الندم بعد فوات الأوان

  • اللقاء الرابع من تفسير سورة الأنعام - شرح الآيات 26 -35
  • 2022-12-03

الندم بعد فوات الأوان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.


إبعاد الناس عن طريق الله تعالى:
وبعد: مع الآية السادسة والعشرين من سورة الأنعام في لقائنا الرابع من هذه السورة وهي قوله تعالى:

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
( سورة الأنعام)

من يترك الحق مجرمٌ بحق نفسه
(وَهُمْ)؛ إشارة إلى من سبقوا من الذين كفروا بآيات الله، المعرضون عن منهج رسول الله (يَنْهَوْنَ عَنْهُ) ينهون الناس عن هذا المنهج، يمنعونهم عن طريق الله تعالى (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) يبتعدون بأنفسهم عنه، فجرمهم مضاعف، يبتعدون ويُبعدون، يَضِلون ويُضِلون، يَفسدون ويُفسدون، وبدأ بالإفساد قبل الفساد، وبإضلال الآخرين قبل ضلالهم أنفسهم؛ لأن الجرم الأول أخطر من الثاني، فأحياناً الإنسان يترك الحق، فهو مجرمٌ بحق نفسه، لكنه يمنع الآخرين من الحق، فهذا الجرم أعظم فبدأ بالجرم الأعظم (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) كمثل قوله تعالى:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
( سورة فصلت)

أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10)
( سورة العلق)

لماذا الإنسان ينهى الآخرين عن الخير؟ هو في فطرته يعلم أن هذا حق، في فطرته، وفي أعماق نفسه يعلم أن هذا حق، والدليل أنهم كانوا معجبين ببلاغة القرآن وبألفاظه، وبفصاحته، وكان الواحد منهم يتسلل ليلاً ليجلس قريباً من بيوت المسلمين ليسمع القرآن الكريم، عندهم إعجاب، لكن يعلمون أن هذا المنهج إن هم اتبعوه سوف يقضي على سلطتهم الزمنية، هم لهم زمن معين هم فيه سلاطين يتحكمون بالناس، فمصالحهم منعتهم، فهم يعلمون أنه حق ينهون الناس عنه لأن الإنسان يخشى من كثرة الحق، يخشى من أن يكون الحق مسيطراً، حتى لا يبقى وحيداً في ضلاله، الإنسان في داخله من غير أن يشعر إذا عصى الله اختل توازنه، واختلت فطرته، فيحاول أن يستعيد توازنه، أحد طرق استعادتها أن يكثّر الضالين أمثاله، حتى إذا كثروا حوله قال لك: كل الناس هكذا، فالمُرابي إذا واجهته بمعصية الربا قال لك: نحن في الشركة كلهم يأخذون قروضاً بربا، لماذا تتكلم معي أنا؟ وإذا واجهت إنساناً بكذبه يقول لك: اليوم كل الناس يكذبون، وإلّا لا تستقيم الحياة، لو أنني أصدق مع الناس لا أستطيع أن أبيع، أو أشتري، أو أربح، يضيّقها، يحاول أن يعمم الفساد، لذلك قال تعالى :

وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
( سورة الزخرف)

كثر الخُبثاء لن تنفعهم في الإعفاء من العقوبة
مهما كثر الخُبثاء لن ينفع كثرتهم في الإعفاء من العقوبة، المدرِّس أحياناً -وهذا خطأ في التربية- إذا وجد أن عشرين طالباً من أصل ثلاثين لم يكتبوا الواجب لا يعاقب أحداً، ففي المرة القادمة يُضاف خمسة إلى الذين لم يكتبوا، وفي المرة التي تليها لا تجد إلا طالباً قد كتب واجبه، لأنه لم يعاقب، مهما كثر المخطئون لا يعني أن الخطأ أصبح صواباً، فكثرة المخطئين لا تحوّل الخطأ إلى صواب.
(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) من أجل أن يعمموا الفساد (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) ويبتعدون بأنفسهم عنه، وبدأ بالنهي كما قلنا لأنه أشد جرماً من النأي بالنفس عن المنهج.
(وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) هم عندما يبتعدون عن المنهج، أو يبعدون الناس عنه يظنون أن ذلك سيجلب خيراً لهم، لأن كل إنسان في الوجود إذا تصرف إنما يتصرف بدافع من تحقيق مصلحة له، في ظنه، وفي زعمه، لا تتصور إنساناً يتصرف تصرفاً من غير دافع، أو مقصدٍ إيجابي وراءه في ظنه، أبداً، حتى السارق يوم يذهب ليسرق هو يُمنِّي نفسه بما سيكون بعد السرقة إن نجا، سيشتري بيتاً، سيشتري سيارة، في ذهنه مخطط، فكل الناس عندما يذهبون إلى شيء يذهبون بدافع إيجابي، حتى المنتحر عنده قصد إيجابي، وهو أنه يظن أنه بانتحاره ينهي المأساة التي يعيشها ويرتاح، كل الناس يتحركون بقصد إيجابي فيما يتصورون.
لكن في الحقيقة من الذي يخبرك إن كان هذا الشيء خيراً لك أو لم يكن خيراً؟ الذي يعلم السر في السماوات وفي الأرض، فقال: (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) هو يريد في زعمه أن ينجو بنفسه، وأن يبقى على سلطانه فيبعد الناس عن الحق، ويبتعد هو عن الحق حتى يبقى له التصرف كما يريد في حياته، وشهواته، والتصرف بالناس كما يريد، وفي الحقيقة يهلك نفسه، وهو لا يشعر بذلك.

مراتب اليقين:

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
( سورة الأنعام)

هذا الهلاك الحقيقي، الآن سيكلمك عن الهلاك الحقيقي (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
[ سورة الأنعام]

أين الجواب ؟ لا يوجد جواب.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
( سورة الأنعام)

أين الجواب ؟ لا يوجد جواب، في القرآن كثيراً ما يحذف جواب لو، أصل الكلام: لو جئتني لأكرمتك (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) تخيل أنت الآن تخيل، فحذف الجواب وكأن الكلمات لا تُسعِف لبيان حالهم، فتخيل أنت في ذهنك حالهم وهم أمام نار جهنم، أنت الآن استشعِرْ الموقف (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) وقفوا وأمامهم النار تشتعل، وهم سيدخلون إليها كيف سيكون حالهم؟ ندم، شعور بالخسران المبين، شعور بعذاب الخُلد، كيف سيكون حالهم (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) تخيل (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) .
مراتب اليقين كما تحدثنا سابقاً؛ علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
الرؤية بالعين هي عين اليقين
علم اليقين: خلف الجدار يتصاعد الدخان، إذاً هناك نار، استدرت إلى خلف الجدار فرأيت النار بعينك، هذا عين اليقين، رأيتها، انتهى الأمر، لم يعد هناك احتمال بعدم وجود نار، رأيتها، حق اليقين؛ وضعت يدك في داخلها فاحترقت.
( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) هنا وصلوا إلى عين اليقين، في الدنيا لم يعلموا علم اليقين، قال تعالى :

كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
( سورة التكاثر)

الآن وصلوا إلى عين اليقين، الآن ليست القضية في أنها موجودة أو غير موجودة هي موجودة يقيناً لأنهم رأوها، لكن بقي أن يذوقوها، ويذوقوا العذاب، فانظر إلى حالهم وهم يستعدون للدخول في نار جهنم، إنسان ارتكب جريمة، أُلقي القبض عليه، حُكم بالإعدام، سِيق إلى حبل المشنقة، وقف ووُضِع الحبل في رقبته (وَلَوْ تَرَى إِذْ) وُضع الحبل رقبته بالضبط.
( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ) يعني نعود إلى الدنيا ( وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا) لأنهم انتقلوا الآن، هو العظمة ألا تُكذّب بآيات ربك قبل أن تصل إلى النار، يعني أن تصل إلى النار، قالوا العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه، يعني أن تصل إليه بفكرك قبل أن تصل إليه بجسدك، الدوابّ فقط هم الذين يعقلون الشيء حينما يصلون إليه حقيقةً، نحن نعقله قبل أن نصل إليه، كم من رحلة ألغيناها لأننا قرأنا كلمات على شاشة الهاتف بأن الطريق مغلق في السفر اليوم، والضباب كثيف، ولم نخرج، معناه لم نصل إلى الضباب، ولكن وصلنا إليه بفكرنا.
هؤلاء (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) دعوى يدّعونها، لو عُدنا إلى الدنيا فإننا لن نكذب بآيات الله، سنصدق بها، وسنكون من المؤمنين بها، الجواب الإلهي، قال :

أهمية الإيمان بالغيب:

بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
( سورة الأنعام)

بل: حرف إضراب، الآن سيحدثنا الله ما الذي حصل حقيقة، هذه دعواهم، قال: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) الذي حصل معهم هم أن الشيء الذي كانوا يستترون منه في الدنيا بدا لهم حقيقة الآن، فانتقلوا من العلم إلى اليقين الحسي، رأوا بأعينهم.
إذا جاء الحساب لا يُرَد أحد إلى الدنيا
(وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) لو أن الله تعالى استجاب لدعواهم تلك، وهذا لن يحدث، لو: حرف امتناع لامتناع، لن يحدث، لن يُردُّوا، قضت سنة الله أنه إذا جاء الحساب لا يُرَد أحد إلى الدنيا، لكن كافتراض لو أنهم رُدُّوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، سيعودون إلى ارتكاب المعاصي والآثام، سيعودون إلى الكفران، سيعودون إلى الشرك، لأنهم ابتعدوا عن المحسوس، عادوا إلى الغيب، وهم ليس عندهم إيمان بالغيب، فلا يخافون إلا عند رؤية العذاب بأعينهم، لأن الإدراك ضعيف.
أحياناً مع الطفل يفعل شيئاً فتأتي لتعاقبه فيقول لك: لا، لن أعود إلى ذلك ثانية تتركه فيشعر أن العقاب قد ابتعد عنه من جديد، فيعود ويرتكب المخالفة نفسها، هو لا يدرك، هو يدرك فقط عندما تمسك بيده ويعلم أنك ستضربه فيدرك، عندما تفك العقاب عنه يعود من جديد إلى ما كان عليه من قبل، وهذا حالهم.
(وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) كاذبون في دعواهم تلك، أنه أرجعنا نعمل صالحاً، لا، لن تعلموا صالحاً، ستعودون إلى عمل السوء، وهذا علم الله تعالى بهم.

وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
( سورة الأنعام)

الدليل على ذلك -انظر إلى ترتيب الآيات في القرآن الكريم- الدليل على أنهم لو ردُّوا لعادوا لما نُهوا عنه، أنهم يوم كانوا في الدنيا كانوا ينكرون البعث مع أنه خبر من الله، الله تعالى يخبرهم على لسان نبيه بأن هناك يوماً سيعاقبون فيه، ومع ذلك كانوا يقولون (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) والأغرب من ذلك أنهم يقولون: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) إذاً هناك حياةً أخرى عليا، هذه دنيا، إذاً هناك عليا، يعني يقابل الدنيا عليا، ومع ذلك يقولون (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) كانوا ينكرون البعث رغم أنه معلوم لديهم بالنصوص الشرعية الواضحة وبالعقل، كيف بالعقل يعلمون أن هناك يوم قيامة؟ العقل لا يتصور أن تنتهي الحياة هكذا دون أن يكون هناك حساب وعقاب، وقد رأوا آيات الله المبثوثة في الكون، ورأوا عظمة الله عز وجل، فالذي خلق هذا الكون سيحاسب وسيعاقب.

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
( سورة المؤمنون)

تعالى الله ألا يحاسبكم.

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً(87)
( سورة النساء)


المواجهة مع الله تعالى:

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
( سورة الأنعام)

هناك (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) الآن الأعظم من ذلك (إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) الآن المواجهة ليست مع عذاب الله، وإنما مع الله، هنا شعور الندم أشد وأشد، هنا شعور الخجل أشد وأشد (وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) الرب الذي أمدهم، والذي أعطاهم، والذي خلقهم والذي منحهم، والذي أطعمهم، والذي سقاهم، والذي شفاهم، وُقِفوا عليه، يعني أوقفهم الله على ذاته العلية فوقفوا أمام حضرة الله تعالى، أيضاً حُذف الجواب، يعني إذا رأيت شيئاً عجباً من الندم، والخسران، والخجل من الله تعالى.
(قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا) العذاب حق، والآخرة حق (قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا) جواب أليس؛ بلى، جواب النفي إثباته بلى، هل جئت؟ نعم، ألم تأتِ؟ بلى.

أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
( سورة التين)

بلى، كل همزة بعدها استفهام منفي، يعني استفهام منفي جوابه بلى (قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى) يعني هو الحق، لأنهم رأوه بأعينهم (قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بما؛ أي بسبب كفركم، فالعذاب سببه كفركم بالله تعالى( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
( سورة الأنعام)

المؤمنون سينظرون إلى وجه الله تعالى
(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) هذا هو لقاء الله، أن تلقى الله، سنلقى الله -عز وجل-، المؤمنون سينظرون إلى وجه الله تعالى الكريم، وهؤلاء سيُحرَمون النظر إلى وجه الله الكريم، يعني بينهم وبين ربهم حجاب، لكنهم سيقفون عليه للحساب، دون أن يُمتَّعوا بالنظر إلى وجه الله الكريم.
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) قد خسر؛ حرف تحقيق، قبل الماضي، قد حرف تحقيق.

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
( سورة المجادلة)

قد جاء فلان، قد علم فلان (قَدْ خَسِرَ) قد قبل الفعل الماضي دائماً حرف تحقيق (قَدْ خَسِرَ) يعني يقيناً (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى) حرف غاية (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي فجأة، دون سابق إنذار (قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا) بدأ تحسرهم، وتندمهم(عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) أي على تقصيرنا في جانب الآخرة فلم نعمل العمل الذي يؤهلنا للنجاة فيها (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ) وفي آيات أخرى :

لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
(سورة النحل)

الوزر؛ هو الشيء الثقيل، يحملها إن قلنا معنوياً نعم، يحمل الإنسان وزره معنوياً يعني أحياناً يأتي إنسان يقول لك: أنا متعب بشكل غير طبيعي، تقول له: هل كنت تحمل مئة كيلو؟ يقول لك: والله أشد من مئة كيلو، خيراً ؟ أحمل همّ شخص في المشفى، وعندي تجارتي فيها مشكلة، فأنا أحمل هموم وأثقال أشد من الأوزان، يا ليتني أحمل في يدي أوزاراً ولا أحمل هذا الوزر، الهموم أوزار، لكن أيضاً ربنا -عز وجل- من شدة عذاب هؤلاء يحملون المحسوس غير المعنوي، ألم يرد في الحديث الصحيح :

{ ألا لا يَأْتِيَنَّ أحدُكم يَومَ القيامةِ بِشاةٍ يحملُها على رقبتِه لها يُعارٌ }

(صحيح الجامع عن أبي هريرة)

وبقرة يحملها، والآن إذا سرق عشرين ثلاثين كيلو حديد من العمارة أيضاً يحملها، وإذا سرق الآن ذهب يحمله، فالإنسان يأتي يوم القيامة يحمل أوزاره حقيقة، غير المعنوي يحمل ما سرق، هذه الأرض التي اغتصبها يحملها يوم القيامة، يعني حتى يكون ذلك مبالغة في إهانته لاستحلاله حقوق الناس.
(وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) ساء ما يحملون يعني من الوزر.

حقيقة الحياة الدنيا:

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
( سورة الأنعام)

الآن يبين لك المولى جل جلاله حقيقة هذه الحياة الدنيا التي أضاع الكافرون آخرتهم من أجلها، ما حقيقتها؟ (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا ) يعني قصر وحصر، الحياة الدنيا لعب ولهو في آيات أخرى:

أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
( سورة الحديد)

هنا حصرها في اللعب واللهو، في اللعب واللهو، اللعب هو أي عمل لا طائل وراءه تنقضه في أي لحظة، ائتِ لابنك بلعبة المكعبات، يبني منها بيتاً، ثم يتمتع به عشر دقائق، ثم ينقضه ليعيد بناءه، لعب، يعني لعب.
(وَلَهْوٌ) ليس هناك أي هدف من وراء ذلك، يلهو بها، ماذا يعني إذا بنى تلك المكعبات عشر مرات ما الذي حصل؟ هل أصبح عنده بيت؟ (لَعِبٌ وَلَهْوٌ).
(وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) هذه لام الابتداء للتوكيد (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُون) العقل في الأصل هو المنع والربط، المنع مثل :

كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
(سورة طه)

لأن العقل ينهى صاحبه عن المعصية، أو عما يوقعه في الشقاء والهلاك، وأعظم ما يوقع الإنسان في الشقاء والهلاك معصية ربه، والربط، قال :

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه : قال رجل لرسول الله-صلى الله عليه وسلم- :أعْقِلُها وأَتَوَكَلُ، أو أُطْلِقُهَا وأتوكلُ ؟ قال : اعقِلْهَا وتوكل }

(أخرجه الترمذي )

العقل يربط الإنسان
الناقة، قال: أعقلها أم أتوكل؟ قال: (اعقِلْهَا وتوكل) أيضاً العقل يربط الإنسان يربطه عن أن يذهب في مذاهب تهلكه، يعني: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) والعقل من مهماته الربط أيضاً، كيف من مهماته الربط؟ يعني إذا قلت لك كل هؤلاء، أو كل من جاء اليوم أكرمته، كل من جاء إلي اليوم أكرمته، ثم قلت لك: زيد جاء إلي اليوم، ما الذي تفعله أنت من المقدمتين؟ تقول لي: إذاً أنت أكرمت زيداً اليوم، هذه عملية عقلية، ربط، فالعقل دائماً يأخذ المُدخَلات، ويعالجها، ويخرج المخرجات، فهو يربط بين الأمور، العقل لا يستطيع أن يأتي بمدركات غير موجدة أصلاً، يعني لا يعقل أشياء ليس لها على أرض الواقع.
لذلك في الحقيقة قلت لكم سابقاً: لا يوجد شيء اسمه اختراع، الناس تكتشف لا تخترع، اختراع؛ إذاً استطاع العقل أن يخترع شيئاً من المجهول، لا أبداً، هو يكتشف، رأى الطائر يطير، قال: إذاً ممكن أن تطير، جناحين، جناحا الطائرة، من المواد يجب أن تكون مفرغة، حسناً، حديد، بلاستيك، هو يكتشف، كله موجود، هو يربط ويكتشف، يُعقِل، يعطيك نتائج، فإذا إنسان قال لك: أنا أريد أن أحتكم للعقل، قل له: أي عقل تريد أن تحتكم له؟ عقلي أم عقلك؟ ربطي، أم ربطك؟ لا، نريد أن نجتمع على نصوص شرعية نحتكم إليها، أما العقل متغير بين البشر، فلا يُحتَكم إليه، فهو ليس جوهراً له قواعد معروفة لنحتكم إليه، إنما هو عملية نعقل، تماماً؟
فالله تعالى قال هنا: (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُون) أنت الآن كيف تعقل هذه الحقيقة، كيف تعقلها؟ سأقول لك، سأعطيك مئة دينار، وستتمتع بها، أو سأعطيك ألف دينار وستتمتع بها لنهاية الشهر، وفي نهاية الشهر ستودع في السجن، لأن هذه الألف دينار مزورة، تعقل الآن أنت، لا أريدها، أقول لك: سأعطيك مليون دينار وتتمتع بها عمرك كله، ولكن هناك مئة مليون أخرى لن تأخذ منها شيئاً إذا أخذت هذه المليون، والمئة مليون هذه ستدوم معك إلى الأبد، وهذه المليون ستنتهي لنهاية العام مثلاً، تعقل أنت الآن، لا لا أريد سأنتظر لآخذ الأكثر، والأدوم، والأبقى، أنت الآن تعقل.
(وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) للذين يخافون الله (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أقول لك الحياة لعب ولهو، والدار الآخرة خير وأبقى لك، فإذا عقِلت الآن الحياة الدنيا ستستخدمها من أجل الحياة العليا، لن تضيع العليا من أجل الدنيا فأنت عقلت الآن، عاقل، هذا العاقل.

علم الله تعالى بحزن النبي الكريم:

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(33)
( سورة الأنعام)

قبل قليل (قَدْ خَسِرَ) حرف تحقيق قبل الماضي، لكن (قَدْ نَعْلَمُ) تعلمناه في المدارس قبل الماضي تحقيق، وقبل المضارع تقليل، قبل المضارع ليس دائماً تقليل، تقليل أو تكثير، كيف نميز بينهما؟ بالقرينة، نميز بينهما بالقرينة التي تدل على أنني أحقّق أم أقلّل كيف القرينة؟ يعني لو قلت لك: قد ينجح المجد، المجد، الجِدّ هو سبب النجاح، إذاً أنا لا أُقلّل، أُكثّر، قد ينجح الكسول، وهذا تقليل، لأن الكسول في الأعم الأغلب لا ينجح، لكن قد يحصل وينجح، فأنت استنبطت من سياق العبارة إذا كانت للتكثير أو التقليل.
هنا قال: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) إذاً تقليل مئة بالمئة لأن علم الله -عز وجل- يقيني (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) ما الذي يقولونه؟ كاهن، شاعر، ساحر، مجنون مسحور.

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً (47)
( سورة الإسراء)

وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5)
( سورة الفرقان)

هذا ما يقولونه، مفترٍ (لَيَحْزُنُكَ) الإنسان يدخل الحزن إلى قلبه إذا رأى دعوته لا تلاقي صدىً عند الناس، بل يواجهونها بالتكذيب، والإنكار.
أعظم الظلم أن يظلم الإنسان نفسه
أنت إذا كنت في مجلس وحدثت الناس بشيء، وأنكروه عليك يدخل الحزن إلى قلبك، وأنت تعلم يقيناً أنه صحيح وهم يكذبونك (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) انظر ما أجمل العبارة، يُسلّي عنه، أنت الصادق الأمين، وقد كانوا يعرفونك صادقاً وأميناً، وأنت الذي احتكموا إليك يوم أرادوا نقل الحجر الأسود، ولم يجدوا غيرك ليحتكموا إليه فهم لا يكذبونك لأنهم في قرارة نفسهم يعلمون صدقك، لكن هذه الألفاظ يقولونها لمصالحهم لا تكذيباً لك (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) هم ينكرون آيات الله تعالى بسبب ظلمهم لأنفسهم، وأعظم الظلم أن يظلم الإنسان نفسه، لأن الظلم أن تعطي الشيء لغيره تعطي مستحقاً لإنسان لغيره، فلو أن إنساناً توفي فورثته أعطوا الحصص كلها للذكور دون الإناث فهذا ظلم، ما حقيقة الظلم؟ أن هناك حقاً لم يُعطَ لإنسان وأُعطِي لغيره، تمام؟ النفس التي خلقها الله تعالى خلقها لمن؟ لتتوجه إلى الله تعالى بالتوحيد، فلما أشركوا قال:

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
( سورة لقمان)

هذا أعظم الظلم.
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) والجحود هو النكران.

معركة الحق والباطل مستمرة:

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
(سورة الأنعام)

معركة الحق والباطل مستمرة
الآن يسلي عنه بطريقة أخرى، وهو بيان أنه ليس وحيداً في هذه المعركة، وإنما هي معركة الحق والباطل، فلست الأول ولن تكون الأخير، هو الأخير من حيث النبوة والرسالة لكن من حيث الدعاة إلى الله لا تزال المعركة قائمة، ولن تنقضي إلى قيام الساعة.
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) تسليةٌ له بأن النصر قادمٌ لا محالة.
(وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) فالذي نصر الرسل قبلك سينصرك؛ لأن هذه سنة جارية والله لا يبدل كلماته، أي سننه، سنن الله باقية، من سذاجة بعض المسلمين اليوم ينتظرون معجزة تقضي على أعدائهم (وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ).

اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)
( سورة فاطر)

سنة الله في الأرض أن الباطل والحق يصطرعان، وأن الغلبة في النهاية لأهل الحق عندما يستحقون ذلك.
(وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) رسلاً قد قصصنا عليك قص الله عليك أنباء موسى، وكيف نجاه الله، ويوسف وكيف أعزه الله، ونوح وكيف عانى ألف سنة إلا خمسين عاماً من قومه، ثم نصره الله وأعزه، وشعيب، وغير ذلك من رسل الله الذين قص الله تعالى على نبيه قصصهم من أجل تثبيته في هذه المعركة، مع أهل الباطل.

الهدى من عند الله تعالى:

وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ(35)
( سورة الأنعام)

يعني شق عليك كفرهم، كفر الإعراض والابتعاد شق عليك ذلك وأتعبك.
( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) هذه الصفحة صفحة المحذوفات، أي فافعل، لكن ما قال له فافعل لأن ذلك غير ممكن، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم أنه غير ممكن، ولكن افتراض، إذا أردت، ادخل في نفق في الأرض ابحث عن آية عجيبة خارقة تجعلهم يؤمنون، أو ضع سلماً واصعد إلى السماء لعلك تجد آية تقنعهم بها، الآيات كثيرة، والنذر كثيرة لكنهم لا يريدون الإيمان فلن يؤمنوا، فلا تتعب نفسك.

أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
( سورة فاطر)

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)
( سورة الكهف)

أي مُهلِكٌ نفسك (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ)

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
( سورة التوبة)

إذاً النبي -صلى الله عليه وسلم- لماذا كان يكبر عليه إعراضهم؟ ولماذا كان يحزنه ما يقولون؟ ليس انتصاراً لنفسه، وإنما رحمةً ورأفةً بالمؤمنين، وإنما (عَزِيزٌ عَلَيْهِ) أن يتركوا المنهج، وحرصاً منه (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ)
فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم- من رحمته، ومع ذلك الله لا يريد منه أن يذهب نفسه حسرات، وأن يهلك نفسه في ذلك، وإنما ادعُ إلى الله.

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً(29)
( سورة الكهف)

فقال: (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ) أن تطلب (نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ) تصعد فيه إلى السماء (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) فافعل ذلك، ولكن لن يكون ذلك، ويعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لن يكون ذلك.
قال: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) لو أراد الله تعالى أن يهتدوا لجمع الجميع على الهدى، كل الناس مؤمنون، كل الناس صالحون، كل الناس متقون، وانتهى الأمر، لكن هذا لا معنى له، ولا يقدم ولا يؤخر، أبداً، لا معنى بأن يجمع الله الناس على الهدى.
الله يترك لعباده حرية الاختيار
بربكم اليوم؛ لو أراد ملك من ملوك البلاد أن يجمع على أمر واحد، ملك من ملوك الأرض ألا يجمعهم؟ لما أرادت الحكومات أن تبقي الناس في البيوت في أيام فايروس كورونا ألم يبقوهم في البيوت؟ هل استطاع إنسان أن يخرج؟ يعني هل كان كل الناس مقتنعون بجدوى الإجراءات الحكومية؟ كثير من الناس لم يكونوا مقتنعين، ولكن بالقانون قُسِروا وجلسوا في بيوتهم ألم يجمعوهم على وضع الكمامة عند الدخول إلى المناطق العامة؟ جمعوهم بالمخالفة، الكل يضع الكَمامة، أو الكِمامة في صحيحها، على وزن عِمامة، كلهم وضعوا الكِمامة ودخلوا فجمعوهم على شيء واحد، لكن ما معنى ذلك؟ وهم في داخلهم لا يجدون الرغبة في ذلك وإنما يفعلونه قسراً، إذاً لا معنى للإيمان القسري، وإنما أراد الله تعالى أن تكون العلاقة علاقة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
( سورة المائدة)

فقال :

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
(سورة البقرة )

فهو لا يريد أن يجمعهم على الهدى، يريد أن يدع لهم حرية الاختيار، وأن يحاسبهم على اختيارهم (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) طبعاً هنا الجهل مقصود به (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) بهذه الحقيقة بأن الله (لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) وليس الجهل العام، طبعاً لأنه قد يقال إن نفي الشيء فرعٌ عن تصوره فهل يمكن أن يكون النبي جاهلاً حتى يقال له (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) لا طبعاً، النبي -صلى الله عليه وسلم- هو أعلم الخلق بالله، ولكن (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) بهذه الحقيقة التي ربما تغيب عنك في غمرة إساءتهم لك، وفي غمرة كلامهم عليك فتنسى هذه الحقيقة، فلا تجهل تلك الحقيقية فهي حقيقة مهمة وهي أن الله تعالى أراد أن يكون الناس مختلفين، فمنهم يستجيب، ومنهم لا يستجيب، ومنهم يعقل، ومنهم من لا يعقل، ومنهم من يتبع الحق، ومنهم من يتبع الباطل فلا تجهل هذه الحقيقة، وتُذهِب نفسك حسرات عليهم، وأنت في غنى عن ذلك لأن الله تعالى أعلم بعباده فعليك بالدعوة إليه، واترك ما سوى ذلك لربك فإنه الأعلم بحال عباده.
والحمد لله رب العالمين