كل شيء في الكون يدلنا على الله عز وجل

  • اللقاء الثالث من تفسير سورة الأنعام - شرح الآيات 19-25
  • 2022-11-19

كل شيء في الكون يدلنا على الله عز وجل

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.

أسلوب تعليمي استعمله القرآن الكريم:
وبعد: فمع اللقاء الثالث من لقاءات سورة الأنعام، ومع الآية التاسعة عشرة وهي قوله تعالى:

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
[ سورة الأنعام ]

هذه الآية فيها سؤالان وجوابان؛ يقرر القرآن السؤال، ويقرر الجواب، لأنه لا جواب غيره، أحياناً السؤال يحتمل عدة أجوبة، فتسأل وتنتظر الجواب، تقول: أين فلان؟ في البيت في المدرسة، في الجامع، في السوق، في الجامعة، تنتظر جواباً لأن السؤال يحتمل عدة أجوبة، لكن عندما يكون السؤال لا يحتمل إلا جواباً واحداً فإنك تسأل وتجيب، فلماذا السؤال إذاً؟ هو للاستنكار ثم لإقرار الجواب، أي يكون السؤال للإنكار على من يجيب بجواب غيره ثم لتقر الجواب الصحيح، لأن أسلوب السؤال والجواب يجعل هناك تفاعلاً بين المتلقي وبين من يلقي عليه المعلومة، فلو أنك معلم صف ودخلت، وأردت أن تعطي الطلاب درساً في كان وأخواتها على سبيل المثال، فإنه من المناسب أن تسأل، أن تبدأ الدرس بسؤال، ما أخوات كان؟ ما عمل كان؟ على أي جملة تدخل كان؟ ثم تبدأ بالإجابة، تقول: أخوات كان هي أصبح، وصار، وليس، وأمسى، مازال، مافتئ، مابرح، ماانفك، إلى آخره، ثم تقول: أما عملها فهو كذا وكذا، وأما دخولها فيكون على الجملة الاسمية وليس الفعلية.
أسلوب السؤال والجواب هو أسلوب تعليمي
فأسلوب السؤال والجواب هو أسلوب تعليمي، فالقرآن الكريم هنا يعطي هذا الأسلوب (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً) فتلتفت النفوس، والجواب واحد، لذلك لا تنتظر منهم إجابة، طبعاً (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً) هنا يخاطب نبيه، قل يا محمد صلى الله عليه وسلم (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً) الشهادة أن هناك تنازعاً، عندما يكون هناك تنازع بين فرقين، بين رجلين في مسألة ما، بين نبي وقومه كما هنا الحال، طبعاً بين نبي ومن لم يستجب لدعوته من قومه، عندما يكون هناك تنازع يكون هناك قضية والقضية تحتاج إلى بينات، وتحتاج إلى حكم نهائي، والشهود من صلب القضية، أن يكون هناك شهود يشهدون على ما رأوا، على ما سمعوا، إلى آخره.
فهنا لا بد من شهادة إذاً هناك تنازع، هم لا يؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فهل تريدون أكبر شيء يشهد في هذه المسألة؟ والشهادة من الشهود، من المشاهدة بالعين، لذلك نحن نقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وكأننا نرى ذلك بأم أعيننا، لذلك قالوا: على مثل قرص الشمس فاشهد أو فدع، أي الشمس في رابعة النهار هل يختلف اثنان عليها؟ لا يختلف، أما إذا كان هناك مسألة؛ سمعت، قالوا، لا تشهد، اشهد على الأشياء الواضحة وكأنك تراها، لذلك من الشهود، نحن عندما نقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله فهذه حقيقة نعيشها، نشهدها، وكأننا نراها بأم أعيننا.

الله عز وجل هو أعظم شاهد:
هنا (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أعظم شاهد هو الله جل جلاله، أعظم شهيد، من أسمائه الشهيد جلّ جلاله لأنه يشهد على خلقه.

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
[ سورة آل عمران]

شهد الله، فإذا شهد الله على شيء فمن ينكره؟ من ذا الذي يستطيع أن ينكر شيئاً شهد عليه الخالق؟

إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
[ سورة فاطر]

(قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أتريدون أعظم من ذلك؟ وهؤلاء المشركون لم يكونوا ينكرون وجود الله، فالشهيد هو مرجعية بالنسبة للطرفين وليس لطرف واحد، لكن الفرق أنهم يشهدون بوجوده، لكن لا يشهدون بوحدانيته، بينما رسول الله وأتباعه يشهدون بالوجود والوحدانية، فالخلاف حول الوحدانية ، لذلك قالوا:

أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
[ سورة الزمر]

فهم يشهدون بوجوده، فالشهيد هنا مقر فيه من الطرفين (قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).

كل من بلغه القرآن الكريم هو منذر به:
(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) القرآن، الوحي بداية هو الإعلام بخفاء، أوحى إليّ بالأمر.

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً (11)
[ سورة مريم]

أي أعلمهم بطريقة غير مباشرة، لأنه كان لا يكلم الناس:

فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً (26)
[ سورة مريم ]

(فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً) فالوحي هو الإعلام بخفاء.

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
[ سورة النحل ]

الوحي غريزة، كيف أعلمها؟ والله لا ندري، لكن هي تبني بيوتها بأحسن ما يمكن أن يبنى به البيت، فهذا الوحي.
الوحي بالاصطلاح هو ما يتنزل على قلب الرسول ليبلغه للناس بواسطة جبريل الأمين، الروح الأمين.

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
[ سورة الشعراء ]

النبي صلى الله عليه وسلم بشير ونذير
(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) أي بالقرآن، ولماذا لم يقل: لأبشركم به، والقرآن فيه بشارة، وفيه نذارة، والنبي صلى الله عليه وسلم بشير ونذير، هنا اكتفى بالحديث عن الإنذار لمناسبة المقام، لكل مقام مقال، وهنا هؤلاء الذين يخاطبون هنا جاحدون، مكذبون، فمقامهم هو مقام الإنذار لأنهم لم يؤمنوا.
(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أي ومن بلغه القرآن، وحذف ضمير المفعول به من باب الاختصار، وهذا كثير في كلام العرب، أي ومن بلغه القرآن، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينذر قومه فقط في القرآن، وإنما أنذرنا نحن، ألم يبلغنا القرآن؟ فنحن أنذرنا بالقرآن، لأنه بلغنا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وأهله وذلاً يذل الله به الكفر. وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغار والجزية }

[أخرجه الطبراني، والإمام أحمد ]

فكل من بلغه القرآن الكريم، ولو في القطب الشمالي أو الجنوبي فهو منذر بهذا القرآن، وبهذا الوحي، والله لا يحاسب أمة إلا إذا بلغها، أي بعد التبليغ.

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)
[ سورة الإسراء]

(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).

الولاء والبراء:
الآن السؤال الثاني: (أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى) جئنا إلى بيت القصيد، بيت القصيد ليس الوجود، وجود الله (اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) هذه المرحلة الأولى.
الآن صنف آخر من الناس (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى) هذا أيضاً استفهام إنكاري، كيف يحق لك أن تشهد وأنت ما عندك من الله بينة ولا سلطان (أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى) آلهة متعددة، والإله واحد جل جلاله.
(قُلْ لَا أَشْهَدُ) لن أكون شاهد زور معكم في قضية تشهدون عليها وأنتم لا تملكون عليها حجةً ولا بياناً، بل كل شيء يشهد بخلافها.

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
[ سورة الأنبياء ]

الكون كله يشهد بالوحدانية
سبحان الله ! الكون كله يشهد بالوحدانية، لا يشهد بالوجود فقط، وجوده يشهد بوجود الله، لأنه لا موجود إلا بموجد، وانتظامه يشهد بالوحدانية، هذا من جهة، من جهة ثانية هم كانوا يعبدون الأصنام ويتخذونها مع الله آلهة، وهي لا تضر، ولا تنفع، ولا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً، فكيف تكون هذه الآلهة المزعومة شريكاً في الخلق لله تعالى أو في التدبير؟
(قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) الآن ما دام جواب السؤالين واضحاً لا مرية فيه وهو أن الله تعالى موجود، وواحد، ولا نشهد على خلاف ذلك، إذاً الآن أنبئهم بالحقيقة الكاملة (قُلْ إِنَّمَا) أداة حصر وقصر، إنما للحصر والقصر، (قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) لا ثاني له.

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
[ سورة الإخلاص ]

(وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي تبرأ يا محمد صلى الله عليه وسلم من شركهم، ومن أصنامهم، ومن عبادتهم، والمؤمن مطلوب منه دائماً أن يوالي، وأن يتبرأ، عقيدة الولاء والبراء، فأنت توالي وتتبرأ، كل الناس يوالون ويتبرؤون، المؤمن يوالي كل ما يقربه إلى الله ويتبرأ من كل ما يبعده عن الله.

معرفة أهل الكتاب بنبوة محمد تشبه معرفتهم بأولادهم:

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
[ سورة الأنعام ]

هؤلاء (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) وصف لهم من أوصافهم (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ) الآن يريد الله تعالى أن يقيم دليلاً آخر على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهم الذين يعادونه ولا يشهدون بنبوته، يريد أن يقيم لهم دليلاً آخر من أهل الكتاب، وليس كل أهل الكتاب لأن كثيراً منهم لما سئلوا - كما ورد في الأخبار - لما كانوا يسألون عما في كتبهم فينكرون، ما وجدنا في كتبنا شيئاً عن بشارة عن رسول يأتي، لكن المنصفين منهم شهدوا ومنهم مثلاً عبد الله بن سلام، وورقة بن نوفل، المنصفون من أهل الكتاب:

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
[ سورة الرعد]

قال تعالى في آية أخرى (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) فالذين عندهم علم الكتاب أي أوتوا الكتاب، وأخذوا به هؤلاء أيضاً شهداء ينبغي أن يكونوا على ذلك.

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
[ سورة البقرة]

أي معرفتهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبمحمد صلى الله عليه وسلم تشبه معرفتهم بأولادهم، أي جاء ليشبّه معرفاً بمعرف، هذا يسمونه: تشبيه معرفٍ بمعرف، فيقول أحد الناس: أنا أعرف هذه المنطقة كما أعرف بيتي، فهذا معروف لي، وهذا معروف لي، فأشبه معرفاً بمعرف، وهنا (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) ليست القضية عندهم شك، أو ظن، هم يعرفون أهل الكتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه سيأتي نبي لهذه الأمة يكون خاتماً للأنبياء (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)، هل هناك إنسان يدخل إليه ولده فيقول له: من أنت؟ قد يدخل إليه ابن عمه فيقول: قد نسيتك، قد يدخل إليه صديق قديم فينساه، أما أن يدخل إليه ولده الذي هو من صلبه ثم يقول له: لا أعرفك ! إلا إذا أصيب بأمراض خريف العمر، نسأل الله العافية، وأن يمتعنا الله بقوانا العقلية والجسمية إلى آخر حياتنا، قد يحدث ذلك ابتلاء من الله لكن هذا يكون في خريف العمر، أما الإنسان بشكل عام يعرف ولده (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ).

أعظم خسارة يخسرها الإنسان:
خسارة النفس أعظم خسارة
(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) هؤلاء أعظم خسارة خسروها هؤلاء المشركون أنهم خسروا أنفسهم، ليست المشكلة في أنك، الخسارة ما هي؟ أن يخسر الإنسان رأس ماله، أو ربحه، إما أن يخسر ماله كله أو أن يخسر ربحه، لكن أعظم خسارة يمكن أن يخسرها الإنسان أن يخسر نفسه، خسارة النفس أعظم خسارة، فالذي يعرض عن الإيمان (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) خسر نفسه، كيف خسرها؟ أوردها موارد الهلاك والنار، خلقها الله تعالى للجنة فهيأها العبد لأن تدخل النار، قال تعالى:

إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
[ سورة هود]

وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
[ سورة محمد]

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ' قال الله عز وجل: أعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ }

[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ]

فالله خلقك للجنة، فلما يعرض الإنسان عن منهج الله تعالى فإنه يهيئ نفسه لنار جهنم، فيكون قد خسر نفسه (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).

الظلم أنواع متعددة:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
[ سورة الأنعام ]

أيضاً الاستفهام هنا للإنكار، أي لن تجد - هذا معنى الاستفهام الإنكاري - لن تجد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) الظلم أنواع كثيرة، الإنسان يظلم أخاه، يظلم زوجته، يظلم أباه، الأب يظلم ولده، الظلم أنواع متعددة، لكن لن تجد أشد ظلماً من شخص يفتري على الله الكذب، والفرية؛ هي أن يأتي الإنسان بكلام لا أصل له، أي كذب محض، وأي كلام عن الله لم يأتِ عن الله فهو كذب، أي كلام عن الله لم يخبرك به الله فهو كذب على الله، فلذلك هؤلاء افتروا فرية (افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) طبعاً الآيات القرآنية التي بين أيدينا أنكرها، كذب بها.

أنواع التكذيب:
التكذيب العملي أن يقرأ الآية ويعمل بخلافها
التكذيب نوعان، تكذيب قولي، وتكذيب عملي، التكذيب القولي يقول هذه الآية هذا القرآن من عند محمد، ليس كلام الله، تكذيب، هذه الآية أنا لا أجدها مناسبة لهذا العصر، أي مرتبة أقل لكن تكذيب، لكن هناك تكذيب عملي خطير، يقرأ الآية ويعمل بخلافها، كذب بها من حيث لا يشعر فظلم نفسه.
دخل رجل إلى طبيب متفوق، وأجرى له فحصاً سريرياً، ثم طلب منه التحاليل والتصاوير، وبناء على كل ذلك شخّص مرضه، وكتب له وصفة طبية، وقال له: خذ الدواء، هذا الرجل خرج بعد كل هذا العناء، وأمسك الوصفة ومزقها، وقال: أنا لم أقتنع بهذا الكلام كله، هذا مكذب بوصفة الطبيب.
رجل آخر خرج وقد أثنى على الطبيب خيراً، وشكر له هذه الوصفة القيمة والثمينة، وأثنى على علم الطبيب، وخبرة الطبيب، وما قام به الطبيب، وطوى الورقة وقبّلها من طرفيها، ووضعها في مكان مرتفع في المكتبة، ولم يشترها، ولم يأخذ الدواء، لا شك أن الأول أعظم إثماً، أو أعظم بحالة الطبيب وقاحةً، أو أنه أعظم جهلاً، أكيد لا يستويان، لكن في النتائج يستويان، في النتائج الاثنان لم ينتفعا، فالذي يكذب بآيات الله فيعرض عنها استوى في النتيجة، دققوا، وليس في الأصل، لا، معاذ الله، يكفي أنه احترم الآيات، يكفي أنه صدق بها، لكن استوى في النتيجة مع من؟ لم يعبأ بها وأعرض عنها في النتيجة، فيجب الانتباه إلى التكذيب العملي، والتكذيب القولي.

الفرق بين الفلاح والنجاح:
(أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) القرآن الكريم ما تحدث عن النجاح، ليس في القرآن نجاح، نحن الدنيا نقول: نجح فلان، ما الذي حصل؟ جمع ثروة مالية كبيرة في وقت محدود، بعشر سنوات بنى ثروة مالية ضخمة، اشترى قصراً، ومزرعة، وبيتاً، وسيارات متعددة، نجح، ونقول: فلان نجح في هذه الزيجة، امرأة من أسرة صالحة، طيبة، معروفة ، مسرور معها جداً، نجح في زواجه، ونقول: فلان نجح، أخذ الدكتوراه في اختصاص نادر برتبة ممتاز، نجح، هذه نجاحات متعددة.
القرآن الكريم يتحدث دائماً عن الفلاح
لكن القرآن الكريم يتحدث دائماً عن الفلاح، والفلاح يعني أن تحقق الغاية من وجودك، فالذي نجح في كسب المال ثم دخل النار ما أفلح، والذي نجح في زيجته ثم ترك العنان لزوجته تخرج كيف تشاء، ثم ترك العنان لأولاده فلم يربهم ثم استحق معهم النار فأوردهم النار، ما أفلح، لم يفلح، نجح لكنه لم يفلح، والذي أخذ أعلى شهادة في الأرض لكنه لم يوحد، والتوحيد أعلى من أعلى شهادة نجح في الشهادة لكنه لم يحقق الفلاح، فالفلاح يعني أن يحقق الإنسان المقصود من وجوده، ولا يعني أبداً أن ينجح نجاحات بسيطة في الدنيا، فدائماً القرآن يتحدث:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
[ سورة المؤمنون ]

وفي ختام سورة المؤمنون:

وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
[ سورة المؤمنون ]

بالمقابل (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) المؤمن يفلح، الكافر لا يفلح، وأيضاً هنا (لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وأعظم ظلم أن يظلم الإنسان نفسه، ودينه، ومنهج ربه، فيفتري على الله كذباً، أو يكذب بآيات ربه.

حشر العابد والمعبود يوم القيامة:

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
[ سورة الأنعام ]

القرآن دائماً ينقلك إلى المآلات
الآن انتقل المشهد إلى يوم القيامة، إلى المآلات، هذا يسمى: فقه المآل، الآن انظر نظرة كأن الله تعالى يعطيك الآن منظاراً بعيداً لتنظر إلى المآلات، إذا إنسان واقف في أعلى جبل والطريق جميل معبد بالرياحين، معبد، ومملوء بالرياحين، وعلى الطريق يوجد منتزهات ومقاصف وكذا، وقيل له: انزل به، ثم قيل له: قبل أن تنزل خذ هذا المنظار وانظر إلى نهاية الطريق، أمسك المنظار، ورأى في نهاية الطريق مستنقعات آسنة، أو وحوش كاسرة ، فإنه لا يسلك هذا الطريق مهما كان معبداً، ومهما كان نظيفاً، ومهما كان مملوءاً بالمتع بل يعرض عنه لأنه رأى المآل، رأى فقه المآل.
فالقرآن دائماً ينقلك إلى المآلات، ويعطيك منظاراً لترى ماذا سيحدث، فما الذي سيحصل؟ قال: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) جميعاً؛ المشركون والآلهة التي عبدوها من دون الله حتى الأصنام سوف تُحشر، والأصنام خلق من خلق الله، الحجر خلق من خلق الله.

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
[ سورة الإسراء]

هذا كله خلق، فالآن سيحشر:

احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)
[ سورة الصافات]

فالآن سيحشرهم الله جميعاً العابد والمعبود من دون الله.

الزعم مطية الكذب:
(ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) قالوا: الزعم مطية الكذب، والذي يزعم شيئاً يميل في زعمه إلى قالوا، وسمعت، لذلك قالوا: الزعم مطية الكذب، زعموا أن فلاناً فعل كذا، من قال لك؟ سمعته، قالوا عنه، فالإنسان لا ينبغي أن يستخدم الزعم، فالزعم غالباً يميل إلى جهة الكذب والأخبار غير الصحيحة، وما أكثر الزعم الآن في التواصل الاجتماعي، الفيس بوك والواتس آب، أكثرها زعم، أكثر الأخبار اليوم في التواصل زعماً، فتجد إنساناً تأتيه رسالة يحولها إلى عشرة، والعشرة يحولونها إلى مئة، مساءً تصبح الرسالة عند مليون شخص، والخبر لا أصل له من الصحة، هو زعم، هذا هو الزعم.
فهؤلاء زعموا أن لهم شركاء فقال: (أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) هاتوهم.

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
[ سورة الأنعام ]

ما زالوا في كذبهم، يحلفون بالله، ومعترفين بربوبيته (رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) ما كنا مشركين، كنا موحدين.

الفتنة لا تُفرح ولا تُحزن وإنما الذي يفرح ويحزن ما ينتج عنها:
الفتنة في الأصل هي الامتحان والابتلاء
(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) الفتنة في الأصل هي الامتحان والابتلاء، فهؤلاء فتنوا الآن وسئلوا سؤالاً، فالسؤال فتنة، امتحان، والفتنة لا ينبغي أن تزعجك، بل ينبغي أن تفرح بنتائجها، أو تحزن لنتائجها، الفتنة بحد ذاتها ليست شيئاً سلبياً، وليست شيئاً إيجابياً، إذا إنسان قال: أنا فتنت اليوم بمادة الرياضيات، هل أزعجك ذلك؟ لا، أنتظر النتيجة، إذا نجحت لم تزعجني النتيجة، بالعكس، أُسر بها، وإذا رسبت سأحزن، فالفتنة بحدّ ذاتها لا تفرح ولا تحزن، وإنما الذي يفرحك ويحزنك ما نتج عن الفتنة (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) امتحانهم في هذا السؤال (إِلَّا أَنْ قَالُوا) لم يكن لهم من جواب (إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) هنا يسأل سائل: كيف يكذبون؟ ألم يقل تعالى:

يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)
[ سورة النساء]

يوم القيامة كله واضح، كيف يكذبون؟ ممكن أن يحصل كذب.

مرافقة الكذب للإنسان إلى يوم القيامة:
هذا نافع بن الأزرق كان يعنى بمتشابه القرآن، فجاء إلى ابن عباس رضي الله عنه، قال: يا بن عباس وقع عندي اختلاف، اختلاف أي اليوم نسميه تناقضاً، عندي أي ما هو اختلاف، لكن لأن الله تعالى قال:

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً (82)
[ سورة النساء]

الموحد يغفر الله له كثيراً من ذنوبه
لكن القرآن ليس فيه اختلاف، تناقض، أبداً، مستحيل، لكن قد يهيأ للإنسان الاختلاف، فسأل ابن عباس قال: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) فقال له ابن عباس: يوم القيامة، عندما يغفر الله تعالى لأهل الإخلاص ذنوبهم، هؤلاء ينظرون، فيجدون أن الله تعالى يغفر لأهل الإخلاص، الموحد يغفر الله له كثيراً من ذنوبه، ما كان بينه وبين الله، بتوحيده يُغفر له الذنب، فيحلفون (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) يريدون أن يأخذوا هذه الميزة، أن تغفر لهم الذنوب، نحن كنا موحدين، قال: فيختم الله على أفواههم، وتنطق أيديهم وأرجلهم، فعندها (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) فهم في البداية يكذبون، لكن عندما يختم على أفواههم، ساعتها تنطق عليهم أيديهم وأرجلهم.

وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
[ سورة فصلت ]

وفي الحديث الصحيح:

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال: كنَّا عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فضَحِكَ، فقال: هلْ تدرون مِمَّ أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: مِنْ مخاطبة العبدِ ربّه، فيقول: يا ربِّ ألمْ تُجِرْني من الظلم؟ قال: يقول بلى، فيقول: فإني لا أجيزُ اليوم على نفسي شاهدا إلا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، والكرامِ الكاتبين شهودا قال: فيختم على فيه، ويقال لأركأنه: انطقِي، فَتَنْطِقُ بأعماله، ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام فيقول: بُعدا لكنَّ وسُحّقا، فعَنْكُنَّ كُنْتُ أُناضلُ }

[أخرجه مسلم ]

أي أنا قضيت عمري من أجلكم، من أجل متعة اليد، ومتعة الرجل، ومتعة الفرج، ومتعة الفم من أجل أن يأكل، واليوم تخونونني؟! هذا ما يحصل يوم القيامة، تخونه جوارحه التي ناضل عنها في الدنيا.
إذاً في البداية يكذبون، وقد ورد في الحديث الصحيح أن هذا الرجل الذي يؤتى به فيقول الله له تعالى: قرأت القرآن، لماذا قرأته؟ فيقول: قرأته من أجلك يا رب، وإرضاءً لك فيقول: إنما قرأته ليقال: قارئ، خذوه إلى النار، والثاني يكذب، فيقول: إنما قاتلت لإعلاء كلمتك، فيقول: إنما قاتلت ليقال: جريء، أو شجاع فقد قيل، خذوه إلى النار، والمنفق أيضاً لماذا أنفقت؟ يقول: أنفقت ابتغاء مرضاتك، فيقول: إنما أنفقت ليقال كريم وقد قيل، خذوه إلى النار، فهؤلاء أول من تسعر بهم النار، وهم يكذبون في البداية.
إذاً الكذب يرافق الإنسان إلى يوم القيامة، لأنه هو يريد أن ينجو، الإنسان لماذا يكذب غالباً؟ يقع في موقف ضعيف، القوي لا يكذب، قالوا: ما كذب الكاذب إلا لمهانة نفسه عليه، صاحب الحق لا يكذب، لكن الإنسان عندما يقع في مأزق يحاول أن يفلت فيكذب (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ).

من هانت نفسه عليه كذب وابتعد عن طريق الحق:

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
[ سورة المائدة ]

الكلام لم يحدث بعد، والله تعالى يقول لنبيه: (انْظُرْ) لأن الكلام من الله واقع لا محالة، فالآن يخاطبه (انْظُرْ) كما قال له:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
[ سورة الفيل ]

وهو لم يرَ لأنه ولد في عام الفيل، لكن لأن الأمر من الله عز وجل، والإخبار من الله يقين لا مراء فيه فيخاطبه انظر (أَلَمْ تَرَ).
قال: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) كذبوا على أنفسهم؛ الإنسان كما قلنا لا يكذب إلا بمهانة نفسه عليه (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) ضلّ؛ أي ابتعد، ضلّ الماء في اللبن؛ أي دخل به، وأُشربه في داخله، لم يعد هناك وسيلة لتحصيله، ضل الماء في اللبن، وفي سورة السجدة:

وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَل هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
[ سورة السجدة]

ضللنا؛ أي دخلنا بعد أن متنا في أعماق الأرض، دخلنا في أعماق الأرض وأصبحنا عظاماً ورفاتاً، (ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ) فهنا الضلال بهذا المعنى، يجب أن ننتبه في اللغة العربية الكلمة الواحدة حسب سياقها تأخذ معناها، النبي صلى الله عليه وسلم، الله تعالى قال له:

وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7)
[ سورة الضحى ]

هنا الضلال بمعنى الحيرة
لكنه ليس الضلال الذي هو الأصل في معنى الضلال وهو أن يعرف الإنسان الحق ثم يزيغ عنه، ويبتعد عنه، لا، وإنما هنا الضلال بمعنى الحيرة (وَوَجَدَكَ ضَالّاً) بمعنى أنك تبحث وتتأمل في هذا الكون، وتريد أن يأتيك الوحي، وأن تنتشل قومك، فهداك إلى الطريقة المثلى، فليس كل ضلال بمعنى الانحراف كما في سورة الفاتحة:

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
[ سورة الفاتحة ]

هنا الضلال بمعنى من عرف الحق وانحرف عنه.
(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي ابتعد عنهم ما كانوا يفترونه من كذب، أي لم تعد تنفعهم حجة، ولا شيء عبدوه من دون الله، ضلّ عنهم ابتعد عنهم.

الاستماع إن لم يؤد إلى الاستجابة لا فائدة منه:

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
[ سورة الأنعام ]

هؤلاء الآن صنف آخر (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) ما كل من استمع استمع، لذلك قال تعالى:

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
[ سورة الأنفال]

فالاستماع إن لم يؤد إلى الاستجابة فكأنه ما سمع، فإذا ناديت على شخص ما وقلت له: تعال، فدخلت الكلمة إلى أذنه، أربعة حروف دخلوا، تاء، وعين، وألف، ولام، لكنه لم يأتِ، فإنك تقول له: ألم تسمعني؟ وأنت تعرف أنه سمعك، لكن عدم استجابته لك تؤدي إلى أن تقول له: ألم تسمعني؟ لو أنك سمعتني لأتيت (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) لكن هذا الكلام لم يؤدِ إلى الاستجابة، لماذا؟ قال: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أكنة؛ جمع كنان والكنان هو الغطاء أو الستر، لأن يكن الشيء في داخله، ويستتر فهو كنان، غطاء، فالأكنة هي الأغطية.
(وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) هناك حرف جر محذوف، أي لئلا يفقهوه (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) لئلا يفقهوا ما يسمعوا، لماذا جعل الله (عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)؟ لأنهم أعرضوا.

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
[ سورة البقرة ]

فهذا الجزاء الذي هو نتيجة إعراضهم، هم ما أرادوا الحق فجعل الله (عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) لأن الإنسان لا يملك بنفسه أن يعرض إلا أن يسمح الله له أن يعرض.
(وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً) الوقر؛ شدة الصمم فهو لا يستمع، فهو يجلس في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ويستمع الآيات، والأحاديث، والكلام لكن في أذنيه وقراً؛ أي صمماً شديداً.

من أعرض عن الإيمان مهما جاءه من الآيات لا يؤمن بها:
(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) أي مهما جاءهم من الآيات فإنهم لا يؤمنون بها، لأنهم أعرضوا، ما أرادوا الإيمان، الذي عنده قرار بالإيمان كل شيء يدله على الله ، والذي ما عنده قرار بالإيمان لا أبالغ إن قلت كل شيء يزيده بعداً عن الله، فالعربي يقول: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فيستدل على وجود الله، والذي يقبع في وكالة ناسا للفضاء يرى كل يوم المجرات والنجوم ولا يؤمن، ما الفرق بينهما؟ الأول اتخذ قراراً بالإيمان فدله الكون بما فيه على الله، والثاني اتخذ قراراً بأن يعمل لدنياه، فكل شيء يزيده بعداً عن الله وقرباً من دنياه، يستغله لمصلحته، لقراره، فالإنسان هو صاحب القرار.

إدعاء الكفار أن القرآن ما هو إلا أساطير الأولين:
(وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الأساطير؛ جمع أسطورة، مثل أعجوبة، أعاجيب، وقيل هي من المعرّب، أي ليست من الأصل في اللغة العربية، وقال البعض: بل الأسطورة هي الأقصوصة، أقاصيص أقصوصة، أي هي قصة لكن لأنه كان يغلب عليها عدم الثقة والموثوق، أي تقول: قالوا، أسطورة، فالأسطورة غالباً في كلام العرب تدل على شيء ليس موثوقاً به، فكانوا يقولون ذلك بأن هذا القرآن (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5)
[ سورة الفرقان]

(أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي من الثقافات السابقة، اليونان وكذا، هم ما استطاعوا أن يفهموا عظمة القرآن، وبلاغة القرآن، ما استطاعوا أن يصلوا لكن أخذتهم لغته العظيمة فما وجدوا إلا أن يقولوا (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، (حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
والحمد لله رب العالمين