ذات الله العلية

  • اللقاء الثامن من تفسير سورة الأنعام | شرح الآيات 60 - 68
  • 2023-03-04

ذات الله العلية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً مُتقبّلاً يا رب العالمين وبعد:
مع اللقاء الثامن من لقاءات سورة الأنعام ومع الآية الستين من السورة وهي قوله تعالى:

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
( سورة الأنعام)


الله وحده المتفرِّد بأفعاله وصفاته:
الله تعالى يتحدث عن ذاته العليّة أحياناً بضمير المتكلم فيقول:

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
( سورة طه)

بضمير المُتكلم المُفرد عند التوحيد (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) ضمير المتكلم المفرد، و أحياناً يتكلم عن ذاته العليّة بضمير المتكلم الجمع.

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
( سورة الحجر)

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)
( سورة ق)

تنزيل الذكر فيه رحمة ولطف
في الحديث عن وحدانيته، عن ذاته المُتكلم المفرد، عن أفعاله المُتكلم الجمع، لأنَّ الحديث عن الوحدانية يناسبه المُفرد (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ) أما في الحديث عن أفعاله فهذا ضمير العظمة، ولبيان أنَّ فِعله هذا فيه طرفٌ من كل أسمائه الحسنى، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) تنزيل الذكر فيه رحمة فيه لطف، فيه شيء من الرحيم، شيء من اللطيف، من الجبروت، فيه شيء من الجبار، من الغفور من الودود، تودّد لعباده بإنزاله القرآن الكريم، فلمّا اجتمعت أسمائه الحسنى في فعل من أفعاله عبّر عنها بضمير المُتكلم الجمع، لكنه كثيراً ما يتكلم عن ذاته العليّة بضمير الغائب، في المصطلح اللغوي الضمير اسمه ضمير الغائب، يعني نحن عندنا مُتكلم أنا، نحن، وعندنا مُخاطب أنتَ أنتِ، وعندنا غائب هو، هي، هما، هم، هنَّ، إلى آخره، وهذا الضمير الثالث يسمونه في اللغة الإنكليزية، يعني الطرف الثالث غير الموجود معنا لذلك يسمونه غائباً، فإذا تكلم الله تعالى عن ذاته بضمير الغائب هو فهذا للمعهود في الذهن، فلا يقول في القرآن عن ذاته هو إلا عرفت أنه يتكلم عن ذاته، لأنه جلّ جلاله حاضرٌ لا يغيب، فأصبح ضمير الغائب لُغوياً في حقِّ الله تعالى لشدّة العِلم به وكأنه حاضر، فلمّا يقول لك:

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
(سورة الحشر)

فهو تعني الله، لذلك تتبع كثيرٌ من العلماء لفظ هو في القرآن الكريم، ودرسوه لأنه يشير إلى الله تعالى ونحن لسنا مع من قال أن هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى لأنه يَرد دائماً عن الله، لا نقول أنه اسمٌ من أسماء الله الحسنى ولكن نقول في القرآن الكريم ظاهرة تسترعي الانتباه وهي ضمير هو الذي يشير إلى ذات الله العليّة، يقول تعالى:

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
(سورة الأنعام)


الله وحده يتوفى الأنفس ويتوفى الأجساد في الليل:
المُتوفّي هو الذي يتوفى الأنفس
الله تعالى يتوفى الأنفس في الليل وفاةً مؤقتة، والإنسان لا يملك إدارة نفسه ليلاً، لا جسداً ولا نفساً، في النهار يُدير شيئاً من جسده ويُدار شيءٌ من جسده، في النهار يُدير شيئاً من جسده، يحرك يده إذا أراد طبعاً بمشيئة الله، لكن هو يُقرر أن يُحرك يده أو يُسكنها، لكن يتنفس تنفس غير إرادي، في الليل حركاته كلها، يتقلب، قد يُحرك يده يرفعها، يخفضها، تنفسه، عمل كليته في النهار وفي الليل، الكُلية تعمل من غير إرادة الإنسان تُصفي الدم، لكن في الليل وفاة كاملة بمعنى أنه لا يُدير جسده أبداً، ثم لا يُدير نفسه يعني لا يتحكم حتى بخواطره، فقد ينام على السرير وهو في عمّان فيرى نفسه وقد أصبح في واشنطن، ويظن نفسه هناك، ويخاف، وترتج به الطائرة، ويلحق به إنسان ويبكي ويتألم، فأين هذه النفس ليلاً؟ توفاها الله، وهذا التوفّي من الله للنفس، فالله تعالى هو المُتوفّي، حقيقةً هو المُتوفّي هو الذي يتوفى الأنفس، وفي آيات أُخرى:

فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
(سورة محمد)

بأمر الله

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ(61)
(سورة الأنعام)

بأمر الله، وهم ملائكة الله، رسل الله ملائكته، لكن المُتوفي حقيقةً الذي يتوفى الأنفس أي يأخذها إليه عند النوم هو الله، ولو شاء الله لجعلنا لا ننام، هو لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، لكنه جعلنا ننام دليلاً على البعث، فأنت عندما تستيقظ صباحاً ينبغي أن تقول وتؤمن يقيناً بأنّ الله الذي توفى نفسك في هذه الساعات الثمان ثم بعثك بعدها قادرٌ على أن يتوفى نفسك في أي لحظةٍ وفاةً دائمة وتعيش في عالم يسمى عالم البرزخ يشبه إلى حدٍ كبير عالم النوم الذي أنت فيه، فلا تشعر بالزمن وتجري فيه أحداث وتنتقل فيه مسافات وتعود فيه وتتألم، وتشعر، وتندم، وتخاف، وتفرح، وأنت في هذه الساعات التي لا تملك فيها إدارة نفسك فالنوم والبعث بعد النوم دليلٌ من أدلة البعث يوم القيامة ودليلٌ من أدلة أنَّ الله يتوفى الأنفس حين موتها، فالله تعالى هو المُتوفي جلّ جلاله يتوفى الأنفس ويتوفى الأجساد بالليل.

الإنسان مُحاسب على أفعاله ولا يُحاسب على نياته:
اللسان من الجوارح
(وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) جرحتم أي كسبتم ومنه الجوارح لأنها تجرح أي تكسب، تكسب الخير وتكسب السوء، في الليل من رحمة الله تعالى رُفع القلم عن النائم حتى يستيقظ، فالنائم لا يُحاسب فيقال له يوم القيامة لماذا رأيت في منامك كذا ليلة كذا؟! لا يُحاسب على ما رآه في منامه، لكنه يُحاسب على ما جرحه أي عَمله في نهاره، فلا يُحاسب على نومه ولا يُحاسب على نياته في نهاره وإنما على ما جرحتم، واللسان من الجوارح فإذا تكلم الإنسان فله أو عليه،

{ أنَّ مُعاذًا رضِيَ اللهُ عنه قال: يا رسولَ اللهِ، وإنَّا لَمُؤاخَذون بما نتَكلَّمُ به؟ فقال: وهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على مَناخِرِهم إلَّا حَصائدُ ألْسِنَتِهم؟! }

( أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه وأحمد)

لذلك قيل من عدَّ كلامه من عمله نجا، فالكلام عمل، حتى ما يقول إنسان يعلم ما جرحتم أنا تكلمت لم أفعل شيء، أنا قلت عنها كذا لكن أنا لم أفعل كذا!

{ إنَّ الرَّجلَ ليتكَلَّمُ بالكلمةِ لا يَرى بأسًا يهوي بها في النَّارِ سبعينَ خريفًا }

(البخاري)

أو يرقى سبعين درجةً، فالكلام عمل وهو جارحةٌ من الجوارح.
(وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي في النهار هذا دليل البعث، النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فأحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، فإرسال النفس صباحاً إي إعادتها إلى ما كانت عليه بحيث يستطيع الإنسان أن يُدير نفسه هو بذاته في معظم الأمر، وليس في كل الأمر لأنّ الله تعالى قاهرٌ غالب، حتى في النهار هناك دلائل على قوة الله المباشرة، طبعاً المؤمن يُدرك أنه يُحرك يده بقوة الله ويتكلم بقوة الله، لكن الغافل إذا غَفل يقول لك أن أتكلم عندما أريد وأسكت عندما أريد، أُصافح عندما أُريد وأمتنع عندما أُريد، فظنَّ أنه يتحكّم بيده وبجوارحه، فنقول له وماذا عن كُليتك هل أنت تُصفّي الدم فيها أم هي تُصفّي بقوة الله مباشرةً؟!

الله تعالى سمّى لكل إنسان أجله:
المرجع إلى الله أي كنّا عنده
(ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي يبعثكم في النهار حتى ينتهي الأجل الذي سُميَّ لك عند الله، فأنت تُدرك أنك ستنام وتستيقظ ولكن إلى أجلٍ مسمى وليس إلى أجلٍ غير مُسمّى، تعلم يقيناً أنَّ هناك يوماً ستنام فيه فلا تستيقظ، أو تستيقظ فيه فلا تنام، وإنما تنام النومة الأُخرى فتدرك ذلك، إلى أجلٍ مسمّى، من الذي سمّى الأجل؟ الله تعالى، (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) هذه قصة الحياة باختصار (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) المرجع إلى الله أي كنّا عنده، يقول رجع إلى البيت إذاً كان في البيت، فالمرجع إليه إذاً نحن كنا عنده جلَّ جلاله، فهو الذي خلقنا و نحن سنعود إليه، أطلقنا وأرسلنا في هذه الدنيا، فلان ستين سنة، فلان سبعين سنة، فلان لثمانين سنة، فلان لعشرين سنة، أرسلنا في الدنيا ثم يتوفانا نعود إليه، (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذه ثُم هي فترة البرزخ للترتيب على التراخي، هناك أُناس ماتوا قبل الميلاد يعني إلى الآن صار لهم بالوفاة ألفان وخمسمائة سنة، وهناك أُناس يموتوا اليوم يعني ناقص ألفان وخمسمائة سنة عن من مات قبله عن هذا الرجل القديم، ففترة البرزخ كل إنسان بحسب وفاته، الآن لو قال إنسان وقد سمعت ذلك من بعض أدعياء العِلم أنه مثلاً هذا ظلم، لماذا؟ قال لأن واحد يقضي بالبرزخ فترة طويلة وواحد فترة قصيرة، وكأن الله جلَّ جلاله غير قادرٍ على أن يجعل آلاف السنوات كساعة والساعة كآلاف السنوات

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47)
(سورة الحج)

العرب كانوا يقولون:" دقيقة الألم ساعة وساعة اللذة دقيقة" وكانت ولّادة هذه الشاعرة الأندلسية لها حبيبٌ تُحبه فكانت تقول
إن يطُل بعدك ليلي فلكم بتّ أشكو قصرَ الليل مَعك
{ ولادة بنت المستكفي }
إن يطل ليلي بعد هجرك، كان الليل قصير عندما كنت معك فأصبح طويلاً بعد أن هجرتك، فهذا في دنيانا نشعر بأن الزمن مختلف، تقول هذا الوقت لم أشعر به، وذاك الوقت مرّ عليَّ وكأنه سنة لشدّة ما فيه من الألم أو من الخجل، أو لأن الذي يجلس بجواري رجلٌ ثقيلٌ لا أحبه مثلاً، فيطول الوقت معه ويقصر مع من تُحب، هذا خلق الله الزمن الذي يحكمنا فنجد فيه سعةً أو ضيقاً، لكن هذا الزمن لا يحكم الله تعالى فهو جلَّ جلاله قادرٌ على أن يجعل آلاف السنوات كساعة والساعة كآلاف السنوات وهو العدل جلَّ جلاله.
(ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يخبركم بأعمالكم ويُجازيكم عليها، فالإخبار هنا المقصود به الجزاء بعده وليس فقط مجرد الإخبار، فيقول لك فعلت كذا وكذا وماذا بعد؟ الحساب هذا المعنى.

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ(61)
(سورة الأنعام)


الله جلَّ جلاله هو القاهر فوق عباده:
جلَّ جلاله القاهر أي الغالب المُتحكِّم بعباده بحيث لا يخرج أحدٌ عن سلطانه وسيطرته، القاهر فوق عباده له العلوّ جلَّ جلاله، العلوّ المطلق، لكن ليس العلوّ الذي هو علوّ البشر على بعضهم في المكان لأنه ليس كمثله شيء، ولكن له علوّ القهر والسلطان جلَّ جلاله، الله أعلم بهذا العلوّ نتوقف عند ذلك.
القاهر جلَّ جلاله قهر عباده بالموت
(فَوْقَ عِبَادِهِ) القاهر جلَّ جلاله قهر عباده بالموت، قهر العدم بالحياة وقهر الحياة بالعدم، وقهر الغنى بالفقر، وقهر الفقر بالغنى، وقهر الصحة بالمرض وقهر المرض بالصحة، وقهر الجفاف بالمطر، وقهر المطر بالجفاف، وقهر الأرض المستقرة بالزلازل، وقهر الزلازل باستقرار الأرض مائة سنة، كل شيءٍ تحت سلطانه فهو قاهره جلَّ جلاله، فلو قال لك إنسان فكيف يعص العاصي ربه والله تعالى قاهرٌ فوقه؟! قلنا له أن الله تعالى لن يُعصى مغلوباً!! حاشاه، ولكن أودع الاختيار في الإنسان، فلولا أنه جعله مُختاراً لما عصاه، ها هو قد قهر ملائكته

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
(سورة التحريم)

وقهر المُكلَّفين فأعطاهم حرية الاختيار، فإما أن يكسبوا الحسنة أو يكتسبوا الإثم والخطيئة لأنه سمح لهم بالاختيار، فهذا ضمن قهره جلَّ جلاله، فهو لم يُطع مُكرهاً ولم يُعصى مغلوباً جلَّ جلاله، لم يُعصى مغلوباً حاشاه، ما عُصيَّ الله في الأرض فغلبه إنسانٌ فعصاه.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
(سورة الجاثية)

لا أحد يسبق الله تعالى، يريد الله شيءً ويفعل شيء بخلاف إرادة الله، لكن الله تعالى يسمح للعاصي أن يعصي، وهو لا يرضى معصيته، ويسمح للطائع أن يُطيع وهو يرضى طاعته فقط.

قهر الله قهر رحمة ولطف بعباده:
(وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) لو قرأ إنسان وهو القاهر فوق عباده لربما توهم أن هذا القهر هو قهر جبروت فقط، يعني قارن بين قهر الله مع أنَّ الله ليس كمثله شيء، و لكن الناس دائماً يرتكزون إلى المرتكزات المادية، فقارن وهو القاهر، أنا عندي رجل في الشركة قاهر الشركة كلها، لا يخرج أحد عن أمره ولا يستطيع إنسان أن يتأخر ثانية، وما يستطيع إنسان أن ينظر في وجهه إطلاقاً يعني له القهر في الشركة، لكن هذا معنى سلبي للقهر بحت، أنت لا تحبه، فقال يرسل عليكم حفظة قهره قهر رحمة جلَّ جلاله بكم، لذلك يُرسل عليكم ملائكته ليحفظوك فسمّاهم حَفظة.

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)
(سورة الرعد)

فالله تعالى يُرسل عليكم حفظةً، فمِن قهره أنه يرسل عليكم ملائكة تُحصي عليكم الأعمال وتحفظك من بين يديك ومن خلفك، قال:

حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
(سورة المؤمنون)

وكأن الموت هو القادم ونحن ننتظره، لذلك قالوا:" الموت سهمٌ وجِّه إليك وعمرك بقدر وصول السهم إليك" وكأن الموت هو الذي يتحرك، في الحقيقة المُتحرك هو الإنسان، الأجل ثابت وأنت تسير نحوه، ففي كل ثانيةٍ تمضي تصغر المسافة بينك وبين الموت، إذاً ستصل، فالموت هو الثابت وأنت المُتحرك، لكن لمّا كان الأجل مُحتَّم لا بُدَّ منه، ففي القرآن كثيراً ما يقول الله تعالى: أو جاء أحدكم الموت، وكأن الموت قادمٌ نحوك ولكن في حقيقة الأمر أنت تمشي باتجاهه، (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا).

الملائكة الموكلون بقبض الأرواح لا يُقصرون في أداء مهماتهم:
قبل قليل هو الذي يتوفاكم، الآن توفته رسلنا الملائكة المُوكّلون بقبض الأرواح، وهذه الوفاة هي الوفاة الآخرة وليست وفاة النوم، (وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) أي لا يُضيعون ولا يُقصّرون في أداء الأمانة.
عندنا في الفقه إنسان مُؤتمَن على أداء أمانة وفرّط فيها، أي ضيعها، فيضمن ويُحاسب ويُكلّف بأداء ثمنها لأنه فرّط في حفظها، (وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) لأنَّ الله أمرهم فيفعلون ما يؤمرون، لا يُضيّعون ولا يُقصّرون في مهماتهم.

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
(سورة الأنعام)

ردّوا إلى الله رجعوا إليه، الله هو المولى

ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ (11)
(سورة محمد)


الله هو المولى الذي يتولى أمور عباده وهو أسر ع الحاسبين:
(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ )، في الدنيا يوجد مولى، طبعاً كلمة مولى في اللغة العربية بالمناسبة من ألفاظ التضّاد، يعني تقول فلان مولى فلان، بمعنى أنه عبداً عنده، الموالي هم العبيد، وتقول فلان مولى بمعنى أنه ولي، هو الذي يلي أمره فهذا من ألفاظ التضاد في اللغة العربية يحكمه السياق، فهنا الله هو المولى بمعنى أنه جلّ جلاله الذي يتولى أمور عباده، يليهم يتولى أمرهم، يُطعمهم، يسقيهم، إلى آخره.
(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) ربنا جلّ جلاله هو الحقّ وما سواه باطل، والحقّ هو الشيء الثابت الهادف، حقَّ الشيء يحقُّ إذا ثبت وكان له هدف، والله هو الحقَّ وخلق السماوات والأرض بالحق، أما الباطل فزهوقٌ زائل.
(أَلَا لَهُ الْحُكْمُ) ألا أداة تنبيه، للإشارة إلى أنَّ ما بعدها شيءٌ مهم، تبدأ ب ألا، هلا، هلّا، ألا وهلا أدوات تنبيه، (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ) أي له الحكم وحده، لا يحكم غيره جلّ جلاله يعني لا يفصل بين الناس غيره.
الله جلَّ جلاله جعل الإنسان حاسباً
(وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) جلَّ جلاله جعل الإنسان حاسباً، نحن نحسب، اليوم هناك أشخاص عندهم قدرات ذهنية عالية في الحساب، ترى طفل صغير تُعطيه عملية حسابية سبعة زائد خمسة عشر ناقص سبعة زائد ستمائة وسبعون ناقص وتقسيم وضرب فيعطيك الجواب فوراً! تقول ما هذه السرعة؟! واليوم يوجد الحاسوب الكمبيوتر سُميَّ حاسوباً مع أنه الحاسوب لا يعبِّر عن كل عمليات الكمبيوتر ولكن أشهر عملياته أنه سريع الحساب، فسموه حاسوب على وزن فاعول للمبالغة في الحساب فهو يحسب بسرعة رهيبة، لا يحسب الأرقام فقط بل يحسب الذكاء الصنعيّ، يعني تُدخل له معلومات كثيرة فيُعطيك النتائج فوراً فهو سريع الحساب، الله جلَّ جلاله أسرع الحاسبين، مهما خطر في بالك من سرعةٍ في الحساب فالله تعالى سيُحاسب عباده بأسرع من ذلك، واليوم كنت أقول وما زلت نحن أقدر على فهم الأشياء الخارجة عن نطاق العادات التي تعودناها وليس على نطاق العقل أكثر من أي وقتٍ مضى، اليوم أنت والدك قبل خمسين سنة كان إذا أراد أن يسجّل هذا اللقاء الذي نتكلم به الآن يأتي بمسجّلة بهذا الحجم ويضع فيها شريط الكاسيت بهذا الحجم، ويضغط زر التسجيل وتبدأ بعد نصف ساعة إذا كان شريط التسجيل ساعة يوقفك قليلاً حتى يقلبه من أجل أن يُسجل القسم الثاني، طريقة تسجيل، وبعد ذلك إذا أراد أن ينسخه لعدة نسخ من أجل أن يوزعه على الحاضرين، يأتي بآلةٍ كبيرةٍ ناسخة، وأنا تعاملت معها أنسخ بعض الدروس لأهل العِلم، يضع الشريط الرئيسي ويضع خمسة أو ستة حسب مساحتها وينسخ للآخرين ويوزعهم، واليوم أتكلم عبر وسائل التواصل ويشاهدني أُناس من بلدان أُخرى، ويبقى الدرس محفوظاً لمن أراد دون الكاسيت ودون أي شيء، و بعد شريط التسجيل جاء السيدي وبعده الديفيدي وبعدها الفلاشة، والآن كل ذلك أُلغي وبقي اليوتيوب فقط، واليوم إذا أراد أحد أن يتجسّس على مجلسنا هذا فرضاً فإنه يمكنه أن يضع بحجم العدسة لاقِط في مكانٍ ما في الغرفة ويسمع كل ما يدور هنا، هذا ما استطاع الإنسان الذي خلقه الله وخلق له هذا الدماغ أن يفعله فكيف بالخالق؟! اليوم نحن أقدر على أن لا نستغرب شيئاً، لأنّنا نرى بأُم أعيننا هذا الجيل يرى بأم عينه أنَّ ما جرى في المائة عام الأخيرة يعدل ما صنعته البشرية في كل تاريخها التطور الذي حدث، واليوم ما الذي ينتظرنا بعد ذلك لا أدري؟ لعل الآن هذه الطريقة التي نجدها متقدمة جداً تصبح شيئاً من الماضي ويصبح الطريقة أُخرى للنقل غير هذه الطريقة.
وهو أسرع الحاسبين جلَّ جلاله، يروى أنه قيل لسيدنا علي رضي الله عنه: كيف يُحاسب الله تعالى كل خلقه؟! يعني الآن في الأرض يوجد ثماني مليارات لن نذكر من كان في السابق، يعني تتكلم على مائة مليار من جاء على هذه الأرض من البشر، الآن فقط ثماني مليارات، كيف يحاسبهم الله تعالى في وقتٍ واحد؟! قال: أرأيت إليه وهو يرزقهم كلهم في وقتٍ واحد؟ قال كذلك يُحاسبهم، اليوم ثماني مليارات يأكلون خبز، دعك من المجاعات المُفتعّلة التي هي سياسيةٌ من صنع البشر، لكن مخازن الأرض كافية لإطعام البشر، كل يوم يوجد قمح يُطعم البشر كلّهم فقط على مستوى القمح وليس على مستوى الفواكه والمُكسّرات وما إلى ذلك، (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ).

الله تعالى هو الذي يُنجيك من الظُلمات ومن كل كرب:

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
(سورة الأنعام)

الله تعالى يُنجّينا في الظُلمات والنور
قل يا محمد صلى الله عليه وسلم، لهؤلاء المشركين من ينجّيكم، أي من ينجيكم ويُسلّمكم من ظُلمات البر والبحر، المقصود بالظُلمات هنا الظُلمات المعنوية وليس الحسية، لأنَّ الله تعالى يُنجّينا في الظُلمات والنور، لكن المقصود هنا عندما يُحيط بك الكرب من كل جانب، في البر أو البحر فنسميها ظُلمة، فتقول كأنها ظُلمات، لم أعد أرى شيئاً، وأنت في النهار تقول ما عدت أرى شيئاً، فهذه ظُلماتنا المعنوية، ظُلمات البر والبحر، في ظُلمات البر زلزال، بركان، دَين ركبك لا تستطيع سداده، تآمر قوى الشر عليك، وفاة قريب عزيز، أي شيء يسوءك فهو ظُلمة من ظُلمات البر، وفي البحر رياح عاتية، أمواج عاتية جاءت في عرض البحار.
(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ) من أجل أن ينجّيكم تضّرعاً وخفية، تضّرعاً جهراً مع الذلة، تتضرع إليه جهراً مع الذلة، وخفيةً يعني في الخفاء يعني في العلن وفي السر تدعوه، تجهر إليه بالدعاء، يا رب نجِنا وفي السر بينك وبينه تدعوه أن يكشف ما بك من ضر.
في العسر يجهر الإنسان إلى الله في الدعاء
لنكونن من الشاكرين، دعاءكم أنك تقول لله تعالى يا رب إن أنجيتني من هذه الظلمة، إن شفيت لي ابني، إن شفيتني من هذا المرض العضال، إن سكنت البحر، إن سكّنت المطبّات الهوائية التي بدأت الطائرة تضطرب في الهواء، إن نجّيتني من هذا الزلزال المدمّر، إن إن ماذا قال؟ لنكونن من الشاكرين يعني سننتقل من الشرك إلى الشكر، نشكر الله وحده على نعمائه، قال: قل الله، قل لهم يا محمد الله ينجّيكم منها، فالله تعالى هو الذي ينقذك من الظلمات ومن كل كرب، من كل كربٍ يقع بك فيضيق به صدرك، ثم أنتم تشركون، يعني الله تعالى فعل ذلك مراراً ونجّاكم ثم عدّتم إلى شركِكم لأن الإنسان في حالة العسر والشِدّة يجهر إلى الله في الدعاء وكما رويَّ لنا الآن في الزلزال الأخير أنَّ أُناساً ليسوا من المُلتزمين لكن لمّا بدأت الأرض ترتج قالوا الله، وكم روى لنا من روى وهم في الطائرة لمّا دخلت في مطبَّات هوائية وبدأت تعصف بها الرياح كأنها ريشةٌ في الهواء جعل من كانوا يشربون الخمر ويعصون الله وهم في سماءه ينادون يا الله، وربما منهم من لم يركع لله ركعةً في حياته، فطبيعة الإنسان أنه في حالة الكرب والشِدَّة يلتجئ إلى الله تعالى، أي يعود إلى أصل فطرته، ثم لمّا يرجع إلى ما كان عليه يعود إلى شركه لله تعالى وهذا من الجحود والنكران.
حدّثني أحد الإخوة أنَّ رجلاً كان في إحدى طرقات دمشق يقود سيارته وتوقف على إشارة مرور ومعه زوجته، وهناك أصيب باحتشاء في عضلة القلب، فنزل على مقود سيارته، ولحكمةٍ من الله بالغة كانت هناك سيارةٌ وراءه وهي سيارة صديقه فنزل وأخذه وذهب به إلى أقرب مشفى للإسعاف ووضع له الإنعاش وكذا وعاد له وعيه قليلاً، وبعد ذلك طلب مسجّل صغير أيام الكاسيت الذي حدثتكم عنه قبل قليل، ووضعه وقد كان غير قادر على الكتابة فوضعه وقال أُريد أن أسجّل رسالة، وبدأ يسجّل فلان له عندي كذا وفلان أخذت له حق كذا وفلان حرمته من الميراث، وأعيدوا البيت الفلاني لفلان، وأوصى وصيته، وكانوا مشغولين به وبوضعه ووضع الشريط أمامه ثم أُدخل إلى العناية المشددّة وخرج منها مُعافى، ووضِعت له شبكة يعني انتهى أمره، فطلب الشريط وأتلفه، ثم شاء الله تعالى أن يموت بعد سبعة أشهر بجلطةٍ أنهت حياته، يعني أعطاه الله تعالى الفرصة فرجع إلى شركه، الشرك الخفي هنا بأنه رجع إلى التعلّق بالدّنيا من غير الله تعالى.
هذا نوع من أنواع الشرك وإن كان خفياً، فالله تعالى يقول:

قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
(سورة الأنعام )

يُحدّثنا الله عن ذاته في هذه الآيات، انظروا أيها الإخوة الحديث عن العظيم شيء عظيم، (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ) صواعق، رياح عاتية، أمطار غزيرة في السابق، واليوم نضيف له الصاروخ الذي يأتي من الأعلى، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) ، زلزال تُزلزَل الأرض، واليوم هناك ألّغام تحت أرجلكم، والسيول تأخذكم إلى مكان آخر، الماء قوّة كبيرة جداً، كم من إنسان قضى في السيل؟!

حالة المسلمين اليوم:
المسلمون اليوم للأسف بأسهم بينهم شديد
(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا) يلبسكم أي لًبِسَ، يَلبِسُ، أي خَلط يخلط، والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أي لم يخلطوا إيمانهم بشرك، يعني صافي، يلبسكم شيعاً أي يجعلكم مختلطين شيعاً والشيع هي الجماعة التي تجتمع على فكرةٍ ما سواءً كانت حقاً أم باطلاً، فلان من شيعة فلان، يعني اجتمع مع جماعة فلان، الآن قد يكون من شيعة فرعون وقد يكون من شيعة أبو بكر رضي الله عنه، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا) بمعنى هنا أن تصبحوا كل مجموعة تجتمع على مذهبٍ معيّن أو فكرةٍ معيّنة، (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) فترى المسلمين اليوم للأسف بأسهم بينهم شديد، والنبي صلى الله عاليه وسلم لما قال :

{ سألت ربي لأمتي ثلاثًا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدةً، سألته أن لا يهلكَ أمتي بسنةٍ عامةٍ فأعطانيها، وسألته أن لا يسلطَ عليهم عدوًا من غيرِهم فيجتاحَهم فأعطانيه وسألته ألا يجعلَ بأسَهم بينهم فمنعنيها ، وقال يا محمدُ إني إذا قضيتُ قضاءً لم يردّْ }

ابن تيمية إسناده صحيح

عني شاءت حكمة الله أن يمتحننا ويمتحن أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم بأن يكون بأسهم بينهم، فالمعصوم من عصمه الله تعالى من هذه الفتن، ولم يتشيع لفئةٍ ما وإنما انضم إلى جماعة المسلمين، نحن إبراهيم عليه السلام سمّانا المسلمين

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
(سورة الحج)

فنحن نعتز بتسمية نبينا إبراهيم عليه السلام، فلا نضيف بعد كلمة مسلم كلمة، نعم إنَّ هناك مذاهب فقهية ومذاهب عقدية لكن هذه لأهل الاختصاص ولا ينبغي أن يكون الخلاف فيها مُفسداً للعلاقة الأخوية بين المؤمنين، لكن المسلم عموماً ينتسب للإسلام.

الله جلَّ جلاله ينوع في الآيات الكونية ليتعظ منها الإنسان:
الزلزال آية من آيات الله
(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) نُصَرِّفُ الْآيَاتِ بمعنى ننوعها، ربنا جلَّ جلاله لا يرسل الآيات من نوع واحد، هناك آية كونية فالزلزال آية من آيات الله، فيروس كورونا آية من آيات الله، هذه الآيات التي نقرأها في القرآن من آيات الله عز وجل، الجبل آية من آيات الله، العصفور وهو أمامك يرفرف ويغرّد آية من آيات الله، نُصرّف الآيات يعني ننوعها، لعلهم يفقهون أي يفهمون، فالذي لا يتعظ بالعذاب يتعظ بالنعيم، والذي لا يتعظ بكتاب الله المسطور يبدأ بكتاب الله المنظور، فالكون يدل على الله، والذي لم ينتبه للكون ربما يقرأ القرآن فيقّشعر جلده، فابدأ من حيث شئت كل الأمور ستصلك إلى الله تعالى (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
(سورة الأنعام)

به (الباء) تعود على القرآن افعل ولا تفعل، وهو الحق رغم أنه الحق كذّبوا به، وقال له وكذبوا به قومك وعتابٌ لهم لأنكم قومه، تعلمون صدقه وأمانته وعفافه ونسبه وتعلمون من هو فكان ينبغي أن تكونوا أول المسارعين للتصديق به (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) فأنا لا أستطيع أن أجبركم، لست موكّلاً بإجباركم على الطاعة، إنما أُبيّن لكم طرق الحق لكن الله تعالى يهديكم أو يضّلكم بناءً على قراركم الذي اتخذتموه

لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
(سورة الأنعام)

النبأ هو الخبر المهم ، فلا يُقال عن الأخبار التافهة أنها أنباء، الأنباء هي الأخبار المهمة

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)
(سورة النبأ)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
(سورة المائدة)


الأنباء هي الأخبار العظيمة:
عندما يتحدث الله عن أشياء عظيمة يسمّيها نبأ
فالله تعالى عندما يتحدث عن أشياء عظيمة يسمّيها نبأ، لكل نبأ خبر عظيم مستقر، أي نهاية، قرار يستقر به وتعرفه، يعني اليوم فيروس كورونا نبأ من الأنباء، مثلاً الناس متحيرون فيه صنع بشري، ليس صنعاً بشرياً، بالغوا به، لم يبالغوا به، لكل نبأ مستقر، يعني قد يدركه وقد لا يدركه لكن لا يستقر هذا الأمر و يُفهم ما هو، لكل نبأ مستقر، يشيع خبر بين الناس يُصدّقه البعض ويُكذّبه البعض، مات أم لم يمت، هذه القناة موثوقة أم غير موثوقة، العوام كانوا يقولون: يا خبر اليوم بالنقود غداً بالمجان، فبعد يوم يظهر هذا الذي أُدعيَّ أنه مات ويلقي كلمةً فيعلم الناس ويستقر الخبر أنه لم يمت ... لكل نبأٍ مستقر وسوف تعلمون النبأ الذي أنبأتكم به أن هناك يوم قيامة مستقره عندما تتجهون وتواجهون حسابكم عند الله وهناك سوف تعلمون أنَّ النبأ كان صحيحاً لكن بعد فوات الأوان.
أما نحن فمستقر النبأ عندنا من الآن، فنحن ندرك من هذه اللحظة أننا مُلاقوا ربنا ومن أجل ذلك نستقيم على أمره (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
(سورة الأنعام)


لا ينبغي للمسلم أن يجالس من يستهزئ بآيات الله الكونية والقرآنية:
الخوض بالأصل في الماء، المخاضة الماء يخوض فيها، فاستعارها هنا للحديث عن الخوض في الآيات لأن الإنسان لا يستطيع أن يدخل في آيات الله يعني وكأنه يخوض فيها خوضاً يعني يستهزئ بها (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) مجلس فيه أُناس يستهزئون بآيات الله سواءً الكونية أو القرآنية أو أي شيء بالله تعالى، فلا ينبغي أن تجالسهم، تُجالس أقواماً يسألون، يتعلّمون، تُجيبهم، لكن يستهزئون! فإما أن تنهاهم أو تعنّفهم، وإذا لم ترى منهم نتيجةً فأعرض عنهم، قُم من المجلس حتى لا يُدركك العذاب، فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره، قل لهم لا أجالسكم وأنتم تستهزئون بآيات الله، أحياناً طُرفة بعض الناس يستخدمون فيها آية من آيات القرآن الكريم، ويغيّرون في بعض حروفها ويضحكون وكأنهم ما فعلوا شيئاً وهم بالحقيقة استهزئوا بآيات الله (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ ) يعني تقعد معهم ولا تقوم ونسب النسيان إلى الشيطان لأن الإنسان في الأصل مفطور على الخير لكن الشيطان يُنسيه ما أُمر به (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
فإذا تذكرت الشيطان يُنسيك الحق فإذا تذكّرته فقُم فوراً ولا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم وظلموا دين ربهم وظلموا مجتمعاتهم المطلق على إطلاقه (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) والحمد لله رب العالمين.