الإيمان بالغيب

  • اللقاء الأول من تفسير سورة الأنعام- شرح الآيات 1-8
  • 2022-10-08

الإيمان بالغيب

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يارب العالمين، وبعد:


سبب تسمية سورة الأنعام:
سميت بسورة الأنعام لذكر الأنعام فيها ٦مرات
مع اللقاء الأول من لقاءات سورة الأنعام، سورة الأنعام سميت بسورة الأنعام لذكر الأنعام فيها ست مرات، وفُنِّدت ضلالات المشركين في الأنعام، والأنعام تؤكل وتُركَب، وذللها الله لنا، فهي من نِعَم الله تعالى علينا، والأنعام سورة مكية، والسور المكية غالباً ما تذكّر المؤمن بنعم الله تعالى عليه، والأنعام من نعم الله تعالى على الإنسان، لكن ينبغي أن يستخدمها وفق تعليمات الخالق، فيأكل ما يحل أكله، ويترك ما لا يحل أكله، ويذبحها بالطريقة الشرعية، ويجعلها خالصة لله تعالى الذي خلقها، فلا تُذبح لغيره.
وسيأتي ذكر ما يتعلق بالأنعام داخل هذه السورة وما علاقة الأنعام بالسورة بشكل عام.
هي سورة مكية باتفاق، وقد نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة واحدة، ولعلها السورة الوحيدة من الطوال التي نزلت دفعة واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال:

{ نزلَت سورةُ الأنعامِ جُملةً واحِدة بمَكَّةَ وحولَها سبعونَ ألفَ ملَكٍ يحفونّها بالتَّسبيحِ }

(ابن حجر العسقلاني عن عبد الله بن عباس)

يحفونها: يحيطونها بالتسبيح، سبحان الله، لعظم أمر هذه السورة وما فيها من إقرار العقيدة السليمة، وتثبيتها في النفوس، فهي سورة مكية، وكشأن السور المكية الأخرى فإنها تُعنى بالقضية الأولى التي دائماً ما نكرر الحديث عنها وهي تثبيت العقيدة، ما من سورة من السور المكية إلا أساسها تثبيت الإيمان في قلوب الناس، ولكن ما تشابهت سورتان في طريقة، وهذا من الإعجاز، كل السور المكية تدعو إلى هدف واحد، ولكن لا تكاد تتشابه سورتان في الطريقة التي توصل إلى هذا الهدف، الهدف واحد لكن الطرق التي استخدمها القرآن في السور المكية طرق كثيرة توصل إلى تثبيت الإيمان في النفوس وتعزيزه، هي عقيدة لا إله إلا الله، تثبيت التوحيد في النفوس.

الدعوة التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام:
النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء إلى العرب كان يحمل رسالة، يعني بالعرف الحديث: أفكار، إيديولوجيا، العقيدة، المسمى الشرعي الإيماني الذي ينبغي أن تعتقده وتؤمن به.
النبي الكريم جاء بالتوحيد
كان من الممكن -لكنه لم يحصل- أن تكون الدعوة مثلاً قومية عروبية، مثلاً أنتم العرب، نحن القومية العربية، فكان يمكن أن يجيبه إلى ذلك العرب كلهم، مصلح عظيم يحمل فكرة القومية، كلنا عرب وكلنا ينبغي أن يكون لنا شأن بين الدول كفارس والروم، ويجب أن نبني دولة عظيمة يهابها الجميع، ,كان اتبعه الجميع: الضعفاء والأقوياء، الزعماء والتابعون، الجميع، فكرة براقة قومية، كان يمكن أن يعلنها قطرية وطنية، قريش أنتم أفصح العرب، أنتم سادة العرب، نحن يجب أن نبني مهابة بين القبائل، ثم بعد ذلك يسرب أفكاره التوحيدية، وكان يمكن أن يلقى قبولاً على ذلك، ما أشد من يتعلق بالوطن وبالانتماء، شيء جميل.
كان يمكن أن يعلنها ثورة على الظلم الاجتماعي، تحررية مثل الدعاة الذين يأتون لإيقاف التمييز العنصري بين الناس، كان سيقف ضده 10%، السادة الذين يتمتعون بالسلطات، لكن سيلتف حوله كل الضعفاء، كل السود، كل غير المنتفعين سيلتفون حوله، لن يجد معارضاً، البعض فقط سيعارضونه.
كان من الممكن أن يعلنها ثورة أخلاقية، جميلة جداً، جئتكم بالأخلاق: صدق وأمانة ومحبة، يبدأ بذلك، العبارات جيدة والإسلام جاء بذلك، لا أقول إنه لم يأتِ بذلك، لكن كان يمكن أن يعلنها كاملة بهذا الطريق كما هي الدعوات اليوم، اليوم كثير من الناس يقول لك: الدين أخلاق ومعاملة، دعوا الناس وما يشاؤون، يعبدون ما يشاؤون، يذهبون إلى ما يشاؤون يحتفلون كما يشاؤون يفرحون كما يشاؤون المهم أنه يعاملك بالإحسان يا أخي هناك صدق وأمانة، العالم الغربي كله إسلام لكن لا يوجد مسلمون، وعندنا يوجد مسلمون لكن لا يوجد إسلام!! عندنا إسلام لكن لا يوجد مسلمون، من هذه العبارات البراقة في ظاهرها، يقول لك: ماذا أحتاج منك غير خلقك؟ صلاتك شأنك، لا تريد أن تصلي لا تصلي، يا أخي تريد أن تعتقد ببوذا اعتقد به، لكن بالنهاية إذا عاملتني فلا تسرقني.
كل هذه الدعوات لم يأتِ بها في البداية رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء للعرب وقال لهم جئتكم بـ لا إله إلا الله، الحكم لله، العبادة لله، ثلاث عشرة سنة في مكة وهو يحارب من أجل لا إله إلا الله ما تخلى عنها صلى الله عليه وسلم، ما قال دعونا الآن نترك العقيدة لا إله إلا الله قليلاً ونتجه لنعلمكم الصدق والأمانة والتواضع والمحبة فحسب، أنا جئتكم بـ لا إله إلا الله ، ينبغي حتى تدخل في الدين أن تعلن أن المرجعية، أن الحكم، أن العبودية خالصة لوجه الله تعالى فقط، إذا علمت ذلك جاءت الأحكام الشرعية بعد ذلك متسلسلة: الطلاق والزواج والصدق والأمانة والأخلاق كلها على مرتبة عالية من الأهمية، لكن الأساس في البناء العقيدي، ثلاث عشرة سنة في مكة كان الأساس فيها إعلان العبودية الخالصة لله تعالى، يعني المرجعية، يعني بناء المرجعية، يعني لا أصنامكم مرجع ولا عاداتكم مرجع، وهم كانوا يقولون:

بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22)
(سورة الزخرف)

يريدون العادات أن تكون مرجعاً لهم، وكان بعضهم يذهب إلى أصنامه:

أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
(سورة الزمر)

نعتقد بوجود الإله، لكن الأصنام هي التي تقربنا، فكان عندهم الكثير من الأفكار الضالة المنحرفة، فجاءهم صلى الله عليه وسلم بفكرة تخالف كل معتقداتهم وكل موروثاتهم، وجاءهم بـ لا إله إلا الله، فمتى آمنوا بها، قال لهم:

{ قُولُوا : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ تُفْلِحُوا وَتَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ ، وَتَذِلَّ لَكُمُ الْعَجَمُ }

(شعيب الأرناؤوط وهو ضعيف)

أعطاهم البعد الذي يريدونه، الفوائد الدنيوية، وأعطاهم الأبعاد الأخروية العظيمة:

{ من قال : لا إلهَ إلَّا اللهُ صادقًا من قلبهِ ، دخل الجنَّةَ }

(ابن عبد البر)

لكن ما تنازل عن التوحيد، وهم كان جلُّ أمرهم أن يزيحوه عن هذا الأمر، تريد ملكاً نقاسمك، تريد زوجة نزوجك أجمل نسائنا، اطلب ما تشاء من الدنيا، لكن قضية أن تعبّدنا لله تعالى إذاً سنلغي الأصنام الذين تعلقنا بها، فالذين تعلقوا بها مصلحة سيفقدون دخلهم من وراء ذلك وهم أكثر الناس تعنتاً في وقتها، والذين تعنتوا بها آبائيّة أيضاً كانوا لا يُستهان بعددهم لأن الإنسان أسير العوائد التي تربى عليها، والذين تعنتوا وتمسكوا بها تقليداً أيضاً عددهم كبير بالعواطف، وهذه آلهتنا ودرجنا عليها، أتريدنا أن نترك ما كان يعبد آباؤنا!
إذا السور المكية: عقيدة لا إله إلا الله، كلها، كل السور المكية تبني لا إله إلا الله وكذلك المدنية، لكن المدنية فيها تفصيل، فيها أحكام، فيها افعل ولا تفعل، أما المكية فكلها لبناء لا إله إلا الله.
سورة الأنعام:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1)
(سورة الأنعام)

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ هذه الـ الجنس أي الحمد كله لله، يعني يوجد كلمة يستفاد من الـ الجنس وكأن القول الحمد كله لله، لا ينصرف إلا لله تعالى.
كلنا فُطرنا على أننا إذا تلقينا معروفاً أن نشكر الذي أعطانا، فلو جئت إلى بيتك فدخلت فوجدت المائدة قد مُلئت بالطعام، وأنت ما أتيت بالمواد الأولية، فعلمت أن هناك من طبخ لكم اليوم من الجيران، من الأهل، فقبل أن تمد يدك إلى طبق الطعام تسأل زوجتك من أين هذا الطعام؟ لأنك فُطرت أنك تريد أن تفتح الهاتف وتقول لمن صنع الطعام لك الشكر على ذلك، شكراً، يمتلئ قلبك بالامتنان له، القرآن الآن يوجهك إلى أين تصرف الحمد في مكانه.

السور التي بدأت بالحمد:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ خمس سور في كتاب الله تعالى فُتحت بالحمد لله:
الفاتحة: تحمده على نعمة الربوبية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
(سورة الفاتحة)

تشمل كل شيء رب العالمين، كل الحمد ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
الأنعام: تحمده على نعمة الكون المحسوس المادي: السماوات والأرض والظلمات والنور.
الكهف: تحمده على نعمة المنهج:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ (1)
(سورة الكهف)

والمنهج أهم من الخلق:

ٱلرَّحمَٰنُ (1) عَلَّمَ ٱلقُرءَانَ (2) خَلَقَ ٱلإِنسَٰنَ (3)
(سورة الرحمن)

هو خلق الإنسان ثم علمه القرآن، لكن تعليم القرآن أهم من الخلق، لو خلقه من غير أن يعلمه فلا فائدة من خلقه فقدم الأهم على المهم.
وسورة سبأ وسورة فاطر:

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
(سورة فاطر)

هذا فيه نوع من الغيب، كون لكن غير محسوس، غير مرئي لك لكنه موجود، الملائكة.
فهي خمس سور بدأت بـ الحمد لله، هذه تحمد الله تعالى على نعمة الخلق، خلق السماوات والأرض.

السماوات والأرض:
﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ لمّا جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وكان فيما بين الناس المجوس، الصابئة، وعندنا النصارى وعندنا المشركون.
المشركون: كانوا يعبدون الأصنام.
والنصارى: كانوا يؤلهون عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
والصابئة: كانوا يعبدون ما في السماء: الكواكب والنجوم والأجرام السماوية.
والمجوس: كان عندهم النار، فإله الخير عندهم النور، وإله الشر عندهم الظلام.
هنا يوجد تعريض لكل هذه العبادات المتهافتة ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ فما تعبدونه في السماء أو في الأرض أيها المشركون وأيها الصابئة، وما تعبدونه أيها المجوس من الظلمات والنور كله من خلق الله تعالى.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ غالباً ما يكون في القرآن السماوات بالجمع والأرض بالمفرد تعبيراً عن اتساع السماوات وما فيها لا يعلمه إلا الله، وعن ضيق الأرض، فما الأرض في السماوات إلا ذرة في صحراء، السماوات والأرض.
النور مفرد والظلمات جمع
﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أيضاً ظلمات تأتي بالجمع دائماً، لم يأتِ في القرآن ظلمة، ولم يأتِ في القرآن أنوار، دائماً النور مفرد والظلمات جمع، وفي هذه إشارة إلى أن طرق الضلال كثيرة بعدد ما في الأرض من ظلمات بينما طريق النور واحد:

وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
(سورة الأنعام)

وابتدأ بالظلمات ثم بالنور لأن الأصل هو الظلمة ثم أنار الله تعالى الكون بنوره جل جلاله.
﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ﴾ خلق وجعل: الخلق للذوات غالباً، الخلق في القرآن للذوات، والجعل للأعراض، الذات هو أنت، العَرَض: مثلاً أن الله تعالى جعل لك شعراً، خلقك ثم جعل لك شيئاً، فما يعرض للإنسان يسمى أعراضاً، والأصل هو الذات، فالله تعالى ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
(سورة الروم)

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
(سورة الأعراف)

فالخلق للذوات، والجعل للأعراض، فالجعل بعد الخلق، الخلق أولاً من عدم، ثم الجعل عرضٌ يعرض للذات الأصلية.

معنى العدل في الآية:
﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ ثم حرف عطف للترتيب على التراخي، إذا قلت: جاء أحمد فسعيد: يعني دخل أحمد ودخل سعيد بعده فوراً، وإذا قلت: جاء أحمد وسعيد: لمطلق الجمع، وإذا قلت دخل أحمد ثم سعيد: فكان هناك تأخر بين قدوم أحمد وسعيد، فـ ثم للترتيب على التراخي، هنا ليس المقصود التراخي الزمني، وإنما التراخي الرتبي، في المنزلة، يعني أين فعلهم مِن خلق السماوات والأرض؟ بَعُدَ كثيراً فعلهم عن خلق السماوات والأرض، هذا يسمونه التراخي الرتبي، المرتبة مبتعدة وليس الزمن ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني بعد كل هذا ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ بربهم متعلقة بـ يعدلون، ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعدلون بربهم، يعني يُسوُّون بربهم غيره، العدل هو المساواة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (95)
(سورة المائدة)

يعني ما يساويه من الصيام ﴿أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا﴾ فالعدل هو المساوي، ومنه العدل بين الناس، وهو الذي يحمل في بعض معانيه المساواة وإن كان العدل مرتبة فوق المساواة فليست كل مساواة عدلاً لكن العدل هو المساواة.
﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أي يعدلون بربهم غيره، بعد كل هذا الخلق العظيم والجعل العظيم للظلمات والنور تجد من الكافرين أنهم يسوون الله تعالى بغيره في العبادة، فيتجهون إلى أصنامهم كما يتجهون إلى خالقهم، أو يجعلون أصنامهم ندّاً لخالقهم.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ(2)
(سورة الأنعام)

الأصل هو الماء والتراب
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾ وورد من ماء، وورد من تراب، هذا الخلق الأول خلق آدم عليه السلام، نحن كلنا مخلوقون من نطفة من ماء مهين ولكننا في أصل الخلق لأننا تناسلنا من آدم فيصدق أن يقال إننا خُلقنا من طين لأن أبانا خُلق من طين، فالطين هو إضافة الطين إلى التراب، فهي مراحل خلقية، فمرة يقول من ماء ومن تراب ومن طين، فهي متكاملة وليست متناقضة هذه المراحل: صلصال، حمأ مسنون، كلها مراحل الخلق، الأصل الماء والتراب، طين، صلصال كالفخار، حمأ مسنون، فكله بالتتالي، خلق آدم عليه السلام، ونحن هنا أمام غيب لا نعلم منه إلا بمقدار ما يطلعنا الله تعالى عليه.
﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً﴾ أي تمم أجلاً، يعني كل إنسان له أجل، فالإنسان الذي يموت في 77 هذا أجله، والذي يموت في 60 هذا أجله ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً﴾
﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ هذا أجل البعث، الأجل الثاني، كل إنسان منا له أجلان: أجل ينتقل به من الحياة إلى البرزخ، وأجل ينتقل به من البرزخ إلى البعث، فهو أجل أول وأجل ثانٍ، فقال: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ الأجل الأول لا نعلمه لكن لمّا أغادر الحياة يعلمه الناس، فتقول له كم عاش والدك؟ فتقول له بالضبط 77 سنة و3 شهور و4 أيام وإن أردت يقول لك بالساعة والثانية لأنه عرف الأجل، هذا الأجل قد يكون مسمى عند بعض الناس بعد حصوله، فهو كان غيباً ثم نقله الله تعالى إلى الشهادة، أما الثاني قال: ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ هذا لن يعلمه أحد ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿مُسَمًّى﴾ أي له وقت معلوم سماه الله تعالى ﴿عِنْدَهُ﴾
﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ هذه ثم كـ ثم الماضية لبيان التراخي الرتبي بين هذا وذاك، فأين الثرى من الثريا! ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ﴾ بعد كل هذه البينات ﴿تَمْتَرُونَ﴾ ما زلتم تشكون في صدق هذه الرسالة.

آية في التوحيد:

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ(3)
(سورة الأنعام)

الله تعالى خالق المكان وخالق الزمان
هذه آية في التوحيد ليس المراد منها المكانية، فالله تعالى خالق المكان وخالق الزمان، فلا يُنسَب له مكان، لكن جل جلاله في السماوات وفي الأرض هو إله جل جلاله يعني حكمه لا يتخيل إنسان أن الله له حكم في السماء، أما في الأرض فالحكم لهذه الدولة القوية أو لتلك، فقال:
﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾ أي حكم الله تعالى نافذ في السماوات وفي الأرض.
﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ وقدم السر لأنه الأخفى، فالجهر معلوم يعلمه الناس، فمن باب أولى أن يعلمه خالق الناس، لكن السر لا يعلمه الناس إنما يعلمه رب الناس جل جلاله، والمؤمن إذا قرأ ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ أدّب نفسه على ألّا يُسرّ إلا ما فيه الخير، وإن كان الإنسان لا يحاسَب على سره، لكنه يؤدب نفسه أن تكون علانيته كسريرته.
﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ والكسب هنا: كل ما يقوله أو يفعله الإنسان، حتى القول كسب، والأولاد كسب: خير كسب الرجل ولده، فكل ما تكسبه من ولد أو زوجة أو قول أو عمل خير أو شر، فهو في علم الله تعالى.

آيات الله كثيرة:

وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
( سورة الأنعام )

الآيات كثيرة سواء ما يأتينا من آيات الكون التي تدل على وجود الله ووحدانيته وكماله، أو ما يأتينا من آيات القرآن، أو ما سيحدثنا الله تعالى عن آيات في أمم سابقة غابرة قد أهلكها الله، كلها آيات، أي علامات دالة على وجود الله.
﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ وأعرض الإنسان عن الشيء: أي أدار وجهه له ولم يعره اهتمامه، قال:

الإعراض والتكذيب بالحق:

فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(5)
(سورة الانعام)

هذه الفاء ذكرتها سابقاً، يسميها اللغويون: الفاء الفصيحة التي تخفي شيئاً قبلها وكأنها فصيحة تُفصِح عن شيء مخفي، فقال تعال: ﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ فبسبب هذا الإعراض قد كذبوا بالحق، يعني بإعراضهم وبسبب إعراضهم كذبوا بالحق.
مراحل ثلاثة أعرض، كذّب، استهزأ
﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ هي مراحل ثلاثة: أعرض، كذّب، استهزأ، قد يُعرِض الإنسان عن شيء دون أن يكذب به، يقول لك: أنا لا يعنيني هذا الأمر، وقد يعرض عنه إباء وتكذيباً، يعني أنا لا أقتنع بهذه الغيبيات أبداً، وقد يزيد على ذلك والعياذ بالله استهزاء، فيقول: ما هذا التخلف وتلك الرجعية، فهنا أعرض وكذب واستهزأ، وهذا ما فعله كفار قريش.
﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ النبأ هو الخبر العظيم الذي له أهمية، ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي في المستقبل، ما معنى الأنباء؟ يعني الله تعالى قال: من أطاع له الجنة ومن عصى فله النار، في الدنيا الكفار سيذيقهم الله تعالى الهوان في معاركهم مع المسلمين، وفي الآخرة هناك عقوبة، هم كذبوا بهذا الأمر سيأتيهم نبؤه، يعني سوف ينتقل من حالة الخبر الذي يمكن أن يكذَّب إلى حالة الشهود الذي لا يمكن أن يُكذَّب، فالإنسان إذا قلت له: إذا سرت من هذا المكان الأرض طريه ويوجد حفرة مخبأة ستسقط في الحفرة، فقال لك: اتركني وشأني أنت خائف وجبان واستهزأ بك ومضى، تقول سوف يأتيه نبأ ما كان به يستهزئ، بعد خمس خطوات سقط بالحفرة، تقول: صدقت؟ طبعاً صدق، انتهى، جاءه النبأ.
سيدنا نوح عليه السلام:

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
(سورة هود)

هي مسألة وقت، فلما صار الطوفان بلحظة واحدة أيقنوا أنّ ما سخروا به واستهزؤوا به كان حقاً لكن هم كانوا الجاهلين، لكن لم ينفعهم شيء بعد ذلك، انتهى الوقت، فات الأوان.
طالب دخل للامتحان وكان مستهزئاً والامتحان سهل وأنا فهيم جداً بالرياضيات، وأستطيع أن أجيب بدقائق، تفاجأ بصعوبة الأسئلة وهو غير محضّر، فما أجاب شيئاً انتهى الامتحان وسُحبت الورقة وأعطوه الإجابات مكتوبة أمسك الإجابات وعرفها، ولكن ورقة الامتحان سُحِبت، فأتاك نبأ ما كنت به تستهزئ لكن بعد فوات الأوان، ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.

العبرة من الأمم السابقة:

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ(6)
(سورة الأنعام )

القرن هو مئة سنة
وهذه رأى هنا إما أنها قلبية أو بصرية، قلبية: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ كفار قريش بعضهم ربما لم يغادر مكة أبداً، فما رأى أماكن مصارع عاد قوم هود، ولا ثمود قوم صالح، لكن تواترت الأنباء في ذلك الزمن أن كثيراً منهم في رحلة الشام والشتاء والصيف رأوا مصارع القوم وعادوا وأخبروا بها، فإذا أخذناها على محمل الرؤية الحقيقية فقد حصلت، أراهم الله الآيات وأبقاها شواهد، وإذا حملنا الأمر على الرؤية القلبية فيصح ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ بأبصارهم أو بقلوبهم بما وصلهم من الأنباء ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ أهلكناهم: أي أفنيناهم، ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾ القرن: هو الجيل، الآن نحن في الاصطلاح: القرن هو مئة سنة، لكن القرن هنا هو جيل، فنوح عليه السلام:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
(سورة العنكبوت)

هذه ال950 سنة هذه قرن، كلها تسمى قرناً، يعني جيل كامل.
﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ مكناهم: أي جعلنا لهم فيها مكاناً عزيزاً مرموقاً، صار لهم دولة، وصار لهم كيان، وصاروا يأمرون فيُطاعون، هذا يقال مُمَكَّن له، مُكِّن له، ونحن _المسلمين_ موعودون بالتمكين في الأرض إن أطعنا الله تعالى:

الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
(سورة الحج)

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
(سورة النور)

فنحن موعودون بالتمكين إن أطعنا الله تعالى، ومأمورون بالطاعة، لكننا لسنا مأمورين بالتمكين، لأن التمكين هو نتيجة، شيء لا نستطيع أن نفعله، نستطيع أن نفعل أسبابه، لذلك لا تجد في القرآن آية تقول: يا أيها الذين آمنوا مكّنوا لأنفسكم في الأرض، لا، أطيعوا الله هو يمكِّن لكم، أطيعوا الله، أقيموا شرعه، أنصفوا المظلوم، يُمكَّن لكم في الأرض، فاليوم المسلمون الذين يقولون: أين نحن وأين التمكين في الأرض؟ نقول له باختصار: أنت ما قدمت أسبابه، الأمة المسلمة منذ أكثر من مئة عام لم تقدم أسباب التمكين، والتمكين نتيجة، كأن يقول لك إنسان: لماذا لم يأتِني ولد حتى الآن؟ فنقول له: هل تزوجت؟ فيقول: لا، وكيف سيأتيك الولد وأنت لم تتزوج، أنت مأمور بالزواج فيأتيك الولد إن تزوجت، لكنك لا يمكن أن يأتيك الولد وأنت لم تتزوج، أتريد معجزة؟ هذه لم تحصل إلا مرة واحدة، فمريم عليها السلام حملت من غير أب، هذه معجزة، لكن أنت تحتاج إلى أن تتخذ السبب.
فقال: ﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ يعني أين تمكينكم من تمكينهم؟ كانوا أكثر منكم تمكيناً، قريش ما المُمكَّن لها في الأرض، لولا أن الله تعالى جعل الكعبة عندها لمَا كان لها شأن بين الأمم كلها.

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
(سورة العنكبوت)

لكن هؤلاء مُكِّن لهم في الأرض وأصبحوا ممالك عاد وثمود، فقال:
﴿مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً﴾ مبالغة في أن السماء تدر عليهم، هنا مجاز بمعنى السحاب يدر فأطلق على المكان وهو السماء ﴿مِدْرَاراً﴾
﴿وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ﴾ هذا كناية على وفرة المياه وجمال المكان، من تحتهم تجري، منابعها بعيدة وهي تجري من تحتهم.
﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ أي بسبب ذنوبهم، كانوا مُمَكَّنين، وكانت لهم سطوة، وكانت لهم قوة ولكن ذنوبهم حالت بينهم وبين استمرار هذا التمكين، فأهلكهم الله تعالى بسبب.. هذه باء السبب، بذنوبهم.
﴿وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ﴾ أي جيلاً آخر، وأنشأنا أي من العدم، الإنشاء من العدم.

المعجزة ليست شرطاً للهداية:

وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ(7)
(سورة الأنعام)

﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ﴾ معجزة ينزل كتاب من السماء، القرطاس: هو الصحيفة التي يُكتَب بها من ورق البَردة أو الرق يسمونه، يكتب بها هذا هو القرطاس، فلو نزل مكتوباً من السماء مباشرة.
اللمس يشترك به الجميع
﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ اللمس يشترك به الجميع، حتى الذي لا يبصر، في المصعد يضعون له إشارات، يضع باللمس يكتشف الطابق الثالث يضغط الزر، فجاء باللمس، ليس رأوه بأعينهم، لمسوه بأيديهم لأن اللمس يشترك به الجميع، وما قال فلمسوه إنما قال بأيديهم حتى لا يتوهم أن هذا اللمس مجاز، هناك ملامسة أحياناً مجاز، لمسته يعني بقلبي مثلاً، يعني شعرت به، لا، قال: ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ يعني وضع يده هكذا قرطاس من السماء الله أكبر، كلام مكتوب نزل من السماء مباشرة، معجزة كبيرة جداً، ما الجواب؟
﴿لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ الله يعلم طويتهم، ويعلم أن هناك موانع من المصالح والأموال تحول بينهم وبين الإيمان، فليست القضية في أن يأتي شيء معجز، القضية أنهم لا يريدون الإيمان بالغيب، فحتى لو جاءهم الشهادة فلن يؤمنوا، ثم يقول تعالى:

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
(سورة الأنعام)

محاولة جديدة للتهرب من الإيمان ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ من السماء، قال تعالى:
﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾ إنزال الملائكة لغير المهام التي أمر الله تعالى بها كنزول الوحي مثلاً، أو قبض أرواح الموتى هو كناية عن العذاب، فلو أن الله تعالى أنزل إليهم ملكاً كما يطلبون لقُضي الأمر بإهلاكهم وإفنائهم ﴿ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾ أي لا يمهلون، فلن يمهلهم الله تعالى بعد نزول الملك، فالله تعالى من رحمته أنه لا يُنزِل الملائكة لعلهم يصطلحون، لعلهم يعودون، لعلهم يرجعون، لأنه إذا نزلت الآية هذه ثم كذبوا بها واستكبروا فهذا علامة إهلاكهم بعد نزول الآية، لذلك لا ينبغي للإنسان أن يطلب معجزة، ينظر في نفسه فهو معجزة بذاته:

وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
(سورة الذاريات)

لا تطلب معجزة
هـل تـطلبون مـن المـختار معجزة يكفـــيه شعب من الأجداث أحياه
{ محمود غنيم }
معجزته القرآن، معجزته أنه أحيا شعباً كان في القبور فنقله إلى المجد والعلو بدين الله تعالى، فإياك أن تطلب معجزة، هؤلاء متأثرون بالشرائع السابقة، هم من جماعة:

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُّبِينًا (153)
(سورة النساء)

من جماعة:

قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ(113)
(سورة المائدة)

نريد مائدة من السماء،

قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (115)
(سورة المائدة)

إذا نزلت الآية بعدها هلاك وعذاب، ابقَ مع عالم الغيب والإيمان بالغيب، لا تطلب شهوداً فإنك لا تقوى عليه، لأن الذي يريد أن يؤمن فكلُّ شيء في الكون يدله على الله، والذي لا يريد أن يؤمن لن ينفعه ولو رأى المجرات وهي تسبح في الكون، ألا يوجد الآن في ناسا من يجلسون ويتواجهون مع عظمة الله وجهاً لوجه؟ ولم تنفعهم الآية، فهل سينفعهم نزول ملك؟ سيقولون ظواهر كونية عجيبة، وظواهر مدهشة، وأمور لا تُفسَّر في الكون ولن يفهموها على أنها معجزة أصلاً.
﴿ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾ أي ثم لا يُمهَلون، يؤخذون بالعذاب فوراً، فليس من مصلحتهم أصلاً أن ينزل الملك.
والحمد لله رب العالمين.