وعود الله عز وجل

  • اللقاء الثامن عشر من تفسير سورة الأنعام | شرح الآيات 131 - 137
  • 2023-11-18

وعود الله عز وجل

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
فهذا هو اللقاء الثامن عشر من لقاءات سورة الأنعام، ومع الآية الواحدة والثلاثين بعد المئة من السورة، وهي قوله تعالى:

ذَٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍۢ وَأَهْلُهَا غَٰفِلُونَ (131)
(سورة الأنعام)

هذه الآية في بدايتها اسم الإشارة(ذلك) وهو يشير إلى شيء، ما هو هذا الشيء الذي يشير إليه؟ يشير إلى ما سبق قبله من قوله تعالى:

يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِى وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَٰفِرِينَ (130)
(سورة الأنعام)

فهم لما شهدوا على أنفسهم أن الرسل قد جاءتهم قال تعالى: (ذَٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍۢ وَأَهْلُهَا غَٰفِلُونَ)، فلما جاءهم الرسول من ربهم فلم يعد لديهم حجة عند الله ولا عذر أمام الله، الرسل قال تعالى:

رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌۢ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
(سورة النساء)

بعد الرسول لا يوجد حجة.

وَلَوْلَآ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌۢ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلَآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ (47)
(سورة القصص)

لو أن الله تعالى لم يرسل الرسل لكان للناس حجة على الله، والله تعالى يقول:

قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَٰلِغَةُ ۖ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَىٰكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
(سورة الأنعام)

الحجة لله تعالى وحده
فليس لأحد حجة على الله؛ ومن ذلك أنه أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وفطر الإنسان الفطرة السليمة، وأعطاه عقلاً يبين له ما ينبغي وما لا ينبغي، وأعطاه فطرة سليمة تنبهه على خطئه، وفوق كل ذلك أنزل له كتاباً وشرعاً وبعث له رسولاً فلم يعد هناك من حجة للناس على الله، وإنما الحجة لله تعالى وحده فقال:(ذَٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍۢ) أي بسبب ظلمهم (الباء) باء السبب؛ أي لم يكن ليهلكهم بسبب ظلمهم، فالظلم أحد أسباب خراب الأمم وهلاك الأمم، وكان ابن خلدون يقول:" الظلم مؤذن بخراب الأمم" ، من أعظم أسباب هلاك الأمم الظلم، فإذا حل الظلم وانتشر فإن هذه الأمة معرضة للهلاك (ذَٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ) أي لن يهلكهم بسبب ظلمهم (وَأَهْلُهَا غَٰفِلُونَ) أي حالة كون أهلها في غفلة، والغفلة ضد اليقظة، المتيقظ يفهم الأمور كلها، الغافل يغيب عنه بعضها، فإذا كان غافلاً عن شيء فإن الله تعالى لا يهلك القرى بغفلة وإنما يبين لها ثم يهلكها إن لم تستجب، وفي هذا تعليم لنا، هذا درس تربوي مهم جداً، طريقة تعامل الله تعالى مع عباده هي طريقة تربوية في تعاملنا مع أبنائنا ومع طلابنا، مع أزواجنا، مع موظفينا، مع كل من حولنا ممن هم تحت أيدينا؛ لأنه ليس هناك عقوبة قبل بيان، ما يستقيم أن تأتي إلى زوجتك بعد الزواج بشهر وتقول لها: لماذا فعلت كذا؟ وتغضب وتقيم الدنيا ولا تقعدها وأنت لم تخبرها سابقاً أن هذا الأمر لا تحبه أو لا ينبغي أن يكون، فالعقوبة تأتي بعد البيان وليس قبله، أيضاً مع الموظفين إن لم يكن هناك بيان واضح بأن هذا الأمر لا ينبغي بلاغ واضح مرسل على بريدهم أو على هاتفهم أو معلق في مكان واضح جداً عند مدخل الشركة، فلا ينبغي أن تعاقب قبل أن تبين، فلا عقوبة إلا بعد بيان(ذَٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍۢ وَأَهْلُهَا غَٰفِلُونَ)، فلما أرسل الرسل -جلَّ جلاله -أصبح أهلها متيقظين يعرفون الحق والباطل، يعرفون الخير والشر، فلما عرفوا وانحرفوا استحقوا الهلاك.

وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٞ مِّمَّا عَمِلُواْۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ (132)
(سورة الأنعام)

(ولكل) جاءت بالنكرة لتشمل كل إنس أو كل جن؛ كل مخلوق مكلف، (وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٞ) والدرجات هي المراتب في العلو، والدركات هي المراتب في الدنو، فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار، والمؤمنون في الدرجات العلا من الجنة وأعلاها الفردوس، فهناك درجات ودركات، (وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٞ مِّمَّا عَمِلُواْ) من عملك تأخذ درجة، وهذا العمل تأخذ درجتك فيه إما بكثرته أو بإخلاصك لله تعالى فيه، بكثرته الذي جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-:

{ .. أرَأَيْتَ إذا صَلَّيْتُ الصَّلَواتِ المَكْتُوباتِ، وصُمْتُ رَمَضانَ، وأَحْلَلْتُ الحَلالَ، وحَرَّمْتُ الحَرامَ، ولَمْ أزِدْ علَى ذلكَ شيئًا، أأَدْخُلُ الجَنَّةَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: واللَّهِ لا أزِيدُ علَى ذلكَ شيئًا }

(رواه مسلم عن جابر بن عبد الله)

الدرجات هي المراتب في العلو
أخذ درجة؛ درجة في العمل اكتفى بها، في رواية قال-صلى الله عليه وسلم-:"أفلح إن صدق"، فأخذ درجته، لكن ليست درجته كدرجة من يصلي المكتوبات ويصلي معها قيام الليل بالتأكيد، لا يستويان لكن لو أنهما استويا في العمل فلا يستويان في الإخلاص (وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٞ مِّمَّا عَمِلُواْ) الدرجة مختلفة، نحن البشر قد نستطيع بوسائل قياس معينة أن نقيس حجم العمل وكثرته أو قلته؛ أي ممكن أن أقول: هذا الطالب درس ست ساعات، وهذا درس ست ساعات بالضبط، ممكن أن أقول هذا المصلي صلى ثماني ركعات قيام الليل وهذا ثماني ركعات قيام الليل، هذا صلّاهم في ساعة وهذا في ساعة، هذا قرأ فيهم جزءاً وهذا قرأ فيهم الجزء نفسه ممكن، لكن هل يستويان عند الله في الإخلاص؟ لا أعلم، وفي الأعم الأغلب لا يستويان، ولا أدري من ولا يحق لي أن أتدخل في درجة كل منهما، لا أستطيع أن أعرف، بل لا يحق لي أن أتدخل أصلاً، فربنا -جلَّ جلاله- يقول: (وَلِكُلّٖ) أي لكل إنسان درجات متناسبة مع عمله، وهذا لا يستطيعه إلا رب العباد، أنت الآن عندك موظفون، أردت أن تكافئ موظفاً حسب المعطيات التي وضعتها أنت قلت: موظف هذا الشهر فلان، وأعطيته جائزة، وقد يكون عندك موظف مخلص أكثر منه للشركة ويعمل أكثر منه لكن أدوات قياسك لم تستطع الوصول إليه، ذلك مبلغك من العلم، وقد تُفاجأ بعد حين أن هذا الذي أعطيته جائزة موظف الشركة كان يسرق الشركة، لكن بدا لك أنه يعمل من أجل الشركة، هذا بمقدارنا نحن، أنت مع الموظف لك خيارات محدودة، أقول لك: ما خياراتك معه؟ تقول لي: إما أن أبقيه على حاله، وإما أن أرفّعه فأرفع راتبه، أو أنزل مرتبته فأخفّض راتبه، أو أطرده من العمل نهائياً، هل توجد خيارات أخرى؟! تكافئه، تعاقبه، تزيد راتبه، تنقص راتبه، تبقيه على حاله، تطرده من عمله فقط؛ هذه خياراتنا مع بعض، لكن ليس عندك خيار أن تصيبه بمرض، ما عندك خيار أن تميته الموت بيد الله وحده، لكن ربنا -عزَّ وجلَّ- خياراته مطلقة و درجاته لا محدودة، فإذا كان في الأرض اليوم يوجد ثمانية مليارات من البشر فلا أبالغ إن قلت ربما يكون هناك ثمانية مليارات درجة كل واحد بدرجته، أما أنت إذا عندك بلد فيها 20 مليون فيها 100 ألف موظف تنزلهم بخمس درجات؛ موظف درجة أولى، ثانية، ثالثة، رابعة، خامسة، فالمئة ألف ينضغطون معك بخمس درجة، أما ربنا يضع لكل عبد من عباده درجة متناسقة مع علمه وعمله.

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى ٱلْمَجَٰلِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَٰتٍۢ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
(سورة المجادلة)

مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
(سورة فاطر)

عند ربنا عز وجل العدل مطلق
(وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٞ مِّمَّا عَمِلُواْ) فقيمتان علم وعمل بتكاملهما يأخذ العبد مرتبته ودرجته عند الله، في كل لحظة ترتفع درجته أو تنخفض، المقياس عند ربنا -عزَّ وجلَّ- عدل مطلق، في الأرض لا يوجد عدل المطلق يوجد عدل نسبي، تستطيع أن تقول: أنا عادل بين طلابي وأعطيهم الفرص واحدة... كذا، لكن مطلق مستحيل لأنك لا تعلم النوايا أما عند ربنا فالعدل مطلق، قال:(وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٞ مِّمَّا عَمِلُواْۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ) أنت قد تغفل عما يعمل فلان فلا تعطيه درجته، لكن ربنا -جلَّ جلاله -لا يغفل عن أعمالهم فيعلم كل عمل وحجمه وإخلاص العبد فيه وباعثه عليه وهدفه منه (وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ).

وَرَبُّكَ ٱلۡغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفۡ مِنۢ بَعۡدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوۡمٍ ءَاخَرِينَ (133)
(سورة الأنعام)

(وَرَبُّكَ ٱلۡغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحۡمَةِ) ربك أيها الرسول هو الغني عن عباده فلا يحتاج إليهم ولا إلى عبادتهم.

{ ...يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا... }

(أخرجه مسلم عن أَبِي ذَرٍّ الغفاري)

الإنسان لا يستغني
فربنا -جلَّ جلاله- لا تزيده عبادتنا مُلكاً وقوة -حاشاه- ولا ينقصه فجور من فجر من ملكه وقوته وجبروته -جلَّ جلاله- ربك الغني وحده نحن لسنا أغنياء، لا يوجد إنسان منا عنده غنى بمعنى الغنى؛ أي الاستغناء عن الآخرين، أنت في أي مكان كنت في آخر الشهر لا تستغني عن الحلاق ليشذب لك شعرك، رئيس أم خفير أم أمير آخر شيء يسلّم رأسه للحلاق؛ لا نستغني عن بعض، ويسلم نفسه للخباز هو يطعمه الخبز، ويسلّم نفسه لمئة جهة والجهة لأنه لا يستغنى، نحن بحاجة إلى بعض جعل الله بعضنا لبعض سخرياً، سخرنا لخدمة بعضنا، فمهما بلغ الإنسان من الغنى فهو لا يستغني، لا يستغني عن الطبيب لو كان ملكاً، إذا شعر بألم في بطنه أو رأسه فوراً إلى الطبيب، الإنسان لا يستغني، ربنا هو الغني وحده، نحن الفقراء.

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ (15)
(سورة فاطر)

ومع الغني يأتي في بعض الآيات (الحميد)، وهنا (وَرَبُّكَ ٱلۡغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحۡمَةِ) لأن الأغنياء غالباً-بمعنى المستغنين- لا يحمدون أحداً على شيء فعله، الغني كلما استغنى عن الناس فإذا جاءه إنسان ليقدم له خدمة يشعر أن هذا الذي يقدمها له مجبر عليها فيبخل أن يقول له: شكراً، يقول: يجب أن يشكرني أني أنا اتصلت به ما اتصلت بغيره، فلا يحمد أحدا ًعلى فعل رغم افتقاره إليه، أما الغني -جلَّ جلاله- فهو رغم غناه المطلق عن الخلق يحمد لهم أفعالهم، فإذا فعلوا خيراً كافأهم وإذا فعلوا معروفاً أثابهم في الدنيا أو في الآخرة أوفي كليهما،

لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ (26)
(سورة لقمان)

وهنا (وَرَبُّكَ ٱلۡغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحۡمَةِ) رغم أنه غني عن جميع خلقه فإن غناه عنهم لا يعني أنه لا يرحمهم، وإنما يرحم خلقه رغم غناه عنهم، (إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ) ما دام مستغنياً عن خلقه، فلو شاء لذهب بهؤلاء الذين لا يعبدونه، (وَيَسۡتَخۡلِفۡ مِنۢ بَعۡدِكُم مَّا يَشَآءُ) ويأتي بقوم آخرين يعبدونه حق عبادته، (كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوۡمٍ ءَاخَرِينَ) كما خلقكم أنتم من نسل قوم آخرين كانوا قبلكم، نحن الآن جئنا من نسل آبائنا وآباؤنا من نسل أجدادنا وهكذا، فكما جاء بنا ربنا -جلَّ جلاله- فإنه قادر أن يأتي بقوم آخرين يعبدونه حق عبادته، لكن لأنه غني عن عباده فهو -جلَّ جلاله- لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين.

إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأٓتٖۖ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ (134)
(سورة الأنعام)

(إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأٓتٖ) هناك وعد وهناك وعيد، وكلاهما يوعدهما الإنسان، وعد الله آت لا محالة، وهنا الوعد وعد تخويف (وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ) أي لن تستطيعوا أن تفلتوا من قبضة الله تعالى، (بِمُعۡجِزِينَ) أعجزه أي جعله عاجزاً عنه، الأم أحياناً تقول: ابني عجّزني بالعامية، أي أعجزني، لم أعد قادرة على ضبطه يا أخي فهو معجز لي، أعجزني عن ضبطه، جعلني أشعر بالعجز، ما تركت سبيلاً لا ترغيب لا ترعيب فأعجزني، (وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ) ربنا -عزَّ وجلَّ- صاحب القدرة المطلقة فلا يظن إنسان أنه يعجز الله.

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا (12)
( سورة الجن)

الله تعالى صاحب القدرة المطلقة
لا يوجد إنسان يستطيع أن يعجز الله لأن الله صاحب القدرة المطلقة، (وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ) فوعده آت، لكن السؤال لو إنسان سأل متى وعده؟ لا تظن أنه أعجز الله فلم يأخذ الحق منه، لكنه يمهله لحكمة-جلَّ جلاله-، (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأٓتٖۖ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ) هؤلاء المجرمون الذين يعيثون في الأرض فساداً، يضربون، يقصفون، يقتلون، يستبيحون الدماء، ليسوا بمعجزي الله، ربنا -عزَّ وجلَّ- كن فيكون يأخذهم، لكن وعده يأتي في الوقت الذي يريده هو وبالحكمة التي يريدها هو -جلَّ جلاله-، (وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ).

قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَامِلٞۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ (135)
(سورة الأنعام)

القوم: المجموعة من الناس وهي غالباً تطلق على المجموعة من الرجال لأنه يقوم الأمر بهم، الرجل مهيأ لأن يقوم، والمرأة في الأصل لأن تقرّ في بيتها وتقوم ببيتها، فالقوم في الأصل يطلق على الرجال، والدليل قوله تعالى:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلْأَلْقَٰبِ ۖ بِئْسَ ٱلِٱسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلْإِيمَٰنِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ (11)
(سورة الحجرات)

فالقوم هنا الرجال، وفي الشعر الشاعر قال:
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
{ زهير بن أبي سلمى }
اجعل العمل صفة لازمة فيك
لم أعد أعرف إذا رجال أو نساء، فسمّى القوم رجالاً، فالقوم في الأصل تطلق على الرجال، وقد تطلق على النساء والرجال (قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ) لذلك القوم ترتبط بالعمل؛ أي أنتم اعملوا على مكانتكم، على قدرتكم، استنفذوا الجهد في الصد عن سبيل الله؛ تحدٍّ (قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ) أي ما تستطيع عمله اعمل (يدك وما تعمل)، (قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَامِلٞ) وأنا سأعمل، لكن انظر ربنا -عزَّ وجلَّ- قال: (قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ) استمرار( اعملوا) فعل، ما قال: إني سأعمل (إِنِّي عَامِلٞ) العامل صفة ملازمة لي لن أترك العمل، أنت في صراعك مع الباطل إياك أن تترك العمل؛ لأنك مجرد ما تركت العمل فأنت تركت لهم المجال ليدخلوا، لا تتوقف عن العمل، اجعل العمل صفة لازمة فيك، (إِنِّي عَامِلٞ) أنا مهمتي العمل لن أتركه، (إِنِّي عَامِلٞ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِ) الجنة، (إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ) هذا قانون أحبابنا الكرام؛ ما تجدونه الآن من هيمنة الظالمين وعلوهم في الأرض هذا لا يعني أنهم قد أفلحوا، لا يفلح إلا المؤمنون، سورة المؤمنون بدأت بقوله تعالى:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
(سورة المؤمنون)

وختمت بقوله تعالى:

وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرْهَٰنَ لَهُۥ بِهِۦ فَإِنَّمَا حِسَابُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦٓ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلْكَٰفِرُونَ (117)
(سورة المؤمنون)

الفلاح للمؤمن فقط
الكافر لا يفلح، الفلاح للمؤمن فقط وهو النجاح العظيم، في القرآن لا يوجد نجاح يوجد فلاح وهو أن تحقق الهدف من خلقك، فإذا كانوا هم ظلموا وبغوا وطغوا وعلوا وظنوا أنهم انتصروا فرضاً ثم ذهبوا إلى جهنم فهل أفلحوا؟! أبداً، وأما إذا رأينا مناظر الدماء والأشلاء ووجدنا هؤلاء الذين قضوا نحبهم إلى الله تعالى، فعلى العين قد قتلوا وقد نكل بهم لكنهم في الجنة إذاً أفلحوا، فالفلاح ليس مرتبطاً بأن تحقق جزءاً من أهدافك في وقت محدد لسبب محدد يسمح الله تعالى لك به، وإنما الفلاح يقتضي أن تصل إلى الهدف الذي خلقت من أجله، ولذلك ليس الفلاح إلا للمؤمن، (إِنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلْكَٰفِرُونَ) لذلك ربنا -جلَّ جلاله -في سورة الصف قال:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَٰرَةٍۢ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍۢ (10 (تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
(سورة الصف)

إيمان وجهاد.

يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّٰتِ عَدْنٍۢ ۚ ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ(12)

حسناً النصر؟! قال:

وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ (13)

لكن النصر شيء ثانوي أمام الفوز، فإذا حققت الفوز ودخلت الجنة والمساكن الطيبة ولو دُمر مسكنك، لكن أخذت مكانه مسكناً طيباً في جنات عدن فأنت قد فزت، الآن تنتصر، أو لا تنتصر قال: (وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ) بشرهم بالنصر، قادم- إن شاء الله- لكن الفوز أخذته، فبعد الفوز بقي النصر شيئاً ثانوياً، قال: (إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ).

وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلۡحَرۡثِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ نَصِيبٗا فَقَالُواْ هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعۡمِهِمۡ وَهَٰذَا لِشُرَكَآئِنَاۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمۡ فَلَا يَصِلُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمۡۗ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ (136)
(سورة الأنعام)

المال كله لله
(ذَرَأَ) أي خلق وبث ونشر، هو الذي خلق -جلَّ جلاله- كل شيء، هو الذي خلق الحرث والحرث هو الزرع، يسمى حرثاً لأنه ينتج عن الحراثة، فأنت لا تأخذ الزرع إلا بعد الحرث فسمي باعتبار أصله، (وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلۡحَرۡثِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ نَصِيبٗا) أي ربنا -عزَّ وجلَّ- خلق الزروع وخلق الأنعام، والأنعام هي ثمانية أزواج -كما سيأتي تفصيله في السورة وهي سورة الأنعام- وهي البقر، والإبل، والضأن، والغنم فهذه أربعة أصناف، وكل منها زوجان فهي ثمانية أزواج، (وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلۡحَرۡثِ) الزروع، (وَٱلۡأَنۡعَٰمِ نَصِيبٗا) أي انظر إلى هذه القسمة الظالمة أن يُجعل للخالق نصيب من خلقه أي ليس كله لله؛ قسم لله، حسناً قسم لله قسم لله ، كيف ربنا -عزَّ وجلَّ- بيّن لهم سوء فعلهم؟ قال: (فَقَالُواْ هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعۡمِهِمۡ) لأنه هو كله لله، إذا الإنسان يقول: هذا المال إلي وهذا لله، يكون لا يفقه شيئاً؛ المال كله لله، هذا اتركه لنفسي لأن الله أباحه لي وهذا أتصدق به لعباد الله، أما أن يقول: هذا لي وهذا لله؛ هذا مطلق الجهل، مثل الإنسان سيارة والده ركبها أول يوم، ثاني يوم، بعدها قال له: بابا أنا سآخذ المقعد الأمامي وأنت خذ الخلفي، هي السيارة كلها لوالدك هو أباحها لك فصرت تقول: ملكي؟! فجعلوا له نصيباً ثم قال:(فَقَالُواْ هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعۡمِهِمۡ) كذباً وعدواناً، (وَهَٰذَا لِشُرَكَآئِنَا) سنقسم البيدر بالنصف، الأنعام جزء منها لله والجزء الثاني لشركائنا، لأنصابهم، لأزلامهم يتصرفون فيها لأهوائهم ويزعمون أنها لشركائهم وأنهم يتصرفون بها وفق أصنامهم وآلهتهم التي يعبدونها زوراً وبهتاناً من دون الله، (فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمۡ فَلَا يَصِلُ إِلَى ٱللَّهِ) حصة الشركاء الذين أشركوهم مع الله ظلماً وعدواناً لا يصل شيء منها إلى الله (هذه لشركائنا)، حسناً تصدقوا على الفقراء على المساكين، لا هذه لشركائنا، حسناً والحصة الثانية؟ قالوا: (وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمۡ) أما النصيب الذي هم زعموا أنه لله جعلوا يأخذون منه لشركائه، (سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ) هذا حكم سيء، وتلك قسمة ضيزى، وتلك قسمة ظالمة وغير عادلة، في الأصل الملك كله لله تعالى، طبعاً هذه الأفعال كان يفعلها المشركون، والله تعالى فضحهم في هذه السورة لأن الأنعام لا تذبح إلا لله، لا يذبح غنم على نُصُب، وما ذبح على النصب لا يجوز أكله أصلاً؛ لأنك تذبح ما كان لله وتجيّره لغير الله تعالى، اليوم ما عندنا هذا الأمر هذا الشرك الجلي ذهب، لكن اليوم الإنسان للتشبيه لطيفة من اللطائف؛ قد يأخذ مبلغاً من المال فيسحب الجزء الذي هو لله ربع العشر الذي ليس حقاً له في المال ويبقي له الأكثر، ثم بعد ذلك يبدأ بالتحايل لعله يخفف الـ2,5% فيتصل أولاً يقول لك: يا شيخ هذا الذهب هل فيهم زكاة؟ أم كونهم ذهباً اشتريتهم لزوجتي لا زكاة فيهم؟ قلت له: هل هم حلي بالأصل؟ لا والله تجمعوا معي، قلت لنفسي: الأحسن ما أدعهم، اشتري بهم سواراً للمرأة، حسناً هذا مال ليس حلياً في الأصل أتت به للتزين، ذهب الزينة عند جمهور الفقهاء ليس فيه زكاة إلا عند أبي حنيفة، أما الذهب الذي هو في الأصل مال حتى لا تتركه مالاً اشتريت به شيئاً من ذهب من أجل أن تحافظ على قيمته فهذا فيه الزكاة، فيتحايل لعله ينقص أو يقول لك: هذا جاء بأول الشهر، هذا بآخر الشهر لم يحول عليه الحول، وأنا قبل أن ينتهي الحول اشتريت سيارة، أو اشتريت البيت أو كذا من باب أن يخفف، هو كله لله لكن الزكاة التي هي حق الله الخالص التي لا ينبغي أن تدخل إليه، ثم بعد ذلك يقول لك : يجوز أعطيهم لأمي و أبي؟ قلت: أبوك وأمك نفقتهم واجبة عليك هؤلاء تعطيهم من حر مالك لا يصح أن تعطيهم، يصح أعطيهم لأولادي؟ لا هؤلاء أولادك أنت تنفق عليهم هم في بيتك، فكأنك أخذتها من هذا الجيب ووضعتها في هذا الجيب، ما أنفقت الزكاة، هذه تخرجها للخارج ولو للأقارب، بل يجب أن يتفقد الإنسان أقاربه إذا كان يملك -الشيء بالشيء يُذكر- مالاً كثيراً والله موسع عليه، فليجعل الـ2,5%خارج العائلة لكن بعد أن يكفي عائلته من صدقاته؛ يعطيهم يعطي أخته الفقيرة زوجها الفقير، يعطيهم من حر ماله ما يكفيهم، لكن إذا كان ما عنده غير هذه الزكاة نقول له: لا، تفقّد أولاً الأخ والأخت وابن العم طبعاً، لكن ليس لمن تلزمك نفقتهم فهؤلاء لا يجوز أن تعطيهم من الزكاة، فبعض الناس اليوم يحاولون أن يأخذوا من حق الله تعالى، وأما حقه يقول لك: أنا دفعت الزكاة، حسناً دفعت الزكاة لكن فلاناً بالعائلة مرض مرضاً شديداً وأنت معك والله كافيك فأعطنا من حصتك تجاوزاً، فتراه يعني يحافظ على ما له وما كان لله تعالى يحاول أن يخفف منه قدر الإمكان، وهذا أسلوب؛ لأن الإنسان إذا مسه الخير منوعاً يمنع، لكن يجب أن يعود نفسه أن ينفق مما آتاه الله تعالى.

وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍۢ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ۖ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
(سورة الأنعام)

الزواج علاقة سليمة وفق منهج الله
طبعاً يوجد تقديم وتأخير؛ أي زيّنَ الشركاءُ لكثير من المشركين أن يقتلوا أولادهم، (وَكَذَٰلِكَ) أي كما أنهم ظلموا بقسمتهم تلك التي يدّعونها؛ وهي أنهم يعطون لله شيئاً ولشركائهم شيئاً، وجعلوا يحتفظون بحصة شركائهم، ويأخذون مما جعلوه لله لشركائهم، (وَكَذَٰلِكَ) كفعلهم هذا فعلوا شيئاً آخر فجعلوا يزيّنون لكثير من المشركين وليس لكلهم؛ لأن قتل الولد -والعياذ بالله- يحتاج إلى عبث بالفطرة وليس بمجرد الدين، كما يفعل اليوم دعاة الشذوذ، هو محاولة بالعبث بالفطرة وليس بالتدين، الزنا عبث بالتدين، الزواج علاقة سليمة بين الرجل والمرأة وفق منهج الله، الزنا علاقة بين رجل وامرأة لكن خارج منهج الله هي فاحشة، لكن الشذوذ علاقة خارج إطار الفطرة ليست علاقة خارج النص الشرعي، خارج إطار الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فالعبث بالفطرة صعب فلذلك لا تجد له قبولاً عند كل الناس، فكذلك قال: (وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍۢ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ) أي شركاؤهم زينوا لهم قتل أولادهم أي جعلوه شيئاً حسناً، وهو -والعياذ بالله- شيء سيء جداً أن يُقتل الولد، فكانوا يقتلون في بعض القبائل.

وَإِذَا ٱلْمَوْءُۥدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَىِّ ذَنۢبٍۢ قُتِلَتْ (9)
(سورة التكوير)

وكان بعضهم يقتل حتى الذكر.

وَلَا تَقْتُلُوٓاْ أَوْلَٰدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَٰقٍۢ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْـًٔا كَبِيرًا (31)
(سورة الإسراء)

وفي آية ثانية:

قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ (151)
(سورة الأنعام)

فكانوا يقتلونهم تارة خشية الفقر وتارة بسبب الفقر، فلما قال: لا تقتلوهم من إملاق، قال: (نَحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ) فقدّم الرزق للوالدين، ولما قال: خشية إملاق، قال: (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) لأن الفقر غير حاصل، تخافون أن يحصل بوجودهم فقدّم رزقهم على رزقكم، (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) والثاني (نَحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡ) (خشية إملاق ومن إملاق)، فإما أن يكون الفقر حاصلاً فيقتل الولد لئلا يرهق والديه بمصاريف زائدة، أو أن يكون الغنى حاصلاً ولكن يُخشى مع وجود كثرة الأولاد الفقر فيقتل الولد خشية إملاق، ومن إملاق، فهنا قال -جلَّ جلاله-:(وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍۢ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ) طبعاً هنا تأخير الفاعل تأخير واجب، لأن الفاعل يحتوي ضميراً، والضمير لا يعود إلا على شيء قبله، فلو قال: وكذلك زين لكثير من المشركين شركاؤهم قتل أولادهم، أو وكذلك زين شركاؤهم، شركاء من؟ فتأخر الفاعل وجوباً لأن فيه ضميراً يعود على ما قبله، (وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍۢ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ) أي ليوردوهم موارد الهلاك، الردى، الموت، الهلاك، (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي وليخلطوا عليهم دينهم فلا يعرفون ما هو مشروع وما هو غير مشروع، يلبس الشيء بالشيء أي يُدخل شيئاً بشيء فيخلطه على الناس، واليوم كثير ممن يسمون أنفسهم علماء يخلطون على الناس دينهم، يلبسون على الناس دينهم فيخرج هكذا ويخرج بفيديو أن الربا بالمصارف بالبنوك هذا ليس رباً ليس حراماً، ويخرج الثاني يقول لك: ربنا ما حرم الخمر قال: اجتنبوه، ويخرج الثالث، الرابع يقول لك: لا.

يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِىٓ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَٰحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٌ وَوَرِثَهُۥ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُۥ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
(سورة النساء)

الأنثى تأخذ مثل الذكر، كيف؟ لا تعرف، فيحاولون أن يلبسوا على الناس دينهم، أي يخلطون عليهم ما هو مشروع وواضح 100% بما هو غير مشروع فالربا ربا، والبيع بيع.

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
(سورة البقرة)

أصحاب الفتاوى المنحرفة يلبسون على الناس دينهم
والأمر واضح إما أنك تبيع وتبتاع وتتاجر فتربح أو تخسر، أو أنك تودع أموالك في مكان وتأخذ عليه فائدة ثابتة سواء كان ذلك عن طريق البنك أو عن طريق المرابي الذي قبل مئة سنة، و سواء هذا الذي أخذه منك استثمره أو وضعه في جيبه فالنتيجة واحدة، فيلبسون على الناس دينهم بهذه الفتاوى المنحرفة، (وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ۖ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ) دائماً إذا وجدت من يلبس على الناس دينهم ويزين لهم الباطل، فاعلم أن الله -عزَّ وجلَّ- لو أراد لمنعهم من ذلك، لأخرس ألسنتهم، لشغلهم بأنفسهم ولما فعلوا ذلك، لكن الله أراد أن يفعلوه، لماذا؟ لأن الله تعالى يريد أن يمتحننا، لو الأمور مستقرة تماماً فهناك من في قلبه بذرة للاستجابة للشر لكنه لا يجد من يحركها، فكما أن هناك من يحرك الناس نحو الخير، فهناك من يحركهم نحو الشر، (وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ) لكن الله تعالى أراد أن يترك العباد ليخرجوا أسوأ ما في داخلهم، وليخرجوا أحسن ما في داخلهم، واليوم في أحداث غزة ولو شاء ربك ما فعلوه، لا المقاومة فعلت ما فعلت، ولا الرد الذي سموه رداً وهم يريدونه ويسعون إليه لما فعلوه ودمروا وقصفوا، لكن شاء الله أن يفعل هؤلاء ما فعلوا، وشاء الله تعالى أن يفعل هؤلاء المجرمون ما فعلوا؛ لأن الله تعالى يريد أن يمتحن عباده فظهر اليوم أفضل ما في الخيّرين، وأسوأ ما في الشريرين، ولا نعلم في مستقبل الأيام كم يجعل الله تعالى لهذا الحدث المؤلم الخطير من نتائج إيجابية، نحن لا نعلم كيف يسيّر الله تعالى الأمور.

فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
(سورة محمد)

(وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ)كل شيء أنت تجده قل: ولو شاء الله ما فعلوه، لكن الله شاء لهم أن يفعلوه؛ لأن الله تعالى قد كلف عباده ونهاهم وأمرهم، فلا بد أن يترك لهم الخيار ليفعلوا إن شاءوا الأمر أو يتركوا فعله، ولينتهوا عما نهى عنه، أو يأتوا ما نهاهم عنه حتى يتحقق الاختيار، (وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ)أي فدعهم (وَمَا يَفْتَرُونَ) فدعهم والافتراءات والكذب والخداع والتضليل الذي يفعلونه ولا تلتفت لهم، إذاً إلى أين التفت؟ التفت إلى طاعة الله تعالى وعبادته، والعمل الصالح، التفت إلى الخير، التفت إلى تعزيز الإيمان في نفوس الناس وذرهم وافتراءاتهم، سواء ما كان منها متعلقاً بالأنعام والحرث، أو ما كان متعلقاً بتلبيس الدين على الناس، (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) دعك منهم، واتجه إلى الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة حتى تقوم بدورك الذي أمرك الله به، والحمد لله رب العالمين.