قصة موسى في القرآن الكريم

  • 1997-11-01

قصة موسى في القرآن الكريم

الرَّحْمَٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
(سورة الرحمن)

وبعد: إن المتتبع لكتاب الله عز وجل المتعمق في أسراره وقضاياه ليدهشه ما يرى من عظيم حكمة الله في توزيع هذا المصحف وترتيبه وفق ما نرى و ندرس. و من أجل دراسة أي موضوع في القرآن الكريم لابد للدارس أن يضع نصب عينيه القضية التالية:

تكرار القصة القرآنية:
إن القرآن الكريم وإن كان قد نزل مفرقاً حسب الأحداث والوقائع فإن جميع آياته قد رتبت في أماكنها من القرآن ترتيباً توقيفياً بوحي من الله عز و جل فإذا قرأ الباحث المتدبر هذا القرآن وجد فيه الترابط المحكم والاتساق العجيب فالسورة الطويلة - أياً كانت - تشكل لوحة جميلة متناسقة الألوان والمشاهد وفي هذا يقول الإمام الشاطبي:
" إن السورة الواحدة مهما تعددت قضاياها فهي تكون قضية واحدة "
{ الموافقات ج3 }
من هذا المنطلق وجب علينا أن ندرس أي مشهد في السورة على أنه مقطع من نص تلفه الوحدة الموضوعية فهو يتصل بشكل أو بآخر بما قبله وبما بعده. فكيف إذا كان هذا المشهد مقطعاً من قصة قرآنية تناولها القرآن الكريم يبغي من خلالها العبرة و الموعظة لعموم الخلق على مدار الأيام و السنين، إنها ولا شك ستشكل ارتباطا واضحاً ضمن السورة الكريمة التي شملت هذه القصة.
إن من أهم الأمور التي تلفت انتباه قارئ القرآن الكريم ما يجده من تكرار لبعض الآيات أو القصص في القرآن الكريم. أما ما تكرر من الآيات فهذا بحث خاص نرجئه إلى وقت آخر، و أما ما يتعلق بما يمكن أن نسميه " تكرار القصة القرآنية " فهو مجال بحثنا الآن إن شاء الله تعالى.
أكثر القصص وروداً في القرآن الكريم
إن أكثر القصص وروداً في القرآن الكريم على الإطلاق هي قصة سيدنا موسى عليه السلام مع بني إسرائيل فقد وردت في حوالي عشرين موضعاً من كتاب الله بين تفصيل وإشارة، إضافة إلى مواضع أخرى أشير إليها من بعيد إلى قوم موسى أو إلى فرعون كقوله تعالى في سورة الأعلى:

إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ (19)
(سورة الأعلى)

أما كلمة موسى وحدها فقد وردت في 129 موضعاً في المصحف الكريم.
هذه المقولة لا بد أن تثير في الباحث سؤالين اثنين أولهما: لماذا ركّزَ سبحانه و تعالى على هذه القصة قصة سيدنا موسى ؟ ثم كيف نستطيع أن نبرهن على أن القرآن الكريم لم يكرر هذه القصة بل استخدمها في مواضع شتى لتؤدي غرضاً معيناً يختلف عما يمكن أن تؤديه في موضع آخر.
إن هذين التساؤلين هما الفكرتان الأساسيتان في هذا البحث، ومن خلاله سنحاول ما أمكن الإجابة عنهما.

أهمية قصة سيدنا موسى:
لقد أعطى سبحانه و تعالى قصة موسى أهمية بالغة فاحتلت مكاناً متميزاً في كتابه الكريم، وإنما ينجم هذا عن حكم بليغة من الضروري أن نتعرف على بعض جوانبها:
أولاً: إن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والحرب فقد كانوا حرباً على المسلمين منذ انطلاقة الدعوة هم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين، وهم الذين تآمروا مع المشركين على الإسلام والمسلمين، كما أنهم هم الذين تولوا بث الإشاعات والشكوك والشبهات حول العقيدة الإسلامية، كان ذلك كله قبل أن يبدءوا حربهم الصريحة ضد المسلمين، من هنا كان ضرورياً كشفهم للأمة الإسلامية لتعرف من هم أعداؤها وما تاريخهم وما وسائلهم.
وقد علم جل في علاه أنهم سيكونون أعداء للأمة الإسلامية في تاريخها كله كما كانوا في الماضي فعرض لنا قصتهم مكشوفة واضحة:

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
(سورة المائدة)

رسالة الإسلام هي وارثة الرسالات كلها
ثانياً: إن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير وقد امتد وجودهم قبل الإسلام لمدة طويلة ووقعت الانحرافات في عقيدتهم ونقضوا مراراً ميثاق الله الذي أخذه عليهم، فاقتضى هذا أن تكون رسالة الإسلام وهي وارثة الرسالات كلها على بينة من تاريخ القوم وتقلباته وأن تعرف مزالق الطريق ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم لتضم هذه التجربة إلى حصيلة تجاربها، فتنتفع بها وتتقي الوقوع في مزالقها.
ثالثاً: لقد اختار الله رسالة الإسلام لتكون خاتمة الرسالات وعلم أن أجلها سيمتد إلى قيام الساعة كما أنه يمكن أن تصادفها فتراتٌ تمثل فتراتٍ من حياة بني إسرائيل فقصَّ علينا هذه القصة لنعرف من خلالها كيف نعالج الداء إن وقع في مجتمعنا الإسلامي.
رابعاً: إن قصة موسى عليه السلام متشعبة كثيرة المشاهد والشخصيات مع فرعون، ومع قومه، مع نبي الله شعيب في مدين، ومع العبد الصالح في مجمع البحرين.
إن غنى هذه القصة بالأحداث المفيدة وطول أحداثها لهو سبب منطقي للتركيز عليها وإيرادها في كثير من سور القرآن، لذلك كان من الأنسب وتأكيداً لما ذكرناه سابقاً أن تذكر فصول القصة متفرقة في سور القرآن لتؤدي غرضها المراد منها في كل موضع من المواضع.

مواضع قصة موسى في سور القرآن الكريم:
وتسلمنا هذه الملاحظة الأخيرة إلى الجزء الثاني من بحثنا وهو البرهنة على أن هذه القصة لم تكرر في القرآن الكريم بل حوى كل مقطع منها في مكانه عبرة وعظة لا يمكن لمقطع آخر في المكان نفسه أن يؤدي العبرة نفسها.
أول عرض لقصة موسى بشكل مفصل
ومن أجل ذلك سندرس مواضع القصة في سور القرآن مع مراعاة ترتيب نزولها على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، إن أول عرض لقصة موسى بشكل مفصل بعد إشارات قصيرة ربما يذكر فيها الاسم فقط هو في سورة الأعراف (39)، وتبدأ القصة هنا من حلقة مواجهة فرعون و ملأه بالرسالة يقول تعالى:

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (75)
(سورة الأعراف)

ثم تمضي القصة من مواجهة فرعون إلى مواجهة بني إسرائيل و انحرافهم.
إن تأملاً دقيقاً في الآية الأولى لقمين بالكشف عن غرض العرض القصصي في هذا الموضع " فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" وبعد ذلك الإجمال الموحي بالغاية تعرض المشاهد التي تؤدي هذه الغاية (وأقول فقط التي تؤدي هذه الغاية) إلى أن نصل إلى قوله تعالى:

فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
(سورة الأعراف)

وسياق القصة يختصر هنا حادثة الإغراق بينما يفصل طريقتها في سور قرآنية أخرى ذلك أن الجو هنا يلائم الأخذ الحسم بعد الإمهال الطويل، إن الحسم السريع هنا أوقع في النفس من العرض المفصل، هي ضربة واحدة من التعالي و التطاول إلى الهوي في الأعماق و الذل.
كذلك يعجل القرآن بعرض الصفحة المقابلة صفحة استخلاف المستضعفين، إنه مثل يضربه الله للقلة المؤمنة في مكة المطاردة من الشرك، إنما تلقاه هذه القلة المسلمة من المشركين هو ما لقيه المستضعفون من فرعون و طاغوته فأورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها.
ثم نأتي إلى سورة الفرقان وفيها آيتان فقط تتحدثان عن سيدنا موسى ضمن حديث عن الأقوام المكذبة من أقوام نوح وعاد وثمود، ولا يعرض هنا إلا ما يشير إشارة إلى تدمير هذه الأقوام، إذ هذا هو الهدف من عرض مصارع القوم متتابعة من أجل تثبيت فؤاد النبي وتسلية الهم عنه وهذا هو موضوع السورة بكاملها فينتقل النص القرآني ومباشرة من الذهاب إلى فرعون وقومه إلى ما حل بهم من دمار دون تعرض للتفاصيل:

فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
(سورة الفرقان)

وننتقل بعدها إلى سورة مريم ( 44 ) فنجد أيضا آيتين فيهما وصف لسيدنا موسى:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
(سورة مريم)

ويأتي هذا الوصف في سياق تعداد لبعض الأنبياء و الهدف هو إثبات الوحدانية و البعث و نفي الولد و الشريك.
أمر العباد عائد لله عز وجل
أما في سورة طه (45) فيطالعنا التفصيل الثاني لهذه القصة بعد سورة الأعراف، ولا بد لنا هنا أن نقف عند كامل السورة وقفة سريعة، فالسورة تبدأ وتختم خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام فهذه الدعوة ليست شقوة كتبت عليه إنما هي تبشير وتذكير، أما أمر العباد فعائد بعدها لله عز وجل، و بين البداية والنهاية تعرض قصة موسى عليه السلام من بداية الرسالة إلى اتخاذ بني إسرائيل للعجل و تعرض مفصلة مطولة وخاصة موقف المناجاة بين الله و موسى و تتجلى في القصة واضحة رعاية الله لموسى الذي صنعه على عينه و اصطنعه لنفسه، ثم تعرض قصة آدم سريعة فيها بيان لرحمة الله و ترك البشر من أبنائه لما يختارون بعد التذكير.
إذاً فقد جاءت القصة هنا مختلفة متميزة عن باقي السور فقد سبقها مطلع السورة الذي ينبىء عن رحمة الله ورعايته لمن يحملهم أمانة التبليغ والدعوة فجاءت القصة بما يناسب هذا فتضمنت نماذج من رعاية الله لموسى بداية في طفولته ثم في تثبيته وتأييده :

أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (39)
(سورة طه)

ثم نجد العرض القرآني يتوقف عن سرد القصة عندما يعلن موسى عليه السلام حقيقة العقيدة فيقول:

إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
(سورة طه)

ولا يكمل القرآن أي حادث بعد هذا، فقد وقع بعد ذلك العذاب على بني إسرائيل بما ارتكبوا، وجو السورة هو جو الرحمة والعناية بالدعاة فلا مجال لذكر غير ذلك.
وإذا انتقلنا إلى سورة الشعراء (47) وجدنا قصة موسى عليه السلام تأخذ نصيباً وافراً منها فهي القصة الأولى ضمن مجموعة قصص يذكرها لنا تعالى ضمن السورة بعد أن يعلن الغرض الواضح من عرضها.
بداية: إن موضوع هذه السورة هو موضوع السور المكية، العقيدة:

فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
(سورة الشعراء)

والخوف من الآخرة:

يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
(سورة الشعراء)

إضافة إلى ذلك ففي السورة تخويف من عاقبة المكذبين بعذابي الدنيا والآخرة:

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ۗ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)
(سورة الشعراء)

ومع كل هذا فالسورة تعزية للرسول صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المشركين:

لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
(سورة الشعراء)

الجدال بين موسى وفرعون حول وحدانية الله
وتأتي القصص بين المطلع والختام لتنسجم معهما فيشكلون معاً وحدة متكاملة لسورة واحدة، ولا تعرض القصة هنا إلا بما يناسب المطلع والختام ويغلب على القصة جو الإنذار والتكذيب ثم العذاب بعد ذلك، ذلك أن السورة تواجه تكذيب مشركي قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن مراجعة لمشاهد القصة في هذه السورة توضح أن التوسع والتفصيل كان في موقف الجدال بين موسى وفرعون حول وحدانية الله ووحيه إلى رسوله وهو موضوع الجدل في هذه السورة بين المشركين والنبي صلى الله عليه وسلم.
وبالمقارنة مع سورة الأعراف مثلاً نجد القصة هناك لا تفصل في هذا الجدل بينما تتوسع في ذكر مؤامرات فرعون وملئه بعد ذلك.
أما سورة النمل (48) فنجد فيها حلقة سريعة هي حلقة تلقي الرسالة تعرض مسبوقة بقوله تعالى:

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
(سورة النمل)

فكأنما يريد جل في علاه أن يقول لرسوله إنك لست بدعاً في هذا التلقي فهاهو موسى قد نودي ليحمل الرسالة إلى فرعون وقومه.
فتوته عليه السلام وما أتاه الله من فضله
ونأتي إلى سورة القصص (49) فنجد فيها حلقتين جديدتين هما حلقة الميلاد وما أحاط بها من ظروف قاسية وعناية ربانية وحلقة فتوته عليه السلام وما أتاه الله من العلم والحكمة، ولقد أطال السياق عرض هاتين الحلقتين لأنهما تكشفان عن تحدي القدرة السافرة، وفيهما يتجلى عجز فرعون وقومه عن دفع القدر المحتوم:

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
(سورة القصص)

وسورة الإسراء (50) واحدة من السور التي تشير سريعاً إلى قصة موسى يأتي ذلك بعد دعوة إلهية للتفكر في خلق الله فتأتي الآيات القصصية لتقول إن كثرة الخوارق لا تنشئُ الإيمان في القلوب الجاحدة فها هو موسى قد أوتي تسع آيات ثم كذب بها فرعون وملأه.

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَّا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
(سورة الإسراء)

ثم:

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۖ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَىٰ مَسْحُورًا (101)
(سورة الإسراء)

إضافة إلى هذا فهذه الإشارة للقصة تناسب ما ورد في مقدمة السورة من ذكر للمسجد الأقصى و بني إسرائيل.
وننتقل إلى سورة يونس (51) فنجد فيها قصة موسى تبدأ من مرحلة التكذيب و تنتهي عند غرق فرعون و جنوده في شمول واضح لما يماثل من القصة موقف المشركين في مكة من محمد صلى الله عليه وسلم.
إن تصفحاً سريعاً لهذه السورة يبين أنها تحوى مصارع عدد من المكذبين الغابرين و من بينهم فرعون و جنوده لذلك لا نجد القصة مثلا تأتي على ذكر الآيات التسع التي بعث بها موسى إلى فرعون و قد ذكرت في الأعراف لأن السياق لا يقتضي هذا و المهم هو تلقي فرعون و قومه لآيات الله:

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (75)
(سورة يونس)

مشهد من القصة لا يذكر إلا في سورة غافر
ونصل إلى سورة غافر(60) فنجدها تحتضن مشهداً من القصة لا يذكر إلا فيها، إنه مشهد مؤمن آل فرعون وعلى لسانه نسمع عبارات ومعانٍ وردت من قبل في السورة فهو يذكر فرعون وهامان بأنهما يتقلبان في البلاد، ويحذرهما يوماً مثل يوم الأحزاب، كما يحذرهما يوم القيامة الذي عرضت مشاهده في مطلع السورة، ويتحدث عن الذين يجادلون في آيات الله كما جاء ذلك في بداية السورة، ثم يعرض سياق القصة مشهدهم في النار كما عرض مشهد أمثالهم من قبل في السورة:

وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
(سورة غافر)

وإلى سورة الزخرف (63) والتي تعرض من القصة حلقة يذكر فيها اعتزاز فرعون بمثل ما يعتز به من يقولون:

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)
(سورة الزخرف)

والآية من السورة نفسها، إن السورة لا تعرض هنا حلقة الرسالة بل تشير إليها إشارة مقتضبةً لتصل إلى النقطة المقصودة وهي تشابه اعتراضات فرعون مع اعتراضات مشركي العرب، وهكذا تلتقي هذه الحلقة من قصة موسى بالحلقة المشابهة لها من قصة العرب في مواجهة رسولهم الكريم:

وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ (56)
(سورة الزخرف)

قصة موسى مع العبد الصالح
ونأتي إلى سورة الكهف (69) وهي آخر سورة مكية أوردت تفصيلاً في قصة موسى، وقد ذكرت حلقة لم تذكر إلا فيها، إنها قصة موسى مع العبد الصالح، ومع ذلك فنقول إن ورودها هنا كان لحكمة بليغة فقد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالقصة السابقة لها في ترتيب الآيات قصة أصحاب الكهف، فكلا القصتين تشتركان في ترك الغيب لله الذي يدير الأمر بحكمته وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر، فكما قال العبد الصالح لموسى عندما يكشف له عن سر تصرفاته التي أنكرها موسى عليه، يقول:

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82)
(سورة الكهف)

فيكل الأمر إلى الله، كذلك يقول تعالى في أصحاب الكهف:

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22)
(سورة الكهف)

وكذلك وكلوا أمر مدة مكوثهم إلى الله:

وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
(سورة الكهف)

ونترك الإشارات القصيرة الواردة في بعض السور المكية الأخرى فهي لا تشكل مشاهد قصصية وإنما تذكر ضمن سياق يقتضي ذكرها ويمكن للباحث أن يعود إليها فيتيقن من ذلك.
ونأتي إلى السور المدنية: ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن سورة البقرة (87) هي الوحيدة من المدنيات التي ذكرت تفصيلاً في قصة موسى، فقد مضى عهد مكة وما يحتاج من تثبيت للنبي ومن آمن معه وهم يومئذ قلة مستضعفون تثير القصص فيهم مشاعر الأمل والتفاؤل لما يرون من نصر حققه المظلومون على أعداء طالما نكلوا بهم وأذاقوهم صنوف العذاب.
وأما الآن وقد دخل المسلمون المدينة ولاقوا فيها ما لاقوا من الترحيب والمحبة فقد توقف القرآن عن عرض هذه القصة و اكتفى بذكر شيء منها في سورة البقرة والهدف تحذير المؤمنين من اليهود الذين مازالوا يتربصون الدوائر بالمؤمنين.
نجد السياق في هذه السورة يعرض على بني إسرائيل النعم الكثيرة التي أنعمها الله عليهم ثم كفروا بها، إن هؤلاء اليهود الذين نقضوا المواثيق والعهود مع نبيهم هم نفسهم الذين يواجهون الدعوة الإسلامية في المدينة اليوم، فلتكونوا أيها المسلمون على حذر منهم.
ونجد السورة تعرض لأول مرة في القرآن قصة اليهود مع البقرة التي أمروا أن يذبحوها، وفيها تأكيد على عنادهم وحب مخالفتهم حتى وصلوا ما وصلوا إليه.
إذاً: فهذه السورة المدنية تعرض النعم الكثيرة التي كانت لبني إسرائيل فكفروا بها وفي هذا تذكير لما كان منهم، كما تعرض فسادهم ونقضهم للعهود ليكون المسلمون على بينة من أمرهم.
عرضنا في هذا البحث وبعونه تعالى جملة من المواضع التي فُصّلِت في عرض قصة موسى عليه السلام إضافة إلى بعض الإشارات الأخرى إليها، لنصل معاً إلى حكم أخير مفاده: أن قصة موسى خاصة وقصص القرآن عامة عرضت عرضاً يتناسب مع سياق السورة لتؤدي في النهاية غرضاً أراده جل في علاه فصرح به أحياناً قبل القصة أو بعدها وتركه لنا أحياناً أخرى نصل إليه عن طريق المحاكمة والاستنباط.

الخاتمة:
ختــاماً: فإني أستميحكم عذراً إذا كان قد وقع في البحث أي ضعف أو نقص في البرهنة والاستدلال فيكون ذلك حتماً نقصاً مني في الدراسة والتدبر فنحن نتفق معاً على أن القرآن يسمو في لفظه ومعناه عن كل عيب يمكن أن يقع البشر فيه من تكرار وغيره.

لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
(سورة فصلت)

والحمد لله رب العالمين