكون يوم القيامة كجبل أحد، فالله تعالى ينمّي الصدقات، وينمّي الخير، ويعطي على القليل كثيراً، فالآية بقدر ما هي مُبشِّرة، بقدر ما هي مُخيفة، فيها تبشيرٌ عظيمٌ أن الإنسان مهما فعل من عمل بسيط سيجده يوم القيامة، وبالوقت نفسه فإنها تخيف لأنه لا يضيع شيء عند الله، فليحذر الإنسان أن يأتي بشيءٍ لا سيما ما كان بينه وبين العباد، من ظلمٍ، أو إساءة، فإنه سيراه يوم القيامة أمامه.

الخاتمة:
هذه سورة الزلزلة في هذه الأجواء المزلزلة، نسأل الله السلامة، ونسأل الله أن يرحم من قضى إليه، وأن يشفي الجرحى ويعافي المصابين، وأن يجعل لنا سهماً، وعملاً متقبلاً في نصرة هؤلاء وعونهم.
والحمد لله رب العالمين