اغتنام الفرص

  • محاضرة بعنوان
  • 2025-04-21
  • سورية - دمشق

اغتنام الفرص

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا علماً وعملاً مُتقبَّلاً يا أرحم الراحمين وبعد:

ربنا جلَّ جلاله خلق الإنسان وجعل فيه مطلباً دائماً إلى جلب المنافع ودفع المفاسد:
أيُّها الإخوة الأحباب: ربنا جلَّ جلاله خلق الإنسان، وجعل فيه مطلباً دائماً إلى جلب المنافع ودفع المفاسد، فإذا أراد أن يعبُر الشارع وجاءت سيارةٌ مسرعة، يرجع فوراً، ليدفع المفسدة عن نفسه، وإذا قيل له إنَّ هذه الصفقة التجارية فيها ربحٌ، فإنه يسعى جهده لتحصيل هذا الربح، فالإنسان بالعموم يسعى إلى اغتنام الفُرص، كلُ واحدٍ منّا، فرصة علمية، فرصة اقتصادية، فرصة لقاء شخصٍ مسؤول، معرفته لها وزنٌ مُعيَّن، يغتنم الفُرص، هذا الدافع في الإنسان لاغتنام الفُرص، ولتحصيل الأفضل دائماً، هو دافع حيادي، ما معنى حيادي؟ بمعنى أنَّ الإنسان يمكن أن يستخدمه في الخير أو في الشر، هذا معنى الحيادي، أي هو موقوفٌ على طريقة استخدامه، فهناك إنسانٌ يغتنم الفُرص السيئة، يقول لك استطعت أن أُحصِّل مبلغ من رِبا، مبلغ من رشوةٍ، بطريقةٍ احترافية، وهناك شخص يغتنم الفُرصة الحلال، فيكسب مالاً حلالاً، هناك شخص يعتبِر أنَّ إيقاع امرأةٍ لا تحل له في شباكه فرصةً اغتنمها، وهناك شخصٌ يقول:

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23)
(سورة يوسف)

ويغتنم الفُرصة في فتاةٍ تُرضي الله عزَّ وجل، ومستقيمة على منهج الله عزَّ وجل، يتزوجها ويسعَد معها بالحلال، فاغتنام الفُرصة موجود عند الجميع، لكنه حيادي، فمِن الناس من يغتنم الفُرص السيئة ولا يُبالي، ومن الناس من يحرص على اغتنام الفُرص الجيدة فقط.

اغتنام الفُرص أصلٌ في داخل الإنسان:
فاغتنام الفُرص أصلٌ في داخل الإنسان، مبنيٌ على أنه يُحب دائماً الخير لنفسه، ويدفع الشر عن نفسه، وكان بعض السلف يقولون: "إذا فُتح لأحدكم بابُ خيرٍ فليُسرع، فإنه لا يدري متى يُغلَق عنه"، يعني أحياناً يكون معك مال، فأنتَ فُتِح لك بابُ خيرٍ في الإنفاق، فأنفق، وقد يُغلَق هذا الباب لأي سبب أو لآخر، فيحول بينك وبين الإنفاق.
إذا إنسان ربنا آتاه صحة، فُتِح له بابُ خيرٍ في معونة الناس، ينزِل ويرجع ربما بأي لحظةٍ، وكلنا مُعرَّضون نسأل الله العافية، ربما يُصاب الإنسان بمرضٍ يُقعده عن الأعمال الصالحة التي كان يقوم بها، إذا فُتح لأحدكم بابُ خيرٍ فليُسرع، فإنه لا يدري متى يُغلَق عنه، الحياة فيها متاعب، فيها مصاعب، فيها مصائب.
فاغتنام الفُرص أمرٌ ينبغي أن يحرص المؤمن عليه، وأن يحرص على اغتنام الفُرص التي تُفيده في آخرته، أكثر من حرصه على اغتنام الفُرص التي تنتهي بانتهاء الدنيا، الصفقة التجارية فُرصة إذا كانت بالحلال اغتنمها، ولكن اعلَم أنَّ نهاية ما تأتي به هو الدنيا، إلا إن أنفقت منها وبقي لك منها للآخرة، لكن ينبغي على المؤمن، أن يحرص على اغتنام الفُرص، التي تكون له زاداً في أُخراه وليس في دُنياه فحسب، من هنا النبي صلى الله عليه وسلم، من مبدأ اغتنام الفُرص يقول في الحديث المشهور:

{ إن قامتِ السَّاعةُ و في يدِ أحدِكم فسيلةٌ، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتَّى يغرِسَها فليغرِسْها }

(أخرجه البخاري والبزار)

يعني الوقت ضيِّق جداً، والقيامة قامت، وربما لن يأكل أحد من هذه الفسيلة، ولا يستفيد منها أحد، لا نبات، ولا حيوان، ولا إنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لك اغتنم الفُرصة، هناك فُرصةٌ الآن في يدك أن تغرس فسيلة، فلا تتردَّد في غرسها، وتترك هذه الفُرصة التي عرضت لك.

النبي صلى الله عليه وسلم كان بارعاً في اغتنام الفُرص:
النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، كان بارعاً في اغتنام الفُرص، إذا نظرت في سيرته، من ذلك مثلاً: أنه أردف ابن عباس رضي الله عنهما خلفه، وكان غلاماً صغيراً، ربما المسير عشرة دقائق، ربع ساعة، الله أعلم، أردفه خلفه فاغتنم الفُرصة صلى الله عليه وسلم، مع أنه مع غلامٍ صغير، ليس مع رجُلٍ كبير، أو زعيم من زعامات قُريش، قال له:

{ يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ }

(أخرجه الترمذي وأحمد)

وصية تُكتب بماء الذهب، استمرَّ نفعها إلى يومنا هذا، وسيستمر إلى يوم القيامة، كانت اغتنام فُرصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بوقتٍ يسير، هو طريق التوصيل من مكانٍ إلى آخَر، اغتنَمَ الفُرصة صلى الله عليه وسلم.

أحاديث تدعو إلى اغتنام الفُرصة التي بين يديك:
كان جالساً وغلام في المجلس، عُمر بن أبي سُلمة:

{ كُنْتُ غُلَامًا في حَجْرِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فَقالَ لي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمِينِكَ، وكُلْ ممَّا يَلِيكَ فَما زَالَتْ تِلكَ طِعْمَتي بَعْدُ. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

ثلاث كلمات، اغتنَمَ الفُرصة، فُرصة توجيه.
فالمؤمن طبعه أنه يغتنم الفُرص ليقدِّم شيئاً لآخرته، ولو أنها كلمة ربما تنفع إنساناً، فتكون زاداً له وزاداً للداعي، زاداً للمدعو، وزاداً للداعي بين يدي الله تعالى، وكان صلى الله عليه وسلم يقول:

{ بادروا بالأعمالِ فتَنًا كقطعِ اللَّيلِ المظلمِ، يصبحُ الرَّجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا يبيعُ أحدُهم دينَهُ بعرضٍ منَ الدُّنيا }

(أخرجه مسلم والترمذي)

يعني الآن عندك فُرصة أن تعمل عملاً صالحاً، قد نصل إلى زمانٍ الفِتن فيه كقطع الليل المظلم، فلا تستطيع أن تقوم بهذا العمل، لا تجد من يسمع لك، لا تجد من يستجيب (بادروا بالأعمالِ) اعمل الآن عملاً قبل أن يأتي الزمن، الذي فيه الفِتن كقطع الليل المظلم، تحجبك عن الأعمال الطيبة والصالحة (بادروا بالأعمالِ).
وفي روايةٍ أُخرى:

{ بادِروا بالأعمالِ سبعًا: هل تنظرون إلَّا فقرًا مُنسِيًا، أو غنًى مُطغِيًا، أو مرضًا مُفسِدًا، أو هِرَمًا مُفنِّدًا أو موتًا مُجهِزًا ، أو الدَّجَّالَ، فشرٌّ غائبٌ يُنتَظرُ، أو السَّاعةُ فالسَّاعةُ أدهَى وأمرُّ }

(المنذري الترغيب والترهيب)

غِنى يُطغي الإنسان فيحجبه عن الله، أو فقراً يُنسيه، ثم يقول: (أو الدَّجَّالَ، فشرٌّ غائبٌ يُنتَظرُ، أو السَّاعةُ فالسَّاعةُ أدهَى وأمرُّ) فكل هذه الأحاديث تدعو إلى اغتنام الفُرصة التي بين يديك، لا تؤجِّل، أي عمل يعرض لك تستطيع أن تُقدِّم فيه نفعاً لأمتك، لدينك، لقومك، بادر إليه فوراً.
ويقول صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى:

{ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لرجلٍ وهو يَعِظُه: اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك }

(أخرجه البيهقي في شعب الإيمان والحاكم)


أعظم فرصة نغتنمها أننا أحياء:
الآن يوجد فراغ فيوجد الوقت، قد يأتي يوم لا يوجد وقت نهائياً، الآن يوجد صحة، قد يأتي يوم هناك مرض، الآن الحياة موجودة، أعظم فُرصة هي فُرصة الحياة، أعظم فرصة نغتنمها أننا أحياء، اليوم إذا كتب ربنا لنا حياةً بعد هذا المجلس، فهناك فُرصةٌ في الليل لقيام ركعتين، أمّا قد الليلة التي بعدها هذه الفرصة انتهت غير موجودة.
الشباب بمفهومه الواسع، ما دام الإنسان يستطيع أن يتحرك، وما زال بعنفوانه، بالهرم قد لا يستطيع أن يُمارس نفس النشاط الذي يمارسه.
(وغناك قبل فقرِك) فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو في هذا الحديث الشريف إلى اغتنام الفُرص (اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ).
ويقول صلى الله عليه وسلم:

{ لا تحْقِرَنَّ من المعرُوفِ شيْئًا، ولوْ أنْ تلْقَى أخاكَ بوجْهٍ طلْقٍ }

(أخرجه مسلم)

أيضاً هذا الحديث في اغتنام الفُرص، يعني ما يقول الإنسان هذا الأمر بسيط، أو ماذا أفعل، أو ماذا أُقدِّم، ولو أنك التقيت بأخيك فابتسمت بوجهه، هذه فرصة اغتنمتها، لك فيها الأجر عند الله تعالى.

{ قام النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: اتَّقوا النَّارَ ثمَّ أعرَض وأشاح حتَّى رأَيْنا أنَّه يراها ثمَّ قال: اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ فإنْ لم تجِدوا فبكلمةٍ طيِّبةٍ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

يعني ليس تمرةً كاملة، نصف تمرة، فُرصة للإنسان أن يتَّقي النار ولو بصدقةٍ بسيطةٍ جداً، تعدل نصف تمرة، فإن لم يجد، فُرصة أن يتكلم كلمة طيبة، أحياناً الكلمة الطيبة تُقرِّب بعيداً، وتؤلِّف قلب عدوٍّ، بكلمةٍ طيبة، أحياناً تدخل إلى الشركة تجد مستخدم ضعيف، لا يُلقي الناس له بالاً، يقوم بعمله بالتنظيف، فتقول له السلام عليكم، قد ينتعش بها طوال النهار، بأنَّ مدير الشركة ألقى عليَّ السلام وهو داخل، أو موظف مهم ألقى عليَّ السلام، معنى ذلك أنَّ لي شأنٌ بمجتمعي، كلمة طيبة، فهذه فُرص يحدثنا عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ. }

(أخرجه مسلم)

كلمة واحدة، والإنسان لا ينتبه أنه قالها، يجد أنها يوم القيامة قد رفعه الله تعالى بها درجات في الجنَّة وليس درجةً واحدة، وهي كلمة.
سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام اغتَنَم الفُرصة، يوم كان في السجن، هناك رجُلان بعيدان عن الله عزَّ وجل، أقرب إلى الشرك، أظن أنه كان يبحث عن طريقةٍ يصل بها إلى قلبهما، إلى أن جاءت الفُرصة، رأَيا مناماً، ربنا هيأ له فُرصة، كل واحد منهما رأى مناماً، وعلِما أنَّ يوسف عليه السلام يُحسِن تعبير الرؤى، جاءا إليه فجاءت الفُرصة، قبل أن يُجيبهما اغتنَمَ الفرصة، لو أجابهما ربما لم يسمعا له بعد ذلك، لأنهم أخذوا ما يُريدان وانتهى، الأُذُن لن تُصغي، اغتَنَمَ الفُرصة بين السؤال وانتظار الجواب، اقرأوا في القرآن أسطر، دقيقتين فُرصة.

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(39)
(سورة يوسف)

دلَّهم وعلَّمهم على التوحيد ثم:

قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(37)
(سورة يوسف)

لكن قبل ذلك اغتنَمَ الفُرصة في هداية هذين الرجُلين، في إسماعهما كلمة حق.
ربنا جلَّ جلاله يقول:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)
(سورة آل عمران)

يقول:

سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(21)
(سورة الحديد)

يقول:

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(50)
(سورة الذاريات)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(9)
(سورة الجمعة)

كله يدل على الاغتنام للفُرص، على السعي من أجل الوصول إلى فُرصة، تأخذ فيها أجراً، تُقدِّم فيها نفعاً، تدل بها إنساناً على خير، تُنجّي إنساناً بها من شرٍّ قد يقع به، هي الحياة فُرص، ما الذي يقابل اغتنام الفُرص؟ التسويف، في الأثر هلك المسوفون، لا يصح حديثاً، لكن معناه هلَك المسوفون، الذي يُسوُّف، يقول سوف أفعل، هذا هلَك.

من القوة والحزم ألّا يكون لديك عملٌ يمكن أن تقوم به اليوم وتؤخِّره إلى الغد:
كان عُمر رضي الله عنه يقول: "من القوة ألّا تؤخِّر عمل اليوم إلى الغد"، من القوة والحزم ألّا يكون لديك عملٌ يمكن أن تقوم به اليوم، عمل خير وتؤخِّره إلى الغد، صدقة ادفعها الآن، أعرف أشخاصاً كُثر، ما كان يستطيع في دنياه أن ينفق كثيراً، يعني هو:

وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9)
(سورة الحشر)

ترك المال عنده صعب، قبل الموت أوصى، أنفقوا كذ وكذا وكذا، لم يُنفَّذ شيء من الوصية، لا تؤجِّل، الشيء الذي تريد أن توصي به قُم به أنت الآن، الأولاد قد يُنفّذون وقد لا يُنفّذون، يقول لك نحن أَولى بالمال لماذا ندفع؟ فمن القوة ألّا تؤخِّر عمل اليوم إلى الغد، إذا أردت شيئاً وأنت صحيحٌ وغني، وقادر عليه، قُم به أنت مباشرةً في يومك، لا تقُل غداً أُنفِق، الآن أَنفِق، " لا تقولن سوف، فهي جنديٌ من جنود إبليس".
سوف أتوب، سوف ألتزم بالصلاة، سوف أبدأ بقيام الليل إن شاء الله بواحد رمضان القادم، إن شاء الله بعد العيد، بإذن الله الاستقامة تمام وغض البصر بعد الزواج، عندما أنتهي من الخدمة الإلزامية كان في السابق، دائماً هناك أمور تؤخَّر إلى بعد الخدمة الإلزامية، لأن أثناء الخدمة الإلزامية مضطر والصلاة صعبة، ومن أدراك أنك ستعيش إلى بعد الخدمة الإلزامية؟! أو بعد الزواج؟! أو بعد الأربعين، أو بعد الستين، أو بعد أن أُزوُّج الأولاد، أو سوف أفعل بعد العيد، ومن أدراك أنك ستحيا إلى العيد؟! فما دام الإنسان لا يملِك أيامه المُقبلة، إذاً لا ينبغي أن يؤخِّر العمل إلى الغد، لأنه لا يملِك الغد، لا يستقيم عقلاً أن نؤخِّر العمل إلى وقتٍ لا نملكه أصلاً، ما معنى قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(102)
(سورة آل عمران)


كُن مسلماً دائماً ومُستعد في أي لحظة للمغادرة:
(وَلَا تَمُوتُنَّ) نهي، لا الناهية، يعني ربنا ينهاك أن تموت إلا وأنت مسلم، كيف وأنا لا أدري متى سأموت؟ إذاً كُن مسلماً دائماً من الآن، يعني أنت كُن مُستعد في أي لحظة للمغادرة، وأنت على تسليم أمرك لله تعالى بشكلٍ كامل، حتى إذا جاء الموت انتهى، كُن مُستعد في اللحظة التي يأتي بها، تخيَّل أنه مثلاً شركة طيران أمرها عجيب جداً، تقول لك موعد انطلاق الطائرة من الثانية عشر ليلاً إلى الثانية عشر ظهراً في اليوم الثاني، غير محدد، والبطاقة ثمنها مبالغ كبيرة جداً، وإذا تأخرت تخسره، فأنت ماذا تفعل؟ تقوم بتجهيز حقيبة سفرك، وتضعها خلف الباب وتقف تنتظر، حتى يأتيك الاتصال تذهب، وحالنا مع الدنيا هو كذلك، يجب أن تكون الأحزمة مشدودة، والمتاع جاهز لأنَّ المغادرة غير معروف موعدها، أمّا لو علم الإنسان متى المُغادرة لجهَّز حاله قبلها، أمّا إذا المُغادرة غير معلومة، فينبغي أن تكون الجاهزية دائماً على أعلى مستوى، لأنَّ المُغادرة غير معلومة.
لذلك ربنا عزَّ وجل لا يتحقق اختيار العبد حقيقةً، إلا إذا كانت المُغادرة غير معلومة، وإلا أكفر الكفّار يتوب قبل ساعتين، لا يتحقق الاختيار، يُصبِح جبر، إذا المُغادرة معلومة، فالناس تقضي الوقت كله في المعاصي وفي ظلم الناس، وقبل المُغادرة يتوب، لو كان أكفر الكفّار، لكن ربنا جلَّ جلاله شاءت حكمته حتى يتحقق الاختيار للعباد، قال لك موعد المُغادرة غير محسوم، وغير معروف، لا موعدك أنت ولا موعد القيامة.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(187)
(سورة الأعراف)