العلم والحكم لله جل جلاله وحده

  • اللقاء الخامس عشر من تفسير سورة الأنعام | شرح الآيات 111 - 117
  • 2023-09-16

العلم والحكم لله جل جلاله وحده

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، وبعد:
فهذا هو اللقاء الخامس عشر من لقاءات سورة الأنعام، ومع الآية الحادية عشرة بعد المئة، وهي قوله تعالى:

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍۢ قُبُلًا مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوٓاْ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)

(وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ) هم طلبوا إنزال الملائكة كما ورد في بداية السورة:

وَقَالُواْ لَوْلَآ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ ٱلْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ (8)
(سورة الأنعام)

معظم إيماننا هو غيب
فأجابهم المولى -جلَّ جلاله-: (وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ ٱلْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ)، فهم طلبوا إنزال الملائكة وكان جواب المولى-جلَّ جلاله- أن إنزال الملائكة يقتضي أن يكون بعد ذلك العذاب ويتوقف الإمهال (لَقُضِىَ ٱلْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ)، وقلنا وقتها وأقولها الآن من جديد: نحن عندنا عالم الغيب وعالم الشهادة؛ الشهادة ما تدركه بحواسك، والغيب ما غاب عن حواسك، ربنا -جلَّ جلاله- الإيمان به غيب، الإيمان بملائكته غيب، الإيمان باليوم الآخر غيب، معظم إيماننا هو غيب، بل إن كلمة الإيمان تشير في داخلها إلى مفهوم الغيب، فما معنى أن يقول إنسان: أنا مؤمن الآن أنك موجود وأنت موجود فعلاً؟! ما هذا الإيمان؟! الإيمان: هو غيب أن تؤمن بشيء لا تراه بعينك ولكنك توقن بوجوده، فهم كانوا يريدون أن ينتقلوا من عالم الغيب إلى عالم الشهادة حتى يؤمنوا؛ وهذا ديدن الأقوام السابقة، من ذلك قول اليهود:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55)
(سورة البقرة)

وقول النصارى:

قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنكَ ۖ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ (114)
(سورة المائدة)

فطلبوا إنزال المائدة، وقالوا:

إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ۖ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (112)
(سورة المائدة )

فديدن الأقوام السابقة أنهم كانوا دائماً يحاولون أن يصلوا إلى الشهادة، وهذا ما فعله كثير من المشركين مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى إنهم طلبوا أن يروا العذاب بعينهم.

وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍۢ(32)
(سورة الأنفال)

وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ (16)
(سورة ص)

طبيعة الإنسان أنه يريد أن يرى بعينه والإيمان غيب، فالمؤمن ينتقل من الشهادة إلى الغيب فيؤمن بأشياء لا يراها ولكنه يوقن بوجودها، الآن ربنا -عزَّ وجلَّ- يقول: ولو أننا -افتراضاً لكن هذا لن يحصل- نزلنا إليهم الملائكة كما طلبوا وكلمهم الموتى، وهم طلبوا ذلك في مكان آخر.

فَأْتُواْ بِـَٔابَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ (36)
(سورة الدخان)

الإيمان من خلال الآيات التي تدل على وجود الله
ارجعوا لنا آباءنا نريد الحديث معهم؛ آباءنا الموتى، (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍۢ قُبُلًا) أي جمعنا عليهم كل ما اقترحوه من اقتراحات حتى يؤمنوا وجعلناها قُبلاً؛ أي في مقابلتهم بعكس الدبر، الدبر وراءهم، القبل أمامهم، (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍۢ قُبُلًا) أي كل شيء طلبوه من عالم الشهادة، أن يُنقل من الغيب إلى الشهادة جئنا به أمامهم، صار المشهد واضحاً، الآن المفروض أن يؤمنوا لأنهم ربطوا الإيمان بالرؤية، بالمشاهدة، (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ) حتى كلمة (حشرنا) تشير إلى الجمع الشديد، أنت إذا كان عندك صندوق وتريد أن تضع به عشرة كتب، اتسع لتسعة كتب ولم يبقَ مكان فتأتي بالعاشر وتحشره حشراً،(وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ) لم يبقَ شيء يدل على الإيمان إلا جئنا به إليهم، النتيجة (مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوٓاْ)، إذاً قضية طلب الشهادة ليست في الحقيقة من أجل الإيمان إنما هي حالة معاندة واستكبار، فالذي يريد أن يؤمن يؤمن بما لديه من آيات باهرة تدل على وجود الله ووحدانيته وكماله، سحرة فرعون لما رأوا العصا قد تحولت إلى ثعبان يلقف ما يأفكون آمنوا لأنهم يعرفون السحر، وعرفوا أن هذا الذي يجري ليس سحراً وإنما هو قدرة إلهية خارقة، مؤمن اليوم لو قال لك: أريد عصا تهتز.

وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(117)
(سورة الأعراف )

قلنا له: الحية التي تسعى تشبه العصا التي تسعى، هي الحية الأفعى من غير أن تكون عصا ثم تتحول، ما هي الأفعى؟ هي عبارة عن جماد في الأصل، لما جعل فيها ربنا -جلَّ جلاله- الروح أصبحت تسعى، فالكون بحد ذاته من غير أن تُخرق فيه العادات هو معجزة لمن أراد أن يؤمن، لمن أراد أن يؤمن الكون يدله على الله من غير خرق للعادات بوضعه الراهن الطبيعي بانتظامه، من غير أن تشرق الشمس من مغربها، تشرق من مشرقها هي معجزة، أما الذي يريد أن يقول لك: أنا حتى أؤمن أريدها أن تشرق من المغرب، معنى هذا هو لا يريد أن يؤمن لأن شروقها من المشرق معجزة، انتظامها كل يوم في وقت شروقها معجزة، فالآيات التي تدل على وجود الله وعلى اليقين بالله كاملة موجودة، لكن هل أنت تملك القرار بالإيمان أو لا؟ هنا السؤال، هؤلاء لم يكونوا يملكون القرار بالإيمان أصلاً، فلذلك خوارق العادات لن تنفعهم، كما أن الكون بكل ما فيه من إعجاز لم ينفعهم، فقال: (مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوٓاْ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ) هذه طلاقة القدرة الإلهية، ربنا -عزَّ وجلَّ- طليق القدرة، ولو شاء أن يؤمن عباده لآمنوا، يجبرهم على ذلك كما أجبر الملائكة، فعندما يريد الله أن يؤمن إنسان ما في الأرض فإنه يؤمن، لكن ربنا -عزَّ وجلَّ- ما أراد أن نأتيه قسراً، أراد أن نأتيه حباً، قال:

لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
(سورة البقرة)

لو أراد أن يجبرنا على الهدى لأجبرنا.

وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَءَامَنَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99)
(سورة يونس)

في القرآن دائماً الأكثرية مذمومة
فطلاقة القدرة الإلهية لا يحدها حد، فلذلك هنا الاستثناء (إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ) ، لا يظن الإنسان أنهم ما كانوا ليؤمنوا أي أنهم معجزون في الأرض، وأن لهم قرارهم المنفصل عن إرادة الله، لا -معاذ الله- (إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)، الأكثر ليس دائماً في مقابل الأقل، نحن قلنا سابقاً: في القرآن دائماً الأكثرية مذمومة، فإياك أن تقول: أنا مع عموم الناس، لا تقل: أنا مع عموم الناس، قل: أنا مع الحق ولو كنت وحيداً، بل أكثرهم لا يؤمنون، بل أكثرهم لا يفقهون، بل أكثرهم لا يعقلون، ولكن أكثرهم يجهلون.

وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
(سورة الأنعام )

كما سيأتي بعد قليل، فلا تكن مع الأكثرية، كن مع الحق، لكن ليس دائماً كل أكثرية يقابلها الأقلية، فقد يكون هؤلاء كثر، وهؤلاء كثر، هؤلاء أكثر، وهؤلاء أكثر، والدليل على ذلك قوله تعالى:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُۥ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ ۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
(سورة الحج)

وعاء الجهل مملوء بالمعلومات المغلوطة
أي كثير من الناس آمنوا وسجدوا لله، وكثير أيضاً حقّ عليهم العذاب، فليس كل كثير يقابله قليل، فقد يكون أعداد المؤمنين كثير، وأعداد المعرضين كثير؛ كلاهما كثير، (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) الجهل غير الأمية، الأمية: عدم العلم بالشيء، والإنسان الذي لا يعلم معلومة يمكن أن تعلّمه تلك المعلومة، سهل جداً، لكن الجهل: أن يملأ قلبه بمعلومة مغلوطة، فلو كانوا بلا معلومات كان من السهل أن توجههم إلى المعلومة الصحيحة، لكن عندما يمتلئ بمعلومات مغلوطة فأنت الآن أصبحت مهمتك مضاعفة، المهمة الأولى أن تزيل الجهل الذي في داخله، ثم تملأ داخله بالعلم الصحيح، إذا عندك إناء فارغ من السهل أن تملأه فوراً بشراب الليمون المنعش، لكن إذا كان الإناء مملوءاً بسائل ملوث فالآن مهمتك أن تفرغه وتنظفه ثم تعيد ملأه، فالجهل لا يعني بالضرورة عدم وجود معلومة، بل غالباً ما يُطلق على عدم وجود معلومة أمية، أمي أي وعاؤه فارغ، أما الجهل فوعاؤه مملوء بالمعلومات المغلوطة، فهؤلاء كان عندهم معلومات مغلوطة وتصورات مغلوطة فهم يجهلون.

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَٰطِينَ ٱلْإِنسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍۢ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
(سورة الأنعام)

(وَكَذَٰلِكَ) هذه كافة تشبيه، أي كما هو الحال معك يا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان الحال مع الأنبياء الذين هم قبلك، فهذه سنة الله في النبوات، وهذا فيه تسلية لقلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، العوام يقولون: إذا رأى مصيبة غيره تهون عليه مصيبته، الإنسان يتسلى بأن يجد غيره قد حصل معه ما حصل معه هو، لما كعب بن مالك صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد غزوة تبوك ولم يفعل كما فعل المنافقون، ويعتذر باعتذارات غير صحيحة، وقال له: أنا تخلفت عنك وقد كنت ميسوراً و الحال جيد، ورغم ذلك أنا تخلفت عن الغزوة هكذا من غير عذر، فلما خرج جعل بعض الناس يغلّطونه في قراره، ما الذي فعلته؟ أهلكت نفسك، لو اعتذرت له بمثل ما اعتذر به الناس لكان يستغفر لك، وكان يكفيك استغفار رسول الله لك؛ أصدقاء السوء، قال: هممت بنفسي أن أخطّئ نفسي بأن أعود فأعتذر، ثم قلت: "هل لقي أحد مثل ما لقيت"؟ فقالوا: نعم رجلان، ورجلان صالحان هلال بن أمية الواقفي، والثاني العمري، فلما وجد أن هناك غيره قد فعل ما فعل، ولقي العقوبة التي لقيها هان عليه الأمر، قال: " لي فيهما أسوة"، فالإنسان دائماً إذا اتخذ قراراً أو أصيب بمصيبة، فإن مما يهونها عليه أن يجد أن غيره قد لاقى مثل ما لاقى، فلذلك القرآن الكريم كثيراً ما يقصّ على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أخبار الأمم السابقة والأنبياء السابقين، وهنا يقول:(وَكَذَٰلِكَ) -كما جرى معك جرى مع من قبلك- (جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا)، إذاً ليس العدو يتصرف بغير إرادة الله- حاشا لله-(جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا) نحن جعلناهم، فالعدو مقصود إذاً لذاته، لما يقول تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا)، لما يقول تعالى:

وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
(سورة الروم)

الألم هو مفتاح الشفاء
إذاً هي من جعل الله، والجعل يأتي بعد الخلق، فلما يقول تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ) إذاً العداوة ووجود عدو للأنبياء هو مقصد من مقاصد الرحمة، مطلوب ليس أمراً اعتباطياً، لماذا؟ لأن العدو للأنبياء في ظاهره شر لكن في حقيقته له مهمة من الله -عزَّ وجلَّ-، هذه المهمة هي رفع درجة المؤمنين، وتنقية الصف المؤمن من المنافقين، وإعلاء ذكر النبي وغير ذلك، مثلاً هناك أمراض صامتة ليس فيها ألم، يُكتشف المرض فجأة خلال يومين ثلاثة يتوفى الإنسان، إذا تألم الإنسان فذهب إلى الطبيب فعلم الطبيب من خلال هذا الألم بوجود إشكال معين، فطلب تحليلاً معيناً، فتبين وجود مرض محدد فعالجه، إذاً هل كان الألم الذي جرى وهو في ظاهره شر، هل كان شراً؟ لا، كان خيراً؛ لأن الألم هو مفتاح الشفاء، حتى الأطباء يعرفون ذلك، يقول لك: أصعب الأمراض هي التي لا يتألم الإنسان بها ثم تكتشف فجأة، ويقولون: الضغط هو القاتل الصامت، الألم هو دليل وجود مشكلة فتعالجها، فربنا -عزَّ وجلَّ- أراد أن يكون هناك ابتلاء في الدنيا فجعل لكل نبي عدواً، حتى يتحقق الصراع بين الحق والباطل؛ لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي، ولأن أهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالبذل والتضحية والفداء، فأراد الله أن يكون لكل نبي عدو، هذا العدو باللغة العربية عندنا شيء اسمه بدل (عدواً) من هو العدو؟ (شَيَٰطِينَ ٱلْإِنسِ وَٱلْجِنِّ) الشياطين هم المردة؛ المتمردون عن طاعة الله سواء من الإنس أو من الجن، وقدّم الإنس تقديم أهمية لأن شيطان الجن يخنس عند ذكر الله وشيطان الإنس قد لا يفعل، ولأن شيطان الإنس يستطيع أن يزين لك الأعمال أكثر من شيطان الجن لأنه أمامك، تراه بعينك فيغريك بالمعاصي- صديق السوء- فقدم شياطين الإنس على الجن (عَدُوًّا شَيَٰطِينَ ٱلْإِنسِ وَٱلْجِنِّ)، فأعداء الأنبياء هم من شياطين الإنس، ومن شياطين الجن، (يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ)، من الذي يوحي إلى من؟ شيطان الجن إلى شيطان الإنس، أو شيطان الجن إلى شيطان الجن، أو شيطان الإنس إلى شيطان الإنس يوحي بعضهم، والوحي: هو الإعلام بخفاء، ودائماً الوسوسة والأشياء السيئة تكون في الخفاء، بينما الأشياء الصحيحة يجب أن تكون في العلن، وإذا صار بالمجتمعات الصحيح بالخفاء والسيئ بالعلن فاقرأ على هذه المجتمعات السلام، الأصل أن الإنسان إذا تزوج يقيم الفرح، ويدعو الناس، و يزين السيارة، ويملأ الدنيا صخباً: أنا تزوجت، وإذا كانت علاقة آثمة خارج إطار الزواج يتسلل خفية، ويذهب خفية، لكن إذا أصبح الأمر معكوساً هنا مصيبة كبرى كما فعل آل لوط.

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
(سورة الأعراف)

الأصل أن المعصية في الخفاء والطاعة بالجهر، فلذلك (يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ)، لأنها وسوسة، هي شر فلذلك سماها وحي، والوحي هو الإعلام بخفاء بالمعنى اللغوي وليس الاصطلاحي.
زخرف القول هو تزيين المعصية
(يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍۢ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُورًا) معنى زخرف القول: أي إذا قلت: خمر، منفرة الكلمة (مشروبات روحية)؛ هذا زخرف القول، إذا قلت: منافق، ثقيلة (لبق) يستطيع أن يرضي جميع الأطراف، ما شاء الله دبلوماسي أينما جلس تمشي أموره، إذا قلت: امرأة متفلتة، مزعجة (سبور)؛ هذا خرف القول، زخرف القول: هو تزيين القول بحيث يقبله الطرف الآخر فـ (يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍۢ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُورًا) زخرف القول هو تزيين المعصية، والغرور هو إظهارها على وجه غير وجهها الذي هي عليه، أكبر من حجمها، فالشيطان عندما يريد من الإنسان أن يعصي الله تعالى يزخرف له المعصية، أي يزينها، الزخرف خارج عن الشيء تزيين له، لكن حقيقته تبقى كما هي، كما لو جئت بقمامة رائحتها سيئة وهي قمامة البيت ومضى عليها أيام وخرجت لها رائحة، ووضعتها في علبة من الطراز الأول و وضعت عليها شريطة حمراء لكن تبقى قمامة ، فأنت زخرفتها لكن هي قمامة شئنا أم أبينا، والغرور أن تغتر بها فتظنها شيئاً حسناً وهي شيء قبيح، فالغرور هو أن يظهر الشيء على خلاف ما هو عليه، فقالوا: الدنيا تغر، بأول الحياة تغتر بالدنيا، وتجد أن الدنيا هي كل شيء، وأن الحياة هي كل شيء، وبعد الحين تجدها شيئاً من الأشياء، وفي خريف العمر تعلم أنها ليست بشيء، كل الدنيا هكذا، عندما تبدأ بالتجارة المال هو كل شيء في الدنيا، يا أخي الذي معه مال هو الذي يعيش، و يسعى بكل جهده للمال، بعد حين جاءه أولاد، و صار هم الأولاد وتربية الأولاد، يقول لك: والله المال شيء من الأشياء لكن تقول لي: يجلب السعادة، لا والله ، عندما يحضر ملك الموت تقول له: ما رأيك بالمال؟ يقول لك : ولا شيء، صفر، هذه طبيعة الدنيا، بالبداية يجد المرأة هي كل شيء، في منتصف العمر شيء من الأشياء، متعة من المتع، وعند مغادرة الدنيا يجد أنها لا شيء؛ هذا هو الغرور أن تظن الشيء وتعطيه حجماً أكبر من حجمه، (يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍۢ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) هذه طلاقة القدرة الإلهية (وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) ما فعلوا تلك العداوة، وما فعلوا تلك الزخرفة للقول، ولا إغرار الناس بهذا الأمر، (مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) اتركهم وكذبهم ونفاقهم، قال:

وَلِتَصْغَىٰٓ إِلَيْهِ أَفْـِٔدَةُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْءَاخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (13)
(سورة الأنعام)

المؤمن بالآخرة لا يصغي إلى زخرف القول
هذه الآية من أعظم الآيات، هذه الآية بموضوع دواخل النفس وعلم النفس بكلمات معدودة رائعة، انظروا (وَلِتَصْغَىٰٓ إِلَيْهِ أَفْـِٔدَةُ) أي ربنا -عزَّ وجلَّ-جعل للأنبياء أعداء، وهؤلاء الأعداء على قسمين؛ أعداء من الجن و هم الشياطين المعروفون، وأعداء من الإنس وهم شياطين الإنس، وهؤلاء مهمتهم زخرفة القول وغرور الناس بأقوالهم التي هي في الأصل كذب ودجل ونفاق، ما الذي يحصل عندما يطلق هؤلاء الأعداء هذه الأقوال المزخرفة؟ ينقسم الناس إلى قسمين؛ قسم مؤمن بالآخرة لا يلقي لها بالاً أبداً لأنك تقول له: أنت تارك الربا، هل تعرف الربا ماذا يمكن أن تعمل؟ يقول لك: أنا أعرف بالربا، يمكن غداً أحصل بيتاً لكن البيت كم سيدوم؟ البيت إلى متى؟ البيت أربعون خمسون سنة يخدمني لكن سأقابل وجه ربي، فهو مؤمن بالآخرة، فإيمانه بالآخرة يجعله لا يصغي إلى زخرف القول، القسم الثاني لا يؤمن بالآخرة فيصغى إليه قلبه، يجد بغيته في هذا الكلام يزخرف له العلاقات النسائية، يزخرف له الأموال الربوية، يزخرف له المناصب، ولو كانت في غضب الله -عزَّ وجلَّ-، يزخرف له فيصغى إلى تلك الزخرفة فؤاده؛ قلبه، الإصغاء أين يتم في الأصل؟ في الأذن، الأذن تسمع أو تصغي، تسمع بشكل عابر وقد لا تلقي بالاً لما سمعته، أما تصغي يقول لك: أعطى أذنه، أنت جالس بمكان ويوجد اثنان يتحدثون مع بعضهما وأنت تسمع كلامهما عبارة عن أحرف تدخل، أنت يوجد عندك مشكلة حساسة متعلقة بالإقامة في هذا البلد الذي أنت فيه، فجأة أحدهم قال للثاني: هل سمعت عن قوانين الإقامة الجديدة في هذا البلد؟ سمعت كلمة إقامة أصغيت، كنت تستمع لكن ما كنت تصغي الموضوع لا يعنيك، لما قال كلمة إقامة وأنت مضطر للإقامة، ولا تعرف كيف نظام الإقامة في البلد، فلما سمعت كلمة إقامة أصغيت، أول شيء يصغي السمع ثم يدرك القلب الذي هو يتم العقل به فتعقل المعلومات، تصغي لها بسمعك فتعقلها، اختصر القرآن الكريم قال: (وَلِتَصْغَىٰٓ إِلَيْهِ أَفْـِٔدَةُ) الإصغاء بالأذن ثم صار بالقلب (أَفْـِٔدَةُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْءَاخِرَةِ) الذين يؤمنون بالآخرة إذاً لا تصغى إليه أفئدتهم، مهما سمع يتكلمون عن المعاصي والآثام والقروض الربوية والعلاقات الآثمة مع النساء، والعلاقات الآثمة مع أصحاب المناصب والرشاوى وغير ذلك، لا يصغى فؤاده لأنه عنده إيمان بالغيب، فهو ينظر إلى شيء لا ينظرون إليه فمتعلق بالآخرة، فهذه الأمور لا تعنيه، الثاني أصغى بسمعه ثم بقلبه فأدرك، بعد الإدراك ما الذي يحصل؟ يحصل وجدان، تجد في نفسك عاطفة تجاه هذا الشيء الذي أصغيت إليه تفرح به أو تحزن له، يسمونه وجداناً، ثم تتحرك مثل هذا صاحبنا الذي سمع عن الإقامة فأصغى، أدرك أنه يوجد طريقة لأخذ الإقامة التي أبحث عنها أنا، فرح في اليوم الثاني صباحاً نزل إلى وزارة الداخلية ليعمل الإقامة؛ إدراك، انفعال، سلوك، أو نزوع إلى الشيء، وجدان، عمل على قول ديكارت، ديكارت يسميه: إدراك، انفعال، سلوك، الآن انظر إلى الآية قال: (وَلِتَصْغَىٰٓ إِلَيْهِ أَفْـِٔدَةُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْءَاخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ) هذا الانفعال، (وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ) السلوك الأفعال، هذه هي السلسلة النفسية لأي شيء يصير معك، تصغي إليه ليس تسمعه، تصغي إليه، يدخل إلى قلبك، تدرك، ترضى، تنفعل، تغضب، تحب، تكره، تتحرك، النتيجة النهائية هي الحركة لكن الحركة بحاجة قبلها انفعال، وتحتاج قبلها إلى إدراك، هذا الأمر نفسه يستخدمه أعداؤنا للتطبيع مع المعصية، اليوم التطبيع مع لا أقول: معصية، مع مصيبة الشذوذ هو يمر بهذه المراحل، أول شيء تتكرر الكلمة بالإعلام مثلية، مثلية....، حتى نحن لم نعد نقول شذوذ، سميناها بالاسم الذي هم يسمونها فيه، الشذوذ ليست جميلة (شاذ) خلاف المنطق، خلاف الأصل ، أي أنتم الأصل وهؤلاء شاذون، لا، مثلية، تطبعنا مع الكلمة، ثم التطبيع مع الصورة علم ألوانه جميلة وقريبة جداً من ما يسمى قوس قزح أو قوس الرحمن، قوس المطر الذي ينزل بعد المطر، وألوان جذابة وخاصة الأطفال بالألعاب، بالكتب، بالمؤلفات يضعونه، طبعّت البصر والسمع، الآن يتم الإصغاء بعد أن يتم الإصغاء يبدأ هذا الإنسان الضعيف يتطبّع مع الموضوع، الجماعة ليسوا سيئين مثلما تتحدثون، آخر شيء هذا انحرافات جينية موجودة، يجب أن ننظر لهم بعين الرحمة ليس بعين القسوة، أناس مثلنا مثلهم، أطيلوا بالكم، ما قَبِل، أنت قبلت، لا -أعوذ بالله-لكن قصدي نتعامل معهم بطريقة حضارية، ثم يبدأ الرضا (وَلِيَرْضَوْهُ) ثم يصير ممارسة عادية تراها وكأنه لا يوجد شيء، يقول لك: والله صاحبي مثلي، ماذا صاحبك؟! كيف رضيت؟! فهي مراحل التطبيع مع المعصية هي هذه التي تُمارس، الآية الكريمة ذكرتها كلها، قال لك: هناك زخرف القول موجود، يوجد أعداء، الأنبياء موجودون، المؤمنون بالآخرة لا يستجيبون، غير المؤمنين بالآخرة يصغون، يلقون السمع، يدركون بقلوبهم، يرضون بالفعل ثم يقترفون المعاصي والآثام (وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ) ثم يقول الله تعالى مخاطباً نبيه:

أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَمًا وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَٰبَ مُفَصَّلًا ۚ وَٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ (114)

قل لهم: (أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَمًا) أي ليس من المنطقي ولا من العقل أن ابتغي؛ أي أن أطلب حكماً غير الله تعالى لأنه (هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَٰب)َ هو أنزله إلى نبيه، لكن لأن نبيه بلّغنا إياه فهو قد أنُزل إلينا أيضاً، (مُفَصَّلًا) أي مبيناً مستوفياً لكل ما في الحياة، (وَٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ) من اليهود والنصارى من أهل الكتاب (يَعْلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ)، يعلمون ذلك يقيناً لأنهم يجدون ذلك مكتوباً في كتبهم، (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ)، فإياك أن يكون تكذيبهم إياك وتكذيبهم بالكتاب- رغم علمهم بأنه منزّل من ربك بالحق- أن يجعلك ذلك في شك من أمرك، اليوم والله أحياناً الإنسان من شدة ما يتمادى أهل الباطل في باطلهم تمر عليه دقائق يراجع فيها حساباته، يشك في معتقده، يقول لك: ربما أنا غلطان، كلهم يقولون هكذا: ربما أنا لا أعرف، يقول لك: لم يبقَ غيري أنا متمسك، كلهم يأخذ ربا، ربما نحن المخطئون تبين أنها ليست ربا، يقولها بين مزح و جد، لكن الإنسان أحياناً من شدة ما يتمادى أهل الباطل في باطلهم ويدعمون على باطلهم يشك في أمره، فالتوجيه الإلهي هنا(فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ) مهما قالوا لك: هذا كذب، هذا افتراء، هذا ليس ديناً، إياك للحظة واحدة أن تشك في أمر دينك(فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ)

وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ(115)

كلمة ربنا -جلَّ جلاله -هي القرآن الكريم، وكلمة (كلمة) تطلق على المفرد وعلى الجمع، يقال: ألقى فلان كلمة ويكون قد ألقى ألف كلمة في كلمته فيقال كلمة، (وَتَمَّتْ) أي أصبحت تامة غير منقوصة وتمامها في أنها صدق وعدل؛ لأن كل ما في القرآن الكريم إما أن يكون خبراً أو أن يكون أمراً ونهياً، فأما ما كان فيه من أخبار فهي صادقة صدقاً، وأما ما كان فيه من أوامر ونواهي فهي عادلة، عدل ليس فيها ظلم، في القرآن الكريم تجد يحدثك الله تعالى عن قوم موسى، تمت كلمة ربنا صدقاً في الحديث عن موسى عليه السلام، وفيه:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)
(سورة الحجرات)

كل ما في القرآن إما أنه خبر أو أمر وإنشاء
فهذه عدل وليست ظلماً، فكل ما في القرآن إما أنه خبر أو أمر وإنشاء، فالأخبار صادقة، والأوامر عادلة، (لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ) لا مغير لكلماته أبداً، (وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ) فهو يسمع -جلَّ جلاله- ويعلم كل شيء، سميع لأقوال عباده عليم بها، لا يخفى عليه شيء منها، وسيجازي من يسعى لتبديل كلماته، أي هو قوله: (وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ) من يسعى إلى تبديل كلمات الله تعالى التي تمت صدقاً وعدلاً سيجازى، الأب إذا قال لابنه-إذا ابنه كان يتكلم بالهاتف كلاماً ما ينبغي أن يتكلمه - وقال الأب لابنه: بابا أنا أسمعك، ما فائدة الإعلام بأنني أسمعك؟ أي سأجازيك على فعلك، فلما يقول ربنا -جلَّ جلاله-:(وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ) هو لا يعلمك بأنه سامع، يقول لك: انتبه لأنني أعلم نياتك وأسمع كلماتك (وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ)

وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)

نحن نتبع اليقين، الإيمان اليقين، الإيمان مئة بالمئة أما هم يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي يكذبون، الظن لا مستند له، أما اليقين إيمان مطلق.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِۦ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ(117)

لا يخفى عليه شيء من ذلك فيعلم الضال من المهتدي، وهذا له منعكس في سلوك الإنسان ألا ينصب نفسه موزعاً الناس بين الضلال والهدى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِۦ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ) فأولاً: لا تقحم نفسك في الأشياء التي ليست من شأنك وإنما هي من شأن الإله، وثانياً: ما دام الله تعالى يعلم المهتدي ويعلم الضال فكن من أهل الهداية، اسعَ إلى أن تكون من المهتدين، لأن الله يعلم من ضل عن سبيله، والحمد لله رب العالمين.