سورة الأنفال بين الأنوار والألطاف

  • اللقاء الاول
  • 2023-09-02

سورة الأنفال بين الأنوار والألطاف


مقدمة اللقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الكريم، سنتحدث اليوم عن أول آيات سورة الأنفال، وسيكون معنا على هاتف البرنامج فضيلة الدكتور بلال نور الدين عضو رابطة علماء الشام، والمدير العام والمشرف على موقع العالم الجليل محمد راتب النابلسي، المشرف العام على الأعمال العلمية للفتاوى للشيخ النابلسي، أستاذ مادة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، بارك الله فيك يا دكتور، وحياك الله وأهلاً ومرحباً بك.

الدكتور: بلال نور الدين:
أهلاً بكم، بارك الله بكم، وحياكم الله ونفع بكم، وشكراً لهذه الاستضافة الكريمة.

مقدمة اللقاء:
أهلاً بك دكتور، في البداية لا يخفى على أحد أن هذه السورة كما ذكرت في المقدمة نزلت بمناسبة غزوة بدر، لكن نود من فضيلتكم ذكر بعض الأنوار والمقاصد العامة لهذه السورة، أن نعيش في جو السورة العام بارك الله فيكم، تفضل.

الدكتور: بلال نور الدين:

سورة الأنفال سورة غزوة بدر:
بارك الله بكم، كما تفضلتم في مقدمة البرنامج، هذه السورة سورة غزوة بدر، والله تعالى أذن للذين يقاتَلَون بأنهم ظلموا:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39)
(سورة الحج)

فكانت غزوة بدر بداية هذا الجهاد في سبيل الله تعالى لإعلاء كلمة الله، ونصرة الدين، بالمعاني العظيمة التي فُرض الجهاد من أجلها، ولذلك كانت هذه السورة في محورها العام بياناً لأول غزوة من الغزوات التي خاضها المسلمون وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي غزوة بدر.

سبب التسمية:
وسميت السورة بسورة الأنفال، والأنفال هي الغنائم كما سنفصل فيما بعد؛ لبيان أن هذه السورة تتحدث عن الحرب، الحرب التي هي لإعلاء كلمة الله تعالى، الحرب في الإسلام لها مقاصد عالية، الجهاد في سبيل الله يعني بذل الجهد في سبيل إعلاء كلمة الله، ولكل عصر جهاده وأدواته، ولا بد للمسلم دائماً أن يحدث نفسه بالجهاد.

أنواع الجهاد:
1. وأول الجهاد جهاد النفس والهوى.
2. وثاني الجهاد هو جهاد الدعوة، قال تعالى:

فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
(سورة الفرقان)

أي بالقرآن الكريم.
3. وثالث الجهاد جهاد البناء، قال تعالى:

وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
( سورة الأنفال)

لا بد من إعداد الجيل المؤمن
فلا بد من إعداد الجيل المؤمن، ولا بد من إعداد الأطباء، ولا بد من إعداد المهندسين، ولا بد في كل مجال من الإعداد، ولا بد من الإعداد الإعلامي، وهذا ما يسمى في مجموعه الجهاد البنائي، وأخيراً لا بد من أن يُتوَّج ذلك كله بقوة منيعة تحفظ للمسلمين أمنهم وحدودهم ودينهم وقِيَمهم وعزتهم، وهذا هو رأس وعمود وذروة سنام الإسلام، وجاءت هذه السورة في محورها العام لبيان أهمية الجهاد في سبيل الله، وما يحمله من معانٍ نبيلة، هدفها الحفاظ على الدين ونشره في الخافقين بإخراج الناس من الظلمات إلى النور.

مقدمة اللقاء:
جميل جداً، بارك الله بك دكتور، لكن نلاحظ أن السورة بدأت بالحديث عن الأنفال، بدأت بالحديث عن أهم شيء وأحب شيء بالنسبة للإنسان، وهو المال، نود بيان معنى الأنفال، الفرق بين النافلة والغنيمة، والقرآن ذكر آيات كثيرة تدل على كلمة النافلة مثل:

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ(72)
(سورة الأنبياء)

وقوله تعالى:

وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا(79)
(سورة الإسراء)

نود التوضيح جزيتم خيراً يا دكتور.

الدكتور: بلال نور الدين:

معنى الأنفال:
صلاة الضحى كلها نوافل
بارك الله بكم، الحقيقة كما تفضلتم، آيات كثيرة تحدث عن النَّفَل أو النَّفِل، أو النافلة، وكل ذلك يجمعه أصل واحد، فكل ما كان زيادة على الأصل فهو نفل ونافلة، النافلة: السنن الرواتب، قيام الليل، صلاة الضحى كلها نوافل؛ لأنها زيادة على الأصل وهو الفرض، والغنائم أيضاً نافلة، وأنفال لأنها زيادة على الأصل، فأصل الجهاد ليس المال، لم يكن يوماً أصل الجهاد في الإسلام جمع الغنائم أو الأنفال، وإنما كان أصله إعلاء كلمة لا إله إلا الله، وأصله محبة الخلق، وأصله رغبة المسلم في أن يسعد الناس بما سعد به من دين الله تعالى، هذا هو الأصل، فجاءت الأنفال زيادة على الأصل، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي، كانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى كُلِّ أحْمَرَ وأَسْوَدَ، وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ، ولَمْ تُحَلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا ومَسْجِدًا، فأيُّما رَجُلٍ أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ بيْنَ يَدَيْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ. }

(صحيح مسلم)

وذكر منها: (وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ، ولَمْ تُحَلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي) فحتى هذا المعنى نافلة لأنها زيادة على ما كان في الأمم السابقة، فالغنائم بشروطها أُحلِّت للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته فسميت من هذا القبيل نافلة، فكل ما زاد على الأصل فهو نافلة، والأنفال جمع نَفَل، والنفل هو الغنيمة، والأنفال هي الغنائم.

الفرق بين النافلة والغنيمة:
ولكن تفضلت بسؤال جميل: الفرق بين الغنيمة والنافلة أو النفَل أو الأنفال والغنائم، قال بعضهم: هما بمعنى واحد، ولكن اختلفت العبارة لاختلاف الاعتبار، بمعنى أنه إذا اعتبرنا كون هذه الغنيمة مظفوراً بها قلنا لها غنيمة؛ أي يغنمها الإنسان بمعنى أنه يظفر بها، فهي غنيمة كما نقول غنيمة السَّحَر هي صلاة الليل، فيغنمها الإنسان أي يظفر بها ولا يغيب عنها، فهي غنيمة، أما إذا اعتبرنا كونها منحة من الله ابتداء من غير وجوب، قلنا لها: الأنفال، بمعنى أن الله تعالى وهبها وأعطاها للمجاهدين من غير وجوب، فهي نافلة من هذا القبيل، فالنافلة والغنيمة مصطلحان يُطلق كل منهما على اعتبار معين، فإذا اعتبرنا الظفَر فهي غنيمة من حيث المجاهد والمحارب ظفر بها فقد غنمها، وإذا سماها الله تعالى الأنفال فليشير إلى معنى أن هذه الأنفال إنما هي زيادة على الأصل لا تجب لكم، وإنما أعطاكم الله إياها منحة وهدية لم تكن لأمة سابقة قبلكم.

مقدمة اللقاء:
فتح الله عليك يا دكتور، في الآية نفسها نأتي لكلمة يسألونك، وردت في القرآن الكريم مراراً وتكراراً، مرة بدون "و" ومرة بـ "و" مثلاً:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
(سورة البقرة)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَام قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(217)
(سورة البقرة)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219)
(سورة البقرة)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(1)
(سورة الأنفال)

وأتت أيضاً "ويسألونك" مثل:

وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا(83)
(سورة الكهف)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا(105)
(سورة الإسراء)

نلاحظ دكتور أن الجواب كان دائماً يأتي مباشرة بعد هذه الأسئلة إلا في سورة الأنفال كان الجواب متأخراً، وهذا نأتي إليه في حلقة قادمة بإذن الله، فالجواب جاء متأخراً بأربعين آية، نود التوضيح والبيان يا دكتور، فمتى تأتي "و" ومتى تأتي يسألونك دون "و"؟ تفضل.

الدكتور: بلال نور الدين:

السؤال مفتاح العلم:
جزاكم الله خيراً، أولاً السؤال حاجة مركوزة في أعماق الإنسان؛ لذلك أثبته القرآن الكريم في كتابه كما تفضلتم ربما في أكثر من خمسة عشر موضعاً بين ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ أو ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ فأثبت الله السؤال، وهناك آيات آيات أخرى:

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ۚ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ۚ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ۚ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۗ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
(سورة النساء)

وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ۖ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ۖ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ(53)
(سورة يونس)

السؤال مفتاح العلم
فإذاً السؤال، الاستفتاء، الاستنباء حاجة مركوزة في أعماق الإنسان، فالإنسان يسأل لأن السؤال مفتاح العلم، وأثبت الله له هذه الحاجة، بل ربما ندبه إليها، أي اسأل أيها الإنسان، تعلَّمْ، وأقول دائماً: قل لي عماذا تسأل أقل لك من أنت، فهناك أناس لا يسألون إلا عن الدنيا، وعن أسعار العملات، وهذا السؤال لا حرج فيه ما دام في الحلال والمباح لكن لا يكفي، وهناك أناس يسألون عن أحكام دينهم وهذا سؤال أرقى، أن يسأل الإنسان هل يجوز؟ هل يحرم؟ هل أفعل؟ لا أفعل؟ متى أصلي؟ ما أحكام الصيام؟ هذا يسأل عن أحكام دينه، وهذا سؤال أرقى، وهناك من يسأل عن الله، عن الآمر.

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
(سورة البقرة)

فالإنسان يسأل عن دينه، وعن دنياه، ويسأل عن ربه، وهذا أعظم سؤال يسأله الإنسان، أما ما يتعلق بـ ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ و﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾، فكما تفضلتم كلمة ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ وردت في تسعة مواضع في كتاب الله، وجميعها جاءت في بداية كلام جديد، فمثلاً في سورة البقرة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾، هذه ابتداء ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ لم يكن قبلها شيء تعطف عليه، ثم جاء بعدها ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ﴾ فعُطفت على ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ الأولى، ثم جاء:

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۗ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
(سورة البقرة)

ثم:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
(سورة البقرة)

وهكذا، فعندما يأتي الكلام ابتدائياً لا عطف فيه لا على سؤال سابق، أو على شيء سابق فيكون ابتداء بقوله: يسألونك، وفيه عنصر المفاجأة ـ إن صح التعبيرـ للمتلقي، المتكلم يقرأ فيجد في ثنايا السورة ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ أو في افتتاحتها كما في السورة التي بصدد الحديث عنها، نفتح بداية السورة فنقرأ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ﴾ فيُستَثار ذهن المستمع، يُستثار فضوله، فيبدأ بالبحث عن الجواب، يسألونك، أما في بعض الآيات جاءت: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ عطفاً على ما كان قبلها من السؤال، وبهذا يكتمل المعنى ويأتي الجواب ليلبي حاجة في السامع، ومعلوم أن من الأساليب البلاغية ومن الأساليب التعليمية والتربوية أن يسأل المعلم سؤالاً ثم يستنطق الطلاب ويستجوبهم، ثم يعطي الجواب الصحيح، وهذا أسلوب قرآني حكيم في سؤال وجواب، فهو أدعى إلى التعليم والتعلم من إلقاء المعلومة مباشرة دون استثارة ذهن المستمع.

مقدمة اللقاء:
ممكن يا دكتور فأنا قرأت في بعض التفاسير أن ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ عندما تأتي دون واو الصحابة يسألون الرسول عليه الصلاة والسلام بينما ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ هم عامة الناس عندما يسألون الرسول عن شيء لا يعلمونه أصلاً، فهو بحاجة إلى علم من عند الله تعالى.

الدكتور: بلال نور الدين:
كقوله تعالى:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا(85)
(سورة الإسراء)

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
(سورة الأعراف)

من اصطلاحات القرآن الكريم
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾ هذا معنى جميل جداً من الزاوية البلاغية، والذي قلتُه من الزاوية النحوية، وبذلك يكتمل المعنيان معاً من باب البلاغة القرآنية، فالقرآن الكريم له اصطلاح، من اصطلاحات القرآن الكريم لو استقرأنا تلك الآيات أن نجد أن يسألونك هي سؤال الصحابة عن أمر محدد يجيبهم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخدامه لـ ويسألونك لبيان شيء من عند الله تعالى ينتظره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا من اصطلاحات القرآن الكريم.

مقدمة اللقاء:
قلت يا دكتور الإنسان يسأل وهذه ظاهرة صحية؛ بأنهم كانوا يسألون النبي وأنه هو يسأل عن دينه، هل كثرة السؤال تعني عدم العلم أو الجهل؟ هل سؤالنا يختلف عن سؤال بني إسرائيل لسيدنا موسى؟ سؤالنا يمكن أن يكون فيه تصديق، ولكن بني إسرائيل في قصة البقرة استبدل الله هذه الكلمة في كلمة "قالوا" هل هنالك التصديق والشك له علاقة بتبديل الكلمات؟

الدكتور: بلال نور الدين:
نعم، بلا شك، السؤال كما قلنا هو مفتاح العلم، والسؤال هو رغبة من السائل في معرفة الحقيقة.

مقدمة اللقاء:
حتى يعمل بها.

الدكتور: بلال نور الدين:

آداب السؤال في القرآن:
وهو مشروع بل مطلوب، لكن له آداب في كتاب الله تعالى، منها:

1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
(سورة المائدة)

2. منها: ألّا يكثر الإنسان من السؤال، وهذا ما يؤدي إلى الجدل، وهو الذي حصل مع بني إسرائيل، وهو محاولة التهرب من تنفيذ الأمر، فالسؤال إما أن يكون من أجل أخذ الجواب والمسارعة إلى تنفيذ الأمر، وإما أن يكون بهدف التملّص من تنفيذ الأمر، بنو إسرائيل في قصة البقرة كانت أسئلتهم من باب اختلافهم على أنبيائهم.

{ ذروني ما ترَكتُكم فإنَّما هلَك الَّذينَ من قبلِكم بِكثرةِ مسائلِهم واختلافِهم على أنبيائِهم، ما نَهيتُكم عنهُ فاجتَنبوهُ وما أمرتُكم بِه فافعلوا منهُ ما استطعتُم. }

(أخرجه البخاري)

فكانت مسائلهم من هذا الباب، ما هي؟ ما لونها؟ ما هي؟ في النهاية قال:

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
(سورة البقرة)

الإنسان يسأل عندما يجهل المعلومة
يعني لم يكن في خَلَدهم أن يفعلوا، وإنما أرادوا الإكثار من المسائل اختلافاً على أنبيائهم لعلهم يتملصون من تنفيذ الأمر، أو لعلهم يرهقون أنبياءهم بمسائل لا داعي للسؤال عنها، فالإنسان يسأل عندما يجهل المعلومة، ويسأل عندما يريد أن يتبين أمراً في دينه فيسارع إلى تطبيقه وفق ما يأتي الجواب، فيسأل العالم، ويسأل المتخصص في كل مجال، والله تعالى قال:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
(سورة النحل)

فندب إلى السؤال، وأهل الذكر في كل فن هم الاختصاصيون فيه، فيسأل أهل الذكر في الهندسة وفي الطب، فلكل ذكر أهله، وطبعاً وأهم الذكر ذكر الله تعالى وأحكامه، فيسأل عن دينه ويسارع إلى التطبيق، أما السؤال بقصد الجدل، وبقصد إظهار العلة وإعلائها فليس من الدين في شيء.

مقدمة اللقاء:
بارك الله فيكم دكتور، ذكرت أننا سنحصل على جواب ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ﴾ في حلقة أخرى بعد أربعين آية، لكن نود التعليق على هذا الموضوع بأسلوب بسيط جداً يا دكتور، لماذا كان الجواب متأخراً عن يسألونك عكس الآيات التي كان الجواب يأتي مباشرة بعد يسألونك؟ تفضل.

الدكتور: بلال نور الدين:

الحكمة من تأخر الجواب عند السؤال عن الأنفال:
النفس تتعلق بالمال
بارك الله بكم، هذا السؤال مهم، هذا أسلوب تربوي حكيم، الصحابة الكرام سألوا رسول الله عن الغنائم، لمن؟ لم يسألوا عن ماهيتها فهي معروفة، هي غنائم الحرب، لكن هم يريدون أن هذه الغنائم لمن؟ والنفس تتعلق أحياناً بل دائماً تتعلق بالمال، وسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قرأ قوله تعالى:

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(14)
(سورة آل عمران)

قال: "يارب إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه" بأن يكون الفرح إنفاقاً في المجالات الصحيحة، لا بالحرام، فالإنسان يفرح أحياناً بالمال، يفرح بالدنيا، لكن يفرح المؤمن بالحق، ويفرح غير المؤمن بغير الحق.
فلما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنفال، فالقرآن الكريم هنا يريد أن يوجههم إلى الأهم، كقول الصحابي السائل لرسول الله:

{ إنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: ومَاذَا أعْدَدْتَ لَهَا. قَالَ: لا شيءَ، إلَّا أنِّي أُحِبُّ اللَّهَ ورَسوله صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ. قَالَ أنَسٌ: فَما فَرِحْنَا بشيءٍ، فَرَحَنَا بقَوْلِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ قَالَ أنَسٌ: فأنَا أُحِبُّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَبَا بَكْرٍ، وعُمَرَ، وأَرْجُو أنْ أكُونَ معهُمْ بحُبِّي إيَّاهُمْ، وإنْ لَمْ أعْمَلْ بمِثْلِ أعْمَالِهِمْ. }

(صحيح البخاري)

فالقرآن الكريم هنا يؤخر الإجابة التي يطلبونها وهي توزيع الأنفال، فيقول: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ انتهى الأمر، خرجت من أيديكم، هي ليست لكم، انسوا موضوع المال، المال ليس لكم، هذه حكمها لله ولرسوله، بل كلها لله ولرسوله، بما يقرره ويحكم به الله، ويحكم به رسوله، الآن النفوس تفرغت من هذا الموضوع نهائياً، المال ليس لكم، أضرب مثلاً بسيطاً للتوضيح للمستمعين: أحياناً يختلف ابن مع أخيه على قضية معينة من المال أو شيء، فيسألون والدهم مثلاً ـ ولله المثل الأعلى ـ عن هذه القضية، فأول ما يقول الأب في أساليبنا يقول: هذا ليس لك وليس له، هاته، ثم يجلس وينصحهم، ويبين لهم أهمية المودة بينهم، وأهمية الإعراض عن هذا السخف، وأهمية الاهتمام بمعالي الأمور، والبعد عن سفسافها ودنيئها ثم يقول له: هذا لك وهذا له فتتقبله النفوس مباشرة.
فالقرآن الكريم استخدم مع الصحابة ويستخدم معنا طبعاً بعدهم أسلوباً تربوياً حكيماً ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ إذاً ليست لنا، ليست لكم في شيء، وأصلاً هي نافلة، وزيادة عن الأصل، وأنتم خرجتم لإعداد دين الله، ولإعلاء كلمة الله، وتلك الأنفال ليست لكم، الآن يوجههم ويبين لهم أن الأهمية تكمن في تقوى الله، وفي إصلاح ذات البين، يبين لهم صفات المؤمنين الحق الذين لهم 1،2،3، ..إلخ، ثم بعد ذلك وكما تفضلت تقريباً السورة في مصحف الحفاظ عشر صفحات، في الصفحة الخامسة بعد أربعين آية يقول:

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
(سورة الأنفال)

كما سيأتي في قابل الأيام، فإذا لهم نصيب من هذه الغنائم، وإذا لهم جزء منها وهم المحاربون الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأولادهم وخرجوا ابتغاء رضوان الله، فيعطيهم الله تعالى مكافأة نافلة زيادة فوق ما نالوه من رضا الله، وفوق ما نالوه من عز الدنيا، ورفعة الآخرة،

مقدمة اللقاء:
بارك الله فيك. إذاً دكتور بناء على ما ذكرت ووضحت وقلت أنهم المهاجرون، سؤال مهم: من هم البدريون؟ هل هم مهاجرون فقط؟ أم مهاجرون وأنصار شهدوا بيعة العقبة، تقاسموا معهم الدار، وكانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، نود بيان من هم؟ وتوضيح لسبب الغزوة من منظور إسلامي شامل، تفضل.

الدكتور: بلال نور الدين:

من هم البدريون؟
البدريين هم من شاركوا في غزوة بدر
بارك الله بكم، الحقيقة أن "البدريين" مصطلح يطلق على من شاركوا في غزوة بدر الكبرى، معركة الفرقان، هذه المعركة التي جرت في السابع عشر من رمضان في العام الثاني للهجرة، ونُسبت إلى الموقع الذي حصلت به وهو بئر بين مكة والمدينة مشهور يدعى بئر بدر، وهذه المعركة شارك فيها جمعٌ من الصحابة الكرام، كثير منهم من المهاجرين، وهناك أيضاً من الأنصار، وهؤلاء في ثلاثمائة رجل ونيّف؛ سبعة عشر أو أربعة عشر أو عشرة على اختلاف الروايات، لكن هم ثلاثمائة رجلاً، على رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيهم علي وعثمان، وفيهم عمار وعمر، وفيهم مصعب، وفيهم حاطب بن أبي بلتعة الذي عفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال إنه شهد بدراً، فوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن لأهل بدر مكانة خاصة، وكان دائماً يقول عنه: إنه شهد بدراً، أو يقول:

{ لَعَلَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ اطَّلَعَ علَى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. }

(صحيح البخاري)

فمن شارك في هذه الغزوة أصبح له مكانة عظيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند المسلمين.
أختي الكريمة دائماً في حالات الرخاء واليسر والعز والرفعة تجد كثيراً من الناس يقبلون على العمل، ويقبلون على الدعوة، ويقبلون حتى على الجهاد، أما في حالات الضعف، وضيق ذات اليد، وهم مهاجرون جدد، وهم بما فيهم من الضنك، وقد تركوا ديارهم وأموالهم، ثم استُنفِروا فنفروا وخرجوا ابتغاء رضوان الله تعالى فكان لهم من الفضل ما ليس لما بعدهم:

وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
(سورة الحديد)

حتى فتح مكة أيضاً كان نقطة فاصلة بين مَن قبله ومَن بعده، وكذلك بدر نقطة فاصلة بين من شارك في بدر ولم يشارك، فأصبح يطلق على هؤلاء: "البدريون".

أسباب غزوة بدر الكبرى:
كتب الله العزة للمسلمين بعدد قليل
أما الأسباب وراء غزوة بدر فهي كثيرة؛ نعم إن السبب المباشر هي تلك القافلة التي كان يقودها أبو سفيان، وهي راجعة من الشام، واستنفر النبي أصحابه ليأخذوها بدلاً من القوافل التي انتهبتها قريش، والأموال التي أخذتها، وكانت هذه القافلة محملة بالنقود والبضائع...إلخ، فغيّر أبو سفيان طريقه، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم للقائه، ولم يكن يريد في هذه الغزوة حرباً، أو في هذا الخروج حرباً، ولكن الله عز وجل أراد له العزة والرفعة، وأراد لدينه التمكين في هذه الغزوة، فكانت الحرب بهؤلاء الرجال المعدودين رغم أن قريشاً استنفرت مَن استنفرت عندما سمع بخروج القافلة أبو سفيان استنفر لها من استنفر، وجاءه مَن جاءه من المشركين، ومع ذلك كتب الله العزة لنبيه ولدينه ولكتابه وللمسلمين بعدد قليل، كانوا يتناوبون على سبعين بعيراً فقط، وهم يزيدون على ثلاثمائة رجلاً، فكتب الله لهم النصر والتمكين والعزة والرفعة:

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
(سورة يوسف)


مقدمة اللقاء:
بارك الله فيكم يا دكتور، وأنت تتحدث هنا عن أصحاب رسول الله من مهاجرين وأنصار، هم صفوة الصفوة، كان يقول الرسول الكريم وهو ينظر إليهم قبل المعركة:

{ اللَّهمَّ إنَّكَ إنْ تُهلِكْ هذهِ العِصابةَ مِن أهلِ الإسلامِ، فلا تُعْبَدُ في الأرضِ أبدًا. }

(أخرجه مسلم)

فهم خير أهل الأرض بعد النبيين والمرسلين، ومع ذلك يا دكتور، وهم أفضل أهل الأرض خاطبهم الله تعالى بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ خاطب الله تعالى أيضاً نبيه الكريم في سورة الأحزاب:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(1)
(سورة الأحزاب)

الخلاصة من السؤال أن لا أحد يتكبر عن كلمة اتق الله، فكل إنسان عرضة للخطأ، كل إنسان يخطئ، ولا بد لهذا الخطأ أن يُصوَّب، لذلك جاءت الآية الكريمة: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ نصرٌ على العدو، نصرٌ على النفس وعلى هواها، وعلى حبها للمال كما ذكرت أنت في بداية الحلقة، فلنتحدث يا دكتور عن التقوى والتي جاءت ملازمة لإصلاح ذات البين، ولطاعة الله ورسوله، وكأن الطاعة والإصلاح من شروط الإيمان، تفضل دكتور، وعذراً على الإطالة.

الدكتور: بلال نور الدين:

التقوى وإصلاح ذات البين:
جزاكم الله خيراً، أبداً بالعكس، هذا إتمام للفائدة، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ كما بيّنّا قبل قليل خرجت الغنائم من أيديهم، وأصبحت النفوس مهيأة للموعظة، فجاء على رأس هذه الموعظة اتقوا الله، وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال له أحدهم: اتق الله، فانزعج بعض من هو مع عمر أن يقال للخليفة: اتق الله، فقال عمر: ذره لا خير فيه إن لم يقلها، ولا خير فينا إن لم نسمعها.

الأمر بالتقوى أمر موجه لكل إنسان:
الأمر بتقوى الله تعالى أمر يُوجَّه لكل إنسان
فالأمر بتقوى الله تعالى أمر يُوجَّه لكل إنسان، بل إن الله وجهه لنبيه فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ وقال أهل التفسير: إن قلت لإنسان يتقي الله: اتق الله، فإنما معنى ذلك أن يداوم على التقوى، كما تقول لطالب متفوق: ادرس فأنت بذلك تطلب منه أن يداوم على الدراسة، لا أن يقطعها.
النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من اتقى الله، ويقول له الله: ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾ إشارة إلى وجوب المداومة على التقوى وعدم تركها، والتقوى أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر،
فالتقوى من الوقاية، لما سأل رجل أبا هريرة رضي الله عنه ما التقوى؟ قال: أسلكت يوماً طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فماذا فعلت؟ قال: كنت أجاوزه أو أقفز فوقه، أتحاشاه، فقال فذلك التقوى.
فعلمه التقوى من خلال المعنى اللغوي، وهو أن تتقي شيئاً بشيء، فنحن نتقي الله تعالى بطاعته، ونتقي أسماء جلاله؛ كالجبار والقوي والعزيز والمنتقم نتقيها بأسماء جماله؛ كالغفور والرحيم والودود والشكور، ونتقي ناره بإتيان ما أمر، وبالانتهاء عما نهى عنه وزجر، ونتقي غضبه برضاه، هذه هي التقوى.
فالقرآن الكريم هنا يوجه الصحابة الكرام ويوجهنا إلى أن أصل الأمر هو تقوى الله تعالى، وأن من الإيمان أن تتقي الله، وأن تصلح ذات بينك، ذات بينك أي كل علاقة بينية، بيني وبين الآخر ينبغي أن تُصلَح، وأعظم علاقة ينبغي أن أصلحها ما كان بيني وبين الله بالطاعة، ثم بيني وبين عباد الله بالإحسان، وهذا معنى:

الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ(41)
(سورة الحج)

لماذا يتكرر هذان الركنان في كتاب الله؟ لأن إقامة الصلاة تعني إصلاح ما بيني وبين الله، وإيتاء الزكاة يعني إصلاح ما بيني وبين الناس.

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2)
(سورة الكوثر)


﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾
إحسان العلاقة لله،
﴿وَانْحَرْ﴾
إطعاماً للناس، فهو إحسان للعلاقة بالناس، وأفضل الإسلام إطعام الطعام.
إذاً، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ يعني وضع شرطاً للإيمان الحقيقي؛ أن يكون هناك إصلاح للعلاقة مع الله، وإصلاح للعلاقة مع الناس، فإذا أصلحت ما بينك وبين الله، وما بينك وبين الناس فأنت مؤمن ورب الكعبة.

مقدمة اللقاء:
لا إله إلا الله، بارك الله بك يا دكتور، وهنا كلمة:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
(سورة الأنفال)

"إنما" جاءت مخصوصة مع المؤمنين، ما دلالة وجودها مع الإيمان يا دكتور؟

الدكتور: بلال نور الدين:

دلالة وجود "إنما":
إنما أداة قصر وحصر، هي في النحو كافة ومكفوفة كُفَّت عن عملها، فأصبح أسلوب حصر وقصر، فلو قلت مثلاً: شوقي شاعر، فهذا لا يمنع أن يكون ناشراً، أو تاجراً، لكن لو قلت: إنما شوقي شاعر، فإنني أحصر شوقي في شعره، هذا في الأصل.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
(سورة الحجرات)

الإيمان إيمانان
﴿إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ﴾ فإنما أداة حصر وقصر، لكن هذا ليس لنفي الإيمان، ينبغي أن ننتبه هنا، ليس لنفي الإيمان عمن لم يتحقق من هذه الشروط، يعني لا يُفهَم منه أنّ من ترك شيئاً مما سيأتي بعد إنما فإنما هو ليس بمؤمن، لا، هذا ليس شأننا أبداً، وإنما كما سأل رجل الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد كما ورد في بعض الآثار، وذكره القرطبي في تفسيره، قال: يا أبا سعيد أمؤمن أنت؟ فقال له: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، والجنة، والنار، والبعث، والحساب فأنا به مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ فوالله لا أدري أأنا منهم أم لا، وهذا من تواضع الحسن البصري.
فإذاً الإيمان إيمانان، وهنا تحصر الآية الإيمان الحق، يعني الإيمان الكامل، يعني الإيمان الذي يصبح به الإنسان في مكان عليٍّ لا يقترب منه شك أو ريب فيمن تنحصر فيه هذه الصفات، أما من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، فهو مؤمن لا شك، ولكن الإيمان الأعظم والأرقى والأكمل هو ما جاء في هذه الآية، وهذه دلالة استخدام إنما.

مقدمة اللقاء:
بارك الله فيك يا دكتور، حتى في سورة الأنفال في الصفحة الأولى فيها ونحن مازلنا في هذه الصفحة، فقد تكرر كثيراً لفظ المؤمنين في هذه الصفحة، ففي هذه الصفحة لوحدها تكرر أربع مرات، نود بيان الفرق بين مسلم ومؤمن، ومن ثم ذكر وتوضيح لدرجات الإيمان، أو صفات الإيمان التي وردت وبينت هذه السورة بارك الله بك يا دكتور.

الدكتور: بلال نور الدين:

الفرق بين الإسلام والإيمان:
حياكم الله، الإسلام هو التعليم الأساسي، المرتبة الأولى، الدخول الأول، الانقياد الأول، أسلم أمره: انقاد، فهو أعلن انتماءه لهذا الدين، الإيمان هو المرتبة التي تلي الإسلام، قال تعالى:

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)
(سورة الحجرات)

المسلم يسلم أمره لله تعالى فيها
فإذاً الإسلام هو المرحلة الأولى التي يسلم الإنسان أمره لله تعالى فيها، ويتعلق بأركان الإسلام الخمسة، لكن عندما يدخل الإيمان في القلب، الذي لا يخالطه ريب وهو التصديق والأمن، فالإيمان مأخوذ من التصديق، آمن أي صدّق، ومأخوذ من الأمن.

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)
(سورة الأنعام)

فإذا تحقق أمن في داخل المؤمن ناتج عن إيمانه، وتوحيده لله تعالى، ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾ أي بشرك ﴿أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ﴾: فيتحقق الأمن، وإذا تحقق التصديق تحقق الأمن، حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك،

{ واعلَم أنَّ ما أصابَكَ لم يكُن ليُخطِئَك وما أخطأكَ لم يكُن ليُصيبَكَ }

(أخرجه الترمذي)

فالإيمان له حقيقة، لذلك قال في ختام هذه الآيات:

أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
(سورة الأنفال)

فالصفات التي ذُكِرت في هذه الآيات كما تفضلتم أولها: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ وجَلُ القلب هو خوفه، فعندهم تعظيم لمقام الله تعالى، فأول صفات المؤمن أنه يعظم الله تعالى، ويعظم شعائر الله تعالى، ويعظم أنبياء الله تعالى، فليس مع الإيمان ريب، وليس مع الإيمان شك، وإنما فيه تعظيم وهيبة.
﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ لأن الإيمان في عقيدة أهل السنة والجماعة يزيد وينقص، يزداد بالإيمان وينقص بالعصيان.

إِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
(سورة التوبة)

يقول صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ الإيمانَ ليَخلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يَخْلَقُ الثوبُ، فاسأَلوا اللهَ أن يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِكم }

(أخرجه الطبراني)

فهؤلاء إيمانهم تراكمي، بمعنى أنهم يزدادون إيماناً عند تلاوة آيات الله، ولا يمرون عليها وهم عنها معرضون.
﴿وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ومن صفات المؤمنين حقاً أنهم قد يتوكلون على ربهم، فقال ﴿وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ فقدم الجار والمجرور للحصر، أي لا يتوكلون إلا على الله سبحانه وتعالى، لا يلقون أمرهم إلا بين يدي الله تعالى.
﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ فمن يستجمع هذه الصفات فهو المؤمن حقاً عند الله تعالى.

مقدمة اللقاء:
بارك الله فيكم يا دكتور، وهنا وردت كلمة حقاً بعد المؤمنين، ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ نود الفرق بين أن نذكر المؤمنين فقط، وأن نذكر المؤمنين حقاً، لماذا وردت أيضاً كلمة الحق مراراً في هذه السورة وتكررت في القرآن الكريم عشرين مرة، ما لطائف وأنوار هذه الدلالات يا دكتور؟

الدكتور: بلال نور الدين:

حقيقة الإيمان:
الحق هو الشيء الثابت، حق الشيء يحق حقاً إذا كان ثابتاً، فالحق من صفاته الثبات، فكل شيء ثابت هادف فهو حق، وكل شيء عابث زائل فهو باطل، الذي يزول باطل:

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
(سورة الإسراء)

الحق هو الشيء الثابت
مهما بدا من انتفاش فهو زائل، زهوق أي كثير الزوال، لا يبقى ولا يدوم، وأما الحق فهو الشيء الثابت والهادف، فعندما ننشئ جامعة مثلاً هذه شيء ثابت وهادف، وعندما ننشئ سيركاً فهو لأيام عابث وزائل، وشتان ما بين الحق والباطل، فالحق شيء ثابت، والباطل شيء زائل، فعندما قال تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ هذه حقيقة الإيمان، هذا الشيء الثابت في الإيمان، بمعنى أن الله تعالى لو قال مثلاً: أولئك هم المؤمنون، لظنّ ظانٌّ أن الإيمان يتعلق بهذه الأمور، وأن من ترك شيئاً منها فهو غير مؤمن، لكن الله تعالى قال: ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ أي هؤلاء بلغوا حقيقة الإيمان، بحيث أصبح إيمانهم ثابتاً، لا تثنيهم سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلادين اللاذعة عن دينهم، بمعنى أنهم في مأمن من الشهوات والشبهات، فلا يمكن لشهوة أن تقتلعهم من دينهم، فيترك دينه لشهوة طارئة من مالٍ أو نساء أو رجال أو شيء من الدنيا، ولا يمكن أن تأتي شبهة يسمعها في الإعلام، أو يقرؤها على وسائل التواصل، فتحرك دينه وتزعزعه وتزعزع ثقته بربه، ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ الذين استقر الإيمان في قلوبهم فلا يمكن أن يزعزعه شيء.

مقدمة اللقاء:
بارك الله فيك، ونحن نثني على ما قلت يا دكتور، وخطابنا للمستمع حتى لا يشكل عليه أنه إذا سمع هذه الصفات أن هذه الصفات لا تنطبق علي، فمن أكون أنا! فهذه درجات للإيمان، والناس تتفاوت في الأعمال، ولا انفكاك بين الإيمان والعمل الصالح، جزيتم خيراً يا دكتور، وهذه صفات قلوب وأعمال جوارح كما بينتها الآيات.
دكتور هناك تعقيب على ما ذكرت؛ أن المؤمنين حقاً لا يمكن أن يكونوا قد خلوا من الذنوب، ولن ندخل الجنة بأعمالنا، ولكن المؤمن شبّهه النبي عليه الصلاة والسلام كالفرس المعقود، حبله بمكان ثابت، مهما بعُدَ يعود إلى مكانه، مهما نأى يعود إلى مكانه، فكذلك المؤمن يعود ويفيء إلى ربه ويجدد التوبة والغفران، وما دمنا نتكلم عن التوبة والغفران في آخر محاورنا وردت كلمة "مغفرة" ووُجدت في سياق الحديث عن أصحاب المنازل والدرجات العالية، وقال عنهم: ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ ، فعلى ماذا تدل؟

الدكتور: بلال نور الدين:

المؤمن خطاء تواب:
المؤمن يذنب ويستغفر فيغفر الله له
كلنا ذو خطأ، من منا المعصوم؟ ليس من معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن المؤمن خطّاء توّاب، أقول دائماً المؤمن لا يميز على غير المؤمن في أنه لا يخطئ، لا، ما قلنا ذلك، لكنه يبتعد عن الكبائر، ويتوب من الصغائر، هذا هو المؤمن، فأولئك لهم مغفرة بمعنى أن هذا المؤمن لا يعني أنه سيخلو من الذنوب، فكلنا ذو خطأ، لكنه سيذنب وسيستغفر فيغفر الله له، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:

{ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ. }

(صحيح مسلم)

هذا لا يُفهم على أن الله يحبنا أن نذنب أبداً، فليس المقصود أن الله يريد منا أن نذنب، ولكن المقصود أن لو لم تذنبوا وعندما لا يشعر المؤمن بذنبه ولا يتوب منه فإن الله يريد أن يسمع صوت المؤمن، فسيأتي بأقوام يشعرون بذنوبهم إذا أذنبوا، فكل ابن آدم خطاء، والخطأ موجود ومركوز في الإنسان، ولكن يستغفر فيغفر الله له، يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم.

معنى المغفرة:
الله تعالى عفو غفور
المغفرة من المِغفَر الذي يضعه الجندي على رأسه ليستر رأسه من السهام، أو مما يأتي إليه في الحرب، فهذا هو المِغفر، فهو ينبئ عن الستر، والله تعالى عفو غفور، يستر ويصفح ويمحو الذنب، ويزيل أثره من نفسك ومن الناس، فالمغفرة تنبئ في الأصل عن الستر، والله تعالى هو الغفور، وهو الغافر، وهو الغفار، وهو الستير، وهو العفو، فأسماء المغفرة والستر والعفو والصفح كثيرة في أسماء الله تعالى الحسنى، لأن رحمته سبقت غضبه جل جلاله، فالله تعالى في هذه الآية عندما يختمها بقوله بعد صفات المؤمنين لهم مغفرة يبدأ جل جلاله بالمغفرة ليشير إلى أنه لا تقلق أيها المؤمن، يفتح له باب التوبة، يفتح له باب العفو والصفح والتجاوز، ليطمئنه بأن الله تعالى يريدك:

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا(27)
(سورة النساء)

فكن مع إرادة الله، كن مع ما يريده الله تعالى، يريد أن يسمع صوتك لتتوب فيتوب الله تعالى عليك، وقد ذكرت التوبة في كتاب الله تعالى مرة قبل الذنب ومرة بعده:

وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
(سورة التوبة)

أي فتح لهم باب التوبة ليرجعوا إليه، فلما تابوا تاب عليهم، فتوبة العبد دائماً بين توبتين من الله؛ توبة ابتدائية إذ يفتح له بابها ويحمله عليها، وتوبة بعدها إذ يقبلها منه، ويثيبه عليها، ويغفر له ذنبه ويتجاوز عن خطيئته.

مقدمة اللقاء:
بارك الله بك، اللهم إن لنا من الذنوب من لا يعلمها غيرك، فاغفر اللهم لنا أجمعين، وارزقنا اللهم من فضلك ومن كرمك، أجملت وأبدعت الدكتور بلال نور الدين أستاذ مادة الإعجاز العلمي وأستاذ الفقه المقارن، والمدير العام المشرف على موقع الدكتور محمد راتب النابلسي، نفع الله بك، وجزاك الله كل خير.

الدكتور: بلال نور الدين:
وإياكم بارك الله بكم، وشكراً لهذه الاستضافة الكريمة، ولهذه الساعة الطيبة.

مقدمة اللقاء:
شكراً جزيلاً.