الظواهر الكونية من وجهة نظر شرعية

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-02-13
  • عمان
  • الأردن

الظواهر الكونية من وجهة نظر شرعية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وعملاً متقبلاً يارب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.


الظواهر الكونية من الرؤية الدينية:
الزلزال المدمِّر الذي ضرب تركيا وسورية
وبعد: فما زال الحدث الأبرز في الأيام الأخيرة هو ذاك الزلزال المدمِّر الذي ضرب أجزاء من تركيا وسورية، وهذا الحدث على ما فيه من مآسٍ شديدة إلا أنّ فيه أيضاً من رحمات الله تعالى ولطفه الشيء الكثير، وعند حدوث أي ظاهرة كونية تكثر أسئلة الناس حول هذه الظاهرة، ويكثر الأخذ والرد، ويكثر القيل والقال، ولا بد دائماً للخطاب الديني أن يتناول هذه الظواهر الكونية من وجهة نظر شرعية؛ لأنها الوجهة الوحيدة التي تأتي متكاملة غير منقوصة، فلا بد أن نضيء على هذه الأحداث الأخيرة من منظورٍ إيمانيٍّ، وقبل كل شيء، ولأن كثيراً من الإخوة يتابعوننا عبر وسائل التواصل فلا بد أن نعزي كل مَن فقدَ قريباً، أو حبيباً، أو أخاً، أو صديقاً، أو أي أحدٍ من المسلمين في هذه الكارثة.

صاحب الهدم شهيد:
وعزاؤنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:

{ الشُّهَدَاءُ خَمسَةٌ: المَطعُونُ، وَالمبْطُونُ، والغَرِيقُ، وَصَاحبُ الهَدْم وَالشَّهيدُ في سبيل اللَّه }

( متفقٌ عليهِ)

وصاحب الهدم هو من سقط جدار فوقه وتهدم فوقه، فمات على إثر ذلك، والزلازل كل من مات فيها من أصحاب الهدم، ونحسب من قضى فيها من إخواننا المسلمين الموحّدين نحسبهم -إن شاء الله- عند الله تعالى من الشهداء، ويكفي في ذلك العزاء ما يخفف المصاب.

المؤمنون كالجسد الواحد:
وأيضاً لأننا مسلمون، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى. }

(متفق عليه)

فقد آلمنا جميعاً ذلك المُصاب وكأنه مصابنا، بل هو في حقيقة الأمر مصابنا؛ لأن مصاب أيّ مسلمٍ مُصابٌ للمسلمين جميعاً، هكذا هي أمة الإسلام، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر قوماً وامتدحهم فقال:

{ إنَّ الأشعريين إذا أرمَلُوا في الغَزْوِ، أو قَلَّ طعامُ عِيالِهم بالمدينةِ، جَمَعُوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثم اقتَسَمُوه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسَّوِيَّةِ، فَهُم مِنِّي وأنا مِنهُم. }

(متفق عليه)

وهذه أعظم شهادةٍ لمن يواسي إخوانه، ويقف معهم، سواء كان ذلك بمالٍ، أو بموقفٍ، أو بدعاءٍ، أو بكلمة، أو بجَهدٍ، كل إنسان بما يستطيعه:

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (258)
(سورة البقرة)

وأقل الجهد، وأضعف الإيمان هو أن نجمع الآلام في إناءٍ واحدٍ ونتقاسمها بيننا بالسَّوية، فلا يصح ولا يُقبَل أن يعيش بعض الناس في هذه الأيام أفراحاً لا سيما بما يسمّى أعياد، وهي لا تنتمي إلى ديننا بشيء، ويقيمون الحفلات، ويقيمون النزهات، وفي رُدهات الفنادق وتكلف ما تكلف، وإخواننا يعانون ما يعانون، فلا بد أن نتضافر، وأن نتعاون في هذه المحنة، ولا أقول أقل فهو شيء عظيم جداً أن تتوجه القلوب إلى الله تعالى بالدعاء بالرحمات، والمغفرة لمن قضى في هذا الحدث، وأن تتوجه القلوب أيضاً إلى الله تعالى بالشفاء والعافية للجرحى والمصابين، وبالصبر والسلوان لمن فقد أخاً، أو حبيباً، أو قريباً.

هل الزلزال عقوبة للمؤمنين؟
المسلم إذا أصابته مصيبة فإنه يتهم نفسه بالتقصير
الأمر الثاني أيها الأحباب، ما برز على الساحة من الأيام الأولى لوقوع هذا الزلزال خطابٌ ليس من الدين، أو ليس من الحكمة في شيء إذ سمعنا كثيراً من الناس بدؤوا يتداولون مقاطع مفادها أن هذا الزلزال إنما وقع عقوبةً من الله تعالى لإخواننا المسلمين الذين أصابهم هذا الأمر، وهؤلاء من هم؟ هم أهلونا وأحبابنا، كثيرٌ منهم من طلاب العلم الشرعي، عهدناهم في المساجد، وعهدناهم في دُور العلم، وعهدناهم في الأعمال الصالحة، كثير منهم، ولو صدق قول من قال بهذا الإطلاق إن الزلزال عقوبة من الله لهؤلاء لكان هناك كثير ممن ينبغي أن يُعاقَبوا في دول أخرى أكثر من هؤلاء، فهذا الإطلاق، وتلك التعميمات، وتلك الإسقاطات ليست صحيحة شرعاً، وليست من الحكمة في شيء، لا الإطلاق صحيح، ولا التعميم صحيح، ولا الإسقاط صحيح، نعم إن الله تعالى قد يجري بعض الظواهر الكونية عقوبة لبعض عباده، ولكن أن أتولى أنا، أو تتولى أنت، أو يتولى أكبر شيخ في العالم إسقاطها على قومٍ بعينهم فهذا جهلٌ لا يصح، وأن نعمم فنقول: كلّ مَن أصابه هذا الحدث فهو مِن شيءٍ وقع من يده، وهو مصيبةٌ جرت عليه بما اقترفت يداه، فهذا من سوء الظن بالمسلمين، فلا الإطلاق صحيح، ولا التعميم صحيح، ولا الإسقاط بهذا الشكل صحيح، وليس من الحكمة في شيء، بل إن المسلم شأنه أنه إذا أصابته مصيبة فإنه يتهم نفسه بالتقصير، لكن إذا أصابت المصيبة أخاً من إخوانه، فإنه يحسن الظن به ويقول: لعل ما جرى معه إنما كان رَفعاً لدرجاته، ولعل ما جرى معه إنما هو لامتحان صبره وقدرته، وليرى الله منه ما رأى، وليعلم الله منه ما علم من شدة تحمّله وصبره، ورضاه بقضاء الله وقدره، فالمؤمن الحق يسيء الظن بنفسه، ويحسن الظن بإخوانه، وأما الجاهل فإنه يحسن الظن بنفسه، فإن وقع معه مكروهٌ قال: هذا رفع لدرجاتي، وإن وقع مع إخوانه مكروه قال هذا بسبب ما اقترفت يداكم، فليس هذا من الحكمة في شيء، وليس من الدين في شيء، ليس وقته أن يُتكلَّم به، وليس من الحكمة في شيء.

الآيات يرسلها الله تعالى تخويفاً لعباده:
فهل الزلزال عقاب إلهي فعلاً؟ الحقيقة أن الآيات التي يرسلها الله تعالى لعباده ليست عقاباً بالمطلق لقوله تعالى:

وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا(59)
(سورة الإسراء)

وهذه "مَا" مع "إِلَّا" تفيد الحصر، وكأن الله تعالى يقول: كل آيةٍ نرسلها من الآيات فهدفها التخويف، لأن الله تعالى يخوّف عباده:

لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ۚ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ(16)
(سورة الزمر)

نحن مطلوبون لرحمة الله تعالى، مطلوبون للجنة:

إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)
(سورة هود)

الرب يربي عباده
لأننا مطلوبون للرحمة فإن الله تعالى يخوّفنا، ويرغّبنا ويرهّبنا ويطمّعنا، بل يربّينا، هذا معنى الرب، الرب يربي عباده، لماذا نقول: فلان رب الأسرة؟ لأنه يقوم على تربيتها، والتربية ليست للأجساد فقط، فلو كان الأب يطعم أولاده، ويكسوهم، ويذهب بهم إلى النزهات، ثم إذا أساء أحدهم تركه وإساءته، وإذا أحسن تركه وإحسانه، فلم يكافئ على إحسان، ولم يعاقب على إساءة فهو ليس مربٍّ، المربي فوق أنه يربي الأجساد فإنه يربي النفوس، والله تعالى هو الرب، يربي عباده، فمن تربيته لهم أنه يرسل بالآيات فيخوّف بها عباده، كلنا نصحو وننام ولا يخطر ببالنا أن السقف الذي فوقنا سيهوي علينا، كلنا نصحو وننام ولا نتخيل أننا سنستيقظ صباحاً فلا نجد ولداً من أولادنا، كلنا نصحو وننام ولا نتخيل أن الأرض التي جعلها الله قراراً ستمور من تحتنا، هذا واقعنا، لكن الله تعالى عندما أرسل الآية تلك جعل كلٌّ منا يتحسّس نِعَم الله تعالى عليه، ويدركها أكثر وأكثر، فيعظّم الله تعالى ويخافه ويحبه، هذا ما ينبغي أن يحصل معنا كأثر نفسي من الزلزال.
هذا الزلزال يخوّفنا الله تعالى به، مَن قضى قضى إلى الله، نحسبهم من الشهداء، من قضى قضى إلى ربه، وهو أرحم بهم منا، لكن نحن ما موقفنا؟ نحن هذه الآيات تخويف لنا من أجل أن نتلمّس مواطن تقصيرنا فنتداركها، ونتلمّس ضعفنا فنشعر بافتقارنا إلى خالقنا، فالزلزال لم يأتِ ليُريَنا حجمه، وإنما جاء ليُريَنا حجمنا نحن، من نحن أمام عظمة الله تعالى؟
هذه الأرض تدور في كل ثانية ثلاثين كيلو متراً تقريباً، ولا نشعر بها، قال تعالى:

أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
(سورة النحل)

تدور بسرعات كبيرة ولا نشعر بها أبداً؛ لأن الله جعلها قراراً، لكن لو شاء الله تعالى جعلها تمور

أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
(سورة الملك)

قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65)
(سورة الأنعام)

نشعر بقدرة الله تعالى، ونشعر بضعفنا الشديد فنلتجئ إليه، فيتحقق التخويف بالآيات.

أكبر خاسر في الزلزال:
لكن بعض الناس وصفهم تعالى فقال:

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ۚ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ۚ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
(سورة الإسراء)

هؤلاء الذين خسروا في الزلزال، أكبر خاسرٍ في الزلزال هو الذي لم يزده هذا التخويف إلا طغياناً، فما انتبه، ولا ارعوى، ولا التفت إلى ربه، ولا عاد إليه، ولا اصطلح معه، ولا شعر بنِعَم الله تعالى عليه، هذا هو الخاسر الأكبر في الزلزال، ليس الذين قضوا هم الخاسرون؛ الخاسر هو الذي خسر نفسه حينما لم يتّعظ بآيات الله تعالى.

اختلاف المظاهر الكونية هو نذير عظيم من نذر الله تعالى:
اختلاف المظاهر الكونية هو نذير عظيم
الكون أيها الأحباب يسير وفق نظام، نحن كل يوم نصحو ونعلم أن الشمس ستشرق من مشرقها، وعند الغروب ستغرب من مغربها، ندرك ذلك، وألِفنا النِّعمة، تمشي الأرض بنا وألفنا النعمة، نتنفس الهواء وألفنا النعمة، عندنا مرض اسمه "إِلفُ النعمة" أَلِفنَا نِعَم الله تعالى علينا، فما عدنا ننتبه لأهميتها، يوم القيامة عندما تُزلزَل الأرض، وتنفطر السماء، وتنشق السماء، وتُكوَّر الشمس، وتُّسجَّر البحار، اختلاف المظاهر الكونية هو نذير عظيم من نذر الله تعالى، في هذا المعنى يقول صلى الله عليه وسلم يوم كُسِفت الشمس على عهده، نحن في الساعة الثانية عشر ظهراً الشمس ساطعة في رابعة النهار، لكن لو الساعة الثانية عشر ظهراً والشمس كأنه وقت الغروب، إذاً هناك شيء يستدعي النظر.
سابقاً كانوا يقولون- لأن الإنسان دائماً يبحث عن تفسيرات لما يجري، يقول لك لماذا جرى ذلك؟- سابقاً كانوا يفسرون ذلك بأن الشمس كُسِفت لموت فلان، أو لحياة فلان، ينظرون من وُلِد في هذا اليوم، أو قبل يوم، أو سيُولَد بعد يوم، فيقولون هذه الشمس كُسفت لأجل ولادته، فإذا كان قد مات عظيمٌ من عظمائهم يقولون: إنما كُسِفَت لأجل موته، يبحثون عن ربط أرضي للأحداث حتى يفهموها وفق معطياتهم، أراد الله أن تُكسَف الشمس في يوم وفاة ابن نبينا صلى الله عليه وسلم، فجعل الناس يتناقلون هذا الخبر، ويقول قائلهم: هذا لكرامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الله، كُسفت الشمس لموت ابنه، فانتصر النبي -صلى الله عليه وسلم- للتوحيد، لم يترك المسألة يوماً ولا يومين، ولم يقل في نفسه- حاشاه صلى الله عليه وسلم- دعهم فليفكروا بذلك لعله يكون أدعى إلى إيمانهم بالله، فانتصر للتوحيد، فقام وقال:

{ إنَّ الشَّمْسَ والْقَمَرَ آيَتانِ مِن آياتِ اللهِ، يُخَوِّفُ اللَّهُ بهِما عِبادَهُ، وإنَّهُما لا يَنْكَسِفانِ لِمَوْتِ أحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فإذا رَأَيْتُمْ مِنْها شيئًا فَصَلُّوا، وادْعُوا اللَّهَ حتَّى يُكْشَفَ ما بكُمْ. }

(صحيح مسلم)

أي يخوّف بهما عباده عند الاختلال، عند اختلال النظام الكوني يخاف العباد؛ لأنهم تعوّدوا أن الشمس لا تُكسَف، فيوم كُسِفت خافوا، قال: (وإنَّهُما لا يَنْكَسِفانِ لِمَوْتِ أحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فإذا رَأَيْتُمْ مِنْها شيئًا فَصَلُّوا، وادْعُوا).
إذاً: الموقف السليم عند رؤية شيء من آيات الله أن نتجه إلى الصلة باللَّهَ والدعاء، يعني العودة إلى الله (حتَّى يُكْشَفَ ما بكُمْ).

العلاقة بين التفسير العلمي للظواهر الكونية والتفسير الشرعي:
الله تعالى هو الذي يملك السماء والأرض
الآن أيها الكرام، ما العلاقة بين التفسير العلمي للظواهر الكونية والتفسير الشرعي؟ لعل قائلاً يسمع فيقول: هناك تأويل علمي واضح للموضوع، اليوم الزلزال هو اهتزازٌ مفاجئٌ وسريعٌ للأرض بسبب تحرك له علاقة بطبيعة الصخور، أو طبقة الصخور، أو بسبب نشاط بركاني، أو نشاط آخر فتتحرك الصخور، فهمنا الزلزال وانتهى الأمر، ليس هناك تناقضٌ بين التفسير العلمي والتفسير الشرعي؛ لأن الأرض يحرّكها الله، هو الفعال جل جلاله، لكنه جعل لكل شيء سبباً، فالله تعالى هو الذي يشفي، ولكنه جعل من أسباب الشفاء أن تتناول الأدوية، فلا نقول: إن الدواء هو الذي يشفي، وإنما الله هو الذي يشفي، والله تعالى جل جلاله هو الذي يملك السماء والأرض، ويملك الأرض بما فيها، وأن يجعلها قراراً، أو أن يجعلها تميد، قال الله تعالى:

وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
(سورة النحل)

يعني لِئَلّا تضطّرب بكم جعل فيها هذه الرواسي، الجبل نرى ثلثه، بينما ثلثاه كما تعلمون تحت الأرض، فهو كالوتد تماماً يثبّت الأرض، لكن كل مئة عام، كل خمسين عام في مكانٍ ما من الأرض تضطرب الأرض رغم هذه الجبال وتلك الرواسي، فالله تعالى عندما يفعل ذلك هو الذي يفعل جل جلاله، فإن قلت: إنه تحرُّكٌ في طبقات الأرض فما أخطأت، لكن من الذي حرّك طبقات الأرض؟ الله جل جلاله، فليس هناك من تناقضٍ بين تفسيرٍ علميٍّ وشرعيٍّ؛ لأن الله تعالى هو الذي يملك كل شيء في السماوات وفي الأرض جل جلاله.

لماذا وقع الزلزال؟
كلّ ما سِوى الله ممكن
الأمر الآخر أيها الكرام، بعض الناس يسألون لماذا حدث هذا الزلزال؟ ألم يكن بالإمكان أن نتلافى كل هذه الخسائر، وتلك الدموع، وتلك الآهات، وتلك المشكلات، وما نتج عنه من بعض الأطفال بلا آباء، وآباء بلا أطفال، وغير ذلك.. ألا يمكن ألا يقع ذلك؟ طبعاً يمكن؛ لأن كلّ ما سِوى الله ممكن، يمكن أن يقع أو ألّا يقع، أنا ممكن الوجود، كان يمكن ألا أكون، لكن الله شاء لي فكنت، وشاء لي أن كنت على هذه الصورة، ولو شاء لكنت على خلافها، هذا معنى الممكن، الممكن: يمكن أن يكون، أو لا يكون، فإذا كان يمكن أن يكون على ما كان عليه، أو على خلاف ما هو كائن عليه، وليس هناك واجب الوجود إلا الله.
كلنا ممكنو الوجود، فإذاً كان من الممكن ألّا يقع الزلزال؟ طبعاً كان من الممكن ألّا يقع، فلماذا وقع؟
الجواب الأول الذي يكفي معظم المؤمنين أن تقرأ عليه قوله تعالى:

لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
(سورة الأنبياء)

لا يُسأل لأنه الخالق، الإله المالك جل جلاله، لا يُسأل لأنه الحكيم، الخبير، العليم، لا يُسأل لأنه اللطيف، لا يُسأل لأنه صاحب الأسماء الحسنى، والصفات العلا، فهو لا يُسأل جل جلاله عن فعله، المالك لا يُسأل عما يتصرف في ملكه.

الله ملك الأشياء خلقاً وتصرفاً ومصيراً:
وقد يقول لي أحدكم: لكن أنا مالك وأُسأَل أحياناً، ولا أستطيع التصرف الكامل في مُلكي؛ لأنك لست مالكاً على الحقيقة، ولا أنا مالكٌ على الحقيقة، لأنني وما أملكه مُلكٌ لله تعالى، فعندما أقول هذا البيت مُلكٌ لي، كان بعض العرب يتأدّبون فإن قيل له لمن هذا الغنم؟ يقول: لله في يدي، هو في يدي، يدي عليه يد أمانة ليست يد مُلك، فنحن أيها الكرام في حقيقة الأمر لسنا مالكين؛ لأننا لم نخلق، ولا نملك التصرف الكامل، ومصير ما نملكه ليس إلينا، بل هو للورثة، أو لمن يأتي بعدنا، فملكنا ليس حقيقياً حتى نتصرف به كما نريد، لكنه مَلكَ الأشياء جل جلاله خلقاً وتصرفاً ومصيراً، يرث الأرض وما عليها، فهو لا يُسأل عمل يفعل جل جلاله، والمؤمن تكفيه هذه الآية، أن يقول: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ).

قصر عقل الإنسان عن فهم الحكمة من أمر الله:
العلم يعطي الحكمة
لكن مزيد من الإيضاح بما وردت به السنة، وبما جاء في القرآن الكريم، إن الله تعالى له من الحِكَم فيما يجري الكثير، نفهم بعض الحِكم، ويغيب عنا كثيرٌ منها، أولاً: لأننا لا نملك علماً كعلم الله، فلا يمكن أن نفهم الحكمة كاملة، أنت إذا ذهبت إلى الطبيب، وعندك ضغط مرتفع فمنعك عن مجموعة من الأطعمة، وأمرك بمجموعة من الأدوية، هذه الحكمة من الطبيب، ألا يُسمّون الطبيب حكيماً؟ هذه التسمية الشائعة، لأن الطبيب حكيم، يعني يتصرف بحكمة، حتى بحكمة في التعامل مع المريض وليس فقط في الأدوية، فيقول هذه وصفة تعلمها الطبيب في وصف الأدوية، ومنعه من صعود الدرج، وتخفيف الملح، وغير ذلك من التعليمات التي يعطيها الطبيب، هذه الحكمة في وصفته نابعةٌ من علمه، هذا العلم يحتاج إلى عشر سنوات من الدراسة أمضاها خلف الكتب، وفي المؤتمرات، نتج عنها تلك الوصفة الطبيّة الحكيمة، فلو أردت أن تفهم الحكمة من الوصفة فإنك تحتاج إلى عشر سنوات من الدراسة، وإلا تستسلم للطبيب وتقول له: جزاك الله خيراً، وسألتزم بما وصفت لي. أنا مهندس، ولي مكانة كبيرة في الهندسة، ولكني في الطب لا أفقه شيئاً، الطبيب يمسك الورقة التي عليها بعض الخطوط المتعرجة فيفهمها، وأنا أفهمها عبارة عن خطوط أظنها بثاً إذاعياً! وهو يعلم أنّ القلب فيه مشكلة من نظرة واحدة، هذا مبني على علم، فالعلم يعطي الحكمة، فالله تعالى تصرّفاته حكيمة، لكن كيف أفهم الحكمة منها؟ أحتاج علماً كعلمه، هل يمكن أن أعلم علماً كعلم الله؟ مستحيل، إذاً أستسلم، هذا أول ما يقال من الحكم، فالحِكَم كثيرة، لكن علمنا قاصرٌ عن فهم الكثير منها.
الله تعالى من حِكَمه في آياته التي يخوّف بها عباده؛ أنه يرفع درجات أقوام، ويكفّر سيئات أقوام، ويظهر لطفه ورحمته في مواقف عديدة.

صور من صبر وثبات المؤمنين في هذه المحنة:
أيها الكرام، نحن رأينا وأنتم رأيتم على الشاشات من صور الصبر والثبات الذي أبداه المسلمون في هذه المحنة ما عجزنا عن مجرد إدراكه
• فكيف لمسنٍّ تحت الأنقاض يسأل عن طريقة ليؤدّي بها الصلاة!
• وكيف لفتاةٍ لم تجاوز العاشرة من عمرها تخرج من تحت الأنقاض لتقول: أنا لم أصلِّ طوال هذا اليوم!
• وكيف لأخرى لا تريد أن تخرج حتى يعطوها ما تستر به رأسها؛ لأنها تريد أن تتحجب، ولا تخرج أمام الرجال بغير حجاب، هذه الصور رأيناها بأمّ أعيننا.
• رأينا الذين يخرجون من تحت الأنقاض وهم يقرؤون القرآن، ورأينا الذين يخرجون من تحت الأنقاض وهم يقولون: الحمد لله، الحمد لله على كل حال.
• وسمعنا هذا الطفل الذي أعطى درساً للإنسانية وهو على دراجته الهوائية، وهو يقول: ماتت أختي هكذا أراد الله -عز وجل-، والثانية خرجت لأن الله لم يرد لها أن تموت، فجاءت إلى الغرفة الثانية فلم يقع الحدث، إيمان عجيب!

في الأمة خير عظيم:
ورأينا من هذه الصور شيئاً فعلاً يلفت الأنظار من الرضا، من لطف الله ورضاه جل جلاله، ورضا الناس عن قضائه وقدره، لكن من المؤسف أنك تسمع أحياناً من بعض المسلمين الذين لم يمسّهم شيء من هذا العذاب: لماذا حدث ذلك؟ وعنده بعض سوء ظنٍّ بالله -عز وجل، يا أخي مَن أصابهم الحدث كثيرٌ منهم ما أساؤوا الظن بربهم.
حُسنُ الظن بالله ثمن الجنة
حسب استقصائي الشخصي لأنني تواصلت مع الكثير، والله ما سمعت من الناجين الذين فقدوا أعزّ أصحابهم إلّا كلّ رضا، وكل حمد لله تعالى، حتى عظمت هذه الأمة في عيني، أحياناً في لحظات الضعف والانكسار التي مرت بها أمتنا نيأس، أو نُحبَط من الأمة، فتأتي هذه المصائب على أنها فطّرت قلوبنا، تأتي لتبين أن الأمة فيها خير عظيم، فيها رضا عن الله -عز وجل-.
أحبابنا الكرام، حُسنُ الظن بالله ثمن الجنة، فإيانا أن نسيء الظن بربنا، حاشانا أن نسيء الظن بربنا، إن شاء الله نحن مؤمنون، ما جرى جرى بحكمة الله، وجرى بلطف الله، وجرى بعفو الله، وجرى بقدر الله تعالى، ومن قضى فيه قضى إلى الله، ومن بقي لعل الله -عز وجل- كتب له حياة؛ ليزداد عملاً، ويزداد قبولاً، ويزداد رِفعةً عند الله تعالى.

هذا الزلزال ليس عقاباً من الله:
فأيها الأحباب الكرام، إذاً نحن لا نقول: إن هذا الزلزال عقاب من الله تعالى، طائرة متجهة إلى بلد ما من البلاد، ركب عليها مئة راكب، راكبٌ من هؤلاء الركاب ركب فيها وقد وضع في جيبه مبلغاً مالياً كبيراً، وترك زوجته في بلده، وقد أزمع أن يصل إلى هذا البلد ليشرب الخمور-والعياذ بالله- ويقوم بالزنا وغير ذلك، وطالب علمٍ في هذه الطائرة ركب يريد أن يصل إلى تلك البلاد فيقصد عالماً من علماء الحديث فيقرأ عليه كتاباً من الكتب، وثالث خرج تاجراً يريد أن يشتري بضاعة فيبيعها فينفع بها أسرته، ويقوّي بها المسلمين، ورابعٌ، وخامسٌ وسادسٌ، وفي الطريق شاء الله تعالى أن تسقط الطائرة، وغالباً أخبار الطائرة للأسف: ومات جميع ركابها، وسقطت الطائرة، فجاء جاهلٌ وقال: هؤلاء عاقبهم الله تعالى بسقوط الطائرة، لا، هذا ليس صحيحاً، نعم ربما عاقب الله أحدهم، لكن هذا التعميم ليس صحيحاً، هناك شهيد في سبيل الله ذهب ليدرس، وهناك من خرج على أهله وعياله فهو أيضاً نحتسبه من الشهداء، وهناك عاصٍ لله تعالى لعل الله -عز وجل- نقول منع عنه هذه المعصية، ويكفّر عنه تلك الخطيئة بهذا العقاب، وربما يُعاقَب البعض، ولكن لا نقول: إن ذلك عقاب من الله تعالى، ولا نتألّى على الله، وإنما نحسن الظن بإخواننا، ونواسيهم بالكلمات الطيبة ونقول: هذا بإذن الله تعالى رفعٌ لدرجاتكم عند الله، وتكفيرٌ لسيئاتكم، ونحتسب من قضى منكم من الشهداء، ونواسي من بقي منكم، ونسأل الله تعالى أن يرفع الغمة عن هذه الأمة.

فلسفة البلاء في الإسلام:
يقول صلى الله عليه وسلم:

{ إن العبد إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ لم يبلغهَا بعملهِ ابتلاهُ اللهٌ في جسدِهِ أو في مالهِ أو في ولدِهِ ثم صبَّرهُ على ذلكَ حتى يبلغهُ المنزلة التي سبقتْ لهُ من اللهِ تعالى. }

(صحيح أبي داوود)

يعني ربنا -عز وجل- أراد له أن يكون في المرتبة العالية، وعمله لا يؤهّله لوصولها، (لم يبلغهَا بعملهِ) قال: (ابتلاهُ اللهٌ في جسدِهِ أو في مالهِ أو في ولدِهِ ثم صبَّرهُ على ذلكَ حتى يبلغهُ المنزلة التي سبقتْ لهُ من اللهِ تعالى). يريده الله تعالى في المرتبة 10 وعمله يهيئه للمرتبة 8، يأتي البلاء فيصبر فيصل إلى العاشرة، هذه فلسفة البلاء في الإسلام.
الدنيا هي محطة جئنا إليها زوّاراً
أيضاً إخواننا الأحباب، من الأمور التي تجعلنا نفهم الحكمة من المصائب عموماً، ومن الزلازل ومن القتل ومما يجري في ديار المسلمين، وغير ديار المسلمين، أن نفهم دائماً أن الدنيا ليست مبلغ الآمال، وليست محطّ الرّحال، وليست النهاية أبداً، نحن مؤمنون، نؤمن أن الدنيا هي محطة جئنا إليها زوّاراً، وسنغادرها تِباعاً، والملتقى عند الله، وهناك دارنا في جنةٍ يدوم نعيمها إن شاء الله، وهناك دار من طغى وبغى، ونسي المبتدى والمنتهى في نار لا ينفد عذابها- أجارنا الله وإياكم منها- فنحن جئنا إلى الدنيا زواراً وسنغادرها تباعاً، وسنلتقي هناك، فعندما نفهم ذلك يمكن أن نفهم عندها أن هذه الابتلاءات ليست شيئاً على عِظَمها أمام ما عند الله تعالى من نعيم؛ لأن الدنيا أخذت من الآخرة كما يأخذ المِخيَط إذا غُمس في مياه البحر، فانظر بمَ ترجع؟ البحر هو الآخرة، ومخيطك الذي غمسته في الماء فعلق منه شيءٌ لا يكاد يُذكر من ماء البحر هو الدنيا، فأين الدنيا من الآخرة! يقول صلى الله عليه وسلم:

{ يُؤْتَى بأَنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيا مِن أهْلِ النَّارِ يَومَ القِيامَةِ، فيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ويُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ. }

(صحيح مسلم)

أكثر رجلاً تنعّم في الدنيا، أموال، بيوت، قصور، أنعمُ أهل الدنيا، لا مرضَ في جسده ولا سُقم، المال كثير، والعافية بأهله وولده، لا مشكلة عنده (يُؤْتَى بأَنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيا مِن أهْلِ النَّارِ يَومَ القِيامَةِ)، استحق النار (فيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقالُ: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ) ينسى نعيمَ الدنيا كله في أقل من ثانية (ويُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا مِن أهْلِ الجَنَّةِ) استحق الجنة، وكان في الدنيا ينظر إليه الناس على أنه من البائسين؛ ماله قليل، ابتُلي في ولده، ابتُلي في صحته، وقع عليه السقف، زلزال، قتل...إلخ، قال: (فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ). هذه فلسفة الدنيا أمام الآخرة.

{ يوَدُّ أهلُ العافيةِ يومَ القيامةِ حينَ يُعطَى أهلُ البلاءِ الثَّوابَ لو أنَّ جُلودَهم كانت قُرِضَت في الدُّنيا بمقاريضَ. }

(رواه الترمذي)

الذين عافاهم الله، ما أصابهم شيء، ونحن جميعاً بالمناسبة نطلب العافية من الله، هذا موقفنا، نحن نقول: يارب عافيتك أوسع لنا، لكن نُوطِّن أنفسنا أن نُبتَلى، لأن هذه حقيقة في الدنيا(يوَدُّ أهلُ العافيةِ يومَ القيامةِ حينَ يُعطَى أهلُ البلاءِ الثَّوابَ لو أنَّ جُلودَهم كانت قُرِضَت في الدُّنيا بمقاريضَ). التي تقرض الجلود، تخيّل ما أصعب ذلك أن تُقرَض الجلود بالمقاريض، والإحساس كله في الجلد، قال تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
(سورة النساء)

فالجلود هي موطن الألم، لذلك تُبدَّل يوم القيامة، الإحساس في الجلد، فيوم يرى أهل العافية ما أعد الله تعالى لأهل البلاء، يود أحدهم، يا ليتني ابتليت في الدنيا وأخذت هذا الثواب العظيم، لأنه يرى عظمة هذا الثواب.

عظمة إيماننا أن نؤمن بالغيب:
ديننا غيب، كنت أقول وما زلت أكرر، وهذا أمر مهم أن نستحضره دائماً في كل لقاء، ديننا غيب، وإيماننا غيب، وعظمة إيماننا أننا نؤمن بالغيب، ونؤمن بأن هذه الدنيا زائلة، وأن الله تعالى أعد لعباده الصالحين:

{ أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. }

(صحيح البخاري)

وأن كل ما في الدنيا لا يعدل عند الله تعالى جناح بعوضة، وأننا زوّارٌ في هذه الدنيا سنغادرها تباعاً، ونفِدُ على الله تعالى جميعاً، وننسى ما في الدنيا إن شاء الله من آلام وأحزان؛ لأن المقام هناك مقام جزاء، بينما مقام الدنيا مقام كدحٍ وعملٍ:

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ(6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(7 (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14)بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
(سورة الانشقاق)

إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ أي أن لن يرجع إلى ربه.

من علامة إيمان المؤمن أن يتألم لما حلّ بإخوانه:
أحبابنا الكرام، ما جرى من هذا الزلزال حدثٌ مؤسفٌ، ومؤلم، والمؤمن من علامة إيمانه أنه يتألم لِمَا حلّ بإخوانه، والله تعالى ابتلاهم فصبروا، وابتلانا فأحسنّا الظنّ بخالقنا، ومددنا يد العون لمن أصابهم ذلك كلٌّ بقدر طاقته، ولو بمواساةٍ، أو دعاءٍ، أو كلمةٍ طيبةٍ، أو مالٍ، أو جاهٍ، أو قوةٍ، كلٌّ بما يستطيعه، وأظهر الله تعالى لهذه الأمة من التراحم والخير الكثير ما أظهره.

الابتلاءات تطهير ورفع درجات للمؤمن:
ما أصاب المسلمين في الشام في السنوات الأخيرة
آخر شيء أحبابنا الكرام، ما أصاب أهل الشام، والأردن من الشام جغرافياً، ولكن مدينة دمشق لها في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم نصيب إضافي، لكن الشام جغرافياً تلك الأرض المباركة في فلسطين وما حولها من أرض الشام، لكن ما أصاب المسلمين في الشام اصطلاحاً، يعني أرض سورية كان قاسياً في السنوات العشر الأخيرة، ثم جاءهم هذا الزلزال في كثيرٍ من أراضيهم، والله تعالى يقول:

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214)
(سورة البقرة)

وقد مسّت البأساء أهلنا والضراء؛ الفقر والضرر في الجسم، والجسد، والمال، ثم تبعها هذا الزلزال، (حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) فلعل نصر الله قد اقترب، هذا إيماننا بالله، وهذه الأرض لأنها أرض مباركة، طاهرة، طيبة، فإن الله تعالى امتحنها بامتحانات كثيرة، والله تعالى يبتلي عباده بما يشاء.

{ إذا أحبَّ اللهُ تعالَى عبدًا ابتلاه فإن صبَر اجتباه فإن رَضِيَ اصطفاه . }

( تخريج الإحياء للعراقي وهوضعيف)

{ قلتُ يا رسولَ اللهِ أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً قالَ الأَنبياءُ ثمَّ الأَمثلُ فالأَمثلُ؛ يُبتلَى الرَّجلُ علَى حسَبِ دينِهِ، فإن كانَ في دينِهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ علَى قدرِ دينِهِ، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي علَى الأرضِ وما علَيهِ خطيئةٌ. }

(سنن الترمذي)

فهذه الابتلاءات إن شاء الله هي تطهير، ورفع للدرجات، وتكفير للسيئات، ولعل بعدها في القريب العاجل ما يكون فيه رِفعةٌ وعزة للمسلمين، لا سيما ما رأينا من صور الثبات والصمود، وهذا الجيل المؤمن الذي نحسب إن شاء الله أنه الجيل القادم جيل التمكين الذي يمكّن الله تعالى لأمة الإسلام به.

الدعاء:
أسأل الله تعالى أن يرحم من قضى في هذا الزلزال، اللهم اربط على قلوب أهليهم، اللهم صبّر أحبابهم، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، اللهم اجعل هذا الحدث كفارة لسيئاتهم، ورفعاً لدرجاتهم، اللهم اجعلهم عندك في عليّين، اللهم من قضى إليك فاجعل قبره روضة من رياض الجنة، اللهم مُدّ له في قبره مَدّ بصره، وجافِ الأرض عن جنبيه، اللهم اجعلهم عندك من الشهداء يا أكرم الأكرمين، نحتسبهم عندك من الشهداء، اللهم صبّر أحبابهم، يمّن كتابهم، يسّر حسابهم، واجعل الملائكة الكرام زوّارهم، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين.
والحمد لله رب العالمين.