قواعد في الحلال والحرام

  • اللقاء التاسع عشر من تفسير سورة الأنعام | شرح الآيات 138 - 142
  • 2023-12-23

قواعد في الحلال والحرام

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فمع اللقاء التاسع عشر من لقاءات سورة الأنعام، ومع الآية الثامنة والثلاثين بعد المئة، وهي قوله تعالى:

وَقَالُواْ هَٰذِهِۦٓ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَآ إِلَّا مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَٰمٌ لَّا يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا ٱفْتِرَآءً عَلَيْهِ ۚ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (138)


افتراءات ومزاعم المشركين المتعلقة بالأنعام:
(وَقَالُواْ) أي المشركون، وما زال الحديث عن المشركين وافتراءاتهم ومزاعمهم، وما أشركوا به ربهم -جلَّ جلاله-، وهنا افتراءات ثلاث متعلقة بالأنعام والسورة سورة الأنعام؛ وهي سورة في التوحيد وفي إثبات الوحدانية لله، والأنعام خلق من خلق الله، والمشركون جعلوا لهم حُكمًا في الأنعام، فجعلوا يُشركون شركاءهم فيما خلقه الله تعالى فسمّيت السورة سورة الأنعام.
1- (وَقَالُواْ) أي المشركون: (هَٰذِهِۦٓ أَنْعَٰمٌ وَحَرۡثٌ)، الأنعام: الإبل والبقر والغنم، والحرث: الزروع التي تُحرث، (حِجْرٌ): جعلوا من بعض الأنعام ومن بعض الزروع أنعامًا وزروعًا حِجْرًا؛ أي محجورة مثل ذِبْح بمعنى مذبوح، وطِحْن بمعنى مطحون وحِجْر بمعنى محجور، قال تعالى:

وَهُوَ ٱلَّذِى مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا (53)
(سورة الفرقان)

بين البحرين، (وَحِجْرًا مَّحْجُورًا)، فأسماك كل بحر محرّمة على البحر الآخر محجورة عليه، فحِجْر بمعنى حرام، فهؤلاء المشركون جعلوا أنعامًا وحرثًا محرّمة على الناس وجعلوها لآلهتهم ولمن يريدون من خدم الآلهة والكهنة وغير ذلك، (لَّا يَطۡعَمُهَآ إِلَّا مَن نَّشَآءُ) فهي لآلهتهم يطعمون منها الذكور حينًا، ويطعمون منها من يخدمون الآلهة التي يزعمونها حينًا.
(لَّا يَطۡعَمُهَآ إِلَّا مَن نَّشَآءُ بِزَعۡمِهِمۡ) والزعم مطية الكذب، والزعم لا دليل عليه ولا حجة فيه ولا برهان، يُقال: زعم فلان، هل له دليل؟ ليس له دليل، حجة؟ ليس له حجة أو برهان، وإنما زعَمَ فالزعم مطية الكذب، فقال: (بِزَعۡمِهِمۡ) أي قالوا ذلك متلبسين بزعمهم.
2- الافتراء الثاني: (وَأَنۡعَٰمٌ حُرِّمَتۡ ظُهُورُهَا) أي لا يركبونها، حُرّم الظهر أي لا يُركب، هذه الأنعام لا تُركب، وهذه الأنعام التي حرّموا ظهورها على أنفسهم ورد ذكرها في سورة المائدة؛ وهي أنهم جعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحام، قال تعالى:

مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٍۢ وَلَا سَآئِبَةٍۢ وَلَا وَصِيلَةٍۢ وَلَا حَامٍۢ ۙ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ ۖ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
(سورة المائدة)

فالبحيرة هي من الإبل الناقة التي يقطعون أذنها عندما تلد عدة بطون إلى حد معين تُقطع أُذنها فيحرم ظهرها؛ لا تركب، والسائبة هي التي بلغت سنًا معينًا فجعلوها لآلهتهم فلا تُركب ولا تُذبح، والوصيلة ما اتصلت ولادتها أنثى بأنثى، دائمًا أكثر من بطن أنثى فأنثى، فأيضًا هذه حرّموا ركوبها، والحام هو الفحل من الإبل الذكر أيضًا حرّموا بعدد معين من الأولاد حرموا ركوبه، فهذه الأنعام أو الأصناف من الأنعام هي التي حُرّمت ظهورها، ورد تحديدها في سورة المائدة، (وَأَنۡعَٰمٌ حُرِّمَتۡ ظُهُورُهَا).
3- الصنف الثالث من افتراءاتهم في الأنعام، قال: (وَأَنْعَٰمٌ لَّا يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱللَّهِ) فإذا ذبحوها ذبحوها لآلهتهم، فيذبحونها باسم الآلهة لا باسم الخالق الذي خلقها، وهذه لا تؤكل في شريعتنا، لو أن ذابحًا نسي فلم يذكر اسم الله، قال:

{ أنَّ قَوْمًا قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنا باللَّحْمِ لا نَدْرِي أذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عليه أمْ لا، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: سَمُّوا اللَّهَ عليه وكُلُوهُ. }

(صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين)

لكن لو أنه ذكر غير اسم الله عليه فهذه الأنعام ولو ذُبحت وفق الذبح الشرعي فإنها لا تؤكل؛ لأن النعمة فيها نُسبت لغير المُنعم، خلق الأنعام ثم تُذبح للآلهة، (وَأَنْعَٰمٌ لَّا يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا ٱفْتِرَآءً عَلَيۡهِ) افتراءً على الله، والافتراء من أعظم أنواع الكذب، وهو الفِرية: وهو أن تأتي بشيء لا أصل له، ولا دليل عليه، ولا حجة فيه، ولا برهان به؛ افتراء، محض افتراء، فافتروا على الله الكذب، وحرموا وحللوا بما لم يأذن به الله، قال: (سَيَجۡزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ) وهذا وعيد وتهديد بأن الله تعالى سيجزي هؤلاء المشركين بافتراءاتهم تلك عذابًا عظيمًا، وجعل الجزاء مطلقًا فما حدده، قال: سيجزيهم، -ولله المثل الأعلى- كأن يقول الأب لابنه: جزاؤك عندي، فيرتجف الولد إن كان يعلم أن والده قاسٍ في تعامله؛ لأن الجزاء أُطلق، فيبدأ يتخيل ما هو هذا الجزاء الذي سيجازيه به؟

التحليل والتحريم من شأن الله تعالى وحده:
وقد يقول قائل هنا: ما هذه القضية المهمة -هي جرت في الماضي- ما هي القضية المهمة التي من أجلها أثبت الله هذا الأمر في القرآن الكريم إلى يوم القيامة، قرآن يتلى إلى يوم القيامة؟ القضية المهمة أن هؤلاء نموذج من المشركين الذين يظنون أن الدين هو معتقد ولكن في واقع الحياة هو ليس نظامًا، فهم يأذنون لأنفسهم ويبيحون لأنفسهم أن يحللوا ويحرموا وفق ما يشتهون، القضية مهمة جدًا، اليوم ما يوجد بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، اليوم لا يوجد من يجعل أنعامًا معينة حِجْرًا للشركاء لله تعالى، لكن كم من شخص يريد أن يُحِلَّ القانون المدني محل قانون الأحوال الشخصية في الزواج والطلاق، وكم من شخص يريد أن يحلل ويحرم وفق هوى نفسه، فيقول: هذا حلال وهذا حرام بزعمهم، كما ورد في آية أخرى، فقالوا:

وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
(سورة النحل)

أَمْ لَهُمْ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
(سورة الشورى)

فالمشكلة الرئيسية في هذا الموضوع ليست في وجود بعض الأنعام المحرمة أو كذا، الموضوع أعم من ذلك بكثير وهو أن الإنسان عندما يجعل نفسه محورًا لهذا الكون وأصلًا، فيجعل التحريم والتحليل صفة له أو ديدنه فيحلل ويحرم هنا المصيبة، فالتحليل والتحريم من شأن الله تعالى وحده، ليس للإنسان أن ينظم حياته، يقول لك: الدين بالمسجد، أعبد الله بيني وبينه، أما الحياة يا أخي اليوم قانون، نحتاج إلى القانون لينظّم حياتنا، اليوم الحدود لم تَعُد حضارية، اليوم يوجد سجون إصلاحية عقوبات إصلاحية، وكأن العقوبات التي شرعها الله تعالى غير إصلاحية لا تُصْلِح المجتمع، لكنه الآن اكتشف عقوبات تُصْلِح المجتمع، قطع اليد- والعياذ بالله- كانوا يقولون: سلوك همجي، نسجنه حتى نصلحه ونخرجه للمجتمع صالحًا، فالقضية في العمق هي قضية أن الإنسان عندما يريد أن يجعل نفسه حَكَمًا في الحياة فينظّم حياته كما يحب ويشتهي، واليوم طواغيت الأرض والدول الأخرى التي تعادينا لا مشكلة لها أن نبقى في المسجد وأن نجعل الدين علاقة مع الله -عزَّ وجلَّ- لأنها لا تؤثر في واقع الحياة، إن كان دينك علاقة بالله تعالى فقط في المسجد فما أحد عنده مشكلة مع تدينك هذا، ماذا يضرهم أن تدخل إلى المسجد، وأن تصلي لله -عزَّ وجلَّ-، لكن عندما تريد أن تفرض دينك في واقع الحياة فإن هذا سيضرهم جدًا؛ لأنك تتدخل في الإعلام فتقول لهم: هذا إعلام فاسد مُفسد لم يأذن به الله تعالى، وستتدخل في القوانين فتقول لهم: هذا لا يجوز فإنه حكم بغير ما أنزل الله، وستتدخل في تربية الأولاد فتقول لهم: يجب أن تعلم المدارس أبناءنا واحد، اثنين، ثلاثة وفق منهج الله -عزَّ وجلَّ- وستقول لهم: هذه نظرية داروين لا تصلح أن تكون في مناهجنا الدراسية، وستقول لهم: لا أبيح لكم أنت تُدخلوا الشذوذ وما يحرض عليه في مناهجنا، ستقول لهم: لا أقبل بالبنوك الربوية؛ لأن الربا توعد الله مرتكبه بحرب من الله ورسوله، فأنت عندما تريد أن تدخل في واقع الحياة يهاجمونك، أما في المسجد فليست هناك مشكلة كبيرة معهم مع المسجد، فقضية الأنعام ليست قضية سهلة، ربنا -عزَّ وجلَّ- يبين كيف هؤلاء استحلوا لأنفسهم واستباحوا لأنفسهم أن يشَرّعوا، من الذي أذن لك أن تقول هذه الأنعام لا نركبها؟ الله خلقها وأحلّ ركوبها فأنت جعلت حلالًا وحرامًا، هذا نركب وهذا لا نركبه، من الذي سمح لك أن تذبح الذبيحة لآلهتك وهي قد خلقها الله تعالى؟ من الذي سمح لك أن تجعل جزءًا من المزروعات حِجرًا على أشخاص دون أشخاص؟ فالقضية هي أن يبيح الإنسان لنفسه أن يتدخل في شيء ليس من اختصاصه.

وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّمَآءِ إِلَٰهٌ وَفِى ٱلْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ (84)
(سورة الزخرف)

فمنهج الله تعالى مطبق في الأرض، وهو يحكم نظام حياتنا.

وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَٰذِهِ ٱلْأَنْعَٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰٓ أَزْوَٰجِنَا ۖ وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ ۚ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
(سورة الأنعام)

4- فِرية جديدة (وَقَالُواْ) المشركون، ما في بطون هذه الأنعام إما من الأجنة أو من الألبان من السوائب والبحائر، جمع سائبة وجمع بحيرة سوائب وبحائر، فقالوا: ما في بطونها سواءً كان أجنة أو ألبانًا -على بعض الأقوال-خالصة لذكورنا ومحرم على إناثنا، الآن فِرية جديدة؛ الذكور يشربون من هذا اللبن، ويأكلون من تلك الأجنة التي تُخرجها تلك الأنعام المخصصة التي خصصوها، وأما الإناث فيحرم عليهم ذلك وهم الأزواج أي الإناث.
(وَإِن يَكُن مَّيۡتَةٗ فَهُمۡ فِيهِ شُرَكَآءُ) إذا ولدت ذكرًا يذبحونه ويأكله الذكور فقط، إذا ولدت أنثى يتركونها، إذا ولدت ميتة يشتركون فيه الذكور والإناث يأكلونه؛ قانون، حكم قانون وضعي، المهر للمرأة إذا طلقها زوجها لها مهرها، في بلاد الغرب لها نصف أملاك زوجها؛ قانون، واليوم كثير من نساء المسلمين يقلن: نحن نحتكم إلى القانون الأمريكي، نحن نعيش بأمريكا، تكون هي مسلمة وزوجها مسلم، لكن نحن نحتكم للقانون فهنا وضعوا قانونًا، مصيبتهم أنهم وضعوا قانونًا خلاف ما أذن به الله تعالى، أباح الله تعالى الأنعام بشكل مطلق، جعلوها مخصصة هذه للذكور، هذه للإناث، هذا نشترك فيه (فَهُمۡ فِيهِ شُرَكَآءُ) وهذه الآية وإن كان وردت في الأنعام لكن يُستشف منها، وهذا استنباط الإمام مالك -رحمه الله تعالى- قال: (خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰٓ أَزْوَٰجِنَا) قال: قد ذم الله تعالى في هذه الآية أن يُجعل شيء خاص للذكور محرم على الإناث، فجعلها دليلًا على أن الواقف إذا أوقف لذريته للذكور دون الإناث فإنه يبطل وقفه بعد موت الواقف، أي لو مات الواقف هو قال: أخي هذا البناء ليس ميراثًا، هذا سأسجله وقفًا يبقى في ذريتي في أبناء الذكور فقط، فعند الإمام مالك قال: لا، يبطل وقفك، هذا يتحول للذكور والإناث، وبعض أصحاب الإمام مالك قالوا: حتى في الهبة تبطل الهبة استنباطًا من الآية، أي أن يقول الأب: أنا في حياتي سأهب هذا البناء للذكور فقط، ولن أهبه للإناث، طبعًا هذا لا يجوز شرعًا إن لم يكن له مبرر شرعي يجيزه الشرع أن يخص ولدًا دون ولد؛ لأن هذا ليس من العدل، والنعمان بن بشير لما قالت له زوجه: لو نحلت ابني هذا حديقة فنحله حديقة، قالت أشهد على ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:

{ فقال له: إني نَحَلْتُ ابني هذا غلامًا فقال له: أَكُلَّ ولدِكَ له نِحْلةٌ مثلُ هذا، قال: لا، قال فاردُدْه [وفي روايةٍ] أَلِكُلِّ ولدِكَ نِحْلَةٌ مثلُ هذا؟ قال: لا، قال: أَتُحِبُّ أن يكونَ الكلُّ في البِرِّ سواءٌ؟ قال: نعم، قال فَسَوِّ بينَهم في العَطِيَّةِ [وفي روايةٍ] أَشهِدْ على هذا غيري وفي روايةٍ إني لا أَشْهَدُ على جُور. }

المحدث: ابن العربي (الروايات كلها صحيحة)

فالعدل بين الأولاد مطلوب، ومن صور عدم العدل بين الأولاد أن يعطي الأب الأشد برًا به ويترك الأبعد عنه فيزيد العاق عقوقًا، البارّ عندما يبرّك إنما يبرّك إرضاء لله تعالى وثوابه على الله، فصُوَر عدم العدل في العطية كثيرة، لكن هنا الإمام مالك استنبط أن هذه الهبة أو أصحاب الإمام مالك استنبطوا أن هذه الهبة لا تصح بأن يُجعل شيء خالص للذكور دون الإناث، مع أن الآية في الأنعام لكن استنبط منها، وقالوا: (وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَٰذِهِ ٱلْأَنْعَٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰٓ أَزْوَٰجِنَا ۖ وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ ۚ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) أي سيجزيهم الله تعالى بقولهم هذا ما يستحقون، (إِنَّهُۥ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يأتي في القرآن الكريم دائمًا اقتران بين اسمي العليم والحكيم، وغالبًا ما يأتي العليم قبل الحكيم (العليم الحكيم) (إنه عليم حكيم)، فالعلم دائمًا يؤدي إلى الحكمة، العلم مؤداه الحكمة، أنت كلما كثرت معلوماتك كنت حكيمًا أكثر في تصرفاتك، وغالبًا الذي يتصرف بطيش بعيدًا عن الحكمة إنما يكون عنده نقص في المعلومات، فلما تتبين له المعلومات يقول: ليتني لم أفعل، لذلك الحكمة أن تنتظر حتى تأتيك المعلومة الصحيحة، لأن غالب الناس يندمون بعد حين من تصرفاتهم.

معنى الحكمة:
والحِكمة من الحَكمة، والحَكَمة هي الحديدة التي توضع في فم الفرس لنتحكّم به لئلا يأكل كثيرًا من الأرض، فيُسحب فيتوقف عن الأكل تسمى الحَكَمة، فالحِكمة أن يجعل الإنسان وقتًا قبل أن يتصرف؛ لأنه إن تصرف وعنده نقص معلومات ثم تبينت له المعلومة الصحيحة فإنه يندم، لكن هنا قدّم الحكيم على العليم لأن الموطن هنا موطن حكمة؛ أي الله تعالى له حكمة عظيمة فيما يفرضه على عباده، فلما يتدخل الإنسان فيما لا شأن له به فيحلل ويحرم فإنه إنما يفعل خلاف الحكمة، فالحكمة هي شرع الله، والعدل هو شرع الله، وكان ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "الشريعة رحمة كلها عدل، عدل كلها، مصلحة كلها، حكمة كلها، وأي قضية أُخرجت من الرحمة إلى القسوة، ومن الحكمة إلى خلافها، ومن العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة وإن أُدخلت عليها بألف تأويل وتأويل"، الشريعة حكمة، فقد تفهم الحكمة وقد تغيب عنك الحكمة لكن تؤمن بحكمة الله تعالى في شرعه (إِنَّهُۥ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) -جلَّ جلاله-.

جهل المشركين وافتراؤهم على الله:

قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوٓاْ أَوۡلَٰدَهُمۡ سَفَهَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفۡتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِۚ قَدۡ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مهتدين (140)
(سورة الأنعام)

الآن قضية جديدة متعلقة بالمشركين أدت إلى خسارتهم في الدنيا والآخرة، وهي أنهم (قَتَلُوٓاْ أَوۡلَٰدَهُمۡ سَفَهَۢا)، والثوب السفيه هو الثوب الرقيق الذي يشف عما تحته، والسفيه هو الشخص الطائش الأحمق الذي طارت أحلامه، ليس عنده حلم وهدوء ورزانة ورصانة، (قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوٓاْ أَوۡلَٰدَهُمۡ سَفَهَۢا) حمقًا وجهلًا وبعدًا عن الحلم، (بِغَيۡرِ عِلۡمٖ) وهذا قيد وصفي وليس قيدًا احترازيًا بمعنى أنه لا يوجد إنسان يقتل ولده سفهًا بعلم، وإنما كل من يفعل ذلك يفعله بغير علم، وكذلك قوله تعالى:

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبْلٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍۢ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّۢ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ(112)
(سورة آل عمران)

ولا يوجد إنسان يقتل نبيًا بحق، وإنما كل من يقتل نبيًا إنما يقتله بغير حق، فهذا القيد لوصف جهلهم وحالهم فهم جهال، وحرّموا ما رزقهم الله كما ورد قبل قليل فيما فعلوه في الأنعام فجعلوا بعضها حلالًا وبعضها حرامًا، وهو رزق من الله ما كان ينبغي أن يحرموا شيئًا رزقه الله، ومن هنا فإننا نقول دائمًا: إن تحريم الحلال كتحليل الحرام، بعض الناس يظنون أن تحليل الحرام أمر عظيم لكن تحريم الحلال هو من باب أولى وهذا ليس صحيحًا، فليس في الشرع مرتبتان، مرتبة أولى هي أن يحرم الحلال وتحتها أن يحلل الحرام بل كلاهما سواء؛ لأن كليهما افتراء على الله تعالى، فلينظر الإنسان عندما يفتي ما يتسرع بالفتوى فيحرم حلالًا، ينتظر ويسأل ويتبين المسألة؛ لأن تحريم الحلال كتحليل الحرام، (وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفۡتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِ) أعظم فِرية أن يفتري الإنسان -والعياذ بالله- على الله، أعظم فِرية أن يفتري الإنسان على ربه.

إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِٱلسُّوٓءِ وَٱلْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
(سورة البقرة)

(قَدۡ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ) لو قال المولى: (قد ضلوا) وفقط، إذًا ليسوا مهتدين، فلماذا قال: (قَدۡ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ)؟ لأن الفعل (ضلوا) قد يفيد أن هذا أول ضلال من ضلالاتهم، لكن لما قال: (وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ) فتبين أن هذا الضلال مبني على ضلال قبله فهي:

أَوْ كَظُلُمَٰتٍۢ فِى بَحْرٍۢ لُّجِّىٍّۢ يَغْشَىٰهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِۦ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِۦ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَٰتٌۢ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُۥ لَمْ يَكَدْ يَرَىٰهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورًا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ (40)
(سورة النور)

فهم ما كانوا مهتدين أصلًا أي لم يكن عندهم هداية ثم ضلوا في هذه المسألة، لكنه ضلال فوق ضلال (قَدۡ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ).

بيان عظيم فضل الله على الناس:
الآن ربنا -جلَّ جلاله- في هذه الآيات اللاحقة سيبين فضله وعظيم رزقه وعظيم فضله على الناس، ليبين بذلك شناعة أفعالهم السابقة في أنهم جعلوا لأنفسهم سلطة التحليل والتحريم وفق أهوائهم وزعمهم لا وفق منهج الخالق، فالذي خلق هو الذي يشرع.

إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
(سورة فاطر)

فالخالق هو الخبير، والخبير هو الذي يعطيك المنهج الصحيح الذي ينبغي أن تسير عليه، فقال:

وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ (141)
(سورة الأنعام)

أي جعل على غير مثال سابق، وأبدع على غير شيء في الأرض كما نفعل نحن فنتعلم من الموجودات فنصنع أشياء فنكتشف أشياء، نحن إما أن نكتشف أو أننا نقلد لكننا لا نخترع، الناس لا يخترعون لا يأتون بشيء من العدم، هم إما أنهم يكتشفون قانونًا كان موجوًدا، لكن كان مغطى عليه فكشفوه كاكتشاف الثروات الباطنية، موجودة لكن حفروا فوصلوا إليها، أو تطور العلم إلى حد استطاعوا أن يكتشفوا قانونًا جديدًا بفعل المعطيات الجديدة والأجهزة الجديدة فاكتشفوا الشيء الموجود، أو أن الإنسان يقلد كما صنع الطائرة عندما رأى الطائر يطير في الفضاء، أما أنه يخترع أي يوجِد شيئًا من عدم؟! لا يخترع، لكن ربنا-جلَّ جلاله- ينشئ، يخلق، يفطر أي على غير مثال سابق، (وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّٰتٖ) والجنات جمع جنة وكلاهما يُطلق فيقال: جنَّة، على مجموعة الجنات والجنات على الجنة، وجنَّ: من جنَّ الليل إذا ستر ما تحته، وجُنَّ الإنسان إذا فقد وستر عقله وغطى عقله، والجِنّ استتروا فإننا لا نراهم فسمّوا جِنًا، والصيام جُنّة لأنه وقاية تمنع الوقوع في المعاصي ، والمِجَن الذي يتخذه الإنسان حتى يستر نفسه من ضربات الأعداء، ولما تكاثرت الأشجار في الجنة فسترت وجه الأرض وسترت ما في داخلها فسمّيت جنةً، والأجمل من ذلك أنه لما تكاثرت وكانت جميلة جدًا سترت الإنسان وسترت ما غيرها من أن يخرج إليها، فالذي في الجنة لا يتطلع إلى غيرها، الإنسان إذا كان في مكان لا يعجبه يبدأ ينظر يمنة ويسرة يبحث عن مكان يعجبه، أما إذا كان في مكان رائع جدًا فهذا جنته، يقال: جنة المؤمن بيته؛ لأنه أولاد أبرار، وزوجة صالحة، و لا يوجد مخالفات شرعية، فهناك وداد، يرجع للبيت يُسرّ ببيته؛ جنته تمنعه وتستره من أن ينظر إلى خارج البيت؛ جنة، ومنه القصر، القصر لماذا سمي قصرًا؟ لأنه يقصر نظر صاحبه عما غيره لوجود كل ما يريده في داخله، الذي عنده قصر لديه مسبح، ولديه أشجار مثمرة، وهناك أشجار فيء وظل، وفيه كل الحاجات فسمي قصرًا لأنه يقصر النظر عن غيره، والجنة من هذا القبيل تستر النظر عن غيرها وتستر الناظرين إليها فلا يرون ما في داخلها لتكاثف أشجارها.
(وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ) والمعروشات هي التي جُعل لها أعمدة وسُوق حتى استقامت عليها كالكرم (العنب) فيعرش، وهو العرش في الأصل من كل شيء عال.

إِنِّى وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍۢ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
(سورة النمل)

فكل شيء له العلو، وعرش الرحمن فوق كل شيء، كل شيء له العلو فهو عرش، فالمعروشات تعرشت إلى ما يوضع لها من الأسلاك من أجل أن تسير عليها ويكون الكرم والعنب، (وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ) هناك أشياء لا تتعرش فلا يكون لها ساق وإنما تكون في الأرض كالبطيخ والكوسا وغير ذلك، وأحيانًا في العصر الحديث يعرشونها نوعًا ما ليزيد إنتاجها، لكن في الأصل هناك معروش وغير معروش.
(وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُ) النخل ما يكون منه من الفاكهة والقوت، والزرع للقوت، النخل فيها الفاكهة وفيها القوت، الزرع فيه القوت ما يقتات به الإنسان، (وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُ) كل واحد له طعم وحجم ولون ورائحة، فثماره كل ثمرة مختلفة عن الأخرى، فهذا التفاح، وذاك العنب والعنب أنواع، والإجاص والحمضيات وغير ذلك الكثير.
(وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖ) في الورق متشابه الزيتون والرمان، النتيجة الرمان شيء والزيتون شيء بالحجم وبالنوع وبالطعم وباللون وبالرائحة لكن الورق واحد، (مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖ) متشابهًا في الورق وغير متشابه في النتائج.
(كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ) فإذا بدأ الثمر يُباح لكم أن تأكلوا منه، فقالوا: هذا الأمر للإباحة، ماذا يعني أمر الإباحة؟ نحن الأمر في القرآن في الأصل يقتضي الوجوب فإذا قال تعالى:

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
(سورة البقرة)

هذا أمر يقتضي الوجوب.

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
(سورة النور)

أي غُضُّوا، (يَغُضُّواْ) أمر يقتضي الوجوب، لكن هناك أمر في القرآن لا يقتضي الوجوب؛ لأن هناك قرينة صرفته عن الوجوب إلى غير الوجوب، كقوله تعالى للمتكبر يوم القيامة:

ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ (49)
(سورة الدخان)

فهذا أمر للتهكم وليس للوجوب فهو سيذوق سيذوق، وهناك أمر يقتضي الإباحة، قال تعالى:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلَا ٱلْهَدْىَ وَلَا ٱلْقَلَٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَٰنًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَٰنِ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ(2)
(سورة المائدة)

حسنًا إنسانٌ تحلل وانتهى من الإحرام ولا يحب أن يصطاد؟ لا يوجد مانع، هذا أمر للإباحة، كان محرمًا صار مباحًا.

فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
(سورة الجمعة)

أنا لا أريد أن أنتشر في الأرض، أريد إنهاء الصلاة وأذهب للبيت كي أنام، يلزم أن أنتشر؟ لا، هذا أمر للإباحة، هذا الأمر هنا قال: (كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ) أي أنه يباح لكم أن تأكلوا من الثمر إذا أثمر، ولو أحيانًا قبل أن يبدو صلاحه قبل أن ينضج ما دامت الثمرة خرجت فيباح لكم الأكل منها، وقال بعضهم -وهذا رأي وجيه-: (كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِ) فما دام المال فيه حق عند الحصاد، فإذا أثمر فأكلت منه قبل أن أحصده فهذا الذي أكلته فيه حق للفقير؟! فأباحه الله تعالى؛ أي أنت اليوم بمزرعتك لم تحصدها، دخلت أعجبك بعض الثمر فقطفت وأكلت (كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ) فأباح لك لأن هذه حاجة بالنفس، حاجة بالنفس إنسان بدا صلاح بعض الثمر فاستعذب بعض الزيتون، بعض.. كذا أخذه، وأكل منه، حسنًا هذا فيه حق للفقير لأن الحق عند الحصاد، فماذا عما أكلته قبل ذلك؟ قال: أبيحه لك رحمة بك، قال: (كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِ) وقال يوم حصاده لوجوب المسارعة إلى الخيرات، فلا تأخّر زكاة المال، و أشكلت هذه الآية أو هذا الجزء من الآية بأن السورة مكية، والزكاة فُرضت في المدينة، فقال بعضهم: لعل هذه الآية في الأصل مدنية، وقال بعضهم: بل كان في المال حق قبل الزكاة، ثم جاءت زكاة الزروع والثمار ففُرضت في المدينة، فكان من حق الزكاة أن تؤتي حقه لكن غير محدد، وهذا أرجح الأقوال؛ أي لم تكن زكاة الزروع قد قُررت التي هي نصف العُشْر، والعُشْر فيما يُسقى بماء السماء أو يُسقى ببذل الجهد بالآلات أو البعل أو المروي، لكن قبل ذلك لم يكن نزل في مكة (وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِ) يوم تحصد وزّعْ للناس، وقالوا: كان الحق وقتها أن كل من حضر يأخذ، أي حق الله في هذا المال أنت أحضرت عمال، أحضرت كذا..، كلهم تعطيهم من هذا المال شيئًا منه دون تحديد، (وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْ) أما (وَلَا تُسۡرِفُوٓاْ) فقال البعض: ولا تسرفوا من الأكل من ثمره إذا أثمر حتى لا تضيعوا حق الفقير، كُلْ باعتدال شيئًا قليلاً، لكن تسرف كثيرًا فيذهب حق الفقير في مالك عند الحصاد، وقال بعضهم: بل ولا تسرفوا حتى في إيتاء حقه يوم حصاده، وقيل إن بعضًا من الصحابة، أو بمن وزّع كل شيء فلم يبقَ له شيء، فنزل قوله تعالى: (وَلَا تُسۡرِفُوٓاْ) أي هذه لك، لذلك ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبِل من أحد ماله كله في الصدقة، كان يأتي الرجل فيقول: لك مالي كله، فيقول صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيت لأهلك؟ إلا أبا بكر قال: ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: الله ورسوله، فما قَبِل من أحد لأن الإسلام واقعي يعلم أن النفوس تتعلق بالأموال، فما أمره أن ينفق كل المال، ربع العُشر الألف خمس وعشرون شيء يسير جدًا في المال، وفي الزروع نصف العُشْر أو العُشْر، وزكاة الحيوانات أيضًا لها الأربعون، عندما يبلغ أربعين غنمة وشيء فيها واحدة وهكذا حسب ترتيب البقر والغنم والإبل، فربنا -جلَّ جلاله- أعطاك الأكثر وأخذ القليل، فحتى هنا قال: (وَلَا تُسۡرِفُوٓاْ) وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:

{ كلُوا، واشربُوا، وتصدقُوا، والْبَسُوا في غيرِ إسرافٍ ولا مَخيلةٍ }

(أخرجه النسائي، وابن ماجة، وأحمد عن عبد الله بن عمرو)

لا تكبر ولا إسراف، حتى الصدقة لا يكون فيها إسراف ولا شيء، لكن البعض قالوا: لا إسراف في الخير؛ أي كلما زاد الإنسان في الخير الخير ليس فيه إسراف، رغم ذلك نقول: الإسراف هو مجاوزة الحد، فكل شيء دعوه ضمن الحدود الطبيعية بشكل أن تغني نفسك وأن تعطي للآخرين، والصحيح أن قوله: (وَلَا تُسۡرِفُوٓاْ) عام يشمل كل ما ورد؛ أي لا تسرف حتى في الأكل عمومًا، كُلْ باعتدال، لا تسرف في العطية فأبقِ لنفسك ولأهلك شيئًا، لا تسرف في الطعام فتضع أنواعًا متعددة ثم تأكل شيئًا ويبقى الآخر فلا يؤكل مثلًا، أمر عام بعدم الإسراف (إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ).

وَمِنَ ٱلْأَنْعَٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ۚ كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ ۚ إِنَّهُۥ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (142)
(سورة الأنعام)

ما يزال -جلَّ جلاله- يعدد نعماءه على بني آدم مذكّرًا إياه بذلك؛ لأن الذي أنعم والذي أعطى له الحكم وله الأمر.

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُۥ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتٍ بِأَمْرِهِۦٓ ۗ أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ (54)
(سورة الأعراف)

كل الناس يقولون: (له الخلق)، لكن البطولة عند (له الأمر) له الخلق طبعًا له الخلق، من ينكر أن الله خلقه غير هؤلاء الذين اليوم في عصرنا الذين ما سبقوا حتى من المشركين، الذي يقول لك: ليس للكون إله؛ الملحد، أنا أقول: هذه موضة، ليست شيئًا مبنيًا على أسس ولا على قواعد، موضة مبنية على فراغ كبير، على مادية مقيتة في المجتمعات فصاروا يريدون أن يجربوا كل شيء فاخترعوا ما يسمى الإلحاد، لا يوجد إلحاد، حتى الذي يقول: لا يوجد خالق لهذا الكون، لو لم يكن يبحث في الأصل عن الخالق لما قال: لا يوجد خالق، إنه هو في الأصل لا يقبل شيئًا بغير موجِد، فإنكاره دليل على وجود الفكرة في الأصل في فطرته بأن كل شيء يحتاج إلى من يوجِده، ففي الأصل لا أحد ينكر أن له الخلق، لكن الناس يتفاوتون في قضية له الأمر، له الأمر هو الذي يأمر -جلَّ جلاله- يقول لك: افعل ولا تفعل، يجوز، لا يجوز، حلال، حرام، فلذلك لما بيّن -جلَّ جلاله- أفعال المشركين وزعمهم في الأنعام جاء بفضله وإنعامه وخلقه وإنشائه وما جعله لنا في الأرض لنستنبط من ذلك أنه ينبغي أن نجعل له الأمر والإذن له في كل شيء.
(وَمِنَ ٱلْأَنْعَٰمِ) أي جعل لكم من الأنعام (حَمُولَةً وَفَرْشًا) الحمولة ما يُحمل عليه، يجلس الإنسان على الإبل، الغنم الوليد الجديد لا يُجلس عليه هذا فرش، فالفرش في مقابل الحمولة، الفرش لأنه قريب من الأرض فكأنه كالفراش، وقيل: (وَفَرْشًا) أي تتخذون منه فرشًا من أوبارها وأصوافها، فهي تحمل أثقالكم.

وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
(سورة المؤمنون)

هذه حمولة، وفرشًا تتخذون من أصوافها وأوبارها أثاثًا ورِئْيًا، تجعلون منها أثاثًا، لكن في الأصل الحمولة ما يركب والفرش ما لا يركب، (وَمِنَ ٱلْأَنْعَٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ۚ كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ) وهذا أمر للإباحة، رزق الله يؤكل منه إلا ما حدده الشرع فحرّمه ونهى عنه كلحم الميتة والخنزير وغير ذلك.

عداوة الشيطان للإنسان وأساليبه في تزيين الباطل:
(وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ) الشيطان يا كرام له خطوات، فهو لا ينقلك إلى خطوة حتى تتمكن من الخطوة التي قبلها، فلذلك جاء الأمر بعدم اتباع خطوات الشيطان، هو يسير هنا وأنت تتبع خطواته فيقول لك: من هنا، فتذهب، يقول لك: نحن زمالة بالعمل تقتنع بالفكرة وتمام، يقول لك: ادعوها لفنجان قهوة، مكان عام ليس فيه شيء، بعد فنجان القهوة يقول لك: خذوا راحتكم بالبيت، وبعدها مصافحة وخلوة، وبعدها 90% من الناس يقول لك: لم يكن في ذهني أن أقع في الفاحشة -والعياذ بالله- فقال: (وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ ۚ إِنَّهُۥ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) أي عداوته ظاهرة بيّنة لا تخفى على ذي عقل.

إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
(سورة فاطر)

هو عدو ظاهر مبين واضح(إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِٱلسُّوٓءِ وَٱلْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، ومن أعظم فريته أن زيّن لهؤلاء المشركين أعمالهم كما ورد.

وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍۢ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ۖ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
(سورة الأنعام)

فزين لهم أعمالهم وأمرهم بالسوء والفحشاء، وقالوا على الله -جلَّ جلاله- ما ليس لهم به علم، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، هذا والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.