عاقبة العصاة والمكذبين

  • اللقاء الثاني من تفسير سورة الأنعام - شرح الآيات 9-18
  • 2022-10-29

عاقبة العصاة والمكذبين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.


لجوء الإنسان إلى طلبات تعجيزية عندما يريد أن يتخلى عن واجباته:
وبعد؛ مع الآية التاسعة من سورة الأنعام، ومع اللقاء الثاني من السورة، والآية التاسعة هي قوله تعالى:

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
[ سورة الأنعام ]

الآية التي قبلها، قال تعالى:

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
[ سورة الأنعام ]

أي لا يمهلون، الإنظار؛ هو الإمهال، قال تعالى:

وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
[ سورة البقرة ]

الإنظار هو الإمهال
أي أمهله إلى حالة اليسر، ولا تلجئه إلى أن يدفع زيادة في المال مقابل الأجل، هذا هو الربا (فَنَظِرَةٌ ) فالإنظار هو الإمهال، أنظره: أمهله.
فهؤلاء يطلبون أن ينزل ملك من السماء عليهم، لا يريدون رسولاً بشراً، يريدون رسولاً ملكاً، الإنسان عندما يريد أن يتخلى عن واجباته، أو أن يكذب بالمحكمات الواضحات البينات يلجأ إلى طلبات تعجيزية، هذا معروف في عالم الناس اليوم، إذا إنسان طالبته بشيء معين وهو لا يريد أن يعطيك إياه فيبدأ بالتعجيز، أحضر لي ورقة من دائرة كذا وكذا، وورقة من هنا، فتفهم أنه لا يريد أن يقوم بالأمر.
وقديماً قالت العرب: إذا أراد الرجل ألا يزوج ابنته رفع في مهرها.
فهم يريدون التعجيز، فمن ذلك أنهم (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) فكان الرد الأول من الله سبحانه وتعالى عليهم: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ) ليس من مصلحتكم ذلك، لأن الملك آية عظيمة من آيات الله عز وجل، فلو نزل ثم لم تؤمنوا لم يعد هناك مجال، مدة، مهلة (لَقُضِيَ الْأَمْرُ ) لأخذكم الله تعالى فوراً، فمن سنة الله تعالى أنه إذا أنزل الآية فليس هناك إمهال، الإمهال حتى تأخذ وقتك في الإيمان عندما يكون غيباً، أما عندما يصبح شهادة ثم لا يؤمن الإنسان فليس هناك وقت، لا يوجد إمهال، الله عز وجل يمهلنا جميعاً، يعطينا فرصة، الإنسان يتعثر، ويتوب، ويرجع، ويخطئ، ويصيب، فالله عز وجل يمد له في عمره، حتى يتحقق من الإيمان بالله عز وجل بالغيب، لكن من يطلب الآيات بالرؤية والمعاينة والمشاهدة فليس هناك مدة للإيمان، إما أن تؤمن فوراً، إذا لم يؤمن يؤخذ بالعذاب، فليس من مصلحتكم طلب المَلَك، هذا الجواب الأول.

بشرية الإنسان لا تتعامل إلا مع بشر:
قدرتك البشرية لا تتحمل رؤية المَلك
الآن الجواب الثاني؛ قال: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ) أنت أيها الإنسان بقدرتك التي خلقك الله تعالى عليها لا تستطيع أن تحيط بالملك، فالملائكة مخلوقات من صنف آخر غير صنف الإنسان، فلو أراد الله أن ينزل إليك ملكاً لجعله على هيئة رجل، لأن قدرتك البشرية لا تتحمل رؤية المَلك، ولأن بشريتك لا تستطيع أن تتعامل إلا مع بشر، فالنتيجة واحدة فلما بعث الله تعالى ملكاً لمريم عليها السلام قال:

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17)
[ سورة مريم ]

جعله على هيئة بشر، ولما أرسل ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل شديد البياض والثياب.

{ قال: بَيْنَما نحنُ جلوسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يومٍ، إذ طَلعَ عليْنا رجلٌ شَديدُ بياض الثِّياب، شديدُ سوادِ الشَّعر، لا يُرى عليه أثرُ السَّفَر، ولا يعرفُه مِنَّا أحدٌ }

[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ]

فلما انصرف قال: (فإنَّه جبريل أتاكم يُعلِّمُكم دينَكُمْ) لكن لما أرسل الله تعالى أرسله على هيئة بشر، ولما أرسل لإبراهيم الملائكة أيضاً جاؤوا على هيئة بشر، وما خاف منهم إلا لما رأى أيديهم لا تصل إلى الطعام
لكن هم دخلوا على شكل رجال، إذاً سنة الله تعالى لو نزل الملك فإنه سينزل على هيئة رجل، على هيئة بشر، لأنك لا تستطيع أصلاً أن تقتدي إلا ببشر، فلو نزل ملك وقال للناس: أنا ملك وأطبق أمر الله عز وجل، قال له الناس: نحن بشر لا نستطيع أن نطبق ولدينا شهوات، أما أنت فملك، تأتمر بما أمر الله، وتنتهي عما عنه نهى وزجر بدافع من الطينة التي جبلك الله عليها، فقال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[ سورة التحريم ]

أما نحن فبشر، يصيبنا ما يصيب البشر، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على بشريته فيقول كما في الصحيح:

{ إنما أنا بشر، أرضى كما يرْضى البشر، وأغْضَبُ كما يغضب البشر }

[أخرجه مسلم ]

وقال له الله تعالى في كتابه في أكثر من آية:

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
[ سورة الكهف ]

ميزتي الوحي، أما بشريتي فهي قائمة، ولولا أنه صلى الله عليه وسلم بشر تجري عليه كل خصائص البشر، لما كان سيد البشر.

استخدام العصاة المواربة والمماحكة من أجل الفرار من الإيمان:
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ) اللبس هو الخلط، ما الذي يلبس عليهم الآن ؟ هو بشرية النبي صلى الله عليه وسلم، يريدون ملكاً، فلو جاء ملك على هيئة رجل لقال قائلهم: هذا ليس ملكاً، هذا مثلنا، له يد، وله رجل، يأكل، ويشرب، فعاد الأمر إلى المربع الأول، هذا نقاش عقلي، عملية عقلية بحتة (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ) لاختلط الأمر من جديد، ولقال قائلهم: هذا ليس ملكاً الملائكة لا تكون كذلك، هذا على هيئتنا، فكيف تقولون: إنه ملك ؟! إذاً هم لا يملكون قراراً بالإيمان، وسيعودون للمواربة والمماحكة من أجل الفرار من الإيمان، لأنهم لا يملكون قراراً بالإيمان.

تذكير النبي بما جرى مع الرسل السابقة تسلية لقلبه:

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
[ سورة الأنعام ]

الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم
هذه اللام للقسم، وقد للتحقيق (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) وكأن الكلام كما استهزئ بك، وإلا لما كان من معنى لذكر من قبلك، إلا أنه استهزئ به صلى الله عليه وسلم، ولعله مما استهزئ به هو قولهم (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) هذا جزء من الاستهزاء، عندما تطلب معجزة وكل شيء واضح وبيّن، والأمور كلها تدعو للإيمان، ثم تقول: أريد معجزة ؟ فهذا من الاستهزاء.
قال: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ) وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإنسان عندما يجد من وقع بمثل ما وقع به ترتاح نفسه قليلاً.
هب أنك زرت مريضاً بمرض ما، فقلت له: إن شاء الله خير، والله أخي فلان تعرفه، قال: نعم، المرض نفسه، الحمد لله كما تراه، تيسرت أموره، والله عز وجل فرج عنه، فيسرى عنه عندما يجد من شاركه في المصيبة ذاتها، ثم أعزه الله، ورفع قدره.
فهؤلاء الذي مضوا من الرسل كُذبوا، واستهزئ بهم، لكن كانت لهم العاقبة، ففي هذا تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) حاق؛ بمعنى أحاط، يحيق، أحاط يحيط.

وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (43)
[ سورة فاطر ]

فحاق؛ أي أحاط (فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ) السخرية والاستهزاء بمعنى واحد، وإن كان الهزء قد يجاوز السخرية، ويقال للساخر ساخراً وبأنه يسخر من الآخرين لأنه كأنما يسخرهم لنفسه فيعبث بكرامتهم.

وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
[ سورة الجاثية]

الخروف مسخر للإنسان، فالإنسان هو الذي يتصرف بالخروف، وليس الخروف هو الذي يتصرف به، فأنت تذبحه، وتأكل لحمه، وتلبس جلده، وتذبح البقرة وتشرب لبنها، إلى آخره، فأنت ما سخر لك تتحكم به، فالساخر جعل الآخرين مسخرين لخدمته فعبث بكرامتهم، وسخر منهم، من هنا جاءت السخرية.

عذاب الدنيا ثم عذاب الآخرة عاقبة السخرية من الأنبياء والرسل:
(فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ما أكثر ما كان يستهزئ الناس بالرسل ؟ العاقبة، وقوع الوعد والوعيد، أكثر ما كان يجعلهم يستهزئون العاقبة.

وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
[ سورة ص]

هو يقول لهم: هناك يوم حساب، هناك نار، يستهزئون، نريد العذاب الآن، العذاب الذي تتكلم عنه الآن، نريده الآن، هزء، فأكثر ما استهزؤوا به هو المآل، العاقبة (فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) أي وقعت الواقعة، ونزل العذاب، العذاب الذي نزل بقوم لوط، بقوم عاد، بالأمم، وقريش كانت تذهب بتجارتها بين الشام واليمن، وتمر على مصارع الأقوام السابقة، وعندهم علم بالتاريخ، ويرون هذه الصور المتفرقة لأقوام عتوا عن أمر ربهم، وسخروا، واستهزؤوا، ثم وقع ما سخروا به الآن، وسيقع ما سخروا به يوم القيامة عذاب الدنيا ثم عذاب الآخرة.

النظر في عاقبة المكذبين الهدف منه نظر الاعتبار لا مجرد نظر العين:
قال:

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
[ سورة الأنعام ]

السير في الأرض ولم يرد في القرآن سيرٌ على الأرض، قد يقول قائل: إن الأصل أن يكون السير على الأرض لا فيها، لكن الله تعالى يقول دائماً: (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ) وفي آية: (ثُمَّ انْظُرُوا ) وفي آيات:

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
[ سورة آل عمران]

فالنظر قد يكون فوراً، وقد يكون النظر فيه تراخٍ، ثم للتراخي، التراخي الرتبي وكأن النظر يحتاج إلى وقت (ثُمَّ انْظُرُوا )، هناك آيات (فَانْظُروا) إذا كان الإنسان فالهدف من الرحلة العظة والاعتبار (فَانْظُروا )، وإذا كان ذهب بتجارة (ثُمَّ انْظُرُوا) فيكون الأساس في السير أنه ذاهب في رحلةٍ تجارية، لكن لا يمنع أن تضيف إليها العبرة والاتعاظ، أخذ العبرة والعظة.
الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس
فالمسير في الأرض، لماذا قال (فِي الْأَرْضِ) ؟ من اللطائف العلمية في هذا المجال أن الهواء جزء من الأرض، لأن هناك جاذبية، فالأرض تدور حول نفسها وحول الشمس هي وما حولها من الغلاف، فإذا كانت الأرض والهواء الذي عليها شيء واحد يتحرك معاً فإذا سار الإنسان على التراب فهو يسير في الأرض لا عليها، لأنه ضمن الهواء، لأنه أصلاً لا يستطيع أن يعيش بلا هواء، الإنسان يمكن أن يعيش بلا ماء ثلاثة أيام مثلاً، وبلا طعام يمكن لأسبوع، أما بلا هواء فدقيقة، دقيقتان ثم يموت، فالهواء جزء من الأرض، فأنت لما تسير على التراب أنت تسير في الأرض لا عليها، لأنك داخل الغلاف الجوي.
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) وهذا النظر يقصد به نظر الاعتبار، لا مجرد نظر العين، وإلا فكل الناس ينظرون، لكن النظر المقصود هنا هو نظر الاعتبار (ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) والسؤال هنا عن الكيف، النظر هنا في الكيف، كيف أهلك الله هؤلاء ؟ وكيف أهلك هؤلاء ؟ وكيف أهلك هؤلاء ؟ وكيف كانت عاقبتهم ؟ والمكذبين هنا بمقابل المستهزئين، وكأنهما صفتان لهؤلاء، يستهزئون ويكذبون.

ملك الإنسان ناقص بينما ملك الله تام:

قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
[ سورة الأنعام ]

(قُلْ ) يا محمد صلى الله عليه وسلم (لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الملك (لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ) لا تنتظرهم ليجيبوا، أجبهم أنت، في آيات أخرى:

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
[ سورة المؤمنون ]

(سَيَقُولُونَ ) أي يقرر لهم الجواب الذي لا يمكن أن ينكره أي إنسان، أن الملك لله عز وجل، لكن هنا لا يمهلهم ليجيبوا، وإنما يقرر لهم الحقيقة، وكأنه - ولله المثل الأعلى - أن يسأل الأب ابناً سؤالاً: لماذا لم تدرس ؟ ثم يقول له: لأنك شغلت وقتك كله وراء الجوال، فلا ينتظره ليجيب، وإنما يعطيه الجواب الذي تقرر في نفسه لما سأله فوراً، ولكنه لم ينطق به خجلاً فجاءه الجواب.
(قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ) كل ما في السماوات والأرض هو ملكٌ لله، فالله تعالى هو المالك الحقيقي جلّ جلاله، يملك الأشياء كلها، وقد أسلفنا في ذلك خلقاً، وتصرفاً، ومصيراً، فهو خلقها، وهو يتصرف بها كيف يشاء، وستعود إليه فهو الوارث جل جلاله، أما ملك الآدميين فملك ناقص، فهم ربما ملكوا الأشياء فتصرفوا بها تصرفاً محدوداً لكنهم لم ينشئوها، وربما تصرفوا بها تصرفاً واسعاً نوعاً ما، لكن لا يملك إنسان أن يبقى هذا الشيء ملكاً له لثانية واحدة، فيمكن أن يتحول إلى الورثة إذا توقفت نبضات القلب، فيصبح ليس ملكاً له، إذاً ملك الإنسان ناقص بينما ملك الله تام.

الرحمة هي الأصل في تعامل الله تعالى مع عباده:
قال تعالى: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) جلّ جلاله كتب؛ من الكتابة، الله تعالى ليس بحاجة أن يكتب، لكنه جلّ جلاله تماشياً مع حاجة الناس البشرية، فإذا أقرضت إنساناً مالاً قلت له: رجاء اكتب لي.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ (282)
[ سورة البقرة]

الأصل في تعامل الله مع عباده هو الرحمة
فتقول له: اكتب لي، لأنك تشعر أن الكتابة فيها توثيق، فالله تعالى يطمئنك أنه (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ألزم ذاته العلية وهو الغني عن عباده بأن يرحمهم، الرحمة هنا ليس (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) بأن يكون رحيماً، لأنه الرحيم جلّ جلاله، فليست هنا صفة ذات إنما صفة فعل المقصود، أي كتب على نفسه أن يرحمك، لذلك في الصحيحين:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما قَضَى اللهُ الخَلْقَ، وعند مسلم: لمَا خَلَقَ اللهُ الخَلقَ كتب في كتابه، فهو عنده فوقَ العرش: إِن رحمَتي سَبقَتْ غضبي }

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ]

فالأصل في تعامل الله تعالى مع عباده هو الرحمة، ونحن في كل صلاة نقرأ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
[ سورة الفاتحة]

فعلاقته بعباده جل جلاله بناها على الرحمة، وأنزل:

{ عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل خلق مائة رحمة، فرحمة بين خلقه يتراحمون بها، وادخر لأوليائه تسعة وتسعين }

[ أخرجه الطبراني ]

رحمةً إلى يوم القيامة جلّ جلاله.

جمع الناس يوم القيامة شيء ثابت لا شك فيه:
(كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ) هذه اللام للقسم، والنون للتوكيد (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) بأشد أنواع التوكيد (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك فيه ، ليست القضية أننا سنُبعث أو لن نُبعث، كما قال الشاعر:
زعم المنجم والطبيب كلاهما لن تبعث الأموات قلــــــــت إليكما إن صح قولكما فلست بخاسرٍ أو صح قولي فالخسار عليكما
{ أبو العلاء المعري }
لا ليست القضية هكذا (لَا رَيْبَ فِيهِ) (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) الاجتماع قائم قائم، أقررت به أو لم تقر، أنكرته أم أثبته، (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) لام القسم ونون التوكيد (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ثم أكد(لَا رَيْبَ فِيهِ) أي ثلاثة مؤكدات، لام القسم، ونون التوكيد الثقيلة و(لَا رَيْبَ فِيهِ) تأكيد أكثر (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ).

أعظم خسارة أن يخسر الإنسان نفسه:
لا تتحقق الغاية إلا بعد تحقق الوسيلة
(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) نحن عندنا غاية، وعندنا وسيلة، والوسيلة تسبق الغاية، تدرس فتنجح، تسبقها في الفعل، لا يوجد إنسان نجح قبل أن يدرس، لا تتحقق الغاية إلا بعد تحقق الوسيلة، لكن في التصور الغاية تسبق الوسيلة، فما يدرس طالب إلا لأنه وضع أمامه ونصب عينيه النجاح.
مرة حضرت مقابلة لطالب حاز الدرجة الأولى في امتحان الثانوية العامة، فسأله المذيع سؤالاً قال: أنت أخذت الأول على القطر، فما سر ذلك ؟ فأجاب إجابة رائعة طالب ذكي جداً، قال: لأن لحظة الامتحان لم تغادر ذهني لثانية واحدة.
فالغاية تسبق الوسيلة في التصور، لكن بالفعل الوسيلة قبل الغاية، يدرس فينجح، لكن الذي لا يضع الغاية أمامه لا يسير بالوسيلة، فهنا قدم الله تعالى الغاية على الوسيلة (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) هم لماذا خسروا أنفسهم ؟ لأنهم لم يؤمنوا، فما قال تعالى: الذين لم يؤمنوا فخسروا أنفسهم، وإنما جاء بما حصل معهم بالمحصلة لأنه هو الأساس، ثم جاء بالوسيلة التي منعتهم من تحقيق الربح (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)، (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) ما كان خسرانهم إلا بسبب بعدهم عن الإيمان، وأعظم خسارة أن يخسر الإنسان نفسه، تخيل أن يخسر الإنسان ماله، كم الخسارة مرعبة ومزعجة ؟! رأس ماله، الإنسان يقول لك: لم يبقَ معي مال، مشكلة، لكن أن يخسر نفسه التي أهلها الله تعالى للجنة فيصل لله عز وجل وهو خالي الوفاض، هذه أعظم خسارة (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).

كل شيء في الكون لله ولا أحد يشاركه فيه:

وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
[ سورة الأنعام ]

الحصر والقصر في اللغة العربية
(وَلَهُ مَا سَكَنَ) لو قال: ما سكن له، لاحتمل أن يكون لغيره معه، لكن من أساليب الحصر في اللغة العربية والقصر أن يقدم الخبر شبه الجملة على المبتدأ، فقدم الجار والمجرور (وَلَهُ مَا سَكَنَ) فتقول أنت: لي كل هذا الطعام، أي لا يشاركني به أحد، أما لو قلت: هذا الطعام لي، لربما تقصد أن تسعين بالمئة منه لك، وأن غيرك يشاركك به، فالتقديم يفيد الحصر، فقال: (وَلَهُ مَا سَكَنَ) أي له وحده، وليس أحد يشاركه في الملك.
الآن الكلام طبعاً فيه عطف، وله: يعطف على ما قبله، ما قبله (قُلْ لِلَّهِ) (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لكن الآن من باب العطف الخاص على العام، أي أشياء خاصة.
كأن يقول إنسان: أنا هذا البناء كله لي، ثم يقول: لعل من يتوهم أن مكان اصطفاف السيارات – الكراج - ليس لي، فيقول: ولي الكراج والمستودعات التي في أسفل البناء، لأنه قد يقول قائل: لعله اشترى البناء ولم يشترِ مصفات السيارات مثلاً، فيعطف الخاص على العام بأشياء دقيقة قد لا ينتبه أنها من ضمن الملك.
فجل جلاله قال: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) السكون يأتي بعد الحركة، كل ساكن يوصف بالحركة إذاً، لأنه ما سكن إلا لأنه تحرك، والسكون دائماً علامة، من لوازم السكون الخفاء، ومن لوازم الحركة الظهور، السكون ضد الحركة، ومن لوازمه الخفاء، فالشيء الساكن لا ينتبه له، شيء متحرك تقول: أسمع صوتاً، الحركة تؤدي إلى صوت، أو إلى حركة أمام العين تلفت الأنظار، فالشيء الساكن قد لا ينتبه له، فبيّن جل جلاله أنه حتى الساكنات، الخفيات التي لا يُنتبه لها فهي له جلّ جلاله، وبدأ بالليل، لأن الليل السكون فيه أشد، ولكيلا يتوهم متوهم أن الأمر محصور في ليل فقد يسكن في نهار، فلا يكون لله قال: (وَالنَّهَارِ)، لأنه لو قال (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ) لقال قائل: وما سكن في النهار لمن ؟ فقال: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) جل جلاله.

الله تعالى سميع عليم بكل شيء:
(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) سميع سمعاً ليس كسمعنا، بصير بصراً ليس كبصرنا، لا يسأل عن كيف، كما قلنا قبل اللقاء، السميع على وزن فعيل، البصير على وزن فعيل، أي عظيم السمع، عظيم العلم جلّ جلاله، هناك سامع وسميع، عالم وعليم، الله تعالى لا يوصف بأنه سامع أبداً، يوصف بأنه سميع، عليم، وهناك:

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
[ سورة الأنعام ]

جاءت بصيغة من غير مبالغة، لكن الاسم المفرد عليم وليس عالماً (الْعَلِيمُ) فهي صيغة مبالغة، أي شديد العلم، شديد السمع، فسمعه يحيط بكل شيء، يسمع جل جلاله، لكن:

فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
[ سورة الشورى ]

جل جلاله، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

لله ما في السماوات وما في الأرض فلا يليق بالإنسان أن يتخذ ولياً غيره:

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
[ سورة الأنعام ]

الولي هو الناصر
(قُلْ) أيها الرسول صلى الله عليه وسلم (أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً) هذا الكلام مترتب على ما قبله، فإذا كان الله تعالى له ما في السماوات وما في الأرض، (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) وإذا كان يسمع كل شيء، ويعلم كل شيء، بهذه الصفات جل جلاله فهل يليق بك أن تتخذ ولياً غيره؟ أو هل يعقل أن تتخذ ولياً غيره ؟ الولي؛ هو الناصر، الذي يواليك فينصرك إذا احتجت شيئاً، إذاً هنا التوجه، ما سبق كله من الربوبية، الملك له جل جلاله وحده، حتى المشركون:

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
[ سورة العنكبوت ]

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
[ سورة الزمر ]

فهم يقرون، ما سبق يقر به المشركون، المشركون ما تجرؤوا على ما يقول اليوم بعض الملحدين الذين يسمون أنفسهم مثقفين، مشركو العرب ما تجرؤوا على هذا الكلام، هم مقرون بأن الله عز وجل خلقنا، وهو الذي يطعمنا، وهو الذي يسقينا، لكن كانت عندهم مشكلة في الفرع الثاني في التوحيد وهو الألوهية، التوجه إلى الله، فكانوا يتوجهون إلى أصنامهم لتقربهم:

أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
[ سورة الزمر ]

فعندهم مشكلة في الخط الراجع، وليس في النازل، مقرون بكل شيء من الله، لكنهم لا يعترفون بأنه يستحق العبادة فيعبدون أصنامهم، بعض الملحدين اليوم سبقوا كفار قريش والعياذ بالله سبقوا أبا جهل، أبو جهل الآن إذا رآهم يقرع عليهم بنعاله، لا يقبل منهم ذلك، لأنه غير مقبول منطقاً، ولا عقلاً، أي لا تستسيغه النفوس أصلاً.
(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ) هذا استفهام، هذه همزة الإنكار، أي لا أنكر ذلك، معاذ الله أن (أَتَّخِذُ) غيره (وَلِيّاً) ما دمنا نقر جميعاً بأن له كل شيء، فكيف أتخذ غيره ولياً ؟

خلق الله تعالى كل شيء من العدم فهو فاطر كل شيء:
(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) رجعنا إلى الأول، الفاطر؛ من الفطر وهو الشق، وهو فطر بمعنى خلق على غير مثال سابق.
وقد ذكرت لكم قبلاً أن ابن عباس رضي عنه قال: ما فهمت معنى فاطر إلا عندما اختصم لديّ أعرابيانً، فقال أحدهما: أنا لي البئر، وقال الآخر: بل لي البئر، فقال الأول منهما: أنا فطرتها، أي أنا شققتها، وأنشأتها، ولم تكن موجودة سابقاً.
الفطر هو الإنشاء على غير مثال سابق
فالفطر هو الإنشاء على غير مثال سابق، فالله تعالى فاطر جل جلاله، خلق فأبدع على غير مثال سابق، الطيارة ليست فطراً لأنها على مثال سابق وهو الطائر، الإنسان كيف أُلهم صناعة الطائرة ؟ من رؤية الطائر يطير بجناحيه في الهواء، فصنع طائرة لها جناحان، ثم إن الطائرة هي مجموعة أشياء موجودة، الحديد من الأرض مستخرج، والبلاستيك، والكهرباء، كل شيء مستخرج من الأرض، لذلك كنت أقول دائماً: ما يصنعه البشر ليس من الصواب تسميته اختراعاً، وإنما هو اكتشاف، أي كأن هناك شيئاً كان مغطى فاكتشفه الإنسان، كشف عنه ورآه، وإنما هو موجود، لا يوجد شيء البشر اخترعوه، بمعنى أوجدوه من العدم وإلا لأصبحوا خالقين، لذلك:

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
[ سورة المؤمنون ]

لأنه يخلق من عدم جلّ جلاله، فالفطر هو الإنشاء على غير مثال سابق.

الله تعالى يحتاجه كل شيء في كل شيء وهو مستغنٍ عن كل شيء:
(فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) هذا تعريض بآلهتهم، فقد كانوا يذهبون إلى آلهتهم ويأخذون لها بعض الطعام، ثم يخرج سدنة المعابد ويأكلون هذا الطعام، وحتى اليوم في بعض بلاد شرق آسيا ينزل طبيب في منتهى العلم والخبرة ويضع لإلهه تفاحة، أو شيئاً قبل أن يذهب، أين عقولهم ؟
فقال: (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) هو الذي يطعمك جل جلاله، بمعنى أنه يهيئ لك أسباب الطعام، ثم يهيئ لك الأدوات، أنت إذا أردت أن تأكل تحتاج إلى طعام، وتحتاج إلى أن تحرك يديك لتأكل، وتحتاج أن تمضغ، وتحتاج معدة، وتحتاج امتصاصاً، وأمعاء، ثم تحتاج تفريغه، فمن الذين يطعم إذاً ؟ هو الله تعالى، (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) لا أحد يطعمه جل جلاله لأنه ليس بحاجة إلى أحد ولا إلى طعام أصلاً، هذا معنى الصمد جل جلاله، يحتاجه كل شيء في كل شيء، وهو مستغنٍ عن كل شيء، تصمد إليه المخلوقات جميعها.

وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
[ سورة الإخلاص ]

(وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) وهذا الفعل بني للمفعول لما لم يسمَّ فاعله، وقد قلت أيضاً قبلاً: إنه في القرآن تحديداً، وحتى في اللغة ليس من الصحيح أن نقول: فعل مبني للمجهول، لأننا إذا قلنا: أُمرت مبنياً للمجهول فكأنه حاشاه جل جلاله مجهول، وهو معلوم، فمن الذي أمره ؟ الله جل جلاله، هذا الفعل مبني لما لم يسمَ فاعله، لماذا لم يسمَّ فاعله ؟ لشدة العلم به، ليس لشدة الجهل به، بل لشدة العلم به.

رسول الله هو أعظم من أسلم أمره لله واستسلم وانقاد لطاعته سبحانه:
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ) من قبل الله تعالى (أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) إذا قلنا الإسلام هنا بمعنى الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم فرسول الله أول من أسلم، أول مسلم في الأرض بمعنى الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قال قائل: لكن هناك قبلاً مسلمين، سيدنا إبراهيم:

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
[ سورة آل عمران ]

بل إن كل الرسل إذا نظرت في القرآن الكريم تجد أنهم كانوا مسلمين لله، فكيف هو أول من أسلم؟ كما قلنا، إما أنه شريعة الإسلام، أما إذا قلنا بمعنى أول من أسلم أي استسلم لله عز وجل، فالأولية هنا ليست أولية زمنية، وإنما أولية قوة، فيقال: فلان أول شخص في جراحة القلب، يقول له واحد: لا، قبله يوجد كثير تخصص بالقلب، يقول له: أول طبيب في جراحة القلب بقوته ومكانته العلمية، فالأولية إما أن تكون أولية زمانية، فهي هنا بمعنى الأولية في شريعة الإسلام، وأنا أرجح المعنى الثاني وهو أول من أسلم هنا بمعنى أعظم من أسلم أمره لله، واستسلم، وانقاد لطاعة الله هو رسول الله على الإطلاق، ما سبقه أي نبي من أولي العزم، ولا من غير أولي العزم، فهو سيد ولد آدم، فهو أول من أسلم صلى الله عليه وسلم بمعنى أكثر الناس وأشدهم استسلاماً وانقياداً للشريعة، ولمنهج الله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

أعظم فوز مبين واضح يفوزه الإنسان أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة:

قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
[ سورة الأنعام ]

العظيم يصف اليوم بأنه عظيم
هنا الكلام مخيف جداً إذا كان رسول الله يؤمر أن يقول: (إِنِّي أَخَافُ) فمن نحن حتى لا نخاف من المعصية؟ (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) اليوم عظيم جداً، يصفه الله تعالى بأنه عظيم، العظيم يصف اليوم بأنه عظيم، فما عساه يكون!
اليوم إذا قال لك طفل: أنا أملك مبلغاً عظيماً، فتقول لعل في جيبه مئة دينار، فإذا قال لك أكبر رئيس دولة في العالم: أعددنا لهذه الحرب مبلغاً عظيماً، فإنك تقدرها بمئة مليار، الكلمة نفسها، فإذا قال الله تعالى جل جلاله عن هذا اليوم بأنه يوم عظيم فما عساه أن يكون هذا الموقف ؟ (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
[ سورة الأنعام ]

(مَنْ يُصْرَفْ) أي من يصرف عنه العذاب (يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) أي فقد رحمه الله (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ).

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
[ سورة آل عمران ]

فأعظم فوز مبين، واضح، بيّن، جلي يفوزه الإنسان أن يزحزح عن النار، وأن يدخل الجنة.

قدرة الله متعلقة بكل الممكنات فلا شيء يعجز عنه جلّ جلاله:

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
[ سورة الأنعام ]

المس أصله اللمس برفق، باليد، أن يمس شيء شيئاً، ويتعدى بالباء لأنه يحتاج إلى آلة، يقول: مسست بيدي، يحتاج إلى آلة، الآلة هي اليد، مسست بيدي، وقد يستعار للأمور المعنوية هنا كقوله تعالى هنا: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ) أي وإن ينالك الله، لكن كني عنه بالمس لأنه يشبهه من ناحية أنه يصل إلى الإنسان بآلة معينة، بسبب معين، والمس فيه لطف، ما قال: وإن يأتك الضر العظيم (وَإِنْ يَمْسَسْكَ) وكأن الضر ليس مقصوداً بذاته وإنما هو تنبيه من الله تعالى لك، ابتلاء لرفع درجتك، فهو ليس مقصوداً لذاته (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هناك قال: بضر، هنا ما قال: بنفع، قال: (بِخَيْرٍ) هذا يسمى في اللغة العربية الاحتباك، ما معنى الاحتباك ؟ آتي بصفة هنا، وصفة مغايرة هنا، فأفهم ضد هذه هنا، وضد هذه هنا.
أوضح من هذه:

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
[ سورة آل عمران ]

معنى ذلك التي تقاتل في سبيل الله مؤمنة، والكافرة تقاتل في سبيل الشيطان، فالصفتان فهمت منهما أربع، هذا اسمه الاحتباك، أسلوب بلاغي بديع.
هنا: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) إذاً الضر هو الشر، والخير هو النفع (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي قدرته جل جلاله متعلقة بكل الممكنات، فلا شيء يعجز عنه جل جلاله.

الله جلّ جلاله حكيم خبير:
كل هذه الآيات كما تلاحظون آيات مكية، تقرر حقيقة التوحيد في النفوس، تربي الناس على التوحيد، من هو إلهنا جل جلاله الذي نعبده ؟ لماذا نتوجه إليه وحده ؟

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
[ سورة الأنعام ]

سبحان من قهر عباده بالموت
القاهر؛ الذي لا يغلب، ولا يفلت من قبضته أحد من المقهورين، قهرنا جل جلاله بكل شيء، إذا أردت أن تأكل فأنت مغلوب، لا تستطيع أن تأكل إلا بأمره، وإذا أردت أن تخرج ما أكلت فبأمره، والموت قهر، سبحان من قهر عباده بالموت، فلا تعلم متى يأتي، وسيولة الدم في شرايينك قهر، فإذا ضاق الشريان تحولت الحياة إلى جحيم لا تطاق، وإذا تخثرت نقطة من الدم تكاد لا ترى بالعين أيضاً جلطة والحالة في المشفى، فهو القاهر جل جلاله، كلنا مقهورون، كلنا عبيد قهر، المؤمن وغير المؤمن (فَوْقَ عِبَادِهِ) المؤمنين وغير المؤمنين (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) هذه ليست من الآيات المتشابهات بمعنى أنه أيضاً نسأل فوق، كيف فوقهم ؟ أي فوق، أين ؟ لا أبداً، الفوقية هنا واضحة (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) العلو الرتبي عليهم، فقهره محيط بهم من كل جانب، فهو فوقهم لأنه جل جلاله المتحكم بشؤونهم، والمتصرف برزقهم، وبصحتهم، وبعافيتهم، وبأجسادهم، وبكليتهم، وبكبدهم (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) لما قال: وهو القاهر هذا أسلوب آخر من أساليب الحصر، التقديم والتأخير حصر.

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
[ سورة الفاتحة ]

من أساليب الحصر النفي، وإلا، لا إله إلا الله حصر، ما جاء إلا محمد حصر، واحد الذي جاء فقط، هذان أسلوبان.
الثالث: (وَهُوَ الْقَاهِرُ) هو معرفة، والقاهر معرفة، ما قال: وهو قاهر، قال: (وَهُوَ الْقَاهِرُ) فكلاهما معرفة، فعندما يأتي المبتدأ معرفة، والخبر معرفة أيضاً هذا أسلوب من أساليب الحصر في اللغة العربية، كقوله صلى الله عليه وسلم:

{ الحجُّ عرفةُ، منْ جاءَ ليْلَة جمعٍ قبلَ طُلوع الفجر فقد أدْرَكَ الحجَّ، أيَّامُ مِنّى : ثَلاثَةُ، فمن تَعَجَّل في يَوْمَينِ فَلاَ إثْمَ عليه، ومَنْ تَأخّرَ فلا إثمَ عليه }

[أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ]

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: الدِّينُ النصيحة }

[ أخرجه الترمذي ]

(وَهُوَ الْقَاهِرُ) أي لا قاهر إلا هو جل جلاله (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) الحكيم جل جلاله يتصرف بالحكمة، ووفق الحكمة، وكل أفعاله حكمة، وكل شريعته حكمة، والحكيم يضع الأشياء في مواضعها، في الوقت المناسب، وفي الزمان المناسب، ولا حكيم إلا الله جل جلاله، وهو الخبير جل جلاله، والخبرة من العلم، لكنها أدق من العلم، فالخبير يعلم بواطن الأمور وظواهرها وبواعثها ونياتها، ويعلم كل شيء عنها فهو جل جلاله حكيم، خبير.
والحمد لله رب العالمين