الفتنة والتوبة وعلم الله عز وجل

  • اللقاء السابع من تفسير سورة الأنعام | شرح الآيات 53 - 59
  • 2023-01-21

الفتنة والتوبة وعلم الله عز وجل

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللَّهم علّمنا ما ينفعنا، وأنفعنا بما علّمتنا، وزدْنا علماً وعملاً مُتقبّلاً يا رب العالمين، وبعد:

النجاح والرسوب في الفتن:
فهذا هو اللقاء السابع من لقاءات سورة الأنعام وتلكم هي الآية الثالثة والخمسون من السورة وهي قوله تعالى:

وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوٓاْ أَهَٰٓؤُلَآءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ(53)

هذه الآية سُبقت بما تكلمنا عليه في اللقاء الماضي وهو قوله تعالى:

وَلَا تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ(52)

كلّ منا فاتن ومفتون
هذه الآيات تتحدث عن قضية؛ مسلمون مستضعفون: عمار، بلال، صهيب، سلمان، هؤلاء يدخلون إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- أسلموا معه واتبعوا منهجه في بداية الدعوة، أغنياء قريش و موسوروها وأقوياؤها لم يستجيبوا للدعوة، الآن بدأت هذه المواجهة الباردة كما يُقال، هم يريدون أن يعطوا لأنفسهم مكانة، بعض هذه المكانة طلبوها من خلال طرد هؤلاء" نحن لاندخل إليك وعندك الضعفاء" فجاء التوجيه الإلهي (وَلَا تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ) ثم يقول تعالى: ( وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ) نحن هنا أمام بعضين: بعض فاتن وبعض مفتون، والفاتن مفتون في الوقت نفسه، والمفتون فاتن في الوقت نفسه، الناس عموماً كلّ منا فاتن ومفتون، فالله تعالى يبتلي شخصاً آخر به ويبتليه بشخص آخر، أنت الآن إذا وقعت عقد شراكة بينك وبين شخص اعلم أن الله سيفتنك به وسيفتنه بك، الفتنة ليست مفهوماً سيئاً كما يظن البعض، الفتنة مفهوم حيادي ابتلاء، فلا يُذم الامتحان ولكن تُذم نتائجه إن كانت بخلاف ما ينبغي، الإنسان ابتداءً ما يقول: لماذا في الجامعة امتحان يا أخي ؟دعونا من غير امتحان، الامتحان شيء سيئ، هذا كلام لا يقوله عاقل، الامتحان ليس سيئاً لكن نتائجه قد تكون سيئة، فالامتحان لا يُذم ابتداءً، فالفتنة هي الابتلاء والامتحان والاختبار فقط (مفهوم حيادي)، فالآن أنت مع شريكك وقعت صفقة عقد... الخ، الآن أنت فاتن ومفتون وهو فاتن ومفتون، فالله تعالى يفتنك به ويفتنه بك، فإن تعاملت معه وفق شرع الله –عزَّ وجلَّ- فقد نجحت في الفتنة، وإن تعامل معك بخلاف شرع الله فخان الشراكة فقد رسب في الفتنة ( وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ) هنا في هذا الموضع الفتنة كانت بين الغني والفقير، حتى في واقع الحياة الأقوياء مفتونون بالضعفاء، والضعفاء مفتونون بالأغنياء، الأصحاء مفتونون بالمرضى والمرضى مفتونون بالأصحاء، الأغنياء بالفقراء والفقراء بالأغنياء، فهنا الفتنة (بَعْضَهُم بِبَعْضٍ) بلال و صهيب وعمار و سلمان ضعفاء المسلمين مفتونون بزعمائها كأبي سفيان وزعماؤها مفتونون بهم ( وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ) فالفقير إن تجمّل في فقره فقد نجح في الفتنة، وإن مد عينه إلى ما أعطاه الله تعالى للآخرين وسخط على ربه فقد رسب في الفتنة، والغني أو القوي إن اعتزّ بغناه وقوته وتعالى على الضعفاء والفقراء كما هو الحال في موطن السورة هنا من تعالي هؤلاء وطلبهم أن يُطردوا من المجلس حتى يدخلوا فقد رسبوا في الفتنة، أما الضعفاء فقد فُتنوا بالأقوياء فنجحوا في الفتنة، ما دفعه فقرهم وضعفهم إلى أن يمالئوا أو يتزلفوا للغني أو يتزلفوا للقوي أو يعطوا الدنيّة في دينهم و إنما بقوا أعزاء النفس رغم فقرهم وضعفهم، فقال تعالى ( وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ) هذا امتحان امتحن به القوي والضعيف، الغني والفقير ( لِّيَقُولُوٓاْ ) فكانت نتيجة الفتنة أنهم قالوا:( أَهَٰٓؤُلَآءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ) هذا الرسوب في الفتنة، بدلاً من أن يتجهوا إلى الحق وأن يعلنوا انتماءهم لدين الله –عزَّ وجلّ-وولاءهم له، كان منهم أن قالوا:( أَهَٰٓؤُلَآءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ) يعني الآن ربنا –عزَّ وجلَّ- لم يهدِ إلا هؤلاء الضعفاء والفقراء؟! لو كان خيراً لمُنّ علينا به نحن الأقوياء؛ لأننا نحن الأقوياء ونحن الأغنياء فاستهزؤوا بالضعفاء والفقراء وقالوا:( أَهَٰٓؤُلَآءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ) وهذا الحال يجري اليوم في واقعنا كثيراً، يقول لك أحدهم: تريد أن تقنعني أن فلاناً على حق؟! لو لم يكن فقيراً ولم يكن حاله كذا وكذا لما اتجه إلى المساجد ولما وقف بين يدي الله، يستهزئ بالفقير، يستهزئ بالضعيف، وحاله أو ولسان حاله كقول هؤلاء المشركين:(أَهَٰٓؤُلَآءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ) فيجيبهم-جلَّ جلاله –:(أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ) والشكر غالباً ما يأتي أو كثيراً ما يأتي في القرآن في مقابل الكفر.

إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ(7)
(سورة إبراهيم)

فالشكر هو الإيمان، يشكر فيؤمن، وقيل: (أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ) له-جلَّ جلاله– على هدايته، فهؤلاء شكروا الله تعالى أن هداهم إلى الحق ومنّ عليهم بالهداية (أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ).

التحية في الإسلام:
قال:

وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُۥ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِۦ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(54)

تحية الإسلام السلام
وورد أن النبي –صلى الله عليه وسلم-لما نزلت عليه هذه الآية كان يبادئ الفقراء والضعفاء بالسلام، هو يبدؤوهم إذا رآهم فيقول: السلام عليكم -بجميع الأحوال-، طبعاً السلام له قواعد في الشرع، الداخل يسلم عمن هو في داخل الغرفة، والقائم يسلم على القاعد وهكذا، فلهو قواعد، لكن رسول–صلى الله عليه وسلم- لما نزل عليه قوله تعالى: (سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ) جعل إذا وجد فقيراً من هؤلاء المستضعفين الذين كانوا مؤمنين به من بداية الدعوة يبتدئهم فيقول: سلام عليكم، والسلام والسلامة بمعنى واحد وهو سلامة الإنسان سلامة جسده من الأمراض ونفسه من الآفات، لذلك تحية الإسلام السلام، فإذا قال أحدنا للآخر: السلام عليكم، كأنه يقول له: علاقتي بك سينتظمها السلام فلا أؤذيك لا في جسمك، ولا في أهل بيتك، ولافي نفسك، ولا أعيبك، ولا أغتابك؛ هذا معنى السلام، بيني وبينك السلام، لذلك من قلة الفهم أن نستبدل تحية الإسلام بتحية ليست من ديننا في شيء، الأصل هو السلام.
(فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ) الكتابة: هي التسجيل أن يكتب الإنسان شيئاً، والإنسان بطبعه يميل إلى الكتابة لأنها تثبت حقه، فإذا أنت أقرضت إنساناً مبلغاً تقول له: اكتبه لي، والقرآن الكريم أثبت هذه الحاجة فقال:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْـًٔا فَإِن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُۥ بِٱلْعَدْلِ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَىٰهُمَا ٱلْأُخْرَىٰ وَلَا يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلَا تَسْـَٔمُوٓاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰٓ أَلَّا تَرْتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقٌ بِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ(282)
(سورة البقرة)

بل إن الكتابة في بعض أقوال أهل العلم واجبة بالديون، وعند بعضهم مندوبة لكن مندوبة ندباً شديداً، ينبغي أن يُكتب الدين لأن الدنيا فيها حياة وفيها موت، وقد تخرج من عنده وقد أقرضك ثم يتوفاه الله فمن بينكما؟ فالأصل أن يكتب الإنسان ديونه وقروضه، فـ (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ) الكتابة ميل في الإنسان إلى أنه استوثق من حقه بالكتابة، لذلك ربنا –جلَّ جلاله-تماشياً مع حاجة الإنسان إلى ذلك يستعير الكتابة ليعبر عن أنه ألزم ذاته إحساناً منه وتفضلاً بالرحمة، فالله تعالى لا يلزمه شيء بشيء أبداً.

لَا يُسْـَٔلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـَٔلُونَ(23)
(سورة الأنبياء)

فهو الخالق، لكن رغم ذلك كتب عنده فوق العرش:

{ لما قضى اللهُ الخلقَ، كتب في كتابِه، فهو عندَهُ فوقَ العرشِ: إِنَّ رحمتي غلبتْ غضَبِي }

(رواه البخاري عن أبي هريرة )

وفي رواية سبقت غضبي، مكتوب عنده فوق العرش: (إِنَّ رحمتي سبقت غضَبِي) فأصل تعامله مع عباده هو بالرحمة، وقال تعالى:

وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا(82)
(سورة الإسراء)

الرحمة هي الوقاية، والشفاء هو العلاج، فإن أصابك مكروه ففي القرآن شفاؤك وإن أردت ألا يصيبك مكروه فالقرآن رحمة لك، فالرحمة هي وقاية والشفاء هو علاج، فربنا-جلَّ جلاله– كتب على نفسه الرحمة، ولو سأل سائل: ما معنى نفس الله؟ لقلنا له ما قلناه سابقاً: نفس الإنسان جسد وذات وروح ودم مجموعها تشكل ما يسمى النفس، لكن الله تعالى ليس كمثله شيء، فكتب على نفسه الرحمة إما تعني أنه كتب على ذاته العليّة الرحمة، أو نثبت له ما أثبته لنفسه-جلَّ جلاله– من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف، من غير كيف.

فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَمِنَ ٱلْأَنْعَٰمِ أَزْوَٰجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِۦ شَىْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ(11)
( سورة الشورى)


أصل العلاقة هي الرحمة:
(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ) واستخدم هنا ربكم ولم يقل كتب الله أو إلهكم وإنما استخدم مفهوم الربوبية؛ لأن التربية من الربوبية والرحمة ربوبية، فالأب عندما يرحم ابنه فهذا من التربية، وعندما يعاقبه فهذا من التربية، وقد تكون العقوبة رحمة بحق المعاقب، قال الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يكُ راحماً فلْيَقْسُ أحياناً على من يرحم
{ أبو العلاء المعري }
أحياناً تحتاج التربية إلى قسوة وتكون القسوة عين الرحمة لذلك قال إبراهيم لأبيه:

يَٰٓأَبَتِ إِنِّىٓ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَٰنِ وَلِيًّا(45)
(سورة مريم)

المرض رحمة للمؤمن
ما قال: من المنتقم بل قال من الرحمن؛ لأن الله تعالى أصل علاقته بعباده الرحمة، فلو مرض فالمرض رحمة للمؤمن، ولو خسر بعض ماله فخسران بعض ماله رحمة له، فأصل العلاقة هي الرحمة لذلك قال: (كَتَبَ رَبُّكُمْ) لأنه يربي عباده برحمته سواء جاءت الرحمة على ما يحب أو جاءت على شكل قسوة ألجأته إلى باب الله فكانت في حقيقتها رحمة، أو كفّرت عنه ذنوبه فكانت بحقه رحمة، أو رفعت له درجته فكانت بحقه رحمة.
(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُۥ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًا بِجَهَٰلَةٍ ) أحد مظاهر رحمته -جلَّ جلاله – أنه فتح باب التوبة لعباده، لو لم يكن رحيماً لما فتح لهم باب التوبة وعندها يقودهم أصغر ذنب إلى أكبر ذنب إلى نار جهنم، فلو أن الإنسان إذا أطلق بصره بالحرام لا يوجد توبة، أو كان المنهج الشرعي أن الإنسان يستطيع أن يخطئ عشر مرات في حياته كما يفعل مثلاً مدير الشركة مع موظفيه فيقول: عندك مجال لثلاثة أخطاء بعدها أفصلك من العمل، انتهى، لو ربنا–عزَّ وجلَّ- قال: "عندكم عشرة أخطاء"، كل الناس من أول عشرة أيام يستنفدون أخطاءهم وانتهى الأمر، دعه يتابع بالمعاصي و الآثام، لذلك من أسوء أنواع التربية أن تغلق أبواب العودة والصلح في وجه من تربيه، إذا كان أخطأ ابنك فحاصرته بشكل ليس عنده مجال لأن تغفر له ما مضى، فكأنك تعطي له رسالة بأن تابع في غيك، وإذا كان المعلم ما عنده مجال ليصلح الطالب خطأه كأن يقول له: إذا جئت المرة القادمة وحللت الواجب فأمحو لك ما سبق، إن لم يكن في منهج التربية ما يفتح صمام أمان فالعاصي أو الجاهل أو المخطئ يتمادى في معصيته، ربنا -جلَّ جلاله – رحم عباده بأن فتح لهم باب التوبة، قال: (أَنَّهُۥ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًا) شيئاً بخلاف منهج الله تعالى، السوء ما خالف منهج الله، أطلق بصره في الحرام إلى أعلى درجة في ذلك كأن –نسأل الله السلامة- يزني، أكل مالاً من حرام، شرب خمراً، حتى الكبائر الصغائر والكبائر (أَنَّهُۥ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًا بِجَهَٰلَةٍ) يعني هذا السوء كان بجهالة منه، كل سوء يعمله عاصٍ فهو بجهالة كما ورد عن السلف؛ لأن الإنسان لو لم يكن عنده جهالة لما صنع السوء، وأوضح جهالة هو أنه لم يتدبر عاقبة أمره، أعظم جهالة أنه عندما ارتكب الفاحشة أو السوء أو الإثم لم ينظر إلى عقاب الله تعالى له، فأي جهل أعظم من ذلك؟! هذه الجهالة، وقيل: الجهالة هي السفه والطيش، يعني ألا يتدبر عواقب الأمور، وقال بعضهم الجهالة هي ما يكون من الإنسان بغير تخطيط، هذا إشارة إلى أن التوبة عندما تكون من غير تخطيط فإن الله -عزَّ وجلَّ- أرحم بعبده من أن تكون بتخطيط مسبق، بمعنى أنه ذهب إلى بلد ما، اغترب وفي غربته عرضت له امرأة ففعل معها مالا يجوز فعله ثم ندم واستغفر، هذا ليس كإنسان جلس في بيته واختار الفندق الذي يريده في غربته، ووضع خطة لما سوف يفعله من موبقات في سفره ثم قصد في سفره المعصية، الأول قصد الدراسة لكنه فعل سوء بجهالة أي بغير قصد، والثاني خطط ونفذ، فليس الأول كالثاني، لكن عموماً كل سوء يُفعل فهو بجهالة، ومهما عظم ولو كان بتخطيط مسبق فإن الله يغفره، لكن التوبة من الذنب الذي يُفعل بغير قصد وتخطيط مسبق أسهل على العبد وأرجى للقبول عند الله من ذنب يُفعل بتخطيط مسبق وبعقد مسبق، بعقد للعزم مسبق فالأول أسهل من الثاني.
(أَنَّهُۥ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِۦ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) -جلَّ جلاله– تاب وأصلح، التوبة ندم، والتوبة عزم، والتوبة إصلاح، الندم على ما كان، والعزم على عدم العودة في المستقبل، والإصلاح فيما ينبغي إصلاحه، يعني لو كان هناك حقوق للعباد فالإصلاح يقتضي أن ترد الحقوق إلى أصحابها، ولو لم يكن هناك حقوق للعباد فالإصلاح يقتضي أن تأتي بالحسنة التي تذهب السيئة.

{ ما مِن عبدٍ يُذْنِبُ ذنبًا فيتَوضَّأُ فيُحسِنُ الوُضوءَ ثمَّ يُصلِّي رَكعَتينِ فيستغفرُ اللهَ عزَّ وجلَّ إلَّا غفَرَ لهُ }

(أخرجه أبو داود عن علي بن أبي طالب)

فهذا إصلاح، التوبة هي ندم على ما كان، الإصلاح هو شيء تفعله تؤكد به صدق توبتك، ومن ذلك أن ترد الحقوق لأصحابها إن كان الذنب بينك وبين إنسان، قال: (فَأَنَّهُۥ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) يغفر الذنب ويرحم عبده -جلَّ جلاله–.

إيضاح طريق المجرمين:
قال:

وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْءَايَٰتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ(55)

الاجتهاد سيؤدي إلى النجاح
تفصيل الآيات: أي تبيينها، وتفصيل بمعنى أن الآيات تأتي تباعاً بحيث يستوعبها الإنسان ولا تأتي متصلة، مفصلة، فأنت إذا أردت أن تعلم في درس ففصّل: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، تفصيل، أما إذا ألقت المعلومات كلها كمّاً واحداً دون تفصيل فقد لا يستطيع السامعون أن يدركوا مرادك منها (وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْءَايَٰتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ) أي ولتضح طريق المجرمين، وقُرأت (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ ٱلْمُجْرِمِينَ)، قراءة (ولتستبين سبيلُ) سبيلُ: فاعل، أي لتضح طريق المجرمين، حتى تضح الطريقُ، وأما قراءة (ولتستبين سَبِيلَ ٱلْمُجْرِمِينَ) أي ولتستبين يا محمد- صلى الله عليه وسلم- ولتستبينوا من بعده يا مؤمنين سبيل المجرمين، لتستبينوا أنتم السبيل، فكل قراءة تعطي معنى (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ) وهناك قراءة (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ ٱلْمُجْرِمِينَ)، قراءة حفص عن عاصم (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ) أي لتضح سبيل المجرمين، فالفعل هنا لازم فعل وفاعل، لتضح طريق المجرمين، وكيف تضح سبيلُ المؤمنين؟ إذا اتضحت سبيل المجرمين عرفت من خلالها سبيل المؤمنين، إذا قلت: لك هذا الإهمال سيؤدي إلى الرسوب إذاً الاجتهاد سيؤدي إلى النجاح، فإما أن تبين طريق المجرمين.
عَرَفتُ الشَرَّ لا لِلشَر لَكِـــن لِتَـــوَقّــيــهِ وَمَـن لَم يَـعرِفِ الشَرَّ مِـنَ الخَـيرِ يَقَع فيهِ
{ أبو فراس الحمداني }
فإذا وضحت لابنك أن هذا السبيل سيؤدي إلى الشيء السيء، فكأنك قلت له: إن السبيل المقابلة له ستؤدي إلى شيء جيد، ابنك في مقتبل شبابه وبدأ كقيادة السيارة فجلست معه وبينت له النتائج الوخيمة للسرعة ولإزعاج الناس بأصوات بوق السيارة و...الخ، وبينت له كل ذلك، وربما عرضت له فلماً يوضح خطر عدم وضع حزام الأمان أثناء السفر...الخ، الآن كل هذا كله تعريف بالشر لكن هو عرف حكماً طريق الخير، هو ما يقابل ذلك، يعني إذا قلت لك: هكذا يفعل عدم وضع حزام الأمان إذاً وضع حزام الأمان هو أمان في السفر ينجيك من أن تقع في حادث فيصيبك مكروه وهكذا، (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ) فإذا عرف الإنسان سبيل المجرمين فقد عرف سبيل المؤمنين المحسنين، هذه طريقة في التربية إما أن تبين وهذه أحياناً تكون أدعى في التأثير.

بيان سبيل المجرمين من منظور تربوي:
التسلل من خلال الصورة إلى عقول الناس الباطنة
الإنسان بشكل طبيعي الوضع الصحيح لا يثير عنده من الداخل شيئاً، اليوم الدراما تعتمد على ماذا؟ المسرح الدراما على إيجاد مشكلة، لو أن دراما مؤلفة من ثلاثين حلقة كما يفعلون اليوم ويهيئونها لرمضان، لو أن الدراما هي عبارة عن بيت يعيش كما يعيش جميع الناس، الأولاد يلتزمون يأتون في الوقت المحدد، الزوج مع زوجته حياة طبيعية، ما أحد دخل و سرق البيت، ما صار مشكلة بين الزوجين، لم يتأخر الأولاد على البيت، ما أخذ أحد الناس الفاسقين ولداً وعلّمه مخدرات بعد ثلاث أربع حلقات الناس يملون لا يتابعون المسلسل أبداً، هو يعتمد على وجود مشكلة، لكن المشكلة في الدراما أن أكثرها يعرض المشكلات على نحو يقبله المجتمع لا على نحو يرفضونه فيستمرئ الناس الرذيلة؛ هنا المصيبة أنهم يتسللون من خلال الصورة إلى عقول الناس الباطنة، الناس العوام غير الواعيين فيقنعونهم بأن المجتمع الذي فيه شرب خمور عادي جداً الأمور تحصل، لكن هناك مشكلة إذا كان شرب الخمور أذهب العقل فقط فيقنعونهم بجزء من شرب الخمور بأنه لا شيء فيه، التبرج يقنعونهم به بطريقة أخرى المتبرجة امرأة حضارية وضعها جيد ما عندها أي مشكلة مع زوجها، تستقبل أصدقاء زوجها في غيابه بكل حضارة ورقي وتقدم كما يزعمون، فالمشكلة أنهم يعرضون الرذيلة على نحو تقبله النفوس في كثير من الأحيان لا على نحو ترفضه النفوس، لكن القصد من هذا الكلام كثير من الأحيان ما يكون عرض الجانب سلبي يجذب الناس، فإن استطعت في التربية أحياناً أن تبين سبيل المجرمين لمن تربيه فهذا شيء جيد، لكن أن تبينه على النحو الذي يكرهه ابنك لا على النحو الذي يرفضه، كثير من الشباب الذين يدخنون في مقتبل العمر بسبب الصورة النمطية التي توضع لهم في الإعلانات على أن التدخين هو رجولة، هو حاجة عنده ثم يعتادها ويدمن عليها لكن في الأصل توضع له على أنها رجولة، وتعطيك شعور بالنكهة والمتعة والحياة وانطلق إلى الحياة، فيعطونه شعوراً بأن هذا سيجعله في وضع آخر غير الذي هو عليه، صورة مختلفة عن الواقع فيقنعونه، النتيجة إذا أردت أن تبين سبيل المجرمين فبيّنها فهذا أسلوب تربوي مهم لكن على نحو يكرهه الإنسان لا على نحو يحبه وهي وسيلة تربوية(وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ)، قل يا محمد–صلى الله عليه وسلم-:

قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُل لَّآ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَآ أَنَا مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ(56)

{ الدُّعاءُ هو العبادةُ كما قال –صلى الله عليه وسلم-ثمَّ قرأ (وَقال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِين(60) سورة غافر }

(أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة عن النعمان بن بشير)

إذاً ربنا -جلَّ جلاله – سوّى بين الدعاء والعبادة فقال: (إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ)أي تعبدونهم من دون الله أو تدعونهم بمعنى الدعاء الذي هو العبادة أي تدعونهم على وجه العبادة، أنا أدعو الآن إنساناً لكن لا أدعوه على وجه العبادة أطلب منه لكن لا أطلب منه على وجه العبادة، أما إذا أصبح دعاؤكم لهم على وجه عبادتكم إياهم فهذا منهي عنه، والذين يدعونهم من دون الله كثير بدءاً بالأصنام وانتهاء بأمرائهم ورؤسائهم، واليوم هناك من يدعو ويعبد من دون الله بطرق مختلفة، فيطلب من فلان من الناس على وجه العبادة لا على وجه السؤال.
(قُل لَّآ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَآ أَنَا مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ)، (قُل لَّآ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ) فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم، هما حالتان إما أن تستجيب لرسول الله و إما أن تكون متبعاً لهوى نفسك وليس هناك حل وسط بينهما، الإنسان إما أن يستجيب للحق أو أن يكون متبعاً للهوى، لا يوجد حالة ثانية أنه والله أنا لا أريد الحق لكن أنا لا أريد هوى نفسي، ما الذي تريده إذاً؟! الذي لا يريد الحق يريد هوى نفسه، الحق في أن تتزوج لا أن تزني، فإذا قال: أنا لا أريد الزواج إذاً هو يريد الفاحشة بطريقة أو بأخرى، لا يوجد حلول وسط بمعنى أن الإنسان يرفض الحق ويرفض هوى نفسه، فقال: (قُل لَّآ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَآ أَنَا مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ).

الإنسان خلق من عجل:

قُلْ إِنِّى عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِۦ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِۦ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَٰصِلِينَ(57)

(قُلْ إِنِّى عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى) على منهج واضح مصدره علوي سماوي ليس أرضياً، (وَكَذَّبْتُم بِهِ) وكذبتم بتلك البينة وبهذا المنهج البيّن الواضح، (مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) ما الذي كانوا يستعجلون به؟ العذاب.

أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةِ قَبِيلًا(92)
(سورة الإسراء)

يريدون عذاب الله استهزاء.

وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ(16)
(سورة ص)

الإنسان بطبعه يحب العجلة
ألا تقول أن الله سيحاسبنا؟ نريد الحساب الآن، قل: (مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أنا لا أملك ذلك الذي يملكه هو الله (إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) الحكم في العذاب والعقاب والثواب لله تعالى وحده، لماذا يستعجلون؟ الإنسان بطبعه يحب العجلة حتى أحياناً بالعذاب كما فعل هؤلاء، وإن كانوا قالوها استهزاء لكن الإنسان عموماً يريد الشيء العاجل، جرب الآن مع ابنك أن تقول له: إذا درست لك مفاجأة عندي، فوراً يقول لك أول شيء ما أن يمسك الكتاب ويدرس، فوراً يقول لك: ماهي المفاجأة؟ يا بني هي مفاجأة، اسمها مفاجأة، أرجوك لا تقل لولدك عندي مفاجأة إلا إذا كنت محتملاً للأخذ والرد لساعات طويلة قبل أن يحين موعد المفاجأة، مجرد أن تبشر إنساناً بشيء سيأتيه سيسألك متى؟ وكيف؟ وما هو؟ الإنسان خلق من عجل.

وَيَدْعُ ٱلْإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُۥ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًا(11)
(سورة الإسراء)

خُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَٰتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ(37)
(سورة الأنبياء)

فهو يستعجل الأشياء قبل وقوعها، وعظمة إيماننا أنه يأمرك ألا تستعجل، كيف أن النفس تريد أن تطلق البصر والشرع يقول له: غض البصر، كيف أن النفس تريد أن تنام عند الفجر والشرع يقول له: استيقظ إلى الفجر، معارضة دائمة، أيضاً النفس تريد الشيء العاجل والشرع يقول لك: انتظر الآجل، فقط هي هذه المعادلة، فالإنسان يستعجل والله تعالى يأمره ألا يستعجل، قال تعالى: (خُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَٰتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) لا تستعجل، ستأتي الآيات لكن لا تستعجل، يريد أن يرى مصير الظالمين غداً، والله تعالى يقول لنبيه:

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ(46)
(سورة يونس)

هو مهمتك أن تصبر، إذا صبرت جاءك الآجل، إذا استعجلت فاتك الآجل، قل: (مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِۦ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ) فالله تعالى لا يذكر ولا يقص علينا إلا الحق (وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَٰصِلِينَ) أي هو خير من يفصل بين حق وباطل، بين خير وشر.

قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِۦ لَقُضِىَ ٱلْأَمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِٱلظَّٰلِمِينَ(58)

أي من العذاب، لو أن الأمر بيدي أن أعذبكم الآن لقضي الأمر بيني وبينكم، كنت عذبتكم وأوقعت بكم العذاب الآن وانتهى الأمر بيني وبينكم إلى غير رجعة، لو أنني أملكه لفعلته، (وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِٱلظَّٰلِمِينَ)، لكن الله تعالى هو الأعلم -جلَّ جلاله –بمن ظلم بإعراضه عن منهج ربه وظلم نفسه بحرمانها من الخير، وظلم الآخرين بإعراضه عن منهج ربه، فهو أعلم بهم وأعلم بعقابهم ومتى يعاقبهم -جلَّ جلاله –.

مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ:
الغيب لله تعالى وحده
مفاتح جمع مِفتَح: وهو الشيء الذي يُفتح، يعني عنده خزائن الغيب أو ما يُفتح به الخزائن كمفاتيح، مفتاح مفاتيح، الغيب لله تعالى وحده، ما مناسبة (وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ)؟ هو استعجالهم بالعذاب، العذاب غيب، فإذا كنت مؤمناً فينبغي أن تصدق بالغيب، والثواب غيب، ومفاتح الغيب عند الله وحده قال: (لَا يَعْلَمُهَآ إِلَّا هُوَ) الغيب المطلق لا يعلمه إلا الله، الغيب النسبي قد يعلمه الإنسان، الغيب الإضافي قد يعلمه الإنسان، النسبي؛ أنت تقول: سُرقت محفظتي لا أعلم أين هي، لكن السارق يعلم أين محفظتك، فهي غيب بالنسبة لك لكن السارق الآن يعلم أين وضعها، فهذا ليس غيباً مطلقاً، والغيب الإضافي هو ما يمكن أن تعلم به لاحقاً، أنا لا أعلم ما هو المرض الذي معي ولا من حولي يعلمون لكن هناك تحليل اليوم ننتظره 3 أيام، خزعة و ثلاثة أيام تخرج النتيجة، فهذا غيب إضافي له شيء يُضاف إليه فيُعلم، لكن الغيب المطلق بمعنى أنه غداً الساعة الثانية عشر والربع ما الذي سيحدث معي؟ والله لا أدري، وهل هناك من يدري؟ لا، وهل هناك معلومة أضيفها فأعلم؟ لا، أبداً، لا يوجد أي شيء أستطيع فعله، ممكن ألتزم بيتي ويصير معي هذا الأمر داخل البيت، ممكن أخرج يصير معي خارج البيت، لذلك التشاؤم والطيرة محرمة في الدين؛ لأنه هذا التفكير يؤدي إلى التشاؤم فالبعض يقول لك: أنا الأربعاء لا أخرج من بيتي، و البعض يقول لك: أنا هذا الطريق لا أمر منه، و خرج المعري يوماً وكان متشائماً فوجد ستارة مثل الستائر هذه قد رُبطت فأصبحت على شكل (لا) ومعها صحن تمر فقرأها(لا تمر) فرجع إلى بيته، فالتشاؤم ليس له شيء إنه محاولة لفهم الغيب، التشاؤم هو محاولة لاستقراء الغيب غير منطقية وغير صحيحة لأنك لا تملك مفاتحها؛ لذلك التشاؤم محرم، هو محاولة لاستقراء الغيب من غير أن تملك شيئاً من أدوات الغيب فقال: (وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَآ إِلَّا هُوَ) والنبي –صلى الله عليه وسلم-قال :

وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَآ إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَٰتِ ٱلْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ(59)

{ مفاتيحُ الغيبِ خَمْسٌ لا يعلَمُها إلَّا اللهُ: لا يعلَمُ ما تغيضُ الأرحامَ أحَدٌ إلَّا اللهُ ولا ما في غَدٍ إلَّا اللهُ ولا يعلَمُ متى يأتي المطَرُ إلَّا اللهُ ولا تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ ولا يعلَمُ متى تقومُ السَّاعةُ أحَدٌ إلَّا اللهُ }

(أخرجه ابن حبان والبخاري باختلاف يسير عن عبد الله بن عمر)

هذا غيب مطلق، وقد يُعترض عليه وقد بينت ذلك سابقاً أن يقول قائل: إن اليوم بالأرصاد الجوية نعلم، هذا بالأرصاد الجوية عندما اقتربت الغيوم لم يعد غيباً، أصبح غيباً عن بعض الناس الذين لم يشاهدوا الغيم، لكن الذين شاهدوه بالمناظير أصبح بالنسبة لهم شهادة أو غيباً إضافياً فهموه، فقالوا لك: الغيم اتجاهه هكذا، الرياح اتجاهها هكذا إذاً الغيمة ستصل إلى هنا وسيكون المطر، طبعاً أيضاً يبقى احتمال غير مطلق دائماً ليس هناك اسمه مئة بالمئة ستنزل المطر، لكن هو أيضاً غيب، والذي يقول لك: بالشهر الرابع عرفنا الذكر من الأنثى طبعاً؛ لأنه لم يعد غيباً رآه بالإيكو فما عاد غيباً، رآه بعينه فعرفه طبعاً كان غيباً لعدم وجود المناظير، أما ما يكون في الأرحام هذا الغلام طوله وعرضه ولون عيونه واتجاهاته وميوله وتفكيره وشهاداته وزواجه و مورثاته هذه لا يعلمها أحد إلا الله –عزَّ وجلَّ- ،وما قال لك: فقط ذكر أو أنثى أصلاً، لكن حتى ذكر أو أنثى هو بعد120 يوماً يُعلم بالمشاهدة وليس بالغيب، انتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهادة لكن كان هناك ستار لا نستطيع خرقه، بأجهزة حديثة اخترقناه فرأيناه أنه ذكر فقط، مثل أحدهم إذا قال لك: لا يعلم أحد ما يكون في الأرحام من ألف سنة، فقال لك: أنا لما ولدت زوجتي وشاهدته عرفته ذكراً، هي نفس الشيء لكن قبل أن تلده بالبطن عرفته أنه ذكر فقط، فمفاتح الغيب لا يعلمها إلا الله.

وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ:
قال: (وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ) بدأ بالبر لأنه الأقرب إلى مشاهدة الناس، لا يوجد إنسان إلا شاهد البر لكن وقت نزول القرآن وحتى اليوم هناك أناس لم يشاهدوا البحر مباشرة أما البر الكل شاهده، فبدأ به مع أن البحر هو الأوسع في الكرة الأرضية مما في البر من نبات، من نفط، من حيوانات، من إنس، من مزروعات، من ثمار، من بقوليات، ما في البر والبحر، البحر ما فيه من أسماك، يقال في البحر مليون نوع من الأسماك و الإشنيات والمحار، و البحر المسجور الذي تحته النار وقيعان البحار وكل ذلك (وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ) وحتى لا يتوهم متوهم أن العلم كلّي مثل أحدهم إذا قال لك: أناهذا البناء أعرف تفاصيله تماماً، كنت فيه من اللحظة الأولى التي بني بها إلى اللحظة الأخيرة، فسلني عما شئت به، فقال له أحدهم: الآن بالطابق الرابع كم شخصاً في البيت الرقم ثلاثة، قال له: هكذا فهمت من كلامي، أنا سأعرف لك كم واحداً جالساً في البيت؟! الآن لا أعرف، أحكي لك بشكل عام لا على التفاصيل، اسألني عن الدعامات، اسألني كم بيتاً بيع، كم بيتاً لم يبع، اسألني عن عموم البناء هذا الذي قصدته، فهنا (وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ)، ربما قائل يقول: ربنا–عزَّ وجلَّ- عموماً يعرف أنه هناك مزروعات و هناك جِمال وهناك كذا...لكن أعدادهم، فقال لك بعدها: (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) علم تفصيلي، الآن بمجاهل إفريقية بغابات لم تطأها قدم إنسان هناك ورقة تساقطت، نزلت من الأعلى إلى الأسفل بفعل الجاذبية ورياح عصفت بها فنزلت في مكانها، الآن ربنا–عزَّ وجلَّ- علم بسقوطها في كل جزء من أجزاء الثانية؛ هذا علم الله تعالى قال: (وَمَا تَسْقُطُ مِن) من: لاستغراق أفراد النوع، من ورقة؛ تين ولا جوز ولا ما تريد ولا صنوبر (إِلَّا يَعْلَمُهَا) -جلَّ جلاله –، فهذا أول شيء فيه باعث على تعظيم الله تعالى، أن هذا العلم لا يتأتى لبشر، وثانياً هناك باعث على الاطمئنان لوعد الله تعالى لأنه إذا سقطت الورقة فهو يعلمها، فإذا سقط الصاروخ ألا يعلمه؟! وسقطت القنبلة الانشطارية ألا يعلمها؟! الورقة يعلمها-جلَّ جلاله–، إذاً كله بعلمه فاطمئن، وكله بعلمه فتواضع لعظمته واطمئن لأنه يعلم، إذا أنت حدث شيء وأحببت أن توصله لجهة عليا واتصلت به هاتفياً وقلت له: أنا يجب أن أخبرك بشيء، قال لك: أنا أعرف الذي تريد قوله، أليس من أجل كذا؟ تطمئن، مادام يعرفه فهو يعرف كيف يتصرف، انتهى أضع رأسي وأنام، فالإنسان يطمئن إذا صاحب القدرة علم، فربنا -جلَّ جلاله – يطمئنك ويقول لك: تواضع لعظمتي.

الإنسان يخضع للعلم:
(وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ) اليوم حبوب التي يزرعونها حبوب البندورة أو حبوب التي تكون هكذا (وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَٰتِ ٱلْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ) هناك شيء رطب الفواكه، الثمار، وهناك شيء يابس الأوراق بالخريف، جذوع الأشجار، كل شيء في الكون إما أن يكون رطباً أو يابساً، قال: (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ) مكتوب عند الله بكتاب واضح جلي، فالآن تفاصيل حياتك، اختلاجات نفسك، نياتك، ما يدور في خاطرك هذا كله في علم الله وفي كتاب مبين.

إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيًّا(3)
(سورة مريم)

فتناديه فيسمعك، فعلم الله–عزَّ وجلَّ-له مردودان على سلوكك؛ المردود الأول هو أن تتواضع لأن الإنسان يتواضع لمن هو أعلم منه دائماً، اجلس مع إنسان ثم يُهمس في أذنك: أتعرف من هذا؟ هذا صاحب مايكروسوفت مخترع الجهاز الفلاني تتواضع بين يديه، هذا طبيعة الإنسان يخضع لمن هو فوقه، وبلقيس بها كيف جاء بها سليمان؟ أخضعها لأنها ملكة ثم وجدت نفسها أمام سليمان الملك لا شيء، رفعت عن ساقها ظنت نفسها ستخوض في مخاضة ماء وفي الحقيقة هو صرح ممرد من قوارير.

قِيلَ لَهَا ٱدْخُلِى ٱلصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُۥ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ(44)
(سورة النمل)

انتهى تحت جناحه، الإنسان يخضع للعلم، فربنا-جلَّ جلاله–بهذا العلم ينبغي أن نخضع له، المردود الثاني: اطمئن كله بعلمه، إن مرضت فهو يعلم، وإن افتقرت فهو يعلم، وإن ظُلمت فهو يعلم، فعلمه-جلَّ جلاله– يجعلك في تواضع وفي اطمئنان، والحمد لله رب العالمين.