الهدى بين الاتباع والإعراض

  • اللقاء الرابع عشر من تفسير سورة الأنعام - شرح الآيات 102- 110
  • 2023-08-26

الهدى بين الاتباع والإعراض

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين وبعد:
فهذا هو اللقاء الرابع عشر من لقاءات سورة الأنعام، ومع الآية الثانية بعد المئة من السورة، وهي قوله تعالى:

ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ فَٱعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ (102)
(سورة الأنعام)

هذه الآية مفصلية في السورة، والسورة تتحدث عن التوحيد، فبعد أن ذكر الله تعالى آياته في الخلق، وكيف أن المشركين:

وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ۖ وَخَرَقُواْ لَهُۥ بَنِينَ وَبَنَٰتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ ۚ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ (100)
(سورة الأنعام)

فذكر شركهم، ثم بيّن أنه بديع السماوات والأرض، وأنه ليس له ولد، وليست له صاحبة، وأنه خلق كل شيء، قال بعد ذلك: (ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ) أي بهذه الصفات التي ذُكرت سابقاً (ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ).
التوحيد واحد
التوحيد -كما تعلمون- كتقسيم مدرسي: هو ربوبية وألوهية، التوحيد واحد؛ أي إما أن يكون الإنسان موحداً أو أن يكون مشركاً، فلا يوجد نصف توحيد، لا يوجد إنسان عنده نصف توحيد لأنه يعترف بالربوبية، ولا يعترف بالألوهية، فالمشركون اسمهم مشركون مع أن الله قال:

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَٰتُ رَحْمَتِهِۦ ۚ قُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ(38)
(سورة الزمر)

لكنهم مشركون، لأنهم يتوجهون إلى غير الله بالعبادة، فالتوحيد كلٌّ متكامل، لكن مدرسياً يقسّمه البعض إلى: توحيد ربوبية وتوحيد ألوهية لفهم القضية، لفهم التوحيد كيف يكون كاملاً حتى نتحقق منه، فهذه الآية تمثل هذين النوعين(ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ)؛ هذه الربوبية، الرب خالق كل شيء، وما دام هو الخالق المتفرد بالخلق فهو المتفرد بالملك، وما دام هو المتفرد بالملك فهو المتفرد بالرزق، وهذه الثلاث هي التي تشير إلى معنى الربوبية، الرب خلقَ وملكَ ورزقَ، كل مفردات الربوبية تندرج تحت هذه الكلمات الثلاثة؛ خلقَ وملكَ ورزقَ ، فالذي خلقنا هو الله، والذي يملكنا هو الله.

ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ(156)
(سورة البقرة)

بل الكون كله ملك له -جلَّ جلاله -، والذي يرزقنا هو الله بجميع أنواع الرزق؛ الرزق المادي والرزق المعنوي، السكينة من الله، والماء من الله، والنبات من الله، وعمل الكلية من الله، وإبصار العين من الله؛ كله رزق، كل شيء آتاك الله فهو رزق (ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ) هذا خلقٌ وملكُ ورزقٌ.
لا معبود بحق إلا الله
(لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود بحق إلا الله، ما دام هو الرب الخالق المالك الرازق فلا ينبغي أن تتوجه بالعبادة إلى غيره، وهذه مشكلة المشركين أنهم كانوا إذا سئلوا (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ) كيف يستقيم أن تعترف بربوبيته، ثم تتوجه بالعبادة إلى غيره؟! فالتوجه بالعبادة هو مفهوم الألوهية، هو الإله المتصرف بالكون، هو الذي تتوجه إليه إذا أردت حاجة، ما دام هو خلقك ويملك أمرك ويرزقك إذاً لماذا عندما تريد أن تسأل شيئاً من الدنيا أو شيئاً من الحياة فإنك تسأله لغير الله؟! هذا محض جهل، ومحض حمق أن تعترف بأنه خلقك وملكك ورزقك، ثم تطلب من غيره (ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ) ربوبية وألوهية، (خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍ) ربوبية، (فَٱعْبُدُوهُ) ألوهية، الآية رتبت الأمر بهذا الترتيب المنطقي (ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ) جزء من الربوبية (خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍ)، والخلق كما قلنا يتبعه الملك، ويتبعه الرزق، (خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ فَٱعْبُدُوهُ) ما دام هو الخالق المالك الرازق، (فَٱعْبُدُوهُ ) وحده (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ) رجعنا إلى الربوبية؛ أي -جلَّ جلاله -حفيظ حافظ لكل شيء هذا معنى وكيل: رقيب على كل شيء (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ) مطلع، رقيب، حافظ لكل شيء، هذه الآية هي المفصلية في السورة، سورة الأنعام كما قلنا محورها العام التوحيد فالمفصلية فيها هي هذه الآية (ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ فَٱعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ).
هذه الـفاء(فَٱعْبُدُوهُ) عند كثير من النحاة هي الفاء الفصيحة يسمونها الفاء الفصيحة، إذا قلت: هناك امرأة فصيحة فهي امرأة تتكلم بفصاحة، ويشبه ذلك تلك المرأة التي جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، الرجال سبقونا بالجمع والجماعات، وفُضلوا علينا بالجهاد في سبيل الله، ونحن قواعد بيوتكم، ومربيات أولادكم، -أو كما قالت- فماذا لنا؟ نحن ليس لنا شيء، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: هل سمعتم امرأة أشد منها رجاء أو أحسن في أمر دينها منها؟ أعُجب النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلامها، ثم وجهها إلى أن حسن تبعل المرأة زوجها يعدل ذلك كله، يعدل الجهاد في سبيل الله، فإن قامت على بيتها وربت أولادها فقد أخذت أجر الجهاد في سبيل الله وهي في بيتها؛ هذه امرأة فصيحة، الـفاء الفصيحة سميت فصيحة لأنها تفصح عن شيء محذوف قبلها، مثال ذلك الأوضح من هذا قوله تعالى:

أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
(سورة البقرة )

من كان مريضاً أو على سفر ورغم مرضه أو سفره صام، فهل عليه عدة من أيام أخر؟ هو كان مريضاً لكن مرضه محتمل فصام، فهل يتوجب عليه قضاء؟ هو ما أفطر، إذاً هذه الفاء (فَعِدَّةٌ) فصيحة تشير إلى محذوف قبلها؛ أي فأفطر (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر، أما إذا لم يفطر فليس عليه قضاء، فأفصحت عن شيء محذوف قبلها، هنا ما الذي أفصحت عنه قبلها؟ (ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍ) فإذا علمتم ذلك بأنه هو الرب وهو الخالق، ولا معبود بحق إلا الله، فإذا علمتم ذلك يقيناً فاعبدوه؛ هذا المحذوف (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ).

لَّا تُدْرِكُهُ ٱلْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلْأَبْصَٰرَ ۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ (103)
(سورة الأنعام)

لا تدركه: أي لا تحيط به.

وَجَٰوَزْنَا بِبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُۥ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِىٓ ءَامَنَتْ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسْرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ(90)
(سورة يونس)

أحاط به الماء من كل جانب، فالأبصار لا تدركه في الدنيا؛ هذا المعنى الأول لا تدركه في الدنيا، لأننا نؤمن أننا سنرى ربنا، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَيْلَةَ البَدْرِ، فَقالَ: إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَومَ القِيَامَةِ كما تَرَوْنَ هذا، لا تُضَامُونَ في رُؤْيَتِهِ. }

(أخرجه البخاري عن جرير بن عبد الله)

رؤية الله حق، هذا ما عليه أهل السنة والجماعة، لم يخالف في هذه الرؤية إلا بعض الجماعات المعتزلة، وثبت ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى:

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍۢ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)
(سورة القيامة)

أما في الدنيا، فلما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم -رأيت ربك؟

{ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: ‏ ‏نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ }

(أخرجه مسلم عن أَبِي ذَرٍّ الغفاري)

ولما طلب موسى عليه السلام أن يرى ربه:

وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِىٓ أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِى وَلَٰكِنِ ٱنظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوْفَ تَرَىٰنِى ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ (143)
(سورة الأعراف)

الله تعالى هو الذي خلق لنا الأبصار
الله تعالى هو الذي خلق لنا الأبصار وجعل لها القوانين، ومن قوانينها أن البصر في الدنيا بصر مخلوق لا يحيط بالخالق هكذا أراد الله تعالى، وهذا الأمر فيه جانبان: الأمر الأول: أنه لو رأى الإنسان ربه لأصبح الإيمان شهادة، والإيمان بالشهادة لا قيمة له وحده إذا كان إيماناً بالشهادة؛ أي إذا كان -ولله المثل الأعلى- الابن لا يطيع أباه إلا إذا كان أبوه ينظر إليه، لا يطيعه إلا إذا كان ينظر إليه ويراه بعينيه، فإذا غاب عن البيت خالف كل أوامره، فما قيمة هذه الطاعة؟ ومن زاوية ثانية فإن الرؤية في الدنيا هي رقابة مستمرة، والله بعد قليل سيقول: وهو اللطيف، فهو يراقبك بلطف بحيث لا تراه وهو يراقبك، تخيل أنت أن إنساناً -ولله المثل الأعلى- يراقبك في كل لحظة ويجلس معك في كل مكان، ذهبت إلى عملك هو معك، والله لا تطيق ذلك، أربع وعشرون ساعة تخرج من جلدك، ابتعد عني، لكن الله يراقبنا بلطف-جلَّ جلاله-.

هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
(سورة الحديد)

لكن بلطفه، (لَّا تُدْرِكُهُ ٱلْأَبْصَٰرُ) وقال بعض المفسرين: بل لا تدركه الأبصار في الدنيا والآخرة، بمعنى أن النظر يوم القيامة إلى وجه الله الكريم لا يعني أنا سندركه ونحيط به -حاشاه-، ولكنه نظر من نوع خاص لكنه ليس الإدراك؛ لأنه كل ما خطر ببالك فإن الله بخلاف ذلك، فلا تدركه الأبصار لا دنيا ولا آخرة، بمعنى أنها لا تحيط به، فأما في الدنيا لا تدركه وتشمل أنها لا تستطيع رؤيته، وفي الآخرة رؤية دون إدراك، دون إحاطة، نراه لكن دون أن نحيط به.

ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍۢ مِّنْ عِلْمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ ۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ(255)
(سورة البقرة)

والمعنيان مقبولان (لَّا تُدْرِكُهُ ٱلْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلْأَبْصَٰرَ) لأنه خالقها -جلَّ جلاله-، فهو يدرك الأبصار.

يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ (19)
(سورة غافر)

فيحيط ببصر الإنسان، ويعلم سره ونجواه، ويعلم السر وأخفى، قال: (وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ)، ناسب الحديث عن (لَّا تُدْرِكُهُ ٱلْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلْأَبْصَٰرَ) ذِكر اسمين من أسماء الله الحسنى وهما اللطيف والخبير، فاللطيف لأنه لا تدركه الأبصار فهذا من لطفه -جلَّ جلاله-، والخبير من أنه يدرك الأبصار، وهو اللطيف لأنه لا تدركه الأبصار، وهو الخبير لأنه يدرك الأبصار ويعلم، وهو خبير بكل نظرة، وبكل حركة، وبكل سكنة، وبكل شيء (وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ).

قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍۢ(104)
(سورة الأنعام)

لاحظوا الآيتين (لَّا تُدْرِكُهُ ٱلْأَبْصَٰرُ)، (قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ)، (فَمَنْ أَبْصَرَ) (وَمَنْ عَمِىَ) هذا التناسق بين البصر والعمى وإدراك البصر ونحو ذلك، قال: (قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ) بصائر: أي حجج واضحة بيّنة، براهين دالة على وجود الله تعالى، (قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) أي فمن أبصر فإبصاره تلك البينات يعود عليه بالنفع، وهذا مثل قوله تعالى:

إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ لِلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ ۖ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (41)
(سورة الزمر)

فالهداية لك والضلال عليك، (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) ما معنى أبصر هنا؟ قال تعالى:

أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى ٱلْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ(46)
(سورة الحج)

أبصر بمعنى أنه انتفع بتلك الآيات، فما قيمة أن أرى الأشياء بعيني ثم لا أنتفع بها وكأنني ما رأيتها؟ لو أن إنساناً قال لك: رأيت الجوهرة النفيسة في الغابة وتركتها ومضيت، تقول له: أين كانت عيناك؟ لماذا لم تنزل وتلتقطها؟ أبصرت الحق فلماذا لم تنتفع به؟ فكأنك ما أبصرته، وهذا يشبه تماماً:

وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
(سورة الأنفال)

السمع يقتضي الاستجابة
يعني لا يستجيبون، فالسمع يقتضي الاستجابة، فإن لم تستجب فكأنك ما سمعت، والإبصار يقتضي أخذ العبرة والعظة والانتفاع، فإن لم تنتفع فما أبصرت، (وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا) وربما يكون بصيراً في الدنيا، يُطلق عليه بصير وليس أعمى، وربما يكون أعمى في الدنيا بمعنى أنه قد أُخذت منه نعمة البصر ولكنه أبصر الحق واتبعه، فالإبصار و العمى هنا للحق، والعمى هو العمى عن الحق، قال: (وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا) و(على) دائماً تفيد الاستعلاء، الحمل بين أن يكون الأمر لك أو بين أن يكون الأمر عليك، وكأنه ثقل تحمله لأن العمى هو بعد عن الحق فهو ثقل، بينما الهداية هي قرب من الحق، فهي كسب تكسبه لنفسك، يضيف لك، والعمى -والعياذ بالله- على الكافرين، (وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا).

لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَٰفِرِينَ(286)
(سورة البقرة)

فكل شيء يأتي مع (على) يفيد الاستعلاء مع الثقل والحمل، وذلك يشبه قوله تعالى كما قلنا: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ)

قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ(51)
(سورة التوبة)

وما قال: علينا، ليطمئنك أن ما في الأقدار إنما محصلته لك وليست عليك، فحتى لو كان ظاهره سوءاً فإن في محصلته خيراً لك، فدائماً قل: كتب الله لي، ولا تقل: كتب عليّ، كتبه لي: أي لشيء فيه مصلحتي، قد لا أدرك ذلك، فقد يأتي المرض فتقول: كتب الله علي المرض، ولا مانع من ذلك، لكن الأولى أن تقول: كتب الله لي المرض، لأن المرض يؤدي إلى اللجوء إلى الله والاعتصام بالله فيكون خيراً في محصلته لك؛ تكفير السيئات، رفع الدرجات... إلى آخره، فهو لك (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)، (وَمَآ أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) أي لست رقيباً عليكم أحصي أعمالكم، لست حفيظاً عليكم: رقيبا ًعليكم أحصي أعمالكم، أنا أدعوكم إلى الله (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا)، وقال بعض أهل التفسير: بحفيظ يعني لن أحفظكم من عذاب الله إن عميتم عن الحق، لكن سياق الآيات(فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) يعني:

إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ(56)
(سورة القصص)

أي لست رقيباً عليكم.

وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلْءَايَٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُۥ لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ (105)
(سورة الأنعام)

(وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلْءَايَٰتِ) نصرف الآيات: ننوع الأدلة والبراهين: نصرفها أي نجعلها منوعة الأدلة، ربنا -جلَّ جلاله -خلق النفوس ويعلم كل إنسان، ويعلم طبيعة الخلق، فهناك من ينتفع بالبلاء، وهناك من ينتفع بالنعمة، وهناك من ينتفع بالقرآن، وهناك من ينتفع بالآيات الكونية، أقصد ابتداءً بعد ذلك ينفعه كل شيء، لكن ما هو مفتاحه؟ (وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلْءَايَٰتِ)، فلم يجعل الله تعالى الآيات نوعاً واحداً، ما جعل كل عباده يأتون إليه بالنعم، وما جعل كل عباده يأتون إليه بالنقم ولا بالأمراض، فجعل لكل آية لعله ينتفع بها، لكن في النهاية الذي لا يريد الحق لن تنفعه كل الآيات مهما كثرت، وهناك من يقرأ القرآن فينتفع بالبيان فوراً، وهناك من ينظر في الكون فيتعرف إلى الله ابتداء بالكون ثم يقرأ كتابه، وهناك من ينظر في مصائر الأمم السابقة والأقوام الذين أهلكهم الله فترتعد فرائصه، لذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينوّع أيضاً في خطابه، فيقول أحياناً:

{ أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟ قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ. }

(أخرجه مسلم عن أبي هريرة)

الأشخاص يميلون إلى أحد جانبين
(يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا) هناك أناس يحبون محو الخطايا، هو طبيعته يحب التخفف من الأثقال، وهناك إنسان يحب الأخذ (ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ)، فالذي يحب المحو وجد ضالته في الحديث، والذي يحب رفع الدرجات وجد ضالته في الحديث، الأشخاص عموماً كما يقول أهل علم النفس: كل منهم يميل إلى أحد هذين الجانبين؛ هناك من يميل إلى التخفف من الأحمال والأثقال (التخلص من)، وهناك من يميل إلى (الأخذ من)، مع أبنائك تقول: والله عندي ابن إذا قلت له: "إن درست سأعطيك" مباشرة يدرس، وبالأطفال غالباً هذه السمة الأغلب، بالطفولة حصراً هي التشجيع، لكن في المقابل هناك من الأطفال من يميل أكثر إلى جانب العقوبة، كأن تقول له: إن لم تدرس سآخذ منك الجوال، بين من يميل إلى (سأعطيك)، ومن يميل (سآخذ منك) تهديد بالأخذ، فصلى الله عليه وسلم كان كثيراً في الأحاديث ما يأتي بهذه و تلك، فبعض الأشخاص يستجيبون لتلك وبعضها لتلك حسب طبيعة النفس وحالتها وظرفها في ذلك الوقت، فقال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلْءَايَٰتِ) ننوعها آيات نقم، آيات عذاب، آيات شكر وحمد، آيات نِعم ، آيات كونية، آيات تكوينية، آيات قرآنية، (وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلْءَايَٰتِ) حتى لا يبقى للإنسان حجة على الله، قال: (وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ) هذه اللام يسمونها لام المآل أو لام الصيرورة ليست لام التعليل، هي تعمل عمل لام التعليل فينصب الفعل المضارع بعدها، لكن في حقيقتها لام التعليل يكون ما قبلها سبب لما بعدها أي: أدرس لتنجح، هذه لام التعليل أي الدراسة سبب النجاح، أما قوله تعالى:

فَٱلْتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَٰطِـِٔينَ (8)
(سورة القصص)

هم عندما التقطوه التقطوه ليحزنهم؟ لا، التقطوه ليفرحهم.

وَقَالَتِ ٱمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍۢ لِّى وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
(سورة القصص)

لكنه كان في المآل عدواً وحزناً، فالمهم المآل (وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلْءَايَٰتِ وَلِيَقُولُواْ) في المآل الذي يحصل بعد تصريف كل هذه الآيات أن المآل أن يقولوا: درست، وهذهْ (دَرَسْتَ) فيها أربع قراءات صحيحة؛ قراءة(درسْتَ)، هناك(دارستَ)، والثالثة(دُرِستْ)، والرابعة (درسَتْ)، (دُرِستْ و درسَتْ) نسبة للآيات،(دارستَ و درسْتَ) وهي القراءة الأكثر شيوعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- فـ(دارستَ و درسْتَ) بمعنى واحد، (دارستَ) فيها معنى المدارسة والمجادلة بيني وبينك، و(درستَ) أي قرأت، كما نقول اليوم: درستَ، هل درست دروسكَ؟ ي قرأت وذاكرت وكذا، وهؤلاء كانوا يقولون: (دَرَسْتَ) كما جاء في القرآن الكريم:

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنْ هَٰذَآ إِلَّآ إِفْكٌ ٱفْتَرَىٰهُ وَأَعَانَهُۥ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ ۖ فَقَدْ جَآءُو ظُلْمًا وَزُورًا (4)
(سورة الفرقان)

كانوا يقولون:

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ (103)
(سورة النحل)

كما قال تعالى، ما معنى (دَرَسْتَ)؟ أي في المآل بعد كل هذه الآيات بدلاً من أن يستجيبوا لها، ماذا كان موقفهم؟ (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٌ)، له تعامل مع الجن، تعلم من اليهود، من ثقافات الأمم الأخرى، بدل من أن ينتفعوا بالآيات من عند الله -عزَّ وجلَّ -جعلوا يلتفون عليها بنسبتها إلى أنها ليست من الله وإنما هي من دراسته -صلى الله عليه وسلم-، والله تعالى يقول:

وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰٓ(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَىٰ(4)
(سورة النجم)

فحتى أحاديثه ليست من دراسته، وإنما هي وحي يوحى، وهذا سر أميته وشرف أميته- صلى الله عليه وسلم- في أنه لا يقرأ ولا يكتب.

وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِۦ مِن كِتَٰبٍۢ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّٱرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ (48)
(سورة العنكبوت)

الذي عنده العلم يتجه إلى الآيات وتصريفها فينتفع بها
أي جعل المبطلون يشككون فيك، فأنت تقرأ وتكتب، إذاً أنت درست وكتبت وخرجت لنا بهذا المنهج من عندك، (وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ)، وقراءة(ادّارست) مثلها لكن فيها مدارسة مع الآخرين أي فيها من طرفين، وأما (دُرِستْ و درسَتْ) دُرست بمعنى قُرأت؛ هذه الآيات قُرأت وانتهى أمرها، ودَرست أي انمحت، درست الديار: لم يبقَ لها أثر أنها انتهت، (وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُۥ لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ) أي نصرف الآيات لنبينه؛ نبين القرآن لقوم يعلمون، فالذي عنده العلم يتجه إلى هذه الآيات وإلى تصريف هذه الآيات فينتفع بها، والذي ليس عنده علم يتجه إليها بالإنكار، فيقول: درست.

ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ (106)
(سورة الأنعام)

وهذه الآية أيضاً بعد كل هذا الحجاج والخصام، الله بعد كل هذا الحجاج والجدال يقول تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ولنا من بعده: اتبع الحق الذي أوحاه الله إليك، لا إله إلا هو، لا معبود بحق إلا هو، وأعرض عن المشركين ذرهم في طغيانهم وفي غيهم، ولا تلتفت لهم فالتفاتك لهم يشغلك عن المهمة التي أنت فيها، أنت ادعهم.

وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦٓ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍۢ مِّن شَىْءٍۢ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِى جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوٓاْ أَنتُمْ وَلَآ ءَابَآؤُكُمْ ۖ قُلِ ٱللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
(سورة الأنعام)

وهذا منهج، أحياناً الإنسان يدخل في صراعات جانبية وفي حروب جانبية فينسى مهمته التي هو فيها، إذا الإنسان دخل بعمل خيري وهو صادق، ومنظم، وعمله خالص لوجه الله، ومنظم وفق ما ينبغي أن تنظم فيه الأعمال الخيرية، وبدأ الناس يتحدثون عنه، فبدأ ينشغل بالرد عليهم توقف العمل، ما دمت على المنهج الصحيح أعرض عن المشركين، فهذا منهج لنا عندما تكون على الحق فلا تلتفت إلى الآخرين، هذا لا يعني أن الإنسان لا يحافظ على سمعته، أو لا يحافظ على كلام الناس عنه، لكن عندما يكون على الطريق الصحيح فسيجد من يعاديه، فلم يسلم أحد ولا نبي الله بل إن الله تعالى -تعالى ملكه، وجلَّ سلطانه- لم يسلم من أذاهم، فهم يؤذون الله فادعوا له الولد، وادعوا له البنين والبنات.

وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ۖ وَخَرَقُواْ لَهُۥ بَنِينَ وَبَنَٰتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ ۚ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ (100)
(سورة الأنعام)

فحتى الله لم يسلم من ألسنة هؤلاء، فإذاً ليس لك أن تقول كما ورد في بعض الآثار، والقصة للعبرة أن موسى ناجى ربه في مناجاة-وهو موسى كليم الله-، فقال:"يا ربي لا تبقِ لي عدواً، فقال: يا موسى هذه ليست لي"، ليس هناك أحد بلا أعداء، فإذا كنت على الحق فأعرض عن المشركين، (وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ)

وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ ۗ وَمَا جَعَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍۢ(107)
(سورة الأنعام )

الإنسان غير مجبر
بمعنى أنك ينبغي أن تعلم أن شركهم هو ضمن المشيئة الإلهية، أي هم لم يخرجوا من سلطان الله، هل يستطيع أحد في سلطان الله تعالى أن يتصرّف شيئاً لا يريده الله؟ مستحيل، (وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ) هذه الآية أنا ما أدري كيف تحول فهمها وأمثالها في كتاب الله كثير مع أنني لم أسمع أن في الصحابة الكرام أو في السلف الصالح من سأل عنه، لا أدري كيف تحول فهمها عند كثير من الناس إلى مفهوم الجبرية أو القدرية، الجبرية: (وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ) معنى هذا: الله أجبرنا على الشرك، عجيب فهم عجيب فعلاً!! والقدرية: (وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ) الإنسان هو يصنع نفسه بنفسه لا دخل لربنا -عزَّ وجلَّ -بالموضوع، ضلالان واضحان بينان، الإنسان غير مجبر ولو كان مجبراً لما كان هناك ثواب وعقاب، كيف يدخله الله النار وقد أجبره على المعصية؟! هذا لا تقبله أنت من مدير مدرسة أن يجبر طالباً على الرسوب ثم يعاقبه على رسوبه، لا تستقيم، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن نقبل أن الله -عزَّ وجلَّ -هو مالك الملك وأن العباد يتصرفون في ملكه بغير ما يريد، أنت مالك هذا البيت والجيران يدخلون متى شاؤوا ويحطمون ويخرجون و أنت تنظر إليهم، إما أنت لست مالك البيت فلا يهمك الأمر، أو أنت غير قدير على منعهم فلا يستقيم ذلك، المعنى واضح جداً، (وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ* وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ) وأعلم أن الله -عزَّ وجلَّ -لو أراد أن يجبرهم لأجبرهم وانتهى الأمر، ما كان منحهم حرية الاختيار كالملائكة تماماً، الله -عزَّ وجلَّ -لم يشأ أن يشرك الملائكة.

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
(سورة التحريم)

وشاء أن يشرك البشر، فترك لهم الخيار فأشركوا، فهم أشركوا بعلمه، وأشركوا بإرادته ليست الشرعية وإنما الكونية، بمعنى أنه سمح لهم أن يشركوا، تركهم ليشركوا لأن الله -عزَّ وجلَّ -يريد أن يحقق لك الاختيار، فلا تظن أنهم يفعلون في ملكه مالا يشاء-حاشاه جلَّ جلاله-.

أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَسْبِقُونَا ۚ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
(سورة العنكبوت)

الذين كفروا ظنوا أنهم تفلتوا من ملك الله -عزَّ وجلَّ - وأصبحوا يفعلون أشياء لا يريدها الله -عزَّ وجلَّ -، لا، هم يفعلون ذلك ضمن ملك الله -عزَّ وجلَّ -وبإرادته ليحققوا اختيارهم، وليحاسبهم على قرارهم.
(وَمَا جَعَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) أنت لست رقيباً على أعمالهم، ولست موكلاً بإجبارهم على الهدى وإنما هم أصحاب اختيار، لأن الله شاء لهم أن يختاروا.

وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ (29)
(سورة التكوير)

هم يشاؤون لكن ضمن مشيئة الله (وَمَا جَعَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) هنا لا بد أن نميز بين كون المفردات الآن تكررت فلا بد أن لكل واحد معنى، أي لا نقول الوكيل هنا هو الحفيظ، الحفيظ بمعنى ليس لك أن تراقبهم وتحصي عليهم أعمالهم، (وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) أي لست موكلاً برزقهم، أو بإعطائهم، أو بمنعهم، فلست موكلاً بشيء من حاجاتهم، ولست برقيب على أعمالهم.

وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْوًۢا بِغَيْرِ عِلْمٍۢ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (108)
(سورة الأنعام)

تعامل الإنسان مع من هم على غير دينه
هذا منهج عظيم، هذه الآية وإن كانت جاءت في سبب خاص، لكن والله هي منهج عظيم في تعامل الإنسان مع من هم على غير دينه، نحتاجها في كل وقت وفي كل عصر لاسيما في عصرنا هذا (وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ) الأصنام، لا تسبوا آلهتهم، هي ليست آلهة، هو سبها مشروع لأنها ليست آلهة؛ صنم يعبدونه من دون الله، لكن عندما تقول له: لعنة الله على اللات والعزة، بئس اللات والعزة، فهو سيرد عليك فيسب آلهتك الحقيقية التي هي الإله الحق، فينهاه عن سب الآلهة المزعومة كي لا يؤدي ذلك إلى مفسدة سب الله تعالى، وكأن الله تعالى يقول لنا: إياكم أن تأتوا بمعروف فيؤدي إلى منكر أكبر منه، قاعدة: من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف، ومن نهى عن منكر فليكن نهيه بمعروف، ولا ينبغي أن يكون الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر مؤدياً إلى منكر أكبر من المنكر الذي تنهى عنه، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ مِن أكْبَرِ الكَبائِرِ أنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ والِدَيْهِ. قيلَ: يا رَسولَ اللَّهِ، وكيفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ والِدَيْهِ؟ قالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أبا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أباهُ، ويَسُبُّ أُمَّهُ. }

(أخرجه البخاري، ومسلم باختلاف يسير عن عبد الله بن عمرو )

هل هناك إنسان يلعن والديه -والعياذ بالله-؟! فقال: (يَسُبُّ الرَّجُلُ أبا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أباهُ، ويَسُبُّ أُمَّهُ) فيسب أمه، فما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إياكم أن تتسببوا في لعن والديكم، قال-والعياذ بالله- أنت- هذا فلان الذي يفعل ذلك- قال له: أنت تلعن والديك-والعياذ بالله-، سماه لاعناً لوالديه لأنه فعل شيئاً أفضى إلى ذلك، فاليوم عندما يكون وضع مسلمين ليس كما ينبغي من القوة والمكانة فلا ينبغي أن يجاهروا أو يستخدموا ألفاظاً تثير الطرف الآخر فيقوم هو بالارتداد عليهم، بلعنهم أو لعن دينهم -والعياذ بالله- أو أكبر من ذلك- حاشا الله تعالى-، هذه قاعدة مهمة جداً والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستخدمها، ومن ذلك لما افتضح أمر عبد الله بن أبي بن سلول وهو زعيم المنافقين، فجاءه ابنه؛ ابن عبد الله بن أبي بن سلول وكان رجلاً صالحاً، قال: يا رسول الله، لا أحتمل أن أرى قاتل أبي، فإن شئت فأمرني فأقتله أنا، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا، جاء سيدنا عمر قال: أريد أن أضرب عنق هذا المنافق، قال له: لا، ماذا كان تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟ قال:

{ لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّه كانَ يَقْتُلُ أصْحَابَهُ }

(أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن جابر بن عبد الله)

أنت تعرفه منافق وأنا أعرفه منافق، لكن الناس يعرفونه صحابياً من صحابة رسول الله، فحفاظاً على سمعة الصف المسلم، إن قتلته قال الناس: محمد يقتل أصحابه، إذاً كيف نتبعه وهو يقتل أصحابه؟ فصددت الناس عن دين الله، فلما افتضح أمره وأصبح ابنه يطالب بقتله أو يقول له: أنا أقتله إن شئت، والكل يعرفون أنه منافق خطير، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمر: كيف بك يا عمر لو قتلته؟ ما رأيك؟ قال: والله لقد علمت أن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظم بركة من أمري، النبي-صلى الله عليه وسلم -ينظر إلى البعد، كما يقال من البعيد يستشرف المستقبل، لما قالت له السيدة عائشة: نضم الحِجر إلى الكعبة، قال:

{ يا عائِشَةُ، لَوْلا أنَّ قَوْمَكِ حَديثُو عَهْدٍ بشِرْكٍ، لَهَدَمْتُ الكَعْبَةَ، فألْزَقْتُها بالأرْضِ، وجَعَلْتُ لها بابَيْنِ: بابًا شَرْقِيًّا، وبابًا غَرْبِيًّا، وزِدْتُ فيها سِتَّةَ أذْرُعٍ مِنَ الحِجْرِ، فإنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْها حَيْثُ بَنَتِ الكَعْبَةَ. }

(أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين )

الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة
لا نريد أن نعيدهم إلى الشرك والكفر، ينظر إلى السمعة، ينظر إلى المستقبل، لا ينظر إلى اللحظة فقط الآنية، فهنا قد يقول إنسان: مهما صنعنا هم كفار، ولعنا صليبهم، ولعنا كنائسهم، وأنت قد تكون تجلس في ديارهم ثم بعد ذلك هم يقومون بحالة عكسية، فتكون أنت كأنك -والعياذ بالله -الذي سببت المسبة لدينك، و لكتاب ربك، بالمناسبة هم اليوم تحديداً للأسف الشديد لا ينتظرون فعلاً حتى يأتوا بردة فعل، حتى نكون صادقين لكن لا بد هذا المنهج أن يبقى ماثلاً لو بحالات فردية شخصية، أنت لست مكلفاً أن تسب، أنت مكلف أن تدعو إلى الله -عزَّ وجلَّ -بالحكمة والموعظة الحسنة، نحن لسنا في حالة حرب، نحن لسنا في أخلاق

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ جَٰهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ(73)
(سورة التوبة)

هذه أخلاق بعد قيام الدولة المسلمة، وبعد إعلان الجهاد يأتي جاهد الكفار، أما نحن اليوم بأخلاق

ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ ۖ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ(125)
(سورة النحل)

هذه أخلاق اليوم فقط حكمة وموعظة وجدال بالتي هي أحسن.

وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْوًۢا بِغَيْرِ عِلْمٍۢ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (108)
(سورة الأنعام)

أي اعتداء (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي جهلاً، اعتداءً وجهلاً؛ أي قد يفعلون ذلك اعتداء وجهلاً بعظمة الإله، وكل إنسان يتجرأ على الله -عزَّ وجلَّ - فهو يعتدي -والعياذ بالله- ويجهل، ومن أعظم ما يصلني من فتاوى اليوم أن يتصل رجل أو تتصل امرأة يقول: والله أنا غضبت و -والعياذ بالله- سببت الله تعالى، هل طلقت مني زوجتي؟ فأقول له: تمهل قليلاً، القضية ليست في أن زوجتك تطلقت منك أو بقيت على ذمتك، القضية أعقد من ذلك بكثير وأعظم من ذلك بكثير، القضية أنك تجرأت على الله، يقول: والله يا شيخ كنت غاضباً، نقول له: والله لو كنت غاضباً ووصلت معك أينما تصل لا تتجرأ أن تسب رجلاً له مكانة في البلد، تخشى أن يسمع أحد فتقوم عليك الدنيا ولا تقعد، لكن لأن الله جعلته أهون الناظرين إليك، وما عظّمته حق عظمته فقد قلت ذلك،(كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ) أي زين لأهل الهداية هدايتهم، ولأهل الضلال ضلالهم، لو لم يكن الضلال مزيناً لما اتبعه أحد، ولو ما كانت الهداية مزينة لما اتبعها أحد، لكن ربنا -عزَّ وجلَّ -بالفطرة.

وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلْإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّٰشِدُونَ(7)
(سورة الحجرات)

لكن الشهوات مزينة، لا نستطيع أن ننكر أن الشهوة مزينة، المال مزين، (كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) أي بنتائج أعمالها، يعرض عليهم أعمالهم ويثيبهم عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا ٱلْءَايَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ
(سورة الأنعام)

أي حلفوا بالله بأشد أنواع الأيمان (جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ) أي أشد أنواع الأيمان، (لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا) هؤلاء المشركون أقسموا بالله لئن جاءهم محمد بآية من الآيات التي اقترحوها ليؤمنن بها، آيات مثل ما فعل قوم موسى:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55)
(سورة البقرة)

قوم عيسى:

قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنكَ ۖ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ(114)
(سورة المائدة)

وبعض المشركين:

وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلْأَرْضِ يَنۢبُوعًا(90) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَٰبًا نَّقْرَؤُهُۥ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا (93)
(سورة الإسراء)

الإيمان غيب
هؤلاء دائماً يطلبون الشهادة؛ أي نريد أن نرى بأعيننا حتى نؤمن، وربنا -عزَّ وجلَّ -أغلق هذا الباب لا سيما على أمة الإسلام، الإيمان غيب، نعم هناك بعض المعجزات الحسية التي رآها أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن ليس من الحكمة، وليس من المصلحة، وليس من الإيمان، وليس من الأدب مع الله تعالى أن تطلب شيئاً خارقاً حتى تؤمن، كل الكون يدل على وجوده، كل القرآن يدل عليه، كل الآيات الكونية والأفعال تدل عليه، ثم تقول: أنا أحب أن أرى بعيني، هذا اسمه سوء أدب مع الله -عزَّ وجلَّ - لأن الإيمان هو غيب.

ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ (3)
(سورة البقرة )

(وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا) آية من الآيات التي يريدونها، هي جاءتهم الآيات كلها، لكن هذه من الآيات التي هم اقترحوها، (قُلْ إِنَّمَا ٱلْءَايَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ) هذا الشأن من شأن الله، ليس لك أن تطلب، أنت لا يحق لك أن تطلب من هذه الآيات شيئاً، الله -عزَّ وجلَّ -إن شاء نزّل آية، وإن لم يشأ لم ينزّل؛ هذه إرادته(قُلْ إِنَّمَا ٱلْءَايَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ) أي أمرها لله وليس لك أن تقترح آية حتى تؤمن، مثل طالب قال للأستاذ: أنا متفوق كثيراً، لكن أنا أريد هذه الأسئلة بالامتحان، إذا أحضرت لي هؤلاء أنجح ، أما أولئك لا أنجح فيهم، هذا شأن المدرس؛ المدرس يأتي لك من القسم الأول بالكتاب، من القسم الأخير، من القسم الأوسط هذا شأن المدرس من أين تأتي الأسئلة والامتحانات، أنت ليس لك أن تفرض مادة الامتحان والأسئلة.
(قُلْ إِنَّمَا ٱلْءَايَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)وما يشعركم: أي وما يُعلمكم أنها إذا جاءت، وما يدريكم أنهم لن يؤمنوا إذا جاءتهم الآيات، الله -عزَّ وجلَّ -أعلم بالنفوس، ويعلم أن طلبهم لهذه الآيات هو طلب تعجيزي، وأن الإيمان متعلق بقرار شخصي، وأن صدودهم عن الإيمان هو لشهوات استقرت في قلوبهم، وأن مصالحهم في الكفر فبقوا عليه، وفي الشرك المزعوم من أجل أن تبقى لهم المكانة والآلهة المزعومة التي يستعبدون الناس بها، فالقضية ليست في الآيات، فيقول تعالى للمؤمنين: وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، حتى إذا جاءت لن يؤمنوا، لكن إذا نزلت الآيات أنا قلت: ليس من مصلحة المؤمن أن يطلب الآية لأن الله إذا نزلت الآيات لا يمهل بعدها، عند نزول الشهادة إذا لم يؤمن الإنسان يؤخذ -والعياذ بالله- بالعذاب فوراً.

قَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّىٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابًا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدًا مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ(115)
(سورة المائدة)

الإمهال، ربنا أعطاك مساحة طالما أن الإيمان غيب، يعطيك مساحة كافية لكل إنسان وفق علمه به حتى يأخذ قراره، أما إذا نزلت الآية بعدها يحل العذاب بالقوم كلهم، فليس من مصلحة أحد أن تنزل الآيات الصارخة ثم لا يؤمن بها؛ لأن الله يعاجلهم عندها بالعذاب.

وَنُقَلِّبُ أَفْـِٔدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِۦٓ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
(سورة الأنعام)

نقلب أبصارهم وأفئدتهم أي الحيرة وعدم الاهتداء
الأفئدة: جمع فؤاد؛ وهو القلب، وأبصارهم: البصر المعروف، (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِۦٓ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي نقلب أبصارهم وأفئدتهم كناية عن الحيرة وعدم الاهتداء، ما معنى إن الإنسان فؤاده؛ قلبه متقلب وبصره متحول؟ أي لا يؤمن؛ كناية هذه (وَنُقَلِّبُ أَفْـِٔدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ) ما معنى كناية؟ مثلاً العرب تقول: فلان كثير الرماد، إذا فهم إنسان فقط بأنه كثير الرماد؛ عنده رماد كثير ببيته، ما فهم مراد الشاعر، كثير الرماد: كريم يوقد النار كثيراً فيكثر رماده، يقول: هذه فتاة بعيدة مهوى القرط، حلقها بعيد عن الكتف؟! أي رقبتها طويلة صفة من صفات الجمال عند العرب، فهذه تسمى الكناية: يذكر شيئاً صورة معينة تكني عن شيء، فـ(وَنُقَلِّبُ أَفْـِٔدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ) كناية عن حيرتهم وعدم اهتداءهم كما لم يؤمنوا به أول مرة عند النزول، لو نزلت الآيات مرة ثانية لحالت الآيات وحلنا دون هدايتهم بها كما أنهم أول مرة لم يؤمنوا بالآيات الأولى؛ أي النتيجة واحدة الإنسان الذي لم يتخذ قراراً بالإيمان لن تنفعه أي آيات سواء كانت آيات من الشهادة أو من الغيب، سواء كانت آيات قرآنية، أو كونية، أو تكوينية، سواء كانت آيات محسوسة أو معقولة (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِۦٓ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الكَرّة سوف تُعاد عند نزول كل آية، ستُقلب أبصارهم وأفئدتهم ولن يهتدوا إلى الطريق الصحيح؛ لأنهم لم يتخذوا قراراً بذلك، ولأن شهواتهم ومصالحهم عندهم أعظم من الإيمان بالله تعالى، (وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي حيارى يتخبطون، يعمه: يتخبط، محتار، غير مهتدٍ، تخيل إنساناً المنهج عنده واضح، والهداية واضحة، والحق واضح، ومطمئن لليوم الآخر، ومطمئن لما بعد الموت، تخيل حاله وهدوءه عند الموت، وهدوءه عند استقبال النعم، وهدوءه عند استقبال النقم غير متخبط، وتخيل حال هذا الإنسان المحتار، (وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي في جبروتهم وفي ضلالهم، وفي تذمرهم، وفي غيهم؛ كل هذه المعاني معاً في الطغيان والتجبر والتكبر والضلال، البعض فسر الطغيان هنا بالضلال؛ لأن الطغيان هو مجاوزة الحد فالضلال هو مجاوزة للحد في الهداية، والطغيان أيضاً يطلق على التكبر والتجبر، فيدل على المعنيين معاً، يعمهون: أي يترددون محتارين، غير مهتدين، لا يعلمون أي طريق يسلكون فهم ضالون، والحمد لله رب العالمين.