المنافقون والمفسدون

  • 2022-12-15

المنافقون والمفسدون

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصلّي وأُسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا علماً وعملاً متقبَّلاً يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، وبعد:
مع اللقاء الثالث من لقاءات سورة البقرة، ومع قوله تعالى:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ(8)
(سورة البقرة)


تذكير بما سبق:
كما أسلفنا في مُفتَتح سورة البقرة، تكلم الله عن الأصناف البشرية الرئيسية، كما يُصنِّفها الإسلام، الصنف الأول هم المؤمنون، وهؤلاء هم المفلحون، وصفهم الله تعالى في خمس آياتٍ:

ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ(2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(5)
(سورة البقرة)

الصنف الثاني: صنف الكافرين، وهؤلاء وصفهم ربنا بآيتين:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(7)
(سورة البقرة)


وصف الله عزَّ وجل المنافقون في اثنتا عشرة آية:
الصنف الثالث الآن هو موضع حديثنا (وَمِنَ النَّاسِ) الآن سيصف الله تعالى الحالة الثالثة، وهي حالةٌ ليست حالة المؤمنين ولا حالة الكافرين، وإنما هي حالة المنافقين، فالمنافقون يدَّعون الإيمان بألسنتهم ويُضمرون الكفر في قلوبهم، فهم ليسوا مع المؤمنين وإنما هم مع الكافرين، ولكنهم صنفٌ خاص، سيُبيِّن الله حاله في اثنتي عشرة آية، لماذا؟! المؤمنون خمس آياتٍ، الكافرون آيتان، المنافقون اثنتا عشرة آية متتالية تفضح المنافقين.
المسلمون الآن هاجروا من مكة إلى المدينة، وسورة البقرة مدنية، نزلت بعد الهجرة، وكانت من أوائل ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته، إلا آياتٍ، منها الآية الأخيرة في النزول كانت من سورة البقرة، لكن تنزَّلت السورة على عدة مرات، فالمسلمون الآن سيواجهون صنف جديد من الناس هم المنافقين، هذا الصنف لم يكن موجوداً في مكة، لماذا؟ لأن النفاق لا يظهر في حالة العسر والشدّة للمسلمين، وإنما يظهر في حالة اليسر.
ما الذي كان يدفع إنساناً لأن يُظهِر أمام المؤمنين إيمانه ويُبطِن كفراً في داخله؟ وإذا ذهب إلى الكافرين قال أنا معكم، لا يوجد شيء يدفعه لذلك، يُعلِن كفره صراحةً، ليس هناك ما يُبرر أن يُخفي الكفر، لأن المسلمين ضعاف، بل الانتساب إليهم وإعلان الولاء إليهم باللسان سيُعرِّضه للمخاطر، وهو لا يريد الإيمان، لكن لمّا وصل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وأصبح للمسلمين دولةً، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحاكم، وقائد الأمة في المدينة، إذاً الآن كثيرٌ من الناس يمكن أن يُعلنوا بلسانهم الإيمان لكن يُبطنون الكفر في داخلهم.

المؤمن واضح والكافر واضح لكن المشكلة في الصنف الثالث المنافق :
فالآن التحذير منهم واجب في آياتٍ كثيرة لهذا السبب، من الأسباب أيضاً التي تدعو إلى التحذير منهم في آياتٍ كثيرة، أنَّ المؤمن واضح، المؤمن أعلن الإيمان بلسانه وقلبه متعلقٌ بالإيمان والمؤمنين، فهو واضح، يعني مُتَّسق مع ذاته ومع منهج ربه، الأمر واضح، والكافر أعلن انسحابه من الدين ورفضه لمنهج الله عزَّ وجل، فضرره بالنسبة للمسلمين قليل، لأنه واضحٌ أيضاً، يقول أنا لست معكم، فيعلمون أنه عدوٌّ لهم فيحذروه، وانتهت المشكلة، لكن مشكلتك في الصنف الثالث المنافق، الذي هو كافرٌ في الحقيقة

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا(140)
(سورة النساء)

لكن

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(145)
(سورة النساء)

دون الكافر، لماذا؟ لأن المنافق غير مُتَّسق مع نفسه، هو يكذب على المؤمنين، قال صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ شَرَّ النَّاسِ، ذُو الوَجْهَيْنِ الذي يَأْتي هَؤُلاءِ بوَجْهٍ، وهَؤُلاءِ بوَجْهٍ }

(أخرجه البخاري)

فالمنافق مشكلته الكبيرة، وأهمية التحذير منه، وهذه الآيات المتتالية في التحذير منه، لأنه لمّا أعلن شيئاً وأبطن شيئاً، ما عُدنا نعرف أنه عدوٌّ فنحذره، لذلك قال تعالى:

وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ(4)
(سورة المنافقون)

قد يُخفي لك عداوته، فتظنه صديقاً فتُفشي له بالأسرار، وتجالسه، ويسمع منك ويهز برأسه، فتظنه مسلماً فتعطيه سرَّك، فإذاً المنافق مشكلته أنه لا يُظهِر عداوته، ولو أظهرها لكان أمره أيسر بكثير.

النفاق قسمين: أكبر اعتقادي وأصغر عملي:
قبل أن أدخُل في صُلب الآيات، حتى يتضِح المعنى، النفاق أيُّها الكرام وأيتها الكريمات، هو على قسمين اثنين: نفاقٌ أكبر ونفاقٌ أصغر، أكبر وأصغر، أو اعتقاديٌّ وعملي، الاعتقادي أكبر، العملي أصغر، كيف أكبر وأصغر؟ الأكبر يُخرِج من الملّة كافر، الذي ينافق نفاقاً اعتقادياً، أو نفاقاً أكبر فهذا كافر، يُخرجه نفاقه من الملّة، ليس مسلماً.
أمّا المنافق نفاقاً عملياً، أو الذي نفاقه أصغر، أي نفاق عملي، فهذا لا يُخرجه من الملّة، لكنه عاصٍ لله تعالى، ومعصيته تستوجب مسارعةً إلى التوبة، وتركاً لهذه المعصية، لكنه يبقى في دائرة الإسلام والمسلمين، ما الفرق بين الأمرين؟
النفاق الاعتقادي أو النفاق الأكبر: يعني أن يقول الإنسان بلسانه إيماناً وأن يُبطِن كفراً، أي عقيدته الكفر، لكن يُظهِر للناس أن عقيدته الإيمان، يقول أنا مؤمن وهو في الحقيقة كافر، فهذا كافر ونفاقه هذا يُخرجه من الملّة.
وأمّا النفاق الأصغر أو النفاق العملي: فهو أن يقول الإنسان شيئاً وأن يفعل شيئاً، وليس أن يعتقد شيئاً، مثل إنسان يجلس بين الناس ويقول لهم يجب أن نكون صادقين، ونحافظ على الصدق، الصدق مهم جداً، ثم هو يكذب، فهو يقول شيئاً ويفعل شيئاً، فهذا نوعٌ من أنواع النفاق، لكنه ليس النفاق الأكبر المُخرِج من الملّة، وهذا بيّنته بعض الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم:

{ أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

الكذب من النفاق، فالغادر والكاذب والخائن والفاجر في الخصومة، يخاصم فيفجُر، لا أُريد أن أكلمه أبداً، يتحدث عنه، يبالغ في وصفه بالعبارات القاسية، يفجُر في خصومته، فهذا الذي فيه هذه الخصال، ففيه خصلةٌ من النفاق، قال: (ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا).
فإذاً هناك نفاقٌ أكبر اعتقادي، وهناك نفاقٌ أصغر عملي، الأول هو المُخرِج من الملّة، وهو تتحدث عنه هذه الآيات الآن، والنفاق العملي جاءت به السُنَّة في عدة أحاديث شريفة، الآن نأتي إلى الآيات بعد أن تبيَّن مفهوم النفاق بشكلٍ عام، قال تعالى:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ(8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(10)
(سورة البقرة)


أربع نماذج من الناس في سورة البقرة:
هذه الآيات الثلاثة الأولى في وصف المنافقين، أولاً: (وَمِنَ النَّاسِ) هذا نموذج بشري، القرآن الكريم يتحدث عن نماذج بشرية في القرآن (وَمِنَ النَّاسِ) أتت في ثمانِ آياتٍ، أربعٌ منها في سورة البقرة، هنا نموذج المنافقين (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) بعد قليل:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(165)
(سورة البقرة)

نموذج المشركين، بعدها:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ(204)
(سورة البقرة)

نموذج من المُفسدين في الأرض، وآخِر نموذج في سورة البقرة:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ(207)
(سورة البقرة)

نموذج من يبيعون نفسهم لله، في رضا الله عزَّ وجل، فالقرآن يُقدِّم هذه النماذج، ابتداءً بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ) فانظر هل أنت من هذا الصنف من الناس؟ هذا الصنف (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ) إذاً بلسانه، (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إذاً هو يُظهِر الإيمان بالله وباليوم الآخِر، وهذان الركنان يتكرر ذكرهما متلازمين في كتاب الله تعالى، الإيمان بالله واليوم الآخِر، مع أنَّ أركان الإيمان ستة، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر والقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى، فهي ستة أركان.

الإيمان بالله واليوم الآخِر ركنان أساسيان في الإيمان:
لكن الله تعالى كثيراً في القرآن ما يربط بين الإيمان بالله واليوم الآخِر، لأنهما الركنان الأساسيان في الإيمان، ذكرهما يُغني عن ذكر غيرهما، ويشمَل كل شيء، أن يؤمن الإنسان بالله، فهو إذا آمن بالله فيؤمن بملائكته وكتبه ورسله، ويؤمن بقضاء الله وقدره هذا كله معاً، لكن يوم الآخِر وحده، إذا إنسان ما آمن به على وجه التحديد، فإنه لا يستقيم على أمر الله، وإنه يظلم الناس، لماذا الناس يظلم بعضهم بعضاً؟ لضعف إيمانهم باليوم الآخِر، عنده مشكلة إمّا أنه لا يؤمن باليوم الآخِر، أو أنه يؤمن به لكن إيماناً ضعيفاً، أمّا لو أيقن الإنسان يقيناً، أنه سيقف بين يدي الله، وسيسأله لماذا أكلت هذا المال الحرام؟ فإنه لا يأكله، لأنه يعلم أن الحساب قادم، وإنه لو آمن أنه سيقف بين يدي الله ليسأله، لماذا جرَّحت فلان وأسأت له؟ وشتمت عِرضه وسببته، فإنه لا يفعل، لأن الوقوف بين يدي الله مُحرج.
مثال: إذا إنسان يعلم أن هذا الرجُل خلفه وزير، فإنه لا يشتمه، إذا كان يعلم أنه سيذهب للوزير، وسيأتي الوزير ويستدعيه، ويقف أمام الوزير ويقول له لماذا شتمت مساعدي، فإنه لا يشتم لأنه يعلم أن هذا مساعد الوزير، وهناك موقف بين يدي الوزير وسيحاسبه، فإذاً الإنسان لماذا يتعدَّى على الناس؟ لأنه لا يؤمن الإيمان الحقيقي باليوم الآخِر، الذي يمنعه من الإساءة للناس وترك منهج الله تعالى، فدائماً يتلازم هذان الركنان في كتاب الله (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) كما تحبون (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) إذاً المنافق كافر.

الإنسان عندما يتوهم أنه يخدع الله تعالى أو يخدع الناس فهو في الحقيقة يخدع نفسه:
(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) الإنسان عندما يتوهم أنه يخدع الله تعالى، أو يخدع الناس فهو في الحقيقة يخدع نفسه، يمكن لإنسانٍ أن يخدع كل الناس لبعض الوقت، يعني ممكن إنسان عنده إعلام، وهو رئيس أعظم دولة في العالم، يوهم الناس بأنه هو رجُلٌ صالح، شهر وشهرين وثلاثة ثم يفضحه الله، معظم الناس تنغش به، يقول لك هذا يحب الإسلام والمسلمين، جاء لينصر الدين، يلقي محاضرة أو محاضرتين، فيخدع كل الناس لوقتٍ قصير ثم يفضحه الله، وممكن الإنسان يخدع بعض الناس لوقتٍ طويل، لكن بعض الناس وليس كل الناس لوقتٍ طويل، يعني يستطيع أن يُمثِّل على عائلته بأنه هو رجلٌ محسن وهو أعمال خير، وهو في الحقيقة يتاجر تجارةً مُحرَّمة، ويبقى عشرين أو ثلاثين سنة يظنون أنَّ تجارته حلال، لأنَّ تجارته الحرام مخبأة أو مُسجَّلة بأسماء آخرين، فهو خدع بعض الناس، لكن ليس كل الناس لوقتٍ طويل، لكن هل يمكن للإنسان أن يخدع ربَّه؟! لا مستحيل، كيف يخدع ربه والله تعالى:

وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7)
(سورة طه)

هل إذا قال بلسانه أنا مؤمنٌ فإنه يخدع ربَّه؟! معاذ الله، فقال: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ) والمخادعة فيها مُبالغة، ما قال يخدعون، يخادعون فيها مُراوغة يحاول أن يُخادع الله والذين آمنوا، قال: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) في حقيقة الأمر، لماذا يخدعون أنفسهم؟ لأنه سيدخل النار.
فرضاً كمثال: طالب استطاع أن يخدع الجامعة أنه قدَّم امتحان، وجلس وتظاهر بأنه يكتب بالورقة، ثم ثنى الورقة وسلَّمها وخرج، وقال لك خدعت الجامعة، وما كتبت ولا كلمة بورقة الامتحان، نقول له أنت خدعت نفسك، لأنك ستأخذ علامة الصفر، وسترسُب ولن تترفع إلى الصف الذي يليه، فأنت خدعت الجامعة أم خدعت نفسك؟! خدعت نفسك، فهذا الكافر الذي يدَّعي الإيمان ويُبطِن الكفر، يظن أنه يخادع الله وهو في الحقيقة يخدع نفسه، لأنه سيوردها النار، لكن (وَمَا يَشْعُرُونَ) ما يشعر أنه يخدع نفسه.

النفاق مرض:
(فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) هذا المرض هو النفاق، هناك مرض الشك، هناك مرض الشرك، هناك مرض الحقد، القلوب فيها أمراض، قال: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) وهو النفاق، لأنَّ النفاق مرض، والإنسان كريم النفس، عزيز النفس لا ينافق، حتى لو كان كافراً، نسأل الله العافية، فنفسه أعزُّ عليه من المنافق، لأنه ما تجرأ أن يكون ذا وجهين، واضح كفَر والعياذ بالله، مصيبته كبيرة لكن ليس كالمنافق، فالمنافق في قلبه مرض، ولولا أنَّ في قلبه مرضاً لما نافق، قال: (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا).
قد يسأل سائل، لماذا يزيدهم الله تعالى مرضاً؟ لأن الله تعالى عندما يهتدي الإنسان يزيده هدىً، وبالمقابل عندما يمرض يزيده مرضاً، يسمح لهذا المرض أن ينتشر، ربنا عزَّ وجل مالك كل شيءٍ، فلو أراد لمنعه، لكن ربنا عزَّ وجل يريد أن يُحقِّق الاختيار، فبالتالي ترك لنا الاختيار، فمن يهتدي، قال:

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ(17)
(سورة محمد)

وفي المقابل، الذي يزيغ يُزيغه الله

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(5)
(سورة الصف)


المنافق ينافق فيزيده الله مرضاً:
والمنافق ينافق فيزيده الله مرضاً، يُمرضه أكثر، بمعنى أنَّ الله تعالى يأذَن له أن يتابع في اختياراته، من أجل أن يأخذ جزاءه العادل، يعني مثلاً: شابٌ جاء إلى صيدلاني وقال له أنا خبير وعندي خبرة بمجال الأدوية، أُريد أن أعمل عندك، فقال له تفضل، ووضع له مجموعةً من الأدوية مع بعضها، أدوية المضادات الحيوية، مع أدوية تخفيف الألم، مع أدوية الكِلى، ووضع معها أدوية سامة لا تُعطى إلا بوصفاتٍ طبيِّة، وقال له افرز لي الأدوية، ضع كل دواءٍ في مكانه، فأمسك الدواء الذي به مواد سامة، ووضعه مع الفيتامينات، هذا خطأٌ جسيمٌ جداً في الصيدلة، الصيدلاني ما تكلم أبداً وما منعه، لماذا؟ لأنه لو أوقفه وقال له هذا لا يوضع هنا ما تحقق الاختيار، ما أتمَّ الامتحان، يتركه ساعةً كاملة، ثم يقول له أنت لا تصلُح لأن تكون صيدلانياً، ارتكبت عشرات الأخطاء في الأدوية، هذا معنى: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) يعني ربنا عزَّ وجل يترك العباد ليُحقِّق كلٌّ منهم اختياره، فالمُهتدي يهتدي، والمريض يمرض، حتى ربنا عزَّ وجل بعد ذلك، يُكافئ أو يُعاقب بناءً على اختيارك أنت.
(فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) والعذاب في القرآن يكون أليماً ويكون عظيماً ويكون مُهيناً، العذاب العظيم دلالة على أنه ذو حجمٍ كبيرٍ جداً، يعني عذاب من العظيم جلَّ جلاله، والمُهين يؤلم الإنسان في كرامته يُهينه، والأليم يؤلمه بجسده وبنفسه، فهنا (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ(12)
(سورة البقرة)


كيف يُفسِد الإنسان في الأرض:
الإفساد: أن يضع الإنسان الشيء في غير موضعه، يعني لو أنَّ عندي ملحاً، والملح مادةٌ مفيدة، وسُكَّر والسُكَّر مادةٌ مفيدة، ثم طبخت الأرز وأخطأت ووضعت له السُكَّر، ماذا أصنع بالأرز؟ أُتلفه، لماذا؟ لأنني أفسدته، لماذا أفسدته؟ لأنني وضعت الشيء في غير موضعه، السُكَّر ليس للأرز، وبالمقابل لو أنني صنعت الكنافة ووضعت لها ملحاً فإنني أُفسدها، فعندما أضع الشيء في غير موضعه أُفسده.
كيف يُفسِد الإنسان في الأرض؟ عندما يُخرِج الأشياء عن مهمتها التي خلقها الله لها، المرأة خلقها الله تعالى جدةً تُقبَّل يدها، ولها موضع الصدارة في البيت، أُمَّاً محترمةً، ترعى أولادها وتقوم على شؤون بيتها، أُختاً لها محبة إخوتها، وتكريمهم ورعايتهم لها، وحفظهم وصونهم لها، بنتاً لها الحبّ والمودَّة والقُبلة الصادقة، والتعليم والنصح والإرشاد، هكذا خلق الله تعالى المرأة، لمّا قالوا لها لا تتزوجي أفسدوها، ليس لا تتزوجي بمعنى امرأة لم تتزوج، قد لا تتزوج المرأة وهي في قمة صلاحها، بل أصلح من المتزوجات، لكن أقصد لمّا منعوها من الزواج، وألجأوها إلى الشارع أفسدوها، لمّا قالوا لها اخرجي متبرجة أفسدوها، لأنهم يضعونها الآن في غير موضعها، لمّا قالوا لها أنتِ سكرتيرة، تجمَّلي لمدير العمل حتى تبقي في عملك أفسدوها، لمّا قالوا لها أنتِ جميلةٌ، قومي بعمل إعلاناتٍ تجذب الزبائن، جعلوها إعلان على منتجاتٍ مُعيَّنة، قد تكون أحياناً للأسف الشديد على منتجاتٍ سيئة، أو منتجاتٍ مُهانة أفسدوها.
هذا إفساد المرأة، وهناك إفسادٌ للرجل، هناك إفسادٌ للزرع للنبات لكل شيءٍ خلقه الله، الله خلق الزرع له أوقات، لمّا يضعون له هرمونات مُسرطنة أفسدوه، فالإفساد يشمل كل شيءٍ في الحياة، الطفل خلقه الله على الفطرة، فلمّا نقول نريد أن نعطيه تربية جنسية آمنة في المدارس نُفسده، لمّا نتركه للشاشة تُربيِّه نُفسده، فإذاً الإفساد هو أن تُخرِج الشيء عن المهمة التي خُلق من أجلها.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) يعني هم يدَّعون الإصلاح وهم يُفسدون، واليوم نسمع كثيراً من دُعاة التحلل والفساد، والبُعد عن الخير والحقّ وإفساد الأجيال، نسمع منهم أنهم يدَّعون أنهم هم المصلحون، نحن نُصلِح المجتمع، نحن نبني المجتمع، نحن نُعطي المرأة كرامتها، نعطيها حريتها، نعطيها حقوقها، نحن نريد أن نُعطي للطفل الحقوق، من أجل أن لا يضربه والداه مثلاً، يعني يأتون بعباراتٍ برَّاقة، تنم على أنهم يدَّعون الإصلاح، وهم في الحقيقة يُفسدون في الأرض (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ).

الناس يصدرون في أفعالهم عن قصدٍ إيجابيٍ في زعمهم:
(أَلَا) أداة استفتاح تفيد التوكيد، (إِنَّهُمْ) تفيد التوكيد، (هُمُ) ضمير فصل يفيد التوكيد، ثلاث مؤكدات، (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) يعني ما قال هم الذين يُفسدون، قال: (هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ) يعني هل عدم شعورهم بأنهم يُفسدون يُعفيهم من المسؤولية؟ هل هو عذر؟ لا، طبعاً ليس عُذراً، يعني لو أنَّ إنساناً قال لك: أنا ما كنت أعلم أن هذا سيُفسِد، فلماذا لم تسأل؟ لماذا لم تتعلم؟ لماذا لم تسأل عن منهج الله تعالى؟ فعدم شعورهم بأنهم مفسدون لا يُعفيهم من المسؤولية، لا يوجد إنسانٌ في الأرض يفعل فعلاً ويقول عن نفسه إنه مجرم، أو إنه ضال، أو ظالم، أو مُفسِد، الناس جميعاً عندما يتحركون في الحياة يبحثون عن ما يريحهم، فيدَّعون أن أفعالهم فيها إيجابية.
حتى السارق إذا دخلت في العمق وتقول له: تسرق أموال الناس؟! يأتيك ببعض الإيجابيات لفعله، يقول لك: عندي أولاد أُريد أن أُطعمهم، هذا الذي أسرق منه، في الأصل هو اغتصب مال الفقراء، هكذا كان شعراء الصعاليك في الجاهلية، يسرقون من الأغنياء ويعطون الفقراء، يعني يجد مُبرراً لأفعاله، حتى القاتل المجرم عندما يقتل يقول لك: هو استفزَّني، أنا كنت في لحظة غضب شديدة، هو لو ما قال لي أنا ما فعلت كذا، هو يستحق، يعني قلَّ من الناس من يُصارح نفسه بأنه في الحقيقة سيء، الناس يصدرون في أفعالهم عن قصدٍ إيجابيٍ في زعمهم، لذلك قال تعالى: (وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ).

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ(13)
(سورة البقرة)

أعظم السَفَه أن تُعرض عن منهج الله تعالى:
إذاً هم يتَّهمون المسلمين والمؤمنين بالسفَه، وهذا من أعظم السفَه، السفَه في الأصل رقة الثوب، إذا الثوب رقيق يُسمّونه ثوب سفيه، ثم انتقلت إلى المعنويات، إذا إنسان لا قيمة له في الحياة، كلمةً تأخذه وكلمةً تُرجعه كما يقول العوام، يُسمّى سفيهاً، رقيق الحال يعني، فقال: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ) هم يظنون أنفسهم، بأنهم لمّا نافقوا وادَّعوا الإيمان، وأبطلوا الكُفر، بأنهم أذكياء، لكن في الحقيقة هم السفهاء، لأنَّ أعظم السَفَه أن تُعرض عن منهج الله تعالى، قال تعالى:

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(130)
(سورة البقرة)

فيسفه الإنسان نفسه ويحتقرها، حينما يترك منهج ربه، لأنه يحرمها من الخير، ويؤدي بها إلى النار، فأي سَفهٍ أعظم من هذا السَفَه بربكم؟! هل من سفَه أعظم من أن يقود الإنسان نفسه إلى نار جهنم؟ إلى غضب الجبار؟ إلى غضب الخالق؟ فقال: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ).

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14)
(سورة البقرة)

هذا الآن توصيف لحالة النفاق تماماً، الكذب الخداع (قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ) هؤلاء شياطين الإنس وليس الجن، لأنَّ هناك شياطين الإنس والجن، قال تعالى:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(112)
(سورة الأنعام)

فشياطينهم هم المشركون من أمثالهم، الذين يُظهِرون كفرهم (وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ) يعني جلسوا وحدهم وليس هنالك مؤمنٌ بينهم (قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) كنَّا نستهزئ بالمؤمنين وندَّعي أننا معهم لأجل المصالح والمكاسب التي يمكن أن تأتينا منهم (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).
قال تعالى:

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(15)
(سورة البقرة)

(اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي يجازيهم على استهزائهم، إذا كادوا كاد لهم الله:

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا(15) وَأَكِيدُ كَيْدًا(16)
(سورة الطارق)

وإذا مكروا مكر الله بهم:

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30)
(سورة الأنفال)

وإذا استهزأوا استهزأ الله بهم، فمعنى استهزاء الله تعالى بهم، أي أنه يرد على استهزائهم، هذا من باب المشاكلة في اللغة العربية (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي يرد على استهزائهم بعقوبتهم (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ) هذا كما قلنا قبل قليل: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) ، (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ) يعني الله عزَّ وجل لو أراد، المنافق بمجرد أن يعلن نفاقه تأتيه صاعقةٌ من السماء فتُميته، انتهى الأمر، لكن الله يمدُّ له، قد يمدُّ له إلى ستّين سبعين سنة وهو يُنافق، وما أحد يعلم أنه منافق ويطغى (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ) أي في تجاوزهم للحدود، (يَعْمَهُونَ) العمه عدم الرؤية، شدة عدم الرؤية.

أخسر تجارة أن يترك الإنسان هدى ربه ويشتري به ضلالةً:
قال:

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ(16)
(سورة البقرة)

ما معنى (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) يعني هؤلاء تركوا الهدى وأخذوا الضلال (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) الباء دخلت على ماذا؟ على المتروك دائماً، يعني أنا اشتريت السيارة بالمال، فالمال هو الذي تركته والسيارة أخذتها (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) يعني أخذوا الضلالة ودفعوا الهدى ثمناً، تخيَّل هذه الصفقة كم هي خاسرة! يعني تخيَّل إنسان مثلاً، عنده بيت ثمنه مئة ألف ويبيعه بألف! ماذا تقول له؟ تخيَّل إنسان عنده بيت بمليون أخذ بدلاً منه خيمة، قايضه على خيمة، ماذا تقول له؟! (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) دفع الهدى و أخذ الضلالة، قال: (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) أي تجارةٍ أخسر من أن يترك الإنسان هدى ربه ويشتري به ضلالةً؟! يعني الضلال البُعد عن الحقّ (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ).
وعند هذا الحد نقف، والحمد لله رب العالمين.