• خطبة جمعة
  • 2025-05-30
  • سورية - دمشق
  • المسجد الأموي

إذا لا يضيعنا

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمدٍ وسلِّم تسليماً كثيراً.

نجاح سيدنا إبراهيم وزوجته هاجر بالامتحان العظيم:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1)
(سورة النساء)

أيُّها الإخوة الأحباب: في صحراء مكة، وعند بيت الله المُحرَّم، بوادٍ غير ذي زرع، نجح رجلٌ وامرأةٌ في امتحانين عظيمين، ما تزال أمة الإسلام تحتفي بنجاحهما وتُحيي ذكراهُما كل عام.
أمّا الرجل فهو أبو الأنبياء، إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وقد نجح في امتحان العبودية الخالصة لله تعالى، واستجاب لأمر ربّه دون تلكؤٍ ولا تردد.
وأمّا المرأةُ فهي هاجر عليها السلام، أستاذة اليقين، وقد نجحت في اختبار اليقين، والتوكل على الله والثقة به وبموعوده جلَّ جلاله.
أيُّها الإخوة: جاء إبراهيم بزوجه وابنه إسماعيل، وهي ترضعه فوضعهما عند البيت وليس في مكة يومئذٍ إنسٌ ولا شيء كما في الصحيح:

{ أَوَّلَ ما اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِن قِبَلِ أُمِّ إسْمَاعِيلَ؛ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا علَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بهَا إبْرَاهِيمُ وبِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وهي تُرْضِعُهُ، حتَّى وضَعَهُما عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ في أَعْلَى المَسْجِدِ، وليسَ بمَكَّةَ يَومَئذٍ أَحَدٌ، وليسَ بهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُما هُنَالِكَ، ووَضَعَ عِنْدَهُما جِرَابًا فيه تَمْرٌ، وسِقَاءً فيه مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقالَتْ: يا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهذا الوَادِي الَّذي ليسَ فيه إنْسٌ ولَا شَيءٌ؟ فَقالَتْ له ذلكَ مِرَارًا، وجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقالَتْ له: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ بهذا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَتْ: إذَاً لا يُضَيِّعُنَا }

(صحيح البخاري)


هاجر اتخذت بالأسباب وبدأت بالسعي بين الصفا والمروة:
أيُّها الكرام: إبراهيم عليه السلام زوجٌ وأب، يُحب أهل بيته كما نُحب أهل بيتنا، خاف إبراهيم أن يلتفت إليها فتُنازعه رغبات الأبوُّة والزوجية، فجعل لا يلتفت لأنه يريد أن يُنفِّذ أمر ربه، ولو كان على حساب ما يريده وما تطلبه نفسه ونفس كل أب، فجعل لا يلتفت إلى أن قالت: (آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ بهذا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَتْ: إذَاً لا يُضَيِّعُنَا) لكنها لم تترك السعّيَ، بل بدأت تسعى بين الصفا والمروة، بدأت تتخذ الأسباب التي ربما كان الناظر إليها يقول: ماذا تفعل هذه المرأة؟ وماذا ينفع سعّيُها؟ ومن سيأتي ليُنقذها؟ لكنها فعلت كل ما بين أيديها، فلم تجعل التوكل على الله كلمةً تقولها، وإنما بدأت بالحركة والسعي بين الصفا والمروة، تبحث عن حلٍّ لما هي فيه، حتى فرَّج الله عنها وفجَّر ماء زمزم بين يدي رضيعها، وجعل أفئدةً من الناس تهوي إليها.
أيُّها الكرام: (إذَاً لا يُضَيِّعُنَا) تعني أنه ما دام الله هو الآمر، فهو الحافظ والضامن، فالله لا يأمُر بأمرٍ ثم يُضيِّع عباده حاشاه جلَّ جلاله.

كلنا مُعرَّضون لامتحان الاستجابة لأمر االله اقتداءً بأبينا إبراهيم عليه السلام:
أيُّها الإخوة الأحباب: كلنا مُعرَّضون لامتحان الاستجابة لأمر االله، اقتداءً بأبينا إبراهيم عليه السلام، ولامتحان التوكل على الله واليقين به، اقتداءً بأُم إسماعيل عليهما السلام.
أيُّها المُعلِّم: في صفك، آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ أن تُعلِّم طلابك بإخلاص، وأن ترعى دينهم وأخلاقهم، وأن تكون قدوةً لهم، نعم إذاً لن يُضيِّعك.
أيُّها الطبيب: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ أن ترحم المرضى، ألا تقسو عليهم، ألا تُلجئهم لعلاجٍ هُم ليسوا بحاجته، نعم إذاً لن يُضيِّعك.
أيُّها المحامي: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ ألا تدافع عن المجرمين، وألا تبتز موكّليك، نعم إذاً لن يُضيِّعك.
أيتها الأم: آللَّهُ أَمَرَكِ أن تُربّي أولادك، وأن ترعي بيتك حق الرعاية، وأن تكوني في قمة عفَّتكِ وحشمتكِ قدوةً لبناتك، نعم إذاً لن يُضيِّعكِ.
أيُّها الحاكم، أيُّها الوزير، أيُّها الموظف، كلٌّ في مكانه ومكتبه، يا مَن ولِّيت أمراً من أمور المسلمين: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ أن ترفُق برعيتك، وألا تَشُقَ عليهم، وألا تموت غاشَّاً لهم، نعم إذاً لن يُضيِّعك.
وفي سورية الجديدة الحرة: آللَّهُ الَّذي أَمَرَنا إن مُكِنّا في الأرض، أن نقيم شرعه، وأن ندعوا إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، نعم إذاً لن يُضيِّعنا الله تعالى.
وعلى أرض فلسطين الحبيبة، وعلى أرض غزَّة، يا أهل غزة: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَم ألا تساوموا على دينكم، وألا تتخلوا عن شرفكم وأرضكم، وألا تهنوا أمام عدوكم، نعم إذاً لن يُضيِّعكم.

معنى (إذَاً لا يُضَيِّعُنَا):
أيُّها الإخوة الأكارم: وحتى تتضح الصورةُ كاملةً من خلال النصوص الشرعية الصحيحة، فإننا نقول ما معنى إذاً لن يُضيِّعنا؟ إنَّ الله تعالى لم يُضيِّع نبيه موسى عليه السلام، يوم قال له أصحابه:

فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61) قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ(62)
(سورة الشعراء)

ففلق له البحر، وجعل له فيه طريقاً يبسا، وكذلك فإنَّ الله تعالى لم يُضيِّع الفتية المؤمنين، وقد شُقَّ لهم الأخدود، وأُلقوا فيه وأُحرقوا، ومَضوا إلى ربهم ثابتين، واتَّخذهم عنده شهداء، فالله تعالى لم يُضيِّع من فلق له البحر، ولم يُضيِّع من شُقَّ لهم الأخدود، فنحن مع الله ولله، فلق لنا البحر أو شَقَّ لنا الأخدود، نحن ماضون إليه واثقون أنه لن يُضيِّعنا.
أيُّها الإخوة الكرام: الله تعالى لم يُضيِّع مَن عادوا إلى سورية بعد سنواتٍ من الظلم والقهر، ولم يُضيِّع أيضاً مَن قضوا إليه قبل أن يروا بأُمّ أعينهم موعوده بالنصر.

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ(46)
(سورة يونس)

لم يُضيِّع الله من قضى نحبه، ولم يُضيِّع من ينتظر.
قال تعالى:

مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)
(سورة الأحزاب)

فليس عدم التضييع دنيا يأخذها الإنسان فحسب، فالدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ليس عدم التضييع دنيا يأخذها الإنسان، لا نفهم من قول هاجر (إذَاً لا يُضَيِّعُنَا) أنها دنيا تأخذها فحسب، ليس عدم التضييع دنيا يأخذها المؤمن فحسب، و إنما هو اختيار الله له.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)
(سورة آل عمران)

يوم قالت أم إسماعيل (إذَاً لا يُضَيِّعُنَا) ما كانت لتقول وحاشاها أن تقول: أضاعنا الله لو أنَّ الماء لم يتفجر، لو أنها قضت شهيدةً في سبيل الله مع رضيعها، فإنَّ الله لم يُضيِّعها ولن يُضيِّعها، وهذه ماشطة بنت فرعون، أُلقيَت مع أبنائها في النار وفي الزيت المغلي، وهي تقول لفرعون: ربّي وربُّك الله.

{ ‏عَنِ ‏‏ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ‏‏قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي ‏‏أُسْرِيَ ‏‏بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا ‏جِبْرِيلُ،‏ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ ‏‏مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ ‏‏وَأَوْلادِهَا، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ ‏‏فِرْعَوْنَ ‏‏ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتْ ‏‏الْمِدْرَى ‏‏مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ ‏ ‏فِرْعَوْنَ:‏ ‏أَبِي؟ قَالَتْ: لا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ، قَالَتْ: أُخْبِرُهُ ‏‏بِذَلِكَ! قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَاهَا فَقَالَ: يَا فُلانَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ‏ ‏تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ، قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا ‏‏أُمَّهْ، ‏اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ، ‏‏قَالَ ‏‏ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: ‏تَكَلَّمَ أَرْبَعَةُ صِغَارٍ: ‏‏عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ‏‏عَلَيْهِ السَّلام،‏ ‏وَصَاحِبُ ‏جُرَيْجٍ،‏ ‏وَشَاهِدُ ‏‏يُوسُفَ، ‏وَابْنُ ‏مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ }

(أخرجه أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم)

فهل ضيِّعها الله؟ حاشاه جلَّ جلاله أن يُضيِّع عباده.
أيُّها الإخوة الكرام: يقول صلى الله عليه وسلم:

{ مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ وَيَبْقَى لَهُمُ الثُّلُثُ وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ }

(إسناده صحيح على شرط مسلم)


النظر بعينٍ واحدة مصيبة المصائب:
فإن كان الله تعالى لم يُضيِّع من أصاب الغنيمة، ورأى النصر بأُم عينه، بعد أن ثبت سنواتٍ على الظلم والقهر، فإنَّ الله أيضاً لم يُضيِّع وحاشاه مَن قضوا ولم يروا بأُم أعينهم، ما نراه اليوم في بلدنا الطيِّب، نسأل الله أن يديم عليه الأمن والأمان.
النظر بعينٍ واحدة أيُّها الكرام مصيبة المصائب، قال تعالى مُمتناً على عباده:

أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ(8)
(سورة البلد)

لو جعل الله لنا عيناً واحدة لرأينا، لكننا لا نرى العمق، ولا نرى الصورة كاملةً إلا بعينين، وكذلك النظر بعين الدنيا وحدها، لا يمكن أن يُحقِّق نظرةً عميقةً ولا متكاملة، لا بُدَّ من النظر بعين الدنيا مع عين الآخرة معاً في الوقت نفسه، قال تعالى لمن لا يرون إلا بعينٍ واحدة:

يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)
(سورة الروم)

أيُّها الإخوة الأحباب: إنَّ ما يجري اليوم في بلاد المسلمين، وعلى أرض فلسطين الحبيبة على وجه الخصوص، يؤكِّد هذا المعنى، وهو أننا ما لم نؤمن بالغيب إيمانناً حقيقياً، وما لم يكن إيماننا في سورية منذ أربعة عشر سنة، لمن آمن حقاً إيماناً بالغيب، فهو يعلم يقيناً أنَّ الله تعالى لن يُضيِّع عباده، ولن يخذل عباده، يتخذ من يشاء منهم شهداء، وينصُر من يشاء منهم، ويعز من يشاء ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء، التوحيد أن ترى أنَّ يد الله وحدها تعمل في الخفاء، لا مُعطي ولا مانع ولا مُعز ولا مُذل إلا الله، ليس في الوجود إلا الله.

الفاء الفصيحة:
أيُّها الإخوة الأحباب: في لغتنا العربية فاءٌ يُسمّيها العلماء الفاء الفصيحة، ما معنى الفاء الفصيحة؟ قال تعالى:

أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(184)
(سورة البقرة)

هذه الفاء فصيحة لماذا؟ لأنها تُفصِح عن شيءٍ محذوفٍ قبلها، المعنى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ) "فأفطر" (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) نُطبِّق هذا المعنى على قوله تعالى:

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)
(سورة هود)


سيدنا موسى ما هان أمام فرعون ولا استكان:
كل الأمر يرجع إلى الله، (فَاعْبُدْهُ) هذه الفاء فصيحة، فإذا علمت أنَّ أمرك بيد الله فلا تعبُد إلا الله، وإذا علمت أنَّ أمرك بيد الله فلا تتوجه بقلبك إلا لله، لا يحمينا إلا الله، ولا يرفع العقوبات عنّا إلا الله، في الدنيا والآخرة، جاء موسى عليه وعلى نبينا السلام إلى فرعون ليدعوه إلى الله تعالى، فقال له فرعون:

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18)
(سورة الشعراء)

يمتنُّ عليه بأنه أعطاه حق الحياة، ربّيتُك في قصري وأعطيتك حق الحياة، فهل هانَ موسى أمامه؟ وهل ضعُف وهل استكان؟ حاشاها قال له:

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22)
(سورة الشعراء)

تستعبد بني إسرائيل وتُقتِّل أبناءهم وتستحيي نساءهم، وتُفسِد في الأرض وتنشُر الفِتن الطائفية، وتُمكِّن الظالمين من رقابٍ سنواتٍ وسنوات، وتفعل ما يحلو لك وتقتل إخواني، وتعتقل من تعتقل منهم ثم تريدني أن أشكر لك صنيعك؟! لا أشكر إلا الله (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي عبَّدتهم استعبدتهم وتركتني؟
أيُّها الإخوة الكرام: لا بُدَّ أن نُصحِّح اللجوء إلى الله، ولا بُدَّ أن يكون هدفنا هو الله، وأن يكون اعتصامنا على الله، وإذاً لن يُضيِّعنا الله.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

أيام العشر الأوائل من ذي الحجة أيامٌ مُباركة:
أيُّها الإخوة الأحباب: عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ ما من أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ العشرِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلَّا رجل خرج بنفسِه ومالِه فلم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ }

(أخرجه البخاري)

يعني أيام العشر الأوائل من ذي الحجة، هذه الأيام مُباركة أقسَم الله تعالى بلياليها فقال:

وَالْفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2)
(سورة الفجر)

فأكثروا فيها من التكبير، وأكثروا فيها من التهليل، وأكثروا فيها من الأعمال الصالحة، واجعلوا من أعمالكم الصالحة أعمالاً يتعدى فيها النفع إلى الغير، أكثروا من الصدقات، وأكثروا من صلة الأرحام ومن بر الوالدين، ولنُكثِر من الصلاة والصيام والقيام، ولنحافظ على استقامتنا في هذه الأيام، ولنُعدّ أنفسنا لمن استطاع أن يُضَّحي أن يذبح الأُضحية، يتقرَّب بها إلى ربنا جلَّ جلاله، ولنُهيئ أنفسنا لصيام يوم عرفة يوم التاسع من ذي الحجة، يوم الخميس القادم، فإنَّ نبينا صلى الله عليه وسلم قال:

{ صِيامُ يومِ عَرَفَةَ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التي قَبلَهُ، والسنَةَ التي بَعدَهُ، وصِيامُ يومِ عاشُوراءَ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التِي قَبْلَهُ }

(أخرجه مسلم وأبو داوود وأحمد)

ثم إنَّ أعظم أيام الدنيا هو يوم النحر يوم الجمعة القادم، فاحرصوا عباد الله أن نغتنم هذه المواسم بالطاعات، وأن نُكثِر فيها من القُربات ومن الأعمال الصالحة، فإنَّ هذه الأيام إذا انقضت لا تعود إلا في العام القادم، ولا ندري أنكون عندها بين الأحياء أم بين الأموات، فإنَّ الله أذِن لنا أن نكون اليوم على قيد الحياة، فبإمكاننا أن نستغل وأن نستثمر، وأن نجعل هذه الأيام أيام برٍ وصدقةٍ وخيرٍ وتوجهٍ إلى الله تعالى.

الدعاء:
اللهم اهدِنا فيمن هديت، وعافِنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن تولَّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا واصرف عنّا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أنعمت وأوليت، نستغفرك اللهم ونتوب إليك، اللهم هبّ لنا عملاً صالحاً يُقرِّبُنا إليك.
اللهم يا واصل المُنقطعين صِلنا برحمتك إليك.
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا.
اللهم أهلنا في فلسطين، اللهم أهلنا في غزَّة، اللهم أهلنا المُستضعفين في كل مكانٍ يُذكر فيه اسمك يا الله، كُن لهم عوناً ومعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
واغفر لنا تقصيرنا فإنك أعلم بحالنا، اللهم عليك بمَن ظلمهم، اللهم عليك بمَن قَهَرَهُم، اللهم عليك بالصهاينة المُعتدين فإنهم لا يُعجزونك.
اللهم مُجري السحاب مُنزِل الكتاب سريع الحساب هازِم الأحزاب، اهزم الصهاينة المُعتدين ومَن والاهم ومَن وقف معهم ومَن أيَّدَهم في سرٍّ أو علن.
اللهم اكتُب لبلادنا الخير والأمن والأمان، اللهم ابسُط أمنك وأمانك على ربوع بلادنا يا أرحم الراحمين.
اللهم وفِّق القائمين على بلادنا لما فيه مرضاتك، وللعمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، وخُذ بأيديهم لما يُرضيك يا أرحم الراحمين، وأصلح الراعي والرعية يا رب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.