وحدانية الله عز وجل

  • اللقاء العاشر من تفسير سورة الأنعام - شرح الآيات 74 - 82
  • 2023-05-06

وحدانية الله عز وجل

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.


إثبات وحدانية الله عز وجل:
أيها الكرام مع اللقاء العاشر من لقاءات سورة الأنعام ومع الآية الرابعة والسبعين من السورة، وهي قوله تعالى:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (74)
(سورة الأنعام)

كما أسلفنا هذه السورة من السور المكية التي موضوعها الأساسي هو التوحيد، تتحدث عن توحيد الله تعالى، وفي الآيات السابقة لهذه الآية كان قوله تعالى:

قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ ۚ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ۚ قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
(سورة الأنعام)

هذه الآيات كلها تثبت التوحيد لله تعالى في أنه هو الذي خلق، وهو الذي رزق، وهو الذي يستحق العبادة وحده، تثبت له الربوبية، وتثبت له الألوهية، فبعد ذلك أراد الله تعالى أن يعطي نموذجاً لقوم وهم قوم إبراهيم عليه السلام، وكيف أثبت إبراهيم عليه السلام الوحدانية لله تعالى الخالق، فقال مخاطباً نبيه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً﴾ يعني حيثما قرأت "وإذ" يعني واذكر لقومك إذ:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

إبراهيم أبو الأنبياء
يعني واذكر إذ قال ربك للملائكة؛ لأن "إذ" في اللغة العربية ظرف زمان، الظرف شبه جملة، وشبه الجملة تحتاج إلى تعليق، يعني هي لا يُفهم معناها من غير شيء تتعلق به، هنا ما تتعلق به هو الفعل المحذوف "اذكر"، يعني "واذكر لقومك إذ"، فإذا كنت جالساً معك في مجلس وقلت لك: إذ ذهبنا إلى النزهة معاً، يعني اذكر إذ ذهبنا إلى النزهة معاً، ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ﴾ إبراهيم نبي من أنبياء الله وهو أبو الأنبياء، ونحن نذكره في كل صلاة من صواتنا، في كل صلاة نذكر نبيين اثنين؛ نذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ونذكر إبراهيم عليه السلام؛ لأن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً، لأن إبراهيم أبو الأنبياء، ولأن إبراهيم كان من الأنبياء الذين تعبوا في الدعوة تعباً شديداً كما تعب نبينا صلى الله عليه وسلم مع قومه، فنذكر نبينا، ونذكر أبا الأنبياء جميعاً وهو إبراهيم، واسم إبراهيم ليس عربياً، ورسل الله تعالى كثر:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ(78)
(سورة غافر)


عدد الرسل والأنبياء:
وعددهم كما في الصحيح مئة وخمسة وعشرون ألفاً، الأنبياء 125 ألفاً، لما سأل أبو ذر رضي الله عنه نبينا صلى الله عليه وسلم عن عدد الأنبياء قال: مئة ألف وخمس وعشرون ألفاً.

{ أنَّ أبا ذرٍّ سألَ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كمِ الأنبياءُ فقالَ ما بين مِئَةِ ألفٍ وأربعةٍ وعشرِينَ ألفًا قيلَ فكَمْ الرُّسُلُ منهم فقال ثلاثُمِئَةٍ وثلاثةُ عشرةً جمًّا غَفِيرًا }

(العسقلاني وهو ضعيف)

الأنبياء كثر، منهم ثلاثمائة وخمسة عشر رسولاً، من هؤلاء الأنبياء المئة وخمس وعشرون ألفاً، هناك ثلاثمائة وخمسة عشر رسولاً، يعني معهم رسالة من الله تعالى، جاؤوا برسالة إلى قومهم، والأنبياء كثر جاؤوا بغير رسالة جديدة، ولكنهم يصدقون ما جاء به الرسل ويدعون قومهم إليه، فعندنا نبي، وعندنا رسول، الأنبياء أكثر من الرسل بكثير.
في كل أمة رسول
في القرآن الكريم ذُكر من هؤلاء الرسل والأنبياء 25 رسولاً، والعرب منهم كما قال صلى الله عليه وسلم أيضاً لأبي ذر: منهم أربعة عرب؛ هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر، فهؤلاء الأنبياء الأربعة من العرب، والباقي 315 من القوميات الأخرى بالمصطلح الحديث جاؤوا إلى رسلهم، قال تعالى:

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
(سورة فاطر)

وقال:

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
(سورة النحل)

ففي كل أمة رسول، والرسل كثر، إبراهيم عليه السلام هو واحد من هؤلاء الرسل الذين جاؤوا إلى قومهم، وهو أبو الأنبياء والرسل، ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً﴾ إبراهيم والده كان مشركاً، وهو والده النسَبي، يعني والده الذي ولده، وأما من يقول إن آزر هو عمه، فليس على ذلك دليل، بل نحن نحمل الألفاظ على حقيقتها، ولا نلجأ إلى المجاز إلا بقرينة، نعم قد يُطلق مجازاً عن العم أنه والد، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ العمُّ والدٌ. }

(السيوطي وهو ضعيف)

فالعم له مكانة وتقدير الوالد، وكذلك ربنا جل جلاله ذكر:

أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

فالأجداد أيضاً من الآباء، لكن نحن عندما ننظر في الآية، وفي غيرها، لما خاطب والده وقال:

يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
(سورة مريم)


آزر والد سيدنا إبراهيم النسبي:
يتضح أن كل الآيات تتحدث عن والد سيدنا إبراهيم، ولو كان عمه لقال لعمه وانتهى الأمر، لكنه قال لأبيه، فهو والده، طبعاً الذين أرادوا أن يجعلوه عمه أشكل عليهم أن يكون والد نبي مشركاً أو كافراً، ولكن هذا لا يمنع، استدلوا بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما ولدت من أصلاب الأطهار وفي رحم الطاهرات" وهذا الحديث لا يصح، ولو افترضنا صحته فالنبي طاهر ابن طاهر، من الطهارة بمعنى أنه من النكاح لا من السفاح، لكن ليست الطهارة التي تناقض الشرك الذي هو نجَس معنوي، لكن ليس نجساً حقيقياً، فالمقصود بطهر نسله صلى الله عليه وسلم أنه كله من زواج، ومن نكاح صحيح، وليس من سفاح والعيا ذ بالله.
نحن نتبع القرآن الكريم
فالأب هنا هو والده الذي ولده، طبعاً أشكل عليهم أمر آخر؛ أنهم قرؤوا في كتب التاريخ، وفي كتب أهل الكتاب أن والد إبراهيم اسمه "تارح" أو "تارخ" كما أجمعت كل كتب التاريخ، فقالوا كيف تارح وآزر؟ القرآن يقول اسم ابيه آزر، فنحن نتبع القرآن الكريم، لا ننكر أنه قد يكون له اسم آخر كسيدنا يعقوب، سيدنا يعقوب هو إسرائيل، فاسمه يعقوب واسمه إسرائيل، وذكر الله الاسمين في القرآن الكريم، فقد يكون لنبي من أنبياء الله اسمين اثنين، أو قد يكون له اسم ولقب، أو قد يكون أصل الاسم تارح وتارخ ثم حُرّف، أو يكون أصله آزر ثم حرف وصار تارَح فيما بعد، وهذا موجود مثل نبي الله عيسى عليه السلام يوشع، العين صارت ببداية الكلمة، وتغير الاسم كله، فهذا موجود.
على كل حال نحن نقول: إن والد إبراهيم كان مشركاً، وهو آزر كما ذكره القرآن الكريم، وذكر اسمه، طبعاً هناك من قال أيضاً أن آزر هو اسم صنم، ثم تأولوا الكلام تأويلاً إعرابياً طويلاً حتى نجعل آزر اسم صنم من الأصنام التي كانوا يعبدونها، ليس لنا بهذه الأقوال، القرآن واضح وجلي، وآزر هو والد سيدنا إبراهيم.

الفرق بين الصنم والوثن:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً﴾ عندنا صنم، وعندنا وثن، هناك أوثان، وهناك أصنام، الأوثان هي حجارة، حجر هذا وثن، قد يُعبَد الحجر من دون الله، والصنم يُجعل على شكل شيء، يعني يُنحَت الحجر على شكل شيء، وقد يكون أصل ذلك لنبي من أنبياء الله، أو لرجل صالح من الصالحين، فيتخذه الناس صنماً من دون الله، وهذا في قوله تعالى في سورة نوح:

وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
(سورة نوح)

قال صلى الله عليه وسلم:

{ صارَتِ الأوْثانُ الَّتي كانَتْ في قَوْمِ نُوحٍ في العَرَبِ بَعْدُ أمّا ودٌّ كانَتْ لِكَلْبٍ بدَوْمَةِ الجَنْدَلِ، وأَمّا سُواعٌ كانَتْ لِهُذَيْلٍ، وأَمّا يَغُوثُ فَكانَتْ لِمُرادٍ، ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بالجَوْفِ، عِنْدَ سَبَإٍ، وأَمّا يَعُوقُ فَكانَتْ لِهَمْدانَ، وأَمّا نَسْرٌ فَكانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الكَلاعِ، أسْماءُ رِجالٍ صالِحِينَ مِن قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمّا هَلَكُوا أوْحى الشَّيْطانُ إلى قَوْمِهِمْ، أنِ انْصِبُوا إلى مَجالِسِهِمُ الَّتي كانُوا يَجْلِسُونَ أنْصابًا وسَمُّوها بأَسْمائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حتّى إذا هَلَكَ أُولَئِكَ وتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ. }

(صحيح البخاري)

لما ماتوا قال أقوامهم ننصب لهم أصناماً "تماثيل" حتى نذكرهم، فلما نُسِخ العلم عُبِدت من دون الله، فهي أصلها لرجال صالحين.
الصنم يجعل على شكل شيء
فالصنم يجعل على شكل شيء، كأن يكون كما ورد أن قوم إبراهيم كان بعضهم يعبدون الشمس والقمر، فيُجعل الحجر أو هذا الوثن صنماً على شكل شمس، فيعبدونه من دون الله تعالى، فقال: ﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا﴾ وقوله ﴿أَتَتَّخِذُ﴾ يعني أنها ليست إلهك، اتخذ الشيء، يعني أنا مثلاً اتخذت الحاسب مُتَّكأً، الحاسب ليس مُتَّكأ، المتكأ شيء من إسفنج أضع يدي عليه، لكن لم أجد شيئاً فوضعت الحاسب واتخذته متكأً، وهو ليس متكأ في الأصل، فهم يتخذون الأصنام آلهة، والأصنام لا تضر ولا تنفع، فهي ليست آلهة،
﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً﴾ هذا استفهام يراد منه الإنكار، ولا يراد منه الجواب، يعني لا يريد منه أن يقول له نعم أتخذها إلهاً، وإنما يستنكر عليه ما يفعله؛ لأن هذا الذي يفعله لا يقبله عقل ولا منطق قبل ألا يقبله شرع طبعاً.
﴿إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ وكلمة مبين فيها تقريع، يعني أن يكون الضلال لشيء فيه وهم، فيتوهم الإنسان أنه كذا وهو ليس كذا، أما أن يضل والأمر واضح جداً، فهذا ضلال مبين، فهذا فيه تقريع؛ أن تكون الأمور واضحة، ثم يذهب الإنسان إلى الضلال فيعبد صنماً من دون الله تعالى ﴿إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ وهذه الرؤيا هي الرؤيا البصرية والرؤيا القلبية معاً، يعني أرى فعلك فيه ضلال مبين، قال تعالى:

وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)

الهداية من الله تعالى
وكذلك يعني وكما بينا له ضلال قومه ﴿إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ وكذلك، وكما بينا له ضلال قومه، الهداية من الله تعالى، هداية التوفيق الإنسان يبذل أسبابها والله هو الذي يهديه جل جلاله.
قال: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وجاء بالفعل ﴿نُرِيبالمضارعة، فما قال وكذلك أريناه للدلالة على الاستمرار، ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ والملكوت مثل: رحموت، ليس بمعنى سأموت، رحموت مبالغة من الرحمة، أو رهبوت، رحموت، رهبوت، ملكوت، هذه الواو والتاء للمبالغة، ملكوت يعني الملك الواسع، وهذه لا تقال إلا لله تعالى، يعني نقول فلان ذو ملك، عنده ملك، ولكن لا نقول ذو ملكوت، الملكوت لله تعالى وحده، ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ السماوات والأرض كل ما سوى الله.
﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ يعني نريه الملك في السماوات والأرض ليدفعه ذلك إلى الإيمان اليقيني الذي لا يخالطه شك بأن الله تعالى موجود واحد، لا ند له ولا شريك، اليقين يعني 100%. ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ ليس الظانين، ليس الشاكين، الموقنين، وهذه الآية نص واضح في أن ملكوت السماوات والأرض طريق لليقين بوجود إله لهذا الكون، يعني ربنا عز وجل ما ترك إنساناً هملاً، ولكن لو تخيلنا أن إنساناً وُجد في عصر من العصور، ولم يبلغه رسالة ولم يأته نذير، فملكوت السماوات والأرض وحدها توصله إلى وجود خالق لهذا الكون، الآن ما صفات الخالق؟ ما اسم الخالق؟ كيف يتعامل الخالق مع خلقه؟ ماذا أعد لمن أطاعه أو لمن عصاه؟ هذا شيء آخر، هذا تفاصيل غيب، يأتيه بالخبر الصادق، لكن مجرد أن ينظر الإنسان في ملكوت السماوات والأرض هذا سبيل لليقين بوجود خالق، يعني فقط ملكوت السماوات والأرض يمنع أن يكون الإنسان والعياذ بالله ملحداً، يقول ليس لهذا الكون خالق، لأن وجود المخلوق دليل على وجود الخالق.
قال:

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)

جن الليل: أي ستر بظلمته، وكل فعل أو كل جذر في اللغة (ج-ن-ن) يدل على الستر والخفاء، فالجنين في بطن أمه مستور عن أعين الناس، فسمي جنيناً، والجنة تكاثفت الأشجار فيها حتى غطت وجه الأرض فسميت جنة، والمجنون سُتر عقله فسمي مجنوناً، والجِنّ والجِنة:

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)

فسموا جناً، وجن الليل أي غطى بسواده كل شيء، فهذا الجذر في أصله الستر والخفاء
﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا﴾ وقالوا في كثير من التفاسير أنه كوكب الزهرة، الكوكب يستمد ضوءه من غيره، أو أن هذا الكوكب أكثر كوكب يظهر للناس من غير مناظير، فقالوا الزهرة، والله أعلم، على كل:
﴿رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ السؤال هنا: إبراهيم عليه السلام ينتظر كوكباً ليظهر في السماء ليظنه رباً له، ثم يكتشف عند أفوله أنه ليس برب ولا إله؟ هذا نبي من أنبياء الله تعالى، ثم لماذا انتظر حتى ظهر الكوكب؟ هو لما ظهر معناها كان آفلاً، فلماذا انتظر حتى أفل فقال ﴿قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ الشيء الذي يظهر فجأة معناها كان غائباً، فهو ليس إلهاً وانتهى الأمر.

شخصية سيدنا إبراهيم عليه السلام تتجلى في:
أحبابنا الكرام، هذه الآيات يجب أن نفهمها في ضوء شخصية سيدنا إبراهيم من شيئين اثنين:

أسلوب مجاراة الخصم:
أسلوب مجاراة الخصم في القرآن الكريم
الشيء الأول: سيدنا إبراهيم عنده أسلوب يسمى مجاراة الخصم، وهو معروف عند المناطقة، مجاراة الخصم، يعني إذا كنت تجلس في حوار أو جدال مع شخص، لا أقول حواراً، جدالاً، فاشتد الجدال بينك وبينه أو الحِجاج، يعني كلٌّ يدلي بحجته ليبطل حجة الآخر، واحتدم الجدال، فالآن من الأساليب التي يستخدمها بعض الناس هي مجاراة الخصم في بعض كلامه من أجل إبطاله بعد ذلك، فيقول له بالعامية سأمشي معك، كما تقول تمام، فيُسَر؛ أنه وافقني على فكرة، لكن هو يهيئ له ما يبطل الفكرة بعد أن جاراه عليها؛ ليكون وقعها أشد، يكون وقع الإبطال أشد بعد أن جاراه عليها، وهذا أسلوب موجود حتى في القرآن،

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (24) قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
(سورة سبأ)

سمى إيمانه إجراماً، وسمّى فعلهم الإجرامي عملاً، يعني جاراهم، سيدنا موسى قال:

وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ(20)
(سورة الشعراء)

يعني هذا الموضوع إذا أردت أن تظل تتكلم به لن نصل إلى نتيجة، فعلت فعلتي انتهى، دعنا نتكلم بشيء آخر، فهذا الأسلوب اسمه مجاراة الخصم، وسيدنا إبراهيم اتبعه مع النمرود لما قال له:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
(سورة البقرة)

المُتَصوَّر أن سيدنا إبراهيم سيقول له: لا، أنت لا تحيي وتميت، أنت تتأول، أنت تقول إنك تحكم على إنسان بالإعدام فيُقتل، ثم تقول: عفوت عنه فيُعفا عنه، ولكن هذا ليس إحياء وإماتة على الحقيقة، الإماتة والإحياء شيء آخر، ما شرح له ذلك إطلاقاً، قال: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ أنت تقول أنا أحيي وأميت، لن أناقشك في هذا الأمر، فهذا اسمه مجاراة الخصم، وهذا أسلوب عند سيدنا إبراهيم موجود ومعروف حتى في القرآن الكريم.

السخرية والتهكم من الأفعال المشركين:
القضية الثانية في سيدنا إبراهيم أنه يتهكم ويسخر، يتبع في حجاجه ربنا جل جلاله بعد آيات سيقول:

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83)

أسلوب التهكم من الخصم عند سيدنا إبراهيم
فمن الحجة التي آتاها الله لسيدنا إبراهيم أنه كان عنده أسلوب التهكم من الخصم، ليس السخرية من شخصه، ولكن التهكم بفكره ومعتقده، لما حطّم الأصنام، وجاؤوا في الصباح ورأوا أصنامهم محطمة قال:

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)
(سورة الأنبياء)

يريد أن يقيم الحجة عليهم فقال لهم: الذي فعل ذلك هو الصنم الكبير، قام فقالوا:

ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ (65)
(سورة الأنبياء)

فأقام الحجة عليهم، تهكم بهم فاعترفوا بأن هؤلاء لا ينطقون حتى يصلوا إلى من الذي فعل ذلك، فأقام الحجة عليهم بأنهم ماداموا لا ينطقون ولا يستطيعون نفعاً ولا ضراً فلماذا تعبدونهم من دون الله؟
فمجاراة الخصم وأسلوب التهكم يجب أن نفهم أيضاً هذه الآيات على هذا النحو، فإبراهيم عليه السلام يريد أن يحاجج قومه، أنتم تعبدون أصناماً على شكل شمس وقمر، يعتقدون بأن الشمس تفعل فعلها، وبأن القمر، وبأن الكواكب وبأن كذا، حسناً سننتظر إلى الليل:

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78)
(سورة الأنعام)

أنا معكم أنتم تعبدون الكواكب من دون الله، هذا ربي، ثم انتظر ﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ﴾ يعني غابت، من الغياب، ﴿قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ هنا لم يقل لهم شيئاً، انظروا الآن كيف تدرج سيدنا إبراهيم، ﴿قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ أنا لا أحب الإله الغائب، ما قال لهم هذا ليس إلهاً، ﴿قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ فقط، الغائبين يعني، أحب الحاضر:

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)

إقامة الحجة عليهم بشكل عملي
بدأ يعرّض بضلالهم، والآن يهديهم بطريقة عملية، كما فعل عندما حطّم أصنامهم، ﴿لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ يعني أنتم ضالون في عبادتكم للشمس والقمر والكواكب، هنا يظهر لماذا هو مادام ظهر قلنا فإذاً هو كان آفلاً، الذي ظهر إذا هو كان آفلاً، وسيدنا إبراهيم كل يوم يرى قبل هذه الحادثة يرى القمر يومياً يظهر ويأفل، ولكن هو أراد أن يقيم الحجة عليهم بشكل عملي أمامهم جلياً، تعبدون القمر، حسناً هذا ربي، أين ذهب ربكم؟
قال: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ﴾ بما أنهم يتعاطون بقضية الآلهة المزعومة فكلما كبر فهذه الشمس بازغة إذاً هذا ربي، بازغة يعني ساطعة، بزخ الشيء: سطع.
﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ أقام الحجة عليهم، بعد قليل سيقول تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ﴾﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾
• إذاً: بدأ ﴿لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾.
• ثم: ﴿لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ أنتم ضالون.
• ثم تبرأ منهم ومن عبادتهم من دون الله ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ وأعلنها صراحة أمامهم:

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
(سورة الأنعام)

طبعاً لتتمة الفائدة بعض المفسرين قالوا ﴿هَٰذَا رَبِّي﴾ تشبه:

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)

يجب أن نقرأها بهذه النبرة ﴿أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾؟! لن يخلدوا، وهنا قالوا ﴿هَٰذَا رَبِّي﴾ هذه على الاستفهام بنبرة الصوت ﴿هَٰذَا رَبِّي﴾؟ ﴿هَٰذَا أَكْبَرُ﴾؟ لا، لكن لو لم ندخل قضية الاستفهام بغير أداة، هذا استفهام بغير أداة، يعني هذا قليل ونادر في كلام العرب، ولكنه موجود، لكن ما أحببنا أن نتوسع به، نعم قال هذا ربي من باب مجاراة الخصم، وهذا ما أرجحه، يعني هذا ربي بزعمكم، أنتم تقولون الكوكب يُعبد من دون الله، وهو رب، حسناً هذا ربي مجاراة لكم على ما تقولون أنتم، ثم مضى معهم خطوة خطوة، حتى وصل ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾.
﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ أي جعلت قصدي في عبادة الله تعالى خالصاً لله تعالى، لوجهه الكريم.
﴿لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ فطر: خلق على غير مثال سابق، يعني لم يكن هناك مكونات وجمعها وجعل منها سماوات وأرض، وإنما كان هناك عدم، وهو فطرها أي جعلها على غير مثال سابق.
الحنيف هو المائل
﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا﴾ يعني مائلاً، ومنه الأحنف؛ مائل الرجلين، هذا عيب (الحنف) هناك حنف وهناك جنف وكلاهما عيب، فالحنيف هو المائل، إبراهيم عليه السلام يوصف بالقرآن بأنه حنيف؛ لأنه كان مائلاً عن الشرك وأهله إلى التوحيد وأهله، والمؤمن حنيف، حنفاء لله يعني مائلون إلى منهج الله ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۚ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
(سورة الأنعام)

خاصمه قومه لما أعلنها وأقام عليهم الحجة في هذه المسالة، وفي غيرها في آيات أخرى حاجوه، خاصموه، جادلوه، جعلوا يُلقُون بحججهم الداحضة.
﴿قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾ تخاصمونني، وتريدون أن تقيموا الحجة عليّ بزعمكم في ربي، في الله تعالى وقد هداني إليه.
الخوف يأتي بعد تهديد
﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ إذاً هددوه، فالخوف يأتي بعد تهديد، فلما وجدوه قد أسلم لله الذي فطره وترك عبادة الأوثان هددوه، نقتلك، نحرّقك...إلخ، فكان جوابه ﴿ولَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ غداً أصنامنا تفعل فعلها، غداً آلهتنا ستجعلك مريضاً لا تقوى على الحركة، غداً آلهتنا ستجعلك مشلولاً، اليوم هناك أناس للأسف الشديد، لا يعبدون أصناماً كحجارة من دون الله ولكن يعبدون بعضهم من دون الله تعالى، ممكن أن يقول له الشيخ فلان سيدعو عليك ليصيبك الشلل، إذا تكلمت على الشيخ فلان وهو بقبره سيحولك إلى سحلية، هذه الخرافات موجودة للأسف الشديد، فهنا هددوه، وكيف أخاف ما أشركتم قبل ﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ أصنامكم لن تضرني ولن تنفعني، الأمر منتهٍ.
﴿إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾ كيف؟ إذا أراد ربنا أن تنزل صاعقة، هذه ليست من الشمس التي تعبدونها، ولا من القمر الذي تعبدونه، إنها من الله تعالى ﴿إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾ يعني ما يحدث من ظواهر كونية في الكون هي مشيئة الله، وليست الكواكب تفعل فعلها، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم لما أصبح على أثر مطر:

{ هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأمَّا من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مُطِرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب }

(صحيح مسلم)

الذي قال أمطرنا بفضل التنبؤات الطقسية وبسبب الطقس ولأن الكوكب جاء (فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب فأمَّا من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مُطِرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب).
فالكواكب ليس لها فعل، إذا حصل منها فعل فهو فعل الله أجراه عليها، لذلك قال: ﴿إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾ فإبراهيم عليه السلام صاحب حجة، يعني ما ترك لهم أن يقولوا له: أما وجدت الشمس عندما تشتد حرارتها ماذا تصنع بنا؟ يصير معنا ضربة شمس، أو أرأيت الرياح عندما تشتد ماذا تفعل بنا، هذه آلهة تضر وتنفع، قال لهم ﴿إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾ إذا أراد ربي شيئاً حصل، لكن هي لا تضر وتنفع بنفسها.
قال ﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ ربنا عز وجل هو الواسع، ﴿كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ فعلمه يسع كل مخلوق:

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59)
(سورة الأنعام)

كله في كتاب، فعلمه وسع كل مخلوق.
﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ تذكر الإنسان يعني كان ناسياً ورجع فتذكر؛ لأن الإنسان مخلوق على الفطرة، كل مولود يولد على الفطرة، فهو عندما يعود إلى الله إنما يعود إلى أصل فطرته الذي نسيه فيتذكر ﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾.

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81)

تتمة الحجة ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ﴾ كيف أخاف أصنامكم؟ استفهام إنكاري، كيف أخاف أصنامكم ﴿وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾ أي ما لم يجعل لكم حجة فيه لتعبدوه، ليس لكم حجة فيه، الكافر ليس له سلطان، المؤمن له سلطان، قال تعالى:

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
(سورة الأنعام)


الموحد مرتاح والمشرك مهموم:
المشرك تتشعب به الهموم
فالمفترض أن تخافوا أنتم لا أن أخاف أنا، لأنكم مشركون، فالمشرك هو الذي يخاف لا الموحد، لماذا؟ لأن المشرك تشعبت به الهموم فهو الذي يخاف، أنت إذا كنت في شركة فيها مئة موظف، وأنت أضعف موظف في الشركة، والشركة ليس لها نظام صارم، فأنت تخاف من جميع الموظفين، فلا تنام الليل، تقول صباحاً سأرضي فلان فينزعج فلان، فتذهب لإرضاء فلان فينزعج الثالث وهكذا.. فتتشعب بك الهموم فتعيش هماً لا ينقطع (المشرك) وفي الوقت نفسه إرضاء أحدهم يزعج الآخر، ولا تستطيع أن ترضي الجميع أصلاً، لا يمكن لإنسان أن يرضي الجميع، لكن لو كنت في شركة فيها مدير وقالوا لك علاقتك مع المدير فقط، ثم نظرت ما الذي يرضي المدير ففعلته فلا يهمك من سخط من الموظفين، فتعيش في الشركة حياة هانئة؛ لأن علاقتك مع المدير والمدير راضٍ.
فليتك تحلو والحياة مريـــرة وليتـك ترضى والأنـام غضاب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب.
{ أبو فراس الحمداني }
انتهى الأمر، إذا ربنا عز وجل راضٍ انتهت المشكلة، لا يهمني فلان رضي أو سخط مادمت أرضي ربي عز وجل، فالموحد مرتاح.
مر معنا في سورة الزمر سابقاً:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
(سورة الزمر)

هو عبد ويملكه عشرة ويتشاكسون فيما بينهم، لي، لا لي، عندك من الساعة الثامنة إلى العاشرة، يقول لا أنا أريده من العاشرة إلى الحادية عشر ﴿وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾ فهنا يخاطبهم قال ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾ أنتم يجب أن تخافوا لأن آلهتكم متعددة، ولأنكم لا تعرفون إلى من تتوجهون فدائماً في حالة خوف، لذلك:

فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
(سورة الشعراء)

يُعذَّب الإنسان عندما تتشعب به الهموم.
فأتم حجته عليهم بقوله ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ من الذي يأخذ الأمن، الأمن النفسي، السكينة، الطمأنينة، الموحد أم المشرك؟ فقرر الله تعالى وأجاب جل جلاله قال:

الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)
(سورة الأنعام)

﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾: التصديق.
﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا﴾ أي لم يخلطوا.
الظلم هو الشرك
﴿إِيمَانَهُم﴾ تصديقهم بالله واعتقادهم بوجوده لم يخلطوه ﴿بِظُلْمٍ﴾، وجاءت نكرة، والظلم هنا هو الشرك، وقد شق على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأوا هذه الآية قالوا: يارسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ يعني الأمن ليس لنا، لأننا ظلمنا أنفسنا، المعصية ظلم، فقال: ليس ذاك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه وهو يعظه:

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
(سورة لقمان)

فالظلم هنا هو الشرك، وهذا يعلمنا مفهوم مهم جداً؛ أن القرآن الكريم كثيراً ما نحتاج إلى السنة لفهمه، يعني لو لم نفهم الظلم، كلغة عربية فعلاً أي ظلم هو ظلم، إذا أنا أطلقت بصري ذهب الأمن؟ كل إنسان يخطئ،

{ كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ. }

(أخرجه الترمذي)

الموحد آمن، ولو شابَهُ بعض المعاصي مادام يرجع إلى ربه جل جلاله، أما المشرك هو الذي لا يتمتع بالأمن، فقال: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾ أي ولو بشرك يسير، يعني مادام القلب متعلق بغير الله تعالى فالأمن غير موجود، تحتاج إلى أمن ترتاح، التوحيد، إيمان وتوحيد يعطينا الأمن.
﴿أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ﴾ ولو قال أولئك الأمن لهم لاحتمل أن يكون لغيرهم؛ لأن عندنا المبتدأ "الأمن"، والخبر: "لهم"، الخبر شبه جملة، الأمن: مبتدأ، لهم: الخبر، لما نقدم الخبر على المبتدأ يفيد القصر والحسر. لو قلت: "أحمد في الصف"، ممكن أن يكون سامر أيضاً في الصف، لكن إذا قلت: "في الصف أحمد" فكأنك تشير إلى أنه لا يوجد إلا أحمد في الصف، فالتقديم والتأخير يفيد الحصر، فقال: ﴿أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ﴾ أي لهم وحدهم ولا يمكن أن يتمتع به غيرهم من المشركين.
﴿وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ اهتدوا إلى توحيد الله تعالى وعبادته حق عبادته.
والحمد لله رب العالمين.