بناء النفس

  • 2019-02-08
  • عمان
  • مسجد أحد

بناء النفس


الخطبة الأولى

ياربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض ومِلء ما بينهما ومِلء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكُلّنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعزُّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هداك، وكيف نَذِلُّ في عزك، وكيف نُضامُ في سلطانك، وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك، وأشهدُ أن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد وعلى ذرية سيدنا محمد وسلم تسليماً كيثراً.

وبعد عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير، قال تعالى:

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ
(سورة التوبة: الآية 109)


أهمية بناء النفس
الفتن تأتي من كل حدب وصوب
موضوع بناء النفس تشتد إليه الحاجة في عصر الفتن، في عصرٍ يمسي فيه الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح فيه مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا قليل، حاجتنا اليوم إلى بناء النفوس أصبحت ماسّة جداً أكثر من أي وقتٍ مضى وما لم نبني أنفسنا ومن نحن مسؤلون عنهم بناءً صحيحاً فإن الثبات في زمن المتغيرات صعبٌ جداً، نحن أيها الكرام؛ في عصر المتغيرات في عصر الإعلام الفاسد المفسد في عصر الشهوات والشبهات التي تأتيك من كل حدب وصوب فما من يومٍ إلا وتطاردك فيه شهوةٌ وشبهة، شهوةٌ تريد أن تغذي الجانب الغريزي في الإنسان من شهوة المال أو شهوة النساء، وشبهةٌ عبر الإعلام حول دينك الذي هو من الثوابت التي لا تقبل التغير في مجمله وإن كان يقبل بعض ذلك في تفاصيله.
أيها الكرام: إذاً نحن بحاجةٍ إلى بناء النفوس أعظم من حاجتنا إلى بناء الأجسام فما منا إنسانٌ إلا ويحرص يومياً على بناء جسمه، يبنيه بالطعام والشراب والغذاء المتوازن، لكن هل نبني أنفسنا؟ وهل حرصنا على بناء أنفسنا أشدّ من حرصنا على بناء أجسامنا؟ هذا هو السؤال.

نماذج لأشخاصٍ بنوا بنيانهم بناءً ثابتاً
سأعرض أولاً نماذج ممن أسسوا بنيانهم على تقوى من الله خير، مجاهدٌ جريحٌ من جرحى أحد، معركة أحد، ونحن في مسجد أحد، به سبعون ضربةً ما بين طعنةٍ برمح أو ضربةٍ بسيف ورميةٍ بسهم، سبعون جرحاً، بمَ كان يفكر هذا الشخص؟ وما الذي كان يشغل باله؟، روى الحاكم بسندٍ صحيح:

{ عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع رضي الله عنه وأرضاه في القتلى، وقال لي: "إن رأيته فأقرِئْه مني السلام، وقل له: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني كيف تجدك؟"، قال زيد : فجعلت أبحث عنه في القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق، به سبعون ضربة؛ ما بين طعنة رمح، وضربة سيف، ورمية سهم، فقلت له: يا سعد إن رسول الله يقرؤك السلام، ويقول: أخبرني كيف تجدك؟ قال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام وعليك السلام، قل له: إني والله لأجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يُخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، ثم فاضت روحه رحمه الله }

(رواه الحاكم)

(عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع، أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في القتلى وقال لي: إن رأيته، أي إن مازال على قيد الحياة، "إن رأيته فأقرِئْه مني السلام، وقل له: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني كيف تجدك؟"، كيف حالك؟، قال زيد: فجعلت أبحث عنه في القتلى، فأصبته في آخر رمق، به سبعون ضربةً؛ ما بين طعنة رمحٍ، وضربة سيفٍ، ورمية بسهم، فقلت له: يا سعد إن رسول الله يقرئُك السلام، ويقول: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام وعليك السلام، قل له: إني والله لأجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم إن خُلِصَ إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، ثم فاضت روحه).
هذا سعد بن الربيع ثبت وعلَّم غيره دروساً من الثبات، هذا سعد بن الربيع واحدٌ ممن أسس بنيانه على تقوى من الله، لم تعصف به شهوةٌ ولا شبهةٌ وهو على فراش الموت كان يشغل باله سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن في سلامته سلامة دين الله عز وجل، ليبلُغنا هذا الدين كما أراد الله عز وجل.
امرأةٌ من الأنصار، في أُحد، تبحث عن زوجها، وتبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبلغها أن زوجها قد استشهد، فتقول: ما فعل رسول الله؟ ويبلغها أن أخاها قد استشهد، فتقول: ما فعل رسول الله؟، حتى كحلت عينيها بمرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كل مصيبةٍ بعدك جلل، جلل: أي هينة صغيرة، وكلمة جلل من كلمات الأضداد فتطلق على الكبير العظيم وعلى اليسير الصغير الهين، كل مصيبة بعدك جلل ولا أبالي ما أصابني.
ولو كُنَّ النّساءُ كمَنْ فقدْنـــــــــــــا لفضّلتُ النّســـاءَ على الرِّجَـــــــال فما التّأنيثُ لاسْمِ الشّمسِ عيْبًا ولا الـــتّـــذكـــيـــرُ فخْـــرًا للــــهـــلالِ
{ المتنبي }
هذا خبيب بن عدي أخذته قريش أسيراً ووضعته على خشبة الصلب في مكة وقد جمعت الجموع ليشهدوا مقتله، وبدؤوا يحاولون العبث بمبادئه وثنيه عن محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعن محبته لدين الله، فجعلوا يقولون له: أتحب أن يكون محمدٌ مكانك وأنت ناجٍ؟ فجعل يقول: لا والله ما أحب أن أكون وادعاً في أهلي وولدي عندي قوت يومي وأن محمداً يوخز بشوكة، فجعلت الأصوات تتعالى أصوات المجتمعين أن اقتلوه، فقال: إن شئتم أن تدعوني أركع ركعتين فافعلوا، فصلى ركعتين ثم التفت إليهم فقال: والله لولا أني خشيت أن تقولوا إنما أطال الصلاة فزعاً من الموت لفعلت، ثم قال:
ولستُ أُبالي حِينَ أُقتَلُ مُسلِمــاً على أيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصرَعي وذلكَ في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشَـــــأْ يبارِكْ عـــلـى أوصـــــالِ شِلْـو مُـمَــــزَّعِ
{ خبيب }
قتلته قريش، فقال أبا سفيان يومها: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، ولم يكن يومها مسلماً.
أيها الكرام: هذه نماذج سريعة لأشخاصٍ بنوا بنيانهم بناءً ثابتاً، بنوا نفوسهم على تقوى من الله وعلى محبةٍ لهذا الدين ففدوه بأرواحهم وبأموالهم وبكل ما يملكون لأنهم أعدّوا للآخرة عدتها.
حال بعض المسلمين اليوم
كثيرٌ أو بعضٌ من مسلمي اليوم ما إن تستعر شهوةٌ من الشهوات حتى يبادر إليها، لا يبالي أكل مالاً من حلالٍ أو حرام، أو نظر نظرةً من حلالٍ أو حرام، بعض المسلمين اليوم ما إن تنطلق شبهةٌ في وسيلة من وسائل الإعلام حتى تُضعضِع ثقته بدينه واعتزازه بمنهج ربه، فتارةً يقولون له: الإسلام ظلم المرأة فيهرع ويسأل ويرتبك ويخاف على دينه، وتارةً يقولون له: الإسلام دين الإرهاب والتطرف يقتل الناس ويجبرهم على الدخول في دين الله، فتجده خائفاً وجلاً وكأن الإسلام أصبح في قفص الإتهام، وتارةً وتارةً وفي كل مرةٍ نجد من بعض المسلمين اليوم تهاوناً في دينهم وعدم ثباتٍ على الحق رغم أن ما يعصف بنا من الفتن، وإن كانت كما بدأت الخطبة زمن المتغيرات، زمن الفتن ولكنها لا تعدل ما حصل مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن رويت قصصهم.
إذاً أيها الكرام: نحن بحاجة إلى بناء النفوس، فالنفوس إن لم تبنَ بناءً صحيحاً فيمكن للشهوات أو الشبهات أن تحرف الإنسان عن مساره، يمكن لسياط الجلادين اللاذعة أو لسبائك الذهب اللامعة أن تصرف الإنسان عن دينه.

عوامل بناء النفس
فما عوامل بناء النفس؟ كيف يبني الإنسان نفسه بناءً صحيحاً وفق ما يحبه الله ويرضاه؟

1. التقرب إلى الله تعالى، بما يحب من الأقوال والأعمال
خير ما يتقرب إليه المتقربون الفرائض
أول عامل من عوامل بناء النفس: التقرب إلى الله تعالى، بما يحب من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وخير ما يتقرب إليه المتقربون الفرائض، يقول تعالى في الحديث القدسي، يقول صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، ولا يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، الآن أمعنوا النظر أيها الأحباب، فإذا أحْبَبْتُهُ، إذا أحبك الله، كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، فلا يسمع شيئاً يناقض وحي الله ولا يركن إلى خبرٍ يتعارض مع كتاب الله، ولا يقبل شبهةً تسقط شيئاً من دين الله، من قرآنٍ أو من سنّةٍ صحيحة، يصبح الله سمعه، فلا يسمع إلا بنور الله، يدخل الخبر إلى أذنه ولكنه لا يعشش في قلبه ولا يتمكن منه لأنه قريبٌ من الله، موصولٌ بالله، ولا يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ، أولاً الفرائض، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، بعد الفرائض، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، فلا ينظر إلا بنور الله، تصبح عنده رؤية صحيحة، يمتلك رؤيةً تمكنه من استشراف المستقبل، لا أقول إنه يعلم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله، ولكنه ينظر بنور الله، لا يبصر شيئاً لا يرضي الله، لا ينظر نظرةً من حرام، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، فلا يحرك يده إلا في مرضاة الله، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، فلا يمشي إلا إلى المسجد، ولا يمشي إلا إلى عملٍ مباح، ولا يمشي إلا إلى مكانٍ يذكر فيه اسم الله، ولا يمشي إلى مكانٍ تنتهك فيه الحرمات، ولا إلى مكانٍ يغتاب فيه الناس، يمشي بنور الله، ويتحرك بنور الله، ويسمع بنور الله، ويبصر بنور الله، وهذا أعظم عملٍ من أعمال بناء النفس، أن تتقرب إلى الله، بالفرائض فتقيمها كما أراد الله، ثم بالنوافل فتكثر منها ما استطعت حتى يحبك الله فتتحصن من الشهوات وتتحصن من الشبهات.

{ إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادَى لي ولِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ }

(صحيح البخاري)

العبادة ليست عادةً
أريد أن أنبِّه إلى أمرين في هذا العامل من عوامل بناء النفس، الأمر الأول: كثيرٌ من المسلمين تحولت عنده العبادة إلى عادة، وينبغي أن ننهض من هذا الأمر، فالعبادة ليست عادةً، فعندما تتحول العبادة إلى عادة قد يسقط الوجوب لكنه لا يحصل المطلوب، العبادة ليست عادةً، ينبغي أن نجدد لها العهد في كل صلاة نقفها، وفي كل رمضان نستقبله، وفي كل يوم نصومه في سبيل الله، وفي كل عمرة نعتمرها، وفي كل حجٍّ نحجّه، نجدد الصلة والعهد بالله، نستحضر الخشوع نستحضر القلب حتى تؤتي العبادة ثمراتها ولا تتحول إلى عادةٍ من العادات، والأمر الثاني: أنه مع أعمال الجوارح ينبغي أن نركز على أعمال القلوب، ففي الحديث الشريف:

{ عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» }

(صحيح مسلم)

ينبغي أن نركز على أعمال القلوب
فينبغي أن نركز على أعمال القلوب، الإنابة من أعمال القلوب، التوبة من أعمال القلوب، الحياء من أعمال القلوب، التقرب إلى الله من أعمال القلوب، تنظيف القلب من الحسد والرياء والشك والشرك هذه كلها أعمال القلوب، فلا نكتفي بأعمال الجوارح بل نضم لها أعمال القلوب.
أيها الكرام: إذاً العامل الأول من عوامل بناء النفس: أن نتقرب إلى الله بالفرائض ثم بالنوافل.

2. المجاهدة
العامل الثاني: المجاهدة، قال تعالى:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
(سورة العنكبوت: الآية 69)

(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) أي كما قال المفسرون: الَّذِينَ جَاهَدُوا في تنفيذ الأمر وترك النهي في تطبيق شرع الله (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) يهدي الله قلبك فلا تعصف به المتغيرات، جاهد تشاهد، تشاهد من الخيرات.
والنَّفسُ كَالطّفلِ إِنْ تُهمِلْه ُشَبَّ عَلَى حُــبِّ الرّضَاع وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنفَطِـــــمِ وخالف النفسَ والشيطانَ واعصِهِـمَــا واِنْ همـا مَحَّضَـاكَ النُّصحَ فاتَّهِـــمِ
{ البوصيري }
جاهد تشاهد
ثابت البناني، من التابعين، يقول: تعذبت بالصلاة عشرين سنة ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني لأدخل في صلاتي فأحمل هم خروجي منها.
جاهد نفسه فأصبحت الصلاة متعةً، فأصبح إذا دخل في الصلاة يهتم لأنه سيخرج منها بما يجد من أُنس قلبه في الصلاة، قال تعالى عن الصلاة:

وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ
(سورة البقرة: الآية 45)

(وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) صعبة (إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) فالذي يخشع في صلاته الصلاة ليست كبيرةً عليه، بمعنى ليست شاقة على نفسه.
يقول الإمام أحمد بن حنبل: يا بني انوِ الخير فإنك لا تزال بخيرٍ ما نويت الخير، فلنصحح النوايا ولنجاهد النفس على تحمل التبعات.

3. محاسبة النفس
النفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات
العامل الثالث والأخير، وأكتفي بهذه العوامل الثلاثة ففيها الخير إن شاء الله، المحاسبة: النفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات، هذه طبيعة ولولا هذه الطبيعة لما كان هناك تكليف، الملائكة بطبيعتهم (لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ)، لا يوجد شهوة فهم غير مكلفين أصلاً، لكن الإنسان فقط والجن هم من قبلوا حمل الأمانة فكلفوا، (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ)، فحمل الإنسان الأمانة فمالت نفسه إلى الشهوة ومالت فطرته إلى الخير، فإن صرف النفس عن الشهوة واتجه إلى الفطرة التي فطرها الله عليها كان ذلك ثمن الجنة،

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ
(سورة النازعات: الآية 40 -41)

تعارض النفس والفطرة
النفس تريد شيئاً لا يرضي الله، والفطرة التي فطرك الله عليها تريد ما يرضي الله، فاترك هوى النفس واتّبع فطرتها تنجُ عند الله، هذه هي المعادلة، لو أن إنساناً نام عن صلاة الفجر رُنَّ المنبه فأغلقه عامداً وتابع النوم استيقظ صباحاً بعد شروق الشمس وقد ترك صلاة الفجر، فطرته تؤنبه، الطبع في الجسم ارتاح الجسم وبقي في نومٍ هادئ في فراشٍ دافئ، لكن النفس تعارض ذلك من أجل هذا تؤنبه فطرته الداخلية، كتبوا على بعض الأسرّة في بعض الفنادق في البلاد الغربية: إن لم تنم فهذا ليس من فرشنا إنها وثيرة ولكنه من ذنوبك إنها كثيرة.
أيها الكرام: إذاً المحاسبة مطلوبة

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ
(سورة الأنبياء: الآية 47)

فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(سورة الحجر: الآية 92-93)

جلس أحد الصالحين محاسباً نفسه فإذا عمره ستون عاماً فعدها فإذا هي ستون عاماً وحسب أيامها فإذا هي تزيد على واحدٍ وعشرين ألف يومٍ فقال: يا ويلتاه أألقى الله بواحدٍ وعشرين ألف ذنب!.
إن كان في اليوم ذنبٌ واحد، فليحاسب الإنسان نفسه حساباً عسيراً حتى يكون حسابه يوم القيامة حساباً يسيراً.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه تبعه أنس بن مالك يوماً وقد دخل بستاناً من البساتين فتبعه فسمعه يقول: عمر أمير المؤمنين، بَخٍ بَخٍ وَاللَّهِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ الله.
المحاسبة أيها الأخوة مهمة جداً، التاجر يعلم أنه إن لم يجرِ محاسبة دورية فإن التجارة خاسرة لابد من المحاسبة، فأولى بنا أن نحاسب أنفسنا، هل قُلت كلاماً لا يرضي الله؟ هل تركتُ صلاةً؟ هل تركتُ عملاً صالحاً؟ هل نظرتُ نظرةً لا ترضي الله؟ لابد من محاسبةٍ مستمرة.
لا بد من محاسبة النفس
إذاً ثلاثة عوامل أيها الإخوة:
1. التقرب إلى الله بالأعمال وبالأفعال الظاهرة والباطنة من أعمال القلوب والجوارح، كل ما يقربك إلى الله.
2. ثم أن تجاهد نفسك على تطبيق الحق.
3. وأن تحاسبها على ترك شيءٍ من الأشياء التي ترقى بها وتبنيها بناءً صحيحاً.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واستغفروا الله.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصرنا على أعدائنا، اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر أخواننا المرابطين في المسجد الأقصى وفي القدس الشريف على أعدائك وأعدائهم يارب العالمين، اللهم فرج عن أخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبلاً يا أكرم الأكرمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.