تقدير الله عز وجل - إعجاز القرآن الكريم

  • اللقاء الثاني عشر من تفسير سورة الأنعام - شرح الآيات 91 - 94
  • 2023-06-17

تقدير الله عز وجل - إعجاز القرآن الكريم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، وبعد:
فهذا هو اللقاء الثاني عشر من لقاءات سورة الأنعام، وصلنا إلى الآية الواحدة والتسعين من السورة وهي قوله تعالى:

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ(91)
(سورة الأنعام)

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ أي ما عظموه حق عظمته، وما أجلوه حق إجلاله، قال تعالى:

مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا(13)
(سورة النوح)

قال ابن عباس: لا ترجون له عظمة، وهذه الآية تكررت في كتاب الله في هذا اللفظ ثلاث مرات، المرة الأولى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْء﴾.
والثانية في الحج:

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(74)
(سورة الحج)

والثالثة في الزمر:

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)
(سورة الزمر)


المنهج لتقدير الله عز وجل:
أولاً- عدم إنكار القرآن الكريم:
من ينكر القرآن اعتقادياً يكفر
وكأن هذه الآيات الثلاثة تعطي المنهج لتقدير الله حق قدره، فهذه تبيّن أن حالهم في عدم تقدير الله حق قدره هو إنكار الوحي، وإنكار الرسالة، فالذي ينكر الوحي لا يقدّر الله حق قدره ﴿إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ أنكروا القرآن، والحقيقة أن الذي ينكر القرآن اعتقادياً يكفر، فالذي يقول هذا القرآن ليس كلام الله يكفر، لكن الذي ينكر عملياً لا يكفر، لكنه يؤدي به الأمر إلى عدم تقدير الله حق قدره، أقصد بعملياً أنه يقول هذا الكلام كلام الله، لكنه لا يتعامل معه على أنه كلام الله، فلا يُحِل ما أحله الله، ولا يحرم ما حرمه الله، ففي النتيجة يلتقي الطرفان في أنهما لا يقدران الله حق قدره، مع بيان أن الأول ليس هناك مجال للمقارنة بينهما في الاعتقاد، لكن ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ فمن أنكره فقال: هذا القرآن ليس كلام الله، كافر لم يقدّر الله حق قدره، ومن قال: هذا القرآن كلام الله، ولكنني سأحكّم القوانين بيني وبينك، ولن أحكم كتاب الله بيني وبينك فهو ما قدّر الله حق قدره، مع اعترافه بأن الله أنزله لكنه لم يعمل بمقتضاه، فهذه مشكلة أيضاً.

ثانياً- التعرف إلى أسماء الله الحسنى:
والآية الثانية ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ في سورة الحج، حينما نتعرف إلى أسمائه الحسنى: القوي، العزيز، الجبار، الرحمن، الرحيم، اللطيف تقدره حق قدره، فالسبيل الثاني هو أن تتعرف إلى أسمائه الحسنى.

ثالثاً- الإيمان باليوم الآخر:
يكفيك أن تأتي ما أمر به إذاً أنت تعرفه
والثالث في سورة الزمر ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ أن تؤمن باليوم الآخر، فتقدره حق قدره، فهذه الآيات الثلاثة أعطت هذه المعاني، يقدره أي يعطيه مقداره، ففي دنيا البشر أنت قد تقدّر إنساناً حق قدره، أو تنتقص من قدره، لو أنك جلست مع إنسان لا تعرفه، أعطيته قدراً معيناً –طبعاً والمؤمن يقدر الناس وينزل الناس منازلهم، لكن نتكلم بالعموم-، ما أعطيته الحجم المناسب له، ثم جاء من همس بأذنك بأن فلان دكتور في اختصاص نادر، فالآن تثني عليه ثناء مختلفاً، تتعامل معه تعاملاً مختلفاً، تقدم له ضيافة، تتأدب في حضوره، تستمع منه، تخاطبه بضمير الجمع، فتعطيه قدره، أما في البداية لم تعطه قدره المناسب له لجهلك به، ربنا جل جلاله لا يوجد إنسان في الأرض ولا حتى الأنبياء يمكن أن يعطيه قدره، يعني القدر الكامل مستحيل؛ لأنه لا يعرف الله إلا الله، ربنا من العظمة بحيث لا يمكن أن يقدّره إنسان بالمعنى الحرفي للكلمة حق قدره، لكن ربنا جل جلاله يسّر الأمور علينا فقال: إذا أتيت ما أُمرت به، فقد قدّرته حق قدره، أي يكفيك أن تأتي ما أمر به إذاً أنت تعرفه، تعرفه معرفة بسيطة لكن ما دامت هذه المعرفة كافية بأن تطيعه فقد قدرته حق قدرك، لذلك في الدعاء النبوي:

{ اللَّهُمَّ إني أَعُوذ بِرِضَاك من سَخَطِك، وبِمُعَافَاتِكَ من عُقُوبَتِكَ، وأعُوذ بِك مِنْك، لا أُحْصِي ثَناءً عليك أنت كما أَثْنَيْتَ على نفسك. }

(صحيح مسلم)

لا يعرف الله إلا الله، ولا يعرف قدره إلا الله جل جلاله، وربنا جل جلاله أيضاً من زاوية ثانية يسّر علينا أسباب هذا الأمر، لأنه عرّفنا إلى ذاته بآيات وأحاديث واضحة لا نزيد عليها ولا ننقص منها، فما نقوله نحن عن الله قد قاله الأنبياء، لا نستطيع أن نقول غير ما قاله الأنبياء، لا نزيد، فما عرّفنا الله تعالى به نكتفي به.
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ أنكروا الرسالة، أنكروا القرآن الكريم، طبعاً الحديث هنا عن المشركين، وعن بعض أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، الآن القرآن الكريم يحاججهم فيقول: ﴿قُلْ﴾ مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم ﴿مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ﴾ إذا كنتم تزعمون أن الله ما أنزل على بشر من شيء، فالكتاب الذي جاء به موسى هذا كلام من؟ وأنتم أيها اليهود تؤمنون به، حرفتموه ولكن تؤمنون أن الله أنزل شيئاً على نبي وهو نبي الله موسى، ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ﴾ التوراة الصحيحة كما أنزلها الله تعالى.
﴿نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ﴾ أنزله الله نوراً وهدى للناس، النور يكشف لك الطريق، والهدى يعصمك من الضلال، والكتب السماوية كلها جاءت نوراً وجاءت هدى، نور يوضح لك طريقك، الإنسان من غير كتاب، من غير منهج كأنه في ظلام دامس لا يعرف أين يسلك، فإذا جاء النور اتضح له الطريقان، فإذا جاءت الهداية عرف أي طريق يسلك منهما، لو أن إنساناً يمشي في غابة، والغابة مظلمة، وهو يريد مكاناً معيناً، فجاء بضوء كاشف نور، فلما أنار له اتضح له أنه من هنا طريق ومن هنا طريق، أيهما أسلك؟ وجد لوحة مكتوب عليها: هذا الطريق يؤدي بك إلى القرية الفلانية فهنا هدى، فالقرآن نور وهدى، فهو يبين لك الطرق، طريق الضلالة وطريق الهداية، ثم يبين لك أي الطرق تسلكها، فهو نور وهدى.

معنى التدين الانتقائي:
﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ﴾ القرطاس هو الصحيفة التي يُكتب فيها، ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسََ﴾ أي صحفاً متفرقة، لا تجمعونها كاملة، وإنما قراطيس، لماذا فعلوا ذلك؟ قال:
﴿تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ يعني الصفحة التي تناسبه يخرجها؛ لأن فيها ما يؤيده، لأن فيها ما يريده، والصفحة التي يجد فيها ذكراً بأن نبياً سيأتي في آخر الزمان مصدقاً لموسى عليه السلام، وسيأتي برسالة، وبكتاب واسمه أحمد يخفونها، هذا يسمى "التدين الانتقائي" القرآن يعلمنا ببني إسرائيل، اليوم بعض المسلمين يجعلون القرآن قراطيس، يبدونها ويخفون كثيراً، القرآن ربنا جل جلاله حفظه من التغيير والتبديل والتحريف:

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)
(سورة الحجر)

بينما التوراة:

إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
(سورة المائدة)

مشكلة القرآن في التطبيق وليست في الحفظ
ترك حفظها لهم فأضاعوها، القرآن ما ترك حفظه للمسلمين، قال أنا أحفظه، فما تجد أن القرآن قراطيس، يعني آيات موجودة عند فلان وآيات غير موجودة، القرآن نفسه يُقرأ في مشارق الأرض ومغاربها، محفوظ بلفظه، متواتر بقراءاته حتى شفهياً ومكتوب في المصاحف، فليس هناك مشكلة في حفظه، لكن الآن في التطبيق يجعله بعض المسلمين قراطيس، فيمر على آية الربا وكأنه لم يقرأها، يقرأ القرآن وأمواله في البنوك الربوية، ويقرض بالربا، ويتعامل بالربا، ويدفع بالربا، فهو أخفى شيء من كتاب الله تعالى، أظهر ما يريده، وأخفى ما يريده، الأشياء التي تروق له يظهرها، والأشياء التي لا تروق له يخفيها، لذلك قال تعالى مخاطباً اليهود أيضاً:

ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
(سورة البقرة)

الدين كُلٌّ لا يتجزأ، من حيث الاعتقاد يكفر من يجزِّئه، فإذا قال إنسان أنا أؤمن بما جاء في القرآن الكريم، بكل آيات الأخلاق، الدين أخلاق، الدين تعامل، أما آيات الجهاد:

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(191)
(سورة البقرة)

وكذا آية لا أؤمن بها، ربنا لا يتكلم بذلك، أو قال آيات الرحمة ربنا رحيم، أما قوله:

وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ ۖ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ۖ مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
(سورة الإسراء)

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ(30)
(سورة ق)

الإله عظيم، لا يُحرِق عباده، هذا كفر؛ لأن بالاعتقاد لا يوجد تجزؤ، القرآن كله من عند الله بما فيه من آيات الرحمة وآيات العذاب، بما فيه من آيات الدعوة وآيات الجهاد، الآن نفهمه، متى الدعوة ومتى الجهاد، فهناك:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(73)
(سورة التوبة)

في أرض المعركة، وهناك:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125)
(سورة النحل)

المطلوب أن نفهم، ولكن أن ننكر ما ورد فيه من آيات نجدها لا تناسب عصرنا، أو والله الحدود اليوم:

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(38)
(سورة المائدة)

يعني قطع اليد اليوم هناك عقوبات إصلاحية، كأن عقوبات القرآن غير إصلاحية، ماذا يقابل العقوبة الإصلاحية؟ عقوبة إفسادية؟

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179)
(سورة البقرة)

التدين الانتقائي يوقع صاحبه في الفسق
معقول أن تقتل القاتل! قتل فتقتله؟ أنت بذلك تزيد من المشكلة، قالها لي أحدهم، قال أنا لا أفهم، كيف إنسان قتل ولا نقتله، فنحن بذلك ننمي المشكلة، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ فهذا الذي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه اعتقاداً هذا يكفر، طبعاً يُبيَّن له ويُعالَج، لا نقول يكفر بمعنى أننا نحكم عليه بالكفر كفرد، أنا الآن أحكم بشكل عام، أما بخصوص الأشخاص فهذا أمر آخر يحتاج إلى قضاء وحكم. أما على المستوى العملي فالذي يؤمن ببعض الكتاب ويترك بعضه ينتقي تدينه انتقاء فهذا يقع في الفسق، أما الذي تزلّ قدمه في بعض القضايا فهو يؤمن إيماناً كاملاً بأن الله تعالى قال:

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
(سورة النور)

وبأن غض البصر واجب على المسلم، وهو يحاول فعله لكن تزل قدمه فيتوب، فهذا يعني في دائرة الإيمان، لكن هناك من ينتقي إيمانه انتقائياً، الآن نحن في موسم الحج-نسأل الله أن يكتب السلامة للحجاج-، فالحج عبادة جميلة بالنسبة له، معه أموال جيدة، يحجز في الحج من فئة العشر نجوم، يذهب لسبعة أو ثمانية أيام، يحج بفنادق الخمس نجوم، ويعود الحاج أبو فلان، ويزين بيته ويستقبل الناس، فأموره ميسرة، اسأله كيف هي معاملاتك المالية؟ تجده يتعامل بالربا، بالنسبة له الحج وجده سهلاً، فالمال موجود، والقدرة موجودة، والموافقات موجودة، يعني عبادة فيها مظاهر بالنسبة له، ويتصور ويعود وينشر، أنا أتكلم عن بعض الناس، لكن الالتزام؛ يجوز، لا يجوز، حرام، يجده صعباً على نفسه، فهنا مصيبة، هذا اسمه التدين الانتقائي.
﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا﴾ تبدون ما تشاؤون منها ﴿وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾.
﴿وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ ﴾ الكتب السماوية التي تأتي من الله عز وجل تعلم الناس شيئاً لم يعلموه لا هم ولا آباؤهم من قبلهم.
﴿قُلِ اللَّهُ﴾ يعني قل الله هو الذي نزل الكتاب؛ لأنهم قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء.
﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ أي أنت اتجه إلى الله تعالى بكليّتك، وآمن به إيماناً كاملاً بوجوده، ووحدانيته وكماله.
أصل الخوض هو الخوض في الماء
﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ أصل الخوض هو الخوض في الماء، مخاضة ماء ينزل الإنسان فيها فيبتل، وقد يكون فيها طين، ثم استعير اللفظ للدلالة على أي إنسان يخبط خبط عشواء، ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ أي اتركهم ﴿فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ واللعب هو الشيء الذي لا طائل وراءه، ولا نتيجة منه، انظر لطفل يلعب بسيارة، لعب:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(20)
(سورة الحديد)

واليوم ليس الأطفال فقط، انظر إلى رجل كبير في السن يجلس خلف الموبايل ويلعب لعبة لساعة، ساعتين، ثلاث، أربع، النتيجة صفر، لا شيء، لعب. قال: ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ لأن أعمالهم لا يرجى منها شيء، يخوضون فيما يحسنون وما لا يحسنون.
ثم يبين الله تعالى حقيقة القرآن الكريم فيقول:

وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(92)
(سورة الأنعام)

كتاب مكتوب، شاء الله تعالى أن يحفظ الكتاب في الصدور ثم في السطور.
﴿وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ المبارك هو الذي كثر خيره، وعمّ خيره، الشامي إذا سأل شخص آخر، يسأله يقول له: كم ولد البركة عندك؟ يعني الزيادة، النمو، تسمى بركة، بارك الله لك في مالك أي كثّره لك، فالبركة هي الزيادة والخير الكثير.
﴿وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ عمّ خيره وكثر، فمن يقرأ في القرآن الكريم يتعلم ما يصلحه في حياته، وينجو في آخرته، يتعلم ما يصلحه في علاقته مع زوجه، مع أولاده، في مجتمعه، مع الناس، القرآن الكريم مبارك، فيه بركة.
﴿مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ يعني ما جاء قبله من الكتب، وهذا تعبير قرآني، دائماً تصديق للذي بين يديه، قد يتوهم إنسان أن الذي بين يديه يعني ما بعده، لا الذي بين يديه في التعبير القرآني الذي سبقه، يصدق القرآن أن يأتي موافقاً لما قبله ويشهد له بالسبق، فالقرآن يشهد للإنجيل بالصدق، للإنجيل الصحيح، ويشهد للتوراة غير المحرفة بالصدق، يصدقها أي يشهد لها بالصدق.
في الحديث لما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبته إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: "يا محمد أخبرني عن الإسلام"، فقال له :الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال:"صدقت"، فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: "أخبرني عن الإيمان" قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: "صدقت"، قال: "فأخبرني عن الإحسان"، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: "فأخبرني عن الساعة"، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: "فأخبرني عن أماراتها" ، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء، يتطاولون في البنيان، ثم انطلق فلبث مليا، ثم قال :يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: "الله ورسوله أعلم "، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. }

(صحيح مسلم)

يعني قال له: ما الإيمان؟ قال له: أن تؤمن بالله، قال له: صدقت، يسأله ويصدقه، فالذي يصدق الآخر يقول لي والله حصل اليوم كذا وكذا وكذا، أقول لك نعم وأنا علمت بذلك، فأنا صدقتك؛ أي شهدت لك بالصدق. فالقرآن مصدق الذي بين يديه بمعنى أنه يصدق ما جاء قبله من الكتب السماوية السابقة؛ لأن الكتب كلها جاءت بالتوحيد، والعبادة، بغض النظر عن طريقة العبادة لكن النتيجة التوحيد والعبادة:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)
(سورة الأنبياء)

التوحيد والعبادة، أي نهاية العلم ونهاية العمل، العلم توحيد، والعمل عبادة.
ومكة هي مركز العالَمين القديم والحديث
﴿مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ أم القرى هي مكة، ومكة هي في مركز العالَمين القديم والحديث، في الوسط الهندسي تماماً وفق الدراسات الحديثة مكة هي مركز العالَمَين؛ القديم والحديث، القارات القديمة والحديثة الوسط الهندسي لها مكة، فهذا إشارة إلى أن الأصل هو مكة، وهو:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ(96)
(سورة آل عمران)

ومنه شعّ النور، ومن حولها ربما تشمل الأرض كلها، يعني ما حول مكة هو الأرض كلها، لأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت عامة شاملة ليست لقومه فقط، والله تعالى يقول:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
(سورة الأنبياء)


الربط بين الإيمان بالآخرة والإيمان بالقرآن:
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أي يؤمنون بالقرآن، الذي يؤمن بالآخرة هو الذي يؤمن بالقرآن، والله تعالى في آية أخرى يقول:

وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ ۙ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(51)
(سورة الأنعام)

هناك ربط بين الإيمان بالآخرة والإيمان بالقرآن، لأن الذي يؤمن بالآخرة ينتفع بالقرآن، إذا إنسان يقرأ القرآن ولا ينتفع به هو لم يضع الآخرة نصب عينيه، لأن القرآن الكريم فيه ذكر الجنة والنار، فيه ذكر المآل، يعني الطالب الذي لا يؤمن بأن هناك امتحاناً آخر العام لا ينتفع بالمواد والمنهاج، لا يدرس، إذا اقتنع أنه لا يوجد امتحان لا يدرس، جرب أنت مع ابنك، قل له بابا لا يوجد امتحان آخر السنة ولكن اقعد وادرس، فيقول لك لماذا سأدرس؟ إذا لا يوجد امتحان لا يوجد دراسة، فمادام لا يوجد آخرة فلماذا أقرأ القرآن وأذاكر به وأتدبره وأتعلمه؟ فهو منهج للآخرة، والآخرة غير مقتنع بها، إذاً لم ينتفع بالقرآن، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ لأنه يحذّر وينذر ويبشّر.
﴿وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ يحافظ على صلاته؛ أي يأتي بها على الوجه الذي أراده الله منها فيؤديها وفق ما يرضي الله تعالى، يحافظ عليها، لا يفوتها.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
(سورة الأتعام)

الله تعالى لا يسأل من أجل الجواب
هذا سؤال استفهام، وربنا جل جلاله لا يستفهم ليأتيه الجواب؛ لأنه جل جلاله هو العالم جل جلاله، هو العليم، فلا يسأل من أجل الجواب، نحن نستفهم للجواب، لكنه يستفهم ليستخرج الجواب منك، لينطقك بالجواب فيكون ذلك أدعى لقناعتك بالفكرة، أحياناً الأب يعلم الجواب، لكن يسأل السؤال لابنه حتى يأتي الجواب من الابن فيرسخ عنده، هذا اسمه استنطاق، أن تستنطق الشخص الآخر ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ ليس هناك أظلم ممن افترى على الله كذباً، هذا الاستفهام التقريري، معنى الكلام لا يوجد في الأرض كلها إنسان أظلم من إنسان افترى على الله كذباً. فأنت إذا إنسان افترى عليك كذباً، والفِرية هي الكذب المحض الذي ليس عليه بينة ولا دليل، أحياناً هناك كذب الفكرة لها أصل، لكن هو كذّب في التفاصيل، يعني هو رآك في موقف في مكان معين، فقال رأيت فلاناً البارحة في المكان الفلاني وأظنه كان يجلس مع فلانة، وفي هذا المكان في العادة تُدار الخمور، فبدأ ينسج قصة مبنية على وجودك في المكان، هذا كذب، لكن أن تكون أنت في بيتك ويقول أمس رأيت فلاناً في المكان الفلاني وأنت في بيتك هذه فرية، ليس لها أصل أبداً، ولا أي دليل، أما الكذب ممكن أن يبني بعض المعلومات الكاذبة على معلومة صحيحة، أما الافتراء هو الاختلاق، اختلاق الكذب من أساسه، فلو أن إنساناً افترى عليك، اتهمك بدينك، أو بعفتك، أو بطهارتك، أو بشيء، فأنت تقول هذا ظالم، يظلمني ظلماً عظيماً، لكن ليس ظلمه شيئاً أمام أن يقول على الله الكذب، لأنه لماذا يعظم عندك أن يقول إنسان عنك كذباً أو يفتري عليك؛ لأنك إنسان شريف، أنت إنسان عظيم في المجتمع، فكيف يفتري عليك؟! أما لو كان إنسان يشرب خمراً، وافترى أحدهم عليه أنه رآه يشرب خمراً هل ينزعج؟ ولو كانت فرية، ففي الأصل ليس له مكانة عند نفسه، فهو كما يقال ما ترك معصية إلا جاء بها، فإذا افترى عليه إنسان وقال هذا الإنسان فعل كذا، هو ما فعلها ولكنه فعل أضعافها فلا يتأثر، ولكن عندما يُتكلَّم عن شريف أو عظيم يتاثر، تكون الفرية عظيمة أن تتكلم عن عظيم، فأعظم العظماء هو الله تعالى؛ العدل الحكم الجليل جل جلاله، فلا يوجد في الأرض أظلم من إنسان يفتري على الله كذباً، كأن يقول: إن الله لم يرسل رسولاً، أو يقول: إن الله أجبر عباده على المعصية، أو يقول: إن الله تعالى لا يعدل بين عباده، أو يقول: إن الله تعالى –والعياذ بالله، حاشاه جل جلاله- ليس عنده حكمة في العطاء، فيعطي الحلاوة لمن ليس له أضراس، هذا يفتري على الله كذباً، يعني عندما يتكلم على الله عز وجل بشيء غير صحيح.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾ أن يدّعي النيوة، وهناك أشخاص ذُكروا في التاريخ منهم مسيلمة الكذاب ادعوا النبوة، قالوا إن الله يوحي إلينا ولم يوحَ إليهم شيء، فهذا من أعظم الفرية على الله تعالى.
الحساب عند الموت
﴿وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾ أيضاً أشخاص، هنا جل جلاله يتكلم عن حوادث وقعت في مكة لن نغوص في تفصيلاتها، لكن هناك من ادعى النبوة، هناك من قال آتي بآيات تشبه آيات القرآن الكريم، فهنا يفضحهم جل جلاله، ﴿وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾ أين الحساب؟ الحساب عند الموت.
﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ "لو" في العادة تحتاج إلى جواب، كأن أقول لك: لو جئتني لأكرمتك، لو ذهبت معي لسررت، فهناك جواب لـ "لو"، هنا أين الجواب؟ لا يوجد جواب، ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ يضيق الكلام عن ذكر الجواب، يعني لو قال لك: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت لرأيت عجباً، حُدِّدت، لرأيت عذاباً، حُدِّدت، لرأيتهم يصرخون، انصرف ذهنك إلى الجواب فقط، أنت ذهبت، أنت وبعض زملائك في نزهة، النزهة جميلة جداً، وأحد أصحابك الذين تحبهم تخلف عن النزهة، فجئته في اليوم الثاني وقلت له: لو ذهبت معنا، ما الذي كان سيحصل؟ والله لن أقول لك، لكن لو ذهبت فقط، البقية عندك، تخيل كم كنا مسرورين، أنت تخيل ما الذي خسرته، خسرت نصف عمرك، لو ذهبت معنا وفقط.

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ قَالَ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا ۚ قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
(سورة الأنعام)

الأحاديث كثيرة في إثبات عذاب القبر
﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ في الشدائد، غمرات الموت: شدائد الموت، يعني كنت رأيت شيئاً عجيباً جداً، لن أقوله لك، لكن الموقف جداً صعب، هذه الآية نص في عذاب القبر، وحجة على من ينكر عذاب القبر، طبعاً الأحاديث كثيرة في إثبات عذاب القبر، لكن هذه الآية نص قرآني، هي وقوله تعالى:

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46)
(سورة غافر)

وهذه الآية نص أوضح في ذلك ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ في هذه اللخظة يبدأ العذاب ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ ملائكة العذاب ﴿بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ﴾ انتهى، أنت كنت تدير نفسك، الآن نفسك عند الله انتهى.
﴿أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ﴾ اليوم اليوم، في يوم الموت قبل يوم القيامة، بدأ العذاب.
﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ الهون من الإهانة، ودائماً الهون يقابل الاستكبار، العذاب المهين يقابل الاستكبار، والأليم يقابل المعصية، فعندنا عذاب عظيم، وعندنا عذاب أليم في شدته، وعندنا مهين في ذلته، فهنا عذاب الهون لأنه سيقول ﴿وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ فاستكبارك يناسبه أن تُهان الآن.
﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا﴾ بما أي بسبب هذه باء السبب ﴿بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ بما سبق الحديث عنه وهو الافتراء على الله كذباً، اليوم أحبابنا الكرام صور الافتراء على الله كذباً كثيرة من غير أن يشعر الناس بها، فيفتري الناس على الله كذباً من غير أن يدققوا فيما يقولون، والواحد فينا إذا تُكلِّم بحق أبيه يقيم الدنيا ولا يقعدها، يقول لك أبي خط أحمر، ثم نتكلم عن الله عز وجل بغير بينة وبغير حجة دون أن ننتبه، فالإنسان ينبغي أن ينتبه فيما يقوله عن الله تعالى، فيلتزم بما جاء في الكتاب والسنة ﴿بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)
(سورة الأنعام)

الإنسان في الدنيا يعتز بجماعته، يعتز بمنصبه، يعتز بخدمه، بحشمه، بأولاده، بعائلته، يوم القيامة يأتي الإنسان فرداً إلى الله تعالى ﴿فُرَادَىٰ﴾، كل واحد يأتي وحده إلى الله تعالى.
﴿كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ بل إنه ورد في الحديث الصحيح:

{ يُحْشَرُ الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرْلًا، قلت يا رسول الله الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: يا عائشة الأمر أشد من أن يهمهم ذلك }

(متفق عليه)

كل مكتسباتك في الحياة زائلة
غُرلاً غير مختون، قبل الختان ﴿كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ كل مكتسباتك في الحياة زالت، كل مكتسبات الإنسان في الحياة من عزوة، من عشيرة، من قوة، من أصنام كان يعبدها من دون الله، من شركاء، من شفعاء، يأتي وحده.
﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ﴾ أي ما وهبناكم، وما أعطيناكم من الدنيا؛ أموالها، قصورها، خدمها، حشمها، أولادها، بكل ما في الدنيا من ملذات ﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾. انتهت.
﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ البين شيء متعلق بالاتصال والانفصال معاً، فأنا بيني وبينك هذه الطاولة، تفصلني عنك، فإذا أزلتها حصل الاتصال، البين ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ تقطع فاعلها، بينكم ظرف، فالتأويل: تقطّع الوصل بينكم، فهذا الإنسان كان متصلاً بصنمه الذي يعبده، هذا الإنسان كان متصلاً بعشيرته، هذا الإنسان كان متصلاً بماله، لقد تقطّع الوصل بينكم، لم يعد هناك أي وسيلة للتواصل بينك وبين الأشياء التي تعتز بها، انتهى.

يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ(11)
(سورة المعارج)

لأنه تقطّع الوصل بينه وبين بنيه، الإنسان اليوم في الدنيا يفدي بنيه بنفسه، أي أب عنده رحمة يقول لك: يا ليت المرض لي وليس لابني، يوم القيامة من شدة العذاب يقول: خذوا ابني مكاني، خذوا ابني مكاني واتركوني، من شدة العذاب:

يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ (15)
(سورة المعارج)

نار محرقة، يوم القيامة المشهد مفزع أن يكون الإنسان وحده، ليس معه شفعاء، ولا معه شركاء، ولا أصنامه، ولا معه عزوته، ولا عشيرته، ولا فصيلته، ولا قوته، ولا ماله، ولا منصبه، أبداً.
﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ أي لقد تقطّع الوصل بينكم، فلم يعد بالإمكان أن أتكلم مع أحد على الهاتف لأحل المشكلة، كله معطل، تقطع الاتصال بينكم، لم يعد هناك أي وسيلة تواصل.
﴿وَضَلَّ عَنكُم﴾ أي ذهب عنكم، يقال: ضل الماء في اللبن يعني إذا وضعت الماء في البداية إذا كان اللبن متماسكاً نوعاً ما، في بداية الأمر الماء يكون ظاهراً على الوجه، وبعد ذلك ينزل الماء فيضل في اللبن، يذهب داخل اللبن، ضل الماء في اللبن هذا أصل الكلمة.
﴿وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ من الشركاء والشفعاء، الزعم مطية الكذب، "زعموا أن" كان ابن المقفع الذي ترجم كتاب كليلة ودمنة للكاتب الهندي الشهير عندما يبدأ قصته وقصصه عن الحيوان، يأخذ العبرة من الحيوانات وحياة الحيوانات، يذكر قصصاً افتراضية فيبدؤها بقوله: زعموا أن... زعموا أن غديراً كان فيه ثلاثة سمكات، كيسة وأعقل منها وعاجزة، فمر صيادان فتواعدا أن يأتيا في اليوم التالي لصيد السمك، فأما الكيّسة فقالت: العاقل يحتاط بالأمور قبل وقوعها، فقفزت من البركة إلى الغدير فنجت، هربت قبل أن يأتوا، وأما الأقل عقلاً فلما جاء الصيادان أغلقا البركة، العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، الثانية مازالت في أخذ ورد: هل أخرج، لعلهم لن يأتوا، وإذا جاؤوا قد لا يروني، يصطادون غيري من السمك، بين أخذ ورد جاؤوا فكادت تذهب فتماوتت، طفت على الماء وادّعت أنها ميتة، فأخذاها فوضعاها خارج البركة فقفزت إلى الغدير فنجت في اللحظة الأخيرة، أما العاجزة فمازالت بين أخذ ورد حتى اصطيدت فأُكلت، ذهبت، فيروي قصصاً عن الحيوان يعلمك فيها أشياء ودروس في الحياة ويقول: زعموا، القصة لا أصل لها، زعموا. فقال: ﴿وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ فقالوا: "الزعم مطية الكذب"، فكيف تزعمون أن لكم شركاء، وأن لكم شفعاء، وأن الأصنام تنجيكم، وأن الشفعاء يشفعون لكم عند الله، وأن الشركاء يقفون معكم، ﴿وَضَلَّ عَنكُم﴾ لا يوجد أحد، أين الذي سينصرك؟

مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ(26)
(سورة الصافات)

لم يعد هناك نصرة، لا أحد ينصر أحداً، الموقف فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
والحمد لله رب العالمين.