الدعوة الصامتة - الاستسلام لله عز وجل
الدعوة الصامتة - الاستسلام لله عز وجل
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات وبعد: |
فمع اللقاء التاسع من لقاءات سورة الأنعام، ومع الآية التاسعة والستين من السورة وهي قوله تعالى: |
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)(سورة الأنعام)
الآية التي سبقتها هي قوله تعالى: |
إِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)(سورة الأنعام)
الابتعاد عن المجالس التي فيها خوض بآيات الله:
فالآية السابقة بيّنت حكماً شرعياً يُخاطَب به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتُخاطَب به أمته من بعده، وهو أنك إذا جلست في مجلس فوجدت الناس فيه الناس المنحرفين البعيدين عن الله قد خاضوا في آيات الله استهزاء فأعرض عنهم، وإياك والجلوس معهم، والحالة الثانية أن يُنسِيك الشيطان فتقعد معهم بعض الوقت، فإذا تذكرت فينبغي أن تقوم فوراً بعد الذكرى، ولا تقعد مع القوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم، وظلموا دين ربهم وظلموا الآخرين. |
التقوى تجعل بين الإنسان وعذاب الله وقاية
|
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۗ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)(سورة فاطر)
فهذا المتقي لم يدخل في الجدل، ولم يدخل في الخوض في آيات الله، ولم يستهزئ، فما عليه من حسابهم من شيء، إذاً لماذا يقوم؟ مادام هو لم يتكلم، قال لك: أنا جلست صامتاً، هم خاضوا في آيات الله، هم استهزؤوا، أنا كنت صامتاً طيلة الفترة، ما تكلمت بكلمة، فلن أُحاسَب عنهم، فلماذا أؤمر أن أقوم من المجلس وأنا ما فعلت شيئاً، قال: ﴿وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أنت بقيامك من هذا المجلس، واتخاذك هذا الموقف تذكّرهم أن فعلهم هذا خطأ جسيم، فلعلهم يصبحون مثلك متقين لله عز وجل عندما يجدون أخلاقك. |
الدعوة الصامتة:
لا يوجد سكوت إقرار إلا للنبي الكريم
|
سكوت النبي وحده إقرار للفعل:
مثل ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- زار أبا السائب قبل دفنه وقد توفي، فزاره في بيته، وكان هذا من عادته صلى الله عليه وسلم أن يدعو للمتوفى وأن يزوره قبل دفنه، ويخفف عن عائلته، فزاره فسمع امرأة تقول: "هنيئاً لك أبا السائب فقد أكرمك الله"، الآن النبي صلى الله عليه وسلم في موقف الحزن والأسى كان من الممكن أن يسكت، لكنه لا يستطيع أن يسكت؛ لأنه لو سكت لكُتِب في السيرة إن أبا السائب من المبشرين في الجنة، أو وجبت له الجنة، ولكان كلامها صحيحاً، ولأضحى اليوم أي زوجة تجد زوجها قد توفي تقول له: هنيئاً لك يا أبا محمد فقد أكرمك الله، ولا يستطيع أحد أن يقول لها شيئاً، فقد قيل ذلك بحضرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يتكلم، فكان سكوته إقراراً، فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها وقال: "وما أدراك أن الله أكرمه؟ قولي: أرجو الله أن يكرمه، وأنا نبي مرسل لا أدري ما يفعل بي ولا بكم". |
{ فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقُلتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتي عَلَيْكَ لقَدْ أكْرَمَكَ اللَّهُ، قالَ: وما يُدْرِيكِ قُلتُ: لا أدْرِي واللَّهِ، قالَ: أمَّا هو فقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، إنِّي لَأَرْجُو له الخَيْرَ مِنَ اللَّهِ، واللَّهِ ما أدْرِي - وأَنَا رَسولُ اللَّهِ - ما يُفْعَلُ بي ولَا بكُمْ. }
(صحيح البخاري)
لا يجوز أن تحكم على إنسان أنه من أهل الجنة، ولا من أهل النار، إلا من حكم له شرع الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم: |
{ أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة " }
(مسند الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف)
هذا شيء آخر؛ لأن هذا بوحي من الله، أما الإنسان مهما علمت من صلاحه قل كان صالحاً، قل كان تقياً، قل أسأل الله له الجنة، لكن لا تقل: إنه من أهل الجنة، ولا تجزم لأحد بالنار، لا بجنة ولا بنار، فإن هذا من شأن الإله وحده. |
فإذاً جلوس الإنسان في مكان ما غير النبي صلى الله عليه وسلم وسكوته عند وجود منكر من المنكرات، لا يعني أن هذا المنكر صحيح، ولا يعني أنه إقرار، فهذا للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، ومع ذلك ينبغي أن نتنبه إلى هذا الأمر، فلا نجلس في مجلس فيه معاصٍ تُدار، أو آيات يُخاض فيها، وإنما نُعرِض عن هذا المجلس، إما أن ننصح ونقول هذا لا يجوز، هذا حرام، وإما أن ننهض فأعرض عنهم، ولا تجلس معهم. |
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا ۖ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)(سورة الانعام)
﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ﴾ أي دع الذين اتخذوا، دعهم لا تلتفت إليهم، أعرض عنهم، لا تجلس معهم. |
معنى الدين:
﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ الدين ما يدين الإنسان به، هناك إنسان دينه المال يقال، لأنه يدين ويرجع إلى المال، يقول لك: هذا الموضوع فيه مال؟ إذا قلت له: لا يوجد فيه مال، يقول لك: لا مصلحة لي به، يعني دينه المال، يعبد المال من دون الله، وقد يبيع دينه من أجله ماله، قد يبيع –والعياذ بالله- أهل بيته من أجل المال، دينه المال. فهؤلاء اتخذوا دينهم الذي هو أعظم شيء، الذي يخلّص الإنسان من النار، ويدخله الجنة، اتخذوه لعباً ولهواً. |
الفرق بين اللعب واللهو:
اللعب ما يمضي الإنسان به وقته دون طائل
|
فهؤلاء ﴿اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ يعني يمضون الأوقات ويقتلونها ويلتهون بالاستهزاء بآيات الله عما خُلِقوا من أجله من الصلاة والعبادة والذكر ﴿لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ والحياة الدنيا لعب ولهو، فيها اللعب وفيها اللهو. |
الدنيا وسيلة لا غاية:
﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أي أعطوها حجماً أكبر من حجمها، وهي دنيا جعلوها عليا، الدنيا وسيلة، وليست غاية، لما تغر الإنسان تصبح عنده غاية لا وسيلة فيجعل الوسائل غايات. |
الآن مثال من واقع حياتنا: الناس عموماً إذا سمعوا بفلانٍ مات أول سؤال يسألونه: كم عمره؟ أعرفه صغيراً، كم عمره؟ فمثلاً لو قيل: عمره ثلاثون سنة، أو أربعون سنة، أغلب الناس يقولون فوراً: يا حرام ما استمتع بشبابه، لو دخلت في العمق كيف تريدون منه أن يستمتع بشبابه؟ إذا كانوا فاسقين منحرفين، يستمتع بشبابه فالمحرمات، إذا كانوا ملتزمين يعني لم يرَ شيئاً من الدنيا، يكون هذا الجواب لم يرَ شيئاً من الدنيا، يعني ما تزوج مثلاً، بدأ بالمعمل ولم يتم العمل به، كان يطمح، ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنه في العمق الدنيا عندهم مبلغ العلم ومحط الرحال، إذاً هم يرون أن البيض كله في سلة الدنيا فقط، وضعوه بسلة واحدة، فإذا مات يقول لك ما استمتع بشبابه. |
فلسفة الموت:
الآخرة هي محط الآمال ومنتهى الرحال
|
﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ ظنوها كل شيء، فتركوا الآخرة من أجلها فاغترّوا بها، هذا غرور. |
﴿وَذَكِّرْ بِهِ﴾ أي بالقرآن، ذكّر الناس بالقرآن. |
﴿أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ تُبسَل أي تُسلّم نفسها، أو تُسلَّم إلى الهلاك، أو تُمنَع أو تُحبَس، بهذا المعنى، ﴿أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ﴾ يعني بالمختصر أن تُهلَك نفس، أن يعرِّض إنسان نفسه للهلاك ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ الباء باء السبب، أي بسبب كسبها الذي كسبته في الدنيا. |
المنافذ الثلاث:
﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾ هنا ثلاثة أمور. |
المنفذ الأول:
انتبهوا ﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ﴾ يعني ناصر ينصرها، معناها استحقت النار﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ﴾ لا يستطيع أحد -حاشا لله تعالى- يمنع ربنا جل جلاله أن يدخل إنساناً النار، هل يملك أحد الولاية، النصرة لأحد يوم القيامة؟ أبداً. |
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)(سورة الصافات)
في الدنيا يوجد تناصر، في الدنيا يتناصر الظالمون، فاستحق أحدهم حكم السجن ينصره شخص، يكون له ولياً، يشهد معه فيعفيه من السجن، فله وليّ يناصره، في الآخرة لا يوجد نصير، فقال ﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ هذه النفس التي عرّضت نفسها للهلاك، استحقت النار، ﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ﴾ إذاً استحقت النار. |
المنفذ الثاني:
الآن المرحلة الثانية إذاً نحن نحاجة إلى شفيع، ﴿وَلَا شَفِيعٌ﴾ أن يأتي أحد ويقول: هذا صديقي، وهذا حبيبي وكنا معاً...إلخ أبداً ﴿وَلَا شَفِيعٌ﴾ لا استطاع أن ينصره، وبعد أن استحق العذاب لم يستطع إخراجه بالشفاعة. |
المنفذ الثالث:
العدل هو المساوي
|
فأُغلِقَت المنافذ الثلاثة، ﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ﴾ مهما يكن لو يقدم ما يملك، هو في الآخرة الإنسان لا يملك شيئاً، ما الذي يستطيع أن يقدمه، لكن يوم القيامة قال: |
يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)(سورة المعارج)
الابن أغلى ما يملك الإنسان، يصل لمرحلة يود لو أنه يقدم ابنه، خذوا ابني مكاني، في الدنيا اليوم الإنسان مهما كان نوع المصيبة (سجن) أغلب الآباء يقول للمحامي أنا أحملها، لكن ابني لا، يوم القيامة من شدة العذاب ﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ﴾ أول شيء الابن الذي هو أغلى شيء. |
﴿وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَاۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا﴾ أُهلِكوا بسبب كسبهم، لا يظلم ربك أحداً. |
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)(سورة الكهف)
هذه الباء باء السبب، أُهلِكوا بكسبهم، أنت الذي كسبت المعصية، وكسبت الإثم، فأنت الآن ستُهلَك بكسبك. |
أسلوب التهكم في القرآن الكريم:
﴿لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾﴿لَهُمْ شَرَابٌ﴾ الشراب مُحَبَّب إلى النفس، ربنا جل جلاله في القرآن الكريم هذا أسلوب تهكم، منه قوله تعالى: |
فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)(سورة الإنشقاق)
أصعب أنواع الحزن أن يأتي بعد التفاؤل
|
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا(29)(سورة الكهف)
﴿لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ بسبب كفرهم بالله تعالى. |
قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)(سورة الأنعام)
﴿قُلْ﴾ يخاطب بنيه صلى الله عليه وسلم ويخاطبنا. |
أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ
الدعاء هو العبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: |
{ الدعاءُ هو العِبادةُ }
(صحيح أبي داوود)
ودعاء الكافرين لأصنامهم هو عبادته إياهم، أكثر مظاهر العبودية لله هي الدعاء، لذلك الذي يدعو ما لا يضره ولا ينفعه، قال صلى الله عليه وسلم: |
{ عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم، قال: أتيت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وفي عُنُقي صليبٌ من ذهب، فقال: يا عديّ، اطرح هذا الوثنَ من عنقك! قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في "سورة براءة"، فقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله). قال: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه، ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم!. }
(أخرجه الطبراني)
أنهم يدعونهم في الشدائد. |
﴿قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ﴾ وقلت لكم سابقاً كل ما يدعوه الإنسان فهو من دون الله (تحت) ﴿مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا﴾ لا يجلب لنا نفعاً ولا يجلب لنا ضراً، بل لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، حتى يجلب النفع والضر للناس. |
إذاً: المفهوم المخالف للآية أن الذي تعبده ينبغي أن يملك لك النفع والضر، وهو الله تعالى. |
الهداية بالفطرة:
الله تعالى وحده هو الخالق
|
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)(سورة الأنعام)
فإذاً ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ الله تعالى هدانا ابتداء، فطرتك تقول لك: هذا لا يجوز، هذا حرام، عقلك يقول لك: هناك خالق للكون، وهنا ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ من خلال نبيه -صلى الله عليه وسلم-، الآن يأتي الأنبياء والرسل واللهداية، وهي أعظم الهداية، ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ﴾. |
﴿كَالَّذِي﴾ حال هؤلاء الذين يدعون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم. |
عالم الجن موجود في الخبر الصادق:
نفي الوجدان لا يستلزم منه نفي الوجود
|
معنى الحيرة:
﴿بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ﴾ الحَيْرة هي أن تتردد في شيء بين قبوله أو رفضه، بين طرفين متناقضين، فتقول: أنا محتار أسافر أم لا أسافر، أنا محتار أتزوج أم لا أتزوج، أنا محتار أذهب إلى هذا العمل أم إلى ذاك العمل؟ يعني تكون في حيرة بين شيئين اثنين، أيهما تفعل؟ أيهما تسلك؟ أيهما تقول؟ هذه الحيرة، فهؤلاء ما الذي حيّرهم؟ عندهم نداء الفطرة، نداء العقل، نداء الشرع والوحي، يدفعهم إلى الهدى، وعندهم الشياطين تستهويهم وتأخذهم إلى طريق الضلال، إلى الأرض، يُخلِدون إلى الأرض، ونداء الفطرة يدفع بهم إلى العُلوّ إلى السماء، فأصبحوا بين شيئين مترددين، فوصف الله حالهم فقال: |
﴿حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا﴾ بمقابل الشياطين التي تستهويه إلى الهاوية، يعني صديق سوء، وصديق حق، تقول: والله محتار مع من أذهب، شيطان إنس أو جان، ورجل صالح، سمعت الصلاح وسمعت الباطل فتردد بينهما، هذه الحالة التي يصفها القرآن الكريم. ﴿حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا﴾ تعال معنا لنكون معاً، لنفعل الخير...إلخ. |
﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ﴾ حسم الله تعالى المسألة بين أن تكون في الهوى أو الهدى، الشياطين إلى الهوى، الله تعالى يريدك إلى الهدى، ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ﴾ هذا الضمير لتوضيح أنه ليس هناك هدى إلا من الله ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ﴾ أي لا هدى غيره، ليس هناك هدىً إلا هدى الله تعالى. |
الأوامر الثلاث:
﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الآن انظروا: |
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ ۚ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)(سورة الأنعام)
الأوامر الثلاثة: 1. ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ 2. ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ 3. ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ إقامة الصلاة هي جانب الفعل، واتقوه جانب الترك، التقوى ألا تفعل شيئاً يغضب الله بالأساس، يعني التقوى غض بصر، التقوى ترك مال حرام. |
الإسلام هو دين الاستسلام لله تعالى
|
﴿وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ فالمرجع إليه والحشر إليه جل جلاله، وسيحاسبك على عقيدتك هل كان فيها استسلام لرب العالمين، أم استسلام لهوى النفس والشياطين؟ وسيحاسبك هل كنت فاعلاً لما أمر، وسيحاسبك هل كنت مجتنباً لما نهى عنه وزجر؟ |
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ۚ قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)(سورة الأنعام)
جل جلاله، ربنا جل جلاله خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ قال: |
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)(سورة ص)
ربنا ما خلق السماوات والأرض بالباطل، قال: |
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)(سورة المؤمنون)
الحق هو الشيء الهادف والثابت الذي لا يزول
|
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ۚ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ﴾ يوم القيامة ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ هذه السماوات والأرض التي خلقها بالحق الآن يزيلها بالحق: |
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)(سورة الطور)
وتنفطر السماء، وتكور الشمس...إلخ. |
﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ۚ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ فهو جل جلاله خلق بالحق، ويجعل نظام الكون مختلاً بالحق؛ لأنه قد انتهت مهمته. |
﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّور﴾ والآن لمن المُلْك؟ له، لكن الآن يوجد واسطة، الآن الأرض هناك أشخاص يملكون أجزاء كبيرة منها، فأنت تقول هذه الأرض لمن؟ لفلان، يغيب عنك أنها لله في يد فلان، فتتوهم أن هناك من يملك في الدنيا، لكن ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّور﴾ الآن لم يعد لأحد مُلْك في أرض الله، رجع المُلك إلى مالكه الأصلي، ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّور﴾ النفخة التي يُنفخ النفخة الأولى فيموت من في الأرض، والنفخة الثانية التي يقوم الناس فيها لرب العالمين. |
عالم الغيب والشهادة:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير﴾ ربنا جل جلاله علم الغيب وعلم الشهادة، الشهادة هذا العالم الذي نعيشه الآن، شيء أراه بعيني، ألمسه بيدي، أشم ريحه بأنفي، أتذوقه بلساني، أسمعه بأذني، هذا عالم الشهادة. لكن هناك عالم الغيب الذي غاب عنا، لكن الله تعالى عالم الغيب وعالم الشهادة جل جلاله. |
معنى الحكيم الخبير:
﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير﴾ الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، والخبير الذي يعلم علماً محيطاً شاملاً، فالخبرة أعمق من العلم، حتى في حياتنا نقول: فلان خبير في الحواسيب، خبير، الخبرة يعني أنه درس لسنوات، وممارس فصار خبيراً، أخذ صفة "خبير" فالخبرة أعلى من العلم، والله تعالى عليم وخبير. والحكمة ناتج من نواتج العلم والخبرة، فبقدر ما تكون خبيراً في الشيء تتصرف وفق ما ينبغي أن تتصرف به، وكلما نقصت معلوماتك تخرج عن الحكمة، لذلك ربنا جل جلاله عليم حكيم، في أكثر الآيات: |
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)(سورة النور)
لا يعلم الحكمة إلا الله:
المؤمن عنده يقين من علم الله عز وجل
|
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)(سورة الأنبياء)
جل جلاله، مع البشر تتجرأ، لكن لا تتجرأ إن كان الطبيب جالساً، أو كذا، أنت اليوم إذا كنت جالساً مع رئيس أكبر شركة في الجوالات، وقمت وتكلمت فكرة ما خاطئة عن الجوالات، وصناعة الجوالات، هل تتجرأ أن تتكلم أو تسأل لماذا فعلتم كذا؟ لا تتجرأ لأنه عالم، مع ربنا -عز وجل-؛ لأنه غاب عن أنظارنا جل جلاله لا تدركه الأبصار في الدنيا، فإننا نتجرّأ أن نتكلم في أفعاله جل جلاله، أما المؤمن عنده يقين من علم الله -عز وجل- وحكمة الله، فيستسلم لله، انتهى الذي جرى جرى بقضاء الله، لحكمة يعلمها الله، بعلم الله. |
لذلك قال ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير﴾ تتأدب في حضرته جل جلاله. |