تربية الأبناء بالدعاء

  • إذاعة القرآن الكريم - برنامج آفاق أسرية
  • 2025-08-09
  • الأردن - عمان

تربية الأبناء بالدعاء

المُحاوِرة ولاء أبو خضير:
بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية مليئة بالسعادة والتفاؤل والحُبّ للرسول صلى الله عليه وسلم.
نسعد بلقائكم ونُطِل عليكم في هذا اللقاء الجديد من برنامجكم آفاقٌ أُسرية، والذي يُذاع عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، وإذاعة عمَّانFM ، هذا اللقاء الأسبوعي الذي نسعى من خلاله أن نُقدِّم لكم النفع والفائدة في دروب الحياة والتربية، فأهلاً ومرحباً بكم.

مقدمة:
مُستمعينا الكرام يقول تعالى في كتابه العزيز:

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46)
(سورة الكهف)

صدق الله العظيم.
فالأبناء هُم زينة العُمر وفرحة القلب، وقد أوصانا الله عزَّ وجل أن نحفظ هذه النعمة، لا بالحفاظ الجسدي فقط بل بالحفاظ التربوي، والديني، والخُلقي، وإنَّ من أعظم ما يُحفَظ به الأبناء، ويُهذِّب سلوكهم، ويُقوِّم اعوجاجهم، ويُثبّتهم على الطاعة هو الدعاء، فالدعاء من أعظم العبادات نفعاً وأثراً في حياة المسلم عموماً، وفي صلاح الأبناء خصوصاً، وهو طريقٌ بين العبد وربِّه، لا يُردُّ طارقه ولا يخيب راجيه، والمسلم مأمورٌ بأن يُكثِر من الدعاء، وأن يسأل الله حاجته في صغير الأمور وكبيرها، فالله كريمٌ يُحب أن يُسأل، جوادٌ لا يُعجزه شيء، ومن أكثر الدعاء بركةً واستجابة دعاء الوالد لولده، قال عليه الصلاة والسلام:

{ ثلاثُ دعَواتٍ يُستجابُ لَهنَّ لا شَكَّ فيهنَّ دعْوةُ المظلومِ ودعْوةُ المسافرِ ودعْوةُ الوالدِ لولدِه }

(أخرجه أبو داوود وابن ماجه والترمذي وأحمد)

في حلقتنا لهذا اليوم سنتحدث عن تربية الأبناء بالدعاء، كيف يكون الدعاء وسيلةً تربوية؟ وكيف نلجأ لله عزَّ وجل في صلاح الذُريّة؟ وكيف نجعل الدعاء مرافقاً للأبناء في تفاصيل يومهم؟ مع فضيلة الدكتور بلال نور الدين، أستاذ التفسير والإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسُنَّة النبوية الشريفة، أهلاً ومرحباً بكم معنا دكتور.
الدكتور بلال نور الدين:
أهلاً وسهلاً ومرحباً، بارك الله بكم، ونفع بكم، وأعلى قدركم.
المُحاوِرة ولاء أبو خضير:
حيّاكم الله، بدايةً دكتور نودّ أن نبدأ من الأساس، نبدأ من المعنى المقصود بالدعاء، هذا الكنز العظيم، وهذه العبادة العظيمة، والتي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها:

{ الدُّعاءُ مُخُّ العِبادةِ }

(أخرجه الترمذي والطبراني)

نوضِّح بدايةً دكتور المقصود بالدعاء، ولماذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف؟

الدعاء هو العبادة وهو سر قوتها وأصلها:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحقيقة كما تفضلتم النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ الدُّعاءُ هوَ العبادةُ، ثمَّ قرأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} }

(أخرجه أبو داوود والترمذي وابن ماجه)

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ(60)
(سورة غافر)

(يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) ولم يقل عن دعائي، فالدعاء هو العبادة، وفي حديثٍ رواه الترمذي وإن كان فيه ضعف (الدُّعاءُ مُخُّ العِبادةِ) يعني هو سرُّ قوّتها، وهو لُبُّها، وهو خالصها، فالعبادة في الأصل هي الطاعة مع الحُب، قال طريقٌ مُعبَّدة، أي وطئتها الأقدام حتى ذُلِّلت، فالعبادة هي مُطلَق الانقياد لله تعالى، أن نجعل حياتنا وفق منهج الله، والحقيقة أنَّ الدعاء يظهر فيه هذا المعنى جليّاً، بحيث أنَّ الإنسان يشعُر بضعفه فينقاد لخالقه فيدعوهُ مع الحُب، والدعاء يدل على حُبّ العبد لربّه، وعلى حُبّ الربّ لعبده بالإجابة، فإذا نظرنا إلى هذا المعنى، وجدنا أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم أن: (الدُّعاءُ هوَ العبادةُ) يشبه قوله:

{ شَهِدْتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بعَرفةَ وأتاهُ ناسٌ من نَجدٍ، فأمَروا رجلًا، فسألَهُ عنِ الحجِّ، فقالَ: الحجُّ عرفةُ، مَن جاءَ ليلةَ جمعٍ قبلَ صلاةِ الصُّبحِ فقد أدرَكَ حجة ، أيَّامُ منًى ثلاثةُ أيَّامٍ، مَن تعجَّلَ في يومينِ فلا إثمَ عليهِ، ومَن تأخَّرَ فلا عليهِ ، ثمَّ أردَفَ رجلًا ، فجعلَ يُنادي بِها في النَّاسِ }

(أخرجه النسائي وأبو داوود والترمذي)

{ الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ. }

(صحيح مسلم)

فالحج فيه مناسك أُخرى غير عرفة، لكن ما سرُّ قوته؟ ما منبَع أصالته؟ كيف يكون الحج كما ينبغي؟ بعرفة، بالوقوف في عرفة والتضرُّع والاستكانة لله تعالى.
كذلك (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) الدين فيه عباداتٌ شعائرية، وفيه عباداتٌ تعاملية، لكن لو أنك مُتدينٌ حقاً فإنك تنصح (لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ) فهنا أيضاً بهذا المعنى (الدُّعاءُ هوَ العبادةُ) بمعنى أنَّ أصل العبادة، ما تظهر فيه حقيقة عبادة الإنسان هو الدعاء، لماذا؟ لأنَّ الدعاء أختي الكريمة مَن يدعو الله تعالى فهو يعرف الله، فنحن لا ندعو مَن لا نعرفه.
الإنسان اليوم إذا وقع في مصيبةٍ أو في مشكلةٍ نسأل الله السلامة، يُفكِّر بمن يعرفهم لا يُفكِّر بمن لا يعرفهم، فالدعاء يعني أنَّ الإنسان يعرف ربَّه، ثم هو موقنٌ أنه يسمعه، فلماذا يدعوه إن لم يكن على يقينٍ أنَّ من يدعوه يسمع دعاءه، ثم هو موقنٌ بأنه يُحبُّه، فأنا لا أطلب شيئاً ممن لا يُحبني لأنه لن يُلبّي دعوتي، ثم هو موقنٌ بأنَّ الله قادرٌ على إجابته، يعني عندما يقول العبد: يا ربّ فرِّج عنّي ما أنا فيه، فهو يجمع أربعة أمور، يعرف ربَّه، ويعرف أنه يسمعه، وأنه يُحبُّه، وأنه قديرٌ على إجابته، هذه المعاني تجتمع في الدعاء، فالدعاء هو توجُّه مخلوقٍ ضعيفٍ والله تعالى يقول:

يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا(28)
(سورة النساء)

لماذا خَلق الله الإنسان ضعيفاً؟ قالوا لأنَّ الله لو خَلقه قوياً لاستغنى بقوته، وشَقيَ باستغنائه عن ربِّه:

كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ(6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ(7)
(سورة العلق)

لكن خلقه ضعيفاً ليفتقر في ضعفه إلى ربِّه، فيلجأ إلى الله ويدعوه فيسعد بافتقاره، فنحن نسعد بالدعاء، نسعد عندما يتصل المخلوق الحادث بأصل خلقه، بخالقه جلَّ جلاله، يسعد لأنه يعود إلى ربِّه، لأنه يطلب حاجته منه، الإنسان ربما يقف على باب شخصٍ مُعيَّن مخلوقٍ مثله، فيشعُر بالذُلّ والإهانة لأنه احتاج إلى مخلوقٍ، وندعو دائماً أن لا يُحيجنا الله إلى عبدٍ، لكن لمّا يقف بين يدي خالقه، هو في الحقيقة يعود إلى ربِّه، إلى أصل قوته، فإنه يستشعر ضعفه فيرجع إلى ربِّه، فيكون الدعاء صِلةً بين المخلوق الحادث، والخالق العظيم الذي يُجيب دعوة الداعي إذا دعاه.
المُحاوِرة ولاء أبو خضير:
دكتور عندما نتأمل في آيات القرآن الكريم، نجد أنَّ الله عزَّ وجل أكَّد على أنَّ الدعاء في مواضعٍ متعددة، وبأساليبٍ متنوعة، حتى جعل الدعاء علامةً من علامات الإيمان والتواضع، وتَرك الدعاء دليلٌ على الاستكبار، تُبيِّن لنا دكتور مكانة الدعاء في القرآن الكريم، ودلالات الصيَغ المختلفة التي جاءت في القرآن الكريم.

مكانة الدعاء في القرآن الكريم:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم الحقيقة أنَّ القرآن الكريم أورد لفظ الدعاء، سواءً باللفظ الاسمي أو بالأفعال: ادعوني، يدعون، إلى آخره، في أكثر من تسعين موضعاً في كتاب الله تعالى، غير الأدعية التي وردت في كتاب الله، أدعية الأنبياء وغير ذلك، فالقرآن فيه أسرار في الدعاء، لو تتبَّعها المؤمن وأحصى الآيات ثم أحصى أدعية القرآن الكريم، لوجد شيئاً عجيباً في اهتمام القرآن الكريم بقضية الدعاء، من ذلك على سبيل المثال وليس الحصر، أنَّ الله تعالى يقول:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ(39)
(سورة إبراهيم)

وكما تعلمون (إِنَّ) حرف يُفيد التوكيد، ولام المُزحلقة لام التوكيد (لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) يعني الله تعالى يسمع دعاءك، فإذا علمت أنه يسمع فإنك تُخاطبه، ولا يشغله صوتٌ عن صوت جلَّ جلاله.
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) منكم الدعوة ومنّي الإجابة، فهنا إذاً يسمع الدعاء.

وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا(67)
(سورة الإسراء)

هُنا المفهوم العكسي، عندما يتوجه الإنسان بالدعاء لغير الله تعالى، فإنه يضل عنه لا يُجيبُه، لكن الله تعالى يُجيبُك ويسمع دُعاءك.
في يوم القيامة هناك دعاء، قال:

دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(10)
(سورة يونس)

أعظم الدعاء يوم القيامة يوم تنكشف الحقائق، فيستبين للمؤمن لماذا أجاب الله دعوته تلك في الدنيا، ولماذا أخَّر له تلك؟ لماذا حصل ذلك؟ ولماذا لم يحصل ذلك؟ هو لا يعلم:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(216)
(سورة البقرة)

فلمّا تنكشف الحقائق (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يُبيِّن المولى في بعض الآيات أساليب الدعاء، يقول:

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(55)
(سورة الأعراف)

أحياناً الإنسان هناك حاجةٌ للدعاء الذي بينه وبين الله تعالى في الخفاء، يعني يتوجه إليه في عتمة الليل، في جوف الليل، أحياناً يدعو الله تعالى دون أن يهمس ببنت شفة.

إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا(3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا(4)
(سورة مريم)

يعني هناك نداءٌ خفي وهناك استكانة، تضرُّعٌ وذُلّ بين يدي الله، فيوجّهنا إلى الطريقة الأمثل للدعاء.

شروط استجابة الدعاء:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186)
(سورة البقرة)

يوجّهنا هنا إلى شروط استجابة الدعاء، أن يكون هناك إيمانٌ بالله واستجابةٌ لمنهجه، فإذا أردت أن يستجيب الله لك دعاءك فاستجب له، كيف أستجيب لك يا رب؟ تستجيب لي بطاعتي كما قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)
(سورة محمد)

ننصره جلَّ جلاله باتِّباع منهجه وإقامة شرعه في الأرض، فينصرنا على أعدائنا.

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ(152)
(سورة البقرة)

نذكُره بالطاعة فيذكُرنا بالسكينة والتأييد، والتوفيق، والحفظ، والأمن، وهنا: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) فإذا أردت أن يستجيب لك الله تعالى فاستجب له.
هذه مقتطفاتٌ من الآيات التي ورد فيها الدعاء في القرآن الكريم.
المُحاوِرة ولاء أبو خضير:
تُحدِّثنا دكتور عن آداب الدعاء، وكيف نختار الأوقات والهيئات المناسبة للدعاء.

آداب الدعاء:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة آداب الدعاء كثيرةٌ سأُلخِّصها، أهمها:
الإخلاص:

وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ(5)
(سورة البينة)

(الدُّعاءُ هوَ العبادةُ) كما قدَّمتِ جزاكِ الله خيراً، فإذاً الدعاء يحتاج إلى إخلاص.
ثانياً: أن نسأل الله تعالى بأسمائه الحُسنى، قال تعالى:

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)
(سورة الأعراف)

فنقول يا غفور اغفر لي، يا رحيم ارحمني، هذا معنى.
ومن معاني (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا) أن نتخلَّق بخُلُقٍ من هذه الأسماء، فأنتَ لا تقول يا غفور اغفر لي وأنتَ لا تغفر للناس، تدعو الله أن يغفر لك وأنتَ إذا فعل معك إنسانٌ شيئاً تُقيم الدنيا ولا تُقعدها، وتقول لن أسامحه في حياتي، فكيف تدعو الغفور أن يغفر لك وأنتَ لم تغفر للناس، كما تدعو الرفيق أن يرفق بكَ وأنتَ لا ترفق بزوجتك في البيت، إلى غير ذلك، اللطيف، الحكيم، كُن حكيماً، كُن لطيفاً، فلا بُدَّ أن ندعو الله بأسمائه الحُسنى.
أيضاً البداية تكون في الدعاء بالثناء على الله تعالى: قال صلى الله عليه وسلم موجهاً من دعا دون أن يُثني على الله قال له:

{ بَينما رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قاعدٌ إذ دخلَ رجلٌ فصلَّى فقالَ : اللَّهمَّ اغفِر لي وارحَمني، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: عَجِلتَ أيُّها المصلِّي، إذا صلَّيتَ فقعَدتَ فاحْمَدِ اللَّهَ بما هوَ أَهْلُهُ، وصلِّ عليَّ ثمَّ ادعُهُ، قالَ: ثمَّ صلَّى رجلٌ آخرُ بعدَ ذلِكَ فحمِدَ اللَّهَ وصلَّى على النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: أيُّها المصلِّي ادعُ تُجَبْ }

(أخرجه النسائي وأبو داوود والترمذي وأحمد)

أولاً الحمد لله، الصلاة على رسول الله، ثم الدعاء.
أيضاً من آداب الدعاء كما أسلفنا الصلاة على الرسول: يقول صلى الله عليه وسلم:

{ كلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٌ حتى يُصلَّى على النبيِّ }

(أخرجه الطبراني والبيهقي)

استقبال القِبلة أيضاً: ورد في الأحاديث أنَّ النبي كان يستقبل القِبلة إذا دعا.
رفع اليدين في الدعاء: باطن اليدين إلى السماء:

{ إنَّ ربَّكم حييٌّ كريمٌ يستحيي من عبدِه أن يرفعَ إليه يدَيْه فيرُدَّهما صِفرًا أو قال خائبتَيْن }

(صحيح ابن ماجه)

أيضاً اليقين بالإجابة: لا ندعو الله ونقول: ربما يُجيبُنا أو لا يُجيبُنا، هذا يحجب الدعاء، قال صلى الله عليه وسلم:

{ ادعوا اللهَ وأنتم مُوقِنونَ بالإجابةِ واعلموا أنَّ اللهَ لا يستجيبُ دعاءً من قلبٍ لاهٍ }

(أخرجه الترمذي)

أيضاً لا نستعجل في الدعاء:

{ لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، ما لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ ، ما لَمْ يَسْتَعْجِلْ قيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، ما الاسْتِعْجَالُ؟ قالَ: يقولُ: قدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذلكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا(11)
(سورة الإسراء)

فندعو ونترك الإجابة لله تعالى.
تكرار الدعاء ثلاثاً: اللهم اغفر لي، اللهم اغفر لي، اللهم اغفر لي.
أيضاً لا أقول هذا من آداب الدعاء، بل أقول هو من شروط الدعاء ومن لوازم الدعاء، أن يُطيب الإنسان ملبسه ومأكله، لا تدعُ الله تعالى وهناك مالٌ حرام والعياذ بالله، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم:

{ يا أيُّها النَّاسُ إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ فقالَ يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقالَ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ قالَ وذَكرَ الرَّجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَه إلى السَّماءِ يا ربِّ يا ربِّ ومطعمُه حرامٌ ومشربُه حرامٌ وملبسُه حرامٌ وغذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يستجابُ لذلِك }

(أخرجه الترمذي ومسلم)

كيف يستجيب لك الله والعياذ بالله، وأنت تأكل المال الحرام، فهذه الأمور بجملتها هي من آداب الدعاء وشروطه، وكما في الحديث:

{ ليسَ شيءٌ أكرمَ علَى اللهِ من الدُّعاءِ }

(أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد)

ومن أعظم أوقات الإجابة أن يكون الدعاء بعد الصلوات، أن يكون الدعاء في يوم الجمعة:

إنَّ في الجُمُعَةِ لَساعَةً، لا يُوافِقُها مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ فيها خَيْرًا، إلَّا أعْطاهُ إيَّاهُ، قالَ: وهي ساعَةٌ خَفِيفَةٌ.
(أخرجه البخاري ومسلم)

أن يكون في ثلث الليل الآخر:

{ يَنْزِلُ اللَّهُ إلى السَّماءِ الدُّنْيا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الأوَّلُ، فيَقولُ: أنا المَلِكُ، أنا المَلِكُ، مَن ذا الذي يَدْعُونِي فأسْتَجِيبَ له، مَن ذا الذي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَن ذا الذي يَسْتَغْفِرُنِي فأغْفِرَ له، فلا يَزالُ كَذلكَ حتَّى يُضِيءَ الفَجْرُ }

(صحيح مسلم)

المُحاوِرة ولاء أبو خضير:
دكتور ما الفرق بين الدعاء العابر، والدعاء الذي يحمل اليقين والتوجُّه الحقيقي لله عزَّ وجل؟

الفرق بين الدعاء العابر والدعاء الحقيقي بين يدي الله تعالى:
الدكتور بلال نور الدين:
الحقيقة أنَّ الإنسان أحياناً يأتيه شيءٌ مُعيَّن، أو يجلس خلف الإمام في صلاةٍ مُعيَّنة، أو يحضُر مجلس علمٍ، فيدعو فيؤمِّن على الدعاء، آمين وانتهى الأمر، أو تعوَّد على بعض الأدعية التي يُردِّدها بلسانه بعد الصلوات أو كذا، لكن أن يجعل الإنسان الدعاء جزءاً من شخصيته، جزءاً من عمله، جزءاً من برنامجه اليومي، هناك مشكلة لا تُحل إذاً سأجعل لها، ما الذي حصل مع سيدنا يعقوب، لمّا إخوة يوسف فعلوا ما فعلوا ثم طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم؟ قال:

قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(98)
(سورة يوسف)

يعني هناك برنامجٌ في الليل، أو في أوقات الإجابة سأدعو الله تعالى في الوقت، ما قال فوراً اغفر لهم، بل قال: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) فأجَّل، قال بعض العلماء: أجَّل ذلك لوقت الإجابة لأنه جعل وقتاً من وقته مُخصَّصاً للدعاء.
المُحاوِرة ولاء أبو خضير:
دكتور كما نعلم أنَّ الدعاء كان نمط حياة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الدعاء ملازمٌ له في كل تفاصيل يومه، وأيضاً في سيَر الأنبياء عليهم السلام، نجد أنَّ الدعاء كان وسيلةً في التربية والتوجيه، يعني إبراهيم عليه السلام يدعو للذُريّة، وزكريا عليه السلام يدعو للولد، ولقمان يوصي بالحكمة، كيف نربط بين هذه الأدعية النبوية والتربوية، وبين حاجتنا اليوم لتربية الأبناء من خلال الدعاء؟

كيف نُربّي الأبناء من خلال الدعاء؟
الدكتور بلال نور الدين:
الحقيقة كما تفضلتِ الدعاء كان ملازماً للأنبياء، إبراهيم عليه السلام كان يدعو ربّه:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ(35)
(سورة إبراهيم)

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ(40)
(سورة إبراهيم)

زكريا:

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ(38)
(سورة آل عمران)

المؤمنون الصالحون:

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا(74)
(سورة الفرقان)

كما تفضّلتِ في مقدمة الحلقة، النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن عباس: ضمَّ ابن عباس وهو فتى إليه ثم قال:

{ ضَمَّني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إليهِ وقالَ اللَّهمَّ عَلِّمهُ الحِكمةَ وتأويلَ الكتابِ. }

(أخرجه البخاري وابن ماجه والنسائي)

وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثُ دعَواتٍ يُستجابُ لَهنَّ) منها (ودعْوةُ الوالدِ لولدِه).
فنحن إذا نظرنا في هذه الأدعية، وفي هذه الآثار، وفي هذه الآيات، وجدنا أنَّ هناك أهميةً كبرى لتنشئة الجيل والأسرة على الدعاء، فالابن الذي لا يعيّ ويتربّى على والديه وهما يدعوان، كيف يتعلم الدعاء؟! يعني كيف يكون الأب قدوةً له إن لم يدعُ أمامه؟ الأب يقول أنا أستيقظ في الليل وأدعو الله تعالى أو في المسجد، حسناً وفي البيت؟ كيف تكون قدوةً لأولادك؟ كيف يتعلمون الدعاء إن لم يروا والدهم يدعو؟!
أنا أنصح كل أب أن يدعو برفع الصوت بحيث يسمعه أهل البيت، أو يُصلّون وراءه، أو يقنُت في الوتر أو في صلاة الفجر، يدعو بصوتٍ مرتفع ويُسمّي أولاده بأسمائهم، يا رب اجعل ابني فلاناً من حفظة كتابك، يا رب اجعل ابنتي فلانةً من الصالحات، اجعلها من حافظات الكتاب، اجعلها من ملتزمات العِفَّة والطهر والحجاب، يا رب اجعل زوجتي صالحةً واجعلني صالحاً لها، فيسمع الابن في البيت وتسمع الابنة، وتسمع الزوجة دعاء الأب، وكذلك الأم أيضاً تدعو لأبنائها وبناتها بحضورهم وبحضورهنَّ، فيسمعون لها فيتعلمون الدعاء، فيوقنون أنَّ الأب والأم يُحبّان الابن فيدعوان له، مهم جداً أن يسمع الأبناء دعاء الوالدين لهم.
أيضاً نُعلِّم الأولاد الدعاء للآخرين، يعني مثلاً: صديقتي فلانة مريضةٌ مُتعبة، اليوم جاءت إلى المدرسة لم تستطع إكمال الدوام، ادعي لها ألا تُحبينها؟ ادعي لها بالفرج، بالشفاء بالعافية، تُحبين فلانة؟ نعم، إذاً عليكِ بالدعاء لها بأن يوفقها الله في الدراسة كما تدعي لنفسك.
أيضاً أن يطلُب الدعاء من الصالحين، يعني إذا زرت كبير البيت الجد مثلاً، قل لابنك: قُل لجدِّكَ، قُل لهذا العالِم، لهذا الصالح في المسجد قُل له أدعو لي، أدعو لي بظهر الغيب، يطلب الدعاء من الآخرين.
أيضاً من الأمور التي يجب تدريب الأولاد عليها أذكار الصباح والمساء، لأنه فيها أدعيةٌ عظيمة، فعندما نُدرِّبه على أن يدعو في الصباح وفي المساء ويواظب عليها، أيضاً هذا مما يُنشِّئ الأولاد على أهمية الدعاء، يعني الأولاد اليوم كلهم ينشؤون على أهمية الهاتف، لا يوجد ولد في بيوتنا إلا ويعلم أنَّ الهاتف والجوال في يده مهم، وينتظر اللحظة التي يُمسِك الهاتف فيها ويتابع فيها لماذا؟ لأنه يرى الجميع مهتمٌ بالهاتف، فاليوم لو رأى الأبناء في البيت، أنَّ الأب مهتمٌ بحصة الدعاء اليومية عشر دقائق، ربع ساعة لا بُدَّ منها، فإنَّ الابن سينشأ على أنَّ الدعاء شيءٌ مهم وجزءٌ من شخصيته، وجزءٌ من حياته.
المُحاوِرة ولاء أبو خضير:
يعني إذا أردنا أن يتربّى الأبناء على التعلُّق بالله عزَّ وجل، علينا أن نُعلِّمهم الدعاء الصادق، والدعاء بيقين.
دكتور نحن اليوم نلجأ للدعاء لطلبٍ مُعيَّن، ولكن نغفل عن أنَّ لهذا الدعاء الأثر العظيم كيف يُهذِّب النفس، ويجلِب لنا الخير والرحمة، وأيضاً يُحيي القلوب، نتحدث عن الآثار التربوية للدعاء في حياة الفرد وفي أُسرنا اليوم.

مكافآت الله تعالى لمن يدعوه:
الدكتور بلال نور الدين:
في الحقيقة الدعاء له آثارٌ عظيمة على الإنسان، أولاً الدعاء ينشر السكينة في البيت وفي داخل الفرد، لأنَّ الإنسان بطبيعته كما قلنا ضعيف، ولمّا يتصل بأصل الجمال والكمال والنوال وهو الله جلَّ جلاله، نحن نُحبُ الجمال، نذهب إلى نُزهةٍ جميلة، نرى البحر الرائق والجبال الخضراء نُسرُّ بها، من خالق هذا الجمال؟ الله الجميل، نُحب الكمال، فإذا رأينا موقفاً فيه صدق، أمانة، وفاء، مروءة نُشدُّ إليه، نُحب النوال أي العطاء، فإذا أعطانا إنسانٌ شيئاً أحببناه:

{ جُبِلَت القلوبُ على حُبِّ من أحسَن إليها، وبُغضِ من أساءَ إليها }

(أخرجه البيهقي)

ما أصل الجمال والكمال والنوال؟ الله جلَّ جلاله، فأنت عندما تتصل بالله تتصل بأصل الجمال والكمال والنوال، الآن سيُكافئك الله تعالى، ما مكافآت الله تعالى لمن يدعوه؟
أولاً الأمن:

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ(82)
(سورة الأنعام)

ثانياً التوفيق:

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(88)
(سورة هود)

فأنت إذا اتصلت بالله حصلت على التوفيق.
الحفظ:

قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ ۖ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(64)
(سورة يوسف)

ثم السكينة: التي يُنزلها الله تعالى على قلب أصفيائه، فوجدها يونس في بطن الحوت وهو يُناجي الله تعالى:

وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87)
(سورة الأنبياء)

وهذا دعاء.
ووجدها إبراهيم في النار، ووجدها صلى الله عليه وسلم في الغار، فهذه السكينة نسعد بها ولو فقدنا كل شيء، ونشقى بفقدها ولو ملكنا كل شيء، هذا كله من آثار الدعاء، إذا دعا الإنسان ربّه تجلّى ذلك على ذاته وعلى بيته، سكينةً، طمأنينةً، أمناً، توفيقاً، تأييداً، حِفظاً، معيةً خاصةً له من الله لأنَّ الله مع المؤمنين، ومع المتقين، ومع القائمين لشرعه ولحدوده.
المُحاوِرة ولاء أبو خضير:
دكتور أحياناً الفرد يدعو بإلحاحٍ شديد ومع ذلك لا يرى الإجابة كما يتمنَّاها، كيف نوضِّح هذا المقصود لكل شخصٍ يسمعنا الآن في تأخر الإجابة، تحدثنا دكتور عن المفهوم الصحيح للإجابة، وكيف نُعلِّم أنفسنا والأبناء أنَّ الدعاء لا يضيع أبداً، إنما قد يُردّ به البلاء أو يُدَّخر لنا في الآخرة، أو يُبدِّل الله لنا ما فيه خير.

كيف تكون إجابة الله تعالى للدعاء؟
الدكتور بلال نور الدين:
سؤال جميل جداً، الحقيقة أنَّ الله تعالى من أسمائه الحكيم، ما معنى الحكيم؟ هو الذي يضع الشيء في موضعه، فإذا طلب إنسان من الله شيئاً وكان هذا الشيء ليس في صالحه، فإنَّ الله يؤخِّر إجابته حتى يحين الموعد، هذا هو الحكيم، الأب حكيم، الابن طلب من الأب حلوى، والأب يعلم أنَّ هذه الحلوى تضره لأنَّ الطبيب قال له: لا تُطعمه الحلوى لمدة شهر، فالأب يؤخِّر لماذا؟ لأنه حكيم، الله تعالى حكيم جلَّ جلاله.
مرةً كنت في عمَّان على كرسي طبيب الأسنان، وكانت الأحداث في بلاد الشام قد اشتدَّت، فقال لي الطبيب: ما بال هذه الأحداث قد امتدَّت وحتى الآن لا نرى نصراً ولا إجابةً، لماذا لا يُجيبنا الله تعالى؟ وكان قد خدَّر أسناني ليبدأ بإجراء الإصلاح، فقلت له: والله حالي معك على هذا الكرسي يشبه حالنا مع الله ولله المثل الأعلى، قال: كيف ذلك؟ قلت له: لو توسلت إليك الآن أن توقف العلاج هل ستوقفه؟ قال: لا، هناك مشكلة عندك ولن تنام الليل من وجع ضرسك، قلت له: حالنا مع الله كذلك، نحن أحياناً ندعو الله نظنُّ أنَّ الفرج هُنا، وأنه يجب أن يحصل ذلك حتى نرتاح من العناء وكذا، لكن العملية الجراحية لم تنتهِ، فلا بُدَّ من إتمامها، لكن الدعاء لن يضيع عند الله، كسبنا أجراً عظيماً، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم:

{ ما مِن رجلٍ يَدعو اللَّهَ بدعاءٍ إلَّا استُجيبَ لَهُ، فإمَّا أن يعجَّلَ له في الدُّنيا، وإمَّا أن يُدَّخرَ لَهُ في الآخرةِ، وإمَّا أن يُكَفَّرَ عنهُ من ذنوبِهِ بقدرِ ما دعا، ما لم يَدعُ بإثمٍ أو قَطيعةِ رحمٍ أو يستعجِلْ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ وَكَيفَ يستَعجلُ؟ قالَ: يقولُ: دعوتُ ربِّي فما استجابَ لي }

(أخرجه مسلم والترمذي وأحمد)

(فإمَّا أن يعجَّلَ له في الدُّنيا) يريد المال يُعطى المال (وإمَّا أن يُدَّخرَ لَهُ في الآخرةِ) لأنه: (وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا) هو يدعو يظنُّه خيراً وهو شرٌّ له، فيُدَّخر له في الآخرة (وإمَّا أن يُكَفَّرَ عنهُ من ذنوبِهِ بقدرِ ما دعا، ما لم يَدعُ بإثمٍ أو قَطيعةِ رحمٍ أو يستعجِلْ).
فيجب أن نعلم أنَّ إجابة الله تعالى للدعاء تكون على ثلاثة أنواع، لكن الإجابة مُحقَّقة.
المُحاوِرة ولاء أبو خضير:
يعني ليست دائماً كما نتمنى.
الدكتور بلال نور الدين:
نعم كلها خير، قد تكون في الدنيا، قد تُدَّخر في الآخرة، قد يكون الداعي مُقيماً على الذنوب فيُغفَر له، فنحن على جميع الأحوال رابحون، لأنَّ الدعاء عبادة، والعبادة لا يتوقف أداؤها على تحصيل ما تريد منها، فنحن نُصلّي لكن لا ننتظر شيئاً من الله في الدنيا على صلاتنا، ونحن ندعو ولا ننتظر في الدنيا أن تُجاب دعوتنا كما نُحب أو لا تُجاب، يكفينا أننا في عبادة الله، وأننا نُثاب على هذه العبادة العظيمة، ونترك أمر الإجابة لله، بالطريقة التي يراها الحكيم جلَّ جلاله مناسبةً لحالنا.
المُحاوِرة ولاء أبو خضير:
دكتور الإجابة قد تكون في تغيير داخلي للفرد أو في استقامة أو حتى في صلاح الولد.
الدكتور بلال نور الدين:
مئة بالمئة، قد يُجيبنا الله تعالى بشيءٍ لا نعلمه أعظم من الشيء الذي نريده.
المُحاوِرة ولاء أبو خضير:
دكتور كيف يمكن للآباء أن يُربّوا الأبناء على الدعاء، كعادةٍ يومية وسلوكٍ حياتي، ليس فقط في وقت الحاجة والشدَّة، ولكن في كل تفاصيل اليوم، هل هناك أساليب تساعد الأُسرة على أن يكون الدعاء وسيلةً للتقرُّب من الله عزَّ وجل والسكينة؟

كيف يكون الدعاء وسيلة للتقرب من الله عزَّ وجل؟
الدكتور بلال نور الدين:
الإنسان يُحب الشيء الذي يُسعده، ويحقِّق له سلامته، يعني ما من إنسانٍ إلا ويرجو السلامة والسعادة، فإذا علَّمنا أولادنا أنَّ السلامة والسعادة في الدعاء، فكم من قَدَرٍ يصرفه الله تعالى عنّا بدعاءٍ ندعوه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ لا يردُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ، ولا يزيدُ في العمرِ إلَّا البرُّ }

(صحيح الترمذي)

فقد يكون هناك قضاءٌ قضاه الله تعالى عليك يا بني، في يومٍ محدد في وقتٍ محدد، فدعوت الله وأنت خارجٌ من البيت بالحفظ والسلامة، فصرف الله عنك سوءاً بدعائك، هذه السلامة.
والسعادة كلنا نريد أن نسعَد في الدنيا، وأن تكون حياتنا هنيئةً، فالسعادة في الدعاء، السعادة على السجادة، عندما تجلس بين يدي الله وتطلب منه فأنت في سعادة، لأنك اتصلت بخالقك جلَّ جلاله.
إذاً عندما نُربّي أولادنا على أنَّ الدعاء هو سلامتك وسعادتك، أنَّ فيه مصلحتك، الإنسان يستجيب لمصلحته، الشيء الذي يُحقِّق له ما يصبو إليه، فإذا عوّدناهم وأفهمناهم هذه الحقيقة، وكنّا قدوةً لهم في ذلك كما قلنا قبل قليل، في أن ندعو الله أمامهم، وأن نُخصِّص وقتاً للدعاء في البيت، وأن نُسمعهم أصواتنا بالدعاء، وأن نُعلّمهم أذكار الصباح والمساء، فكل هذه الوسائل تجعل الدعاء جزءاً يومياً من حياتهم لا سلوكاً عابراً، ربما في المدرسة أو في المسجد يُدعى الله تعالى فيؤمِّنون على الدعاء.
المُحاوِرة ولاء أبو خضير:
دكتور قبل الختام نوَدّ أن نتطرَّق إلى نقطةٍ مهمةٍ جداً، وهي الدعاء السلبي على الأبناء، الدعاء الغير مقصود، يعني دعاء يقال في لحظة غضب أو بدون إدراك من الأهل، هل يمكن أن يستجاب دعاء الغضَب من الوالدين، ونوَدّ توجيه منكم دكتور للآباء، في كيفية استبدال هذا الدعاء السلبي والغير مقصود، بما فيه الإصلاح والرحمة، والحُب، حتى في أشدّ لحظات الغضَب من الأبناء.

تجنُّب الدعاء على الأبناء لأنهم أمانة بين أيدينا:
الدكتور بلال نور الدين:
الحقيقة هذا أمرٌ مهم، وفيه حديثٌ نبوي، يعني فيه توجيه نبوي، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ لا تدْعوا على أنفسِكم، ولا تدْعوا على أولادِكم، ولا تدْعوا على خَدَمِكم، ولا تدْعوا على أموالِكم، لا تُوافقوا من اللهِ ساعةَ نيْلٍ فيها عطاءٌ فيُستجابَ لكم. }

(أخرجه مسلم)

أي نعم قد يُجاب الدعاء، يقول مثلاً: اللهم عليك بابني، اللهم اغضَب عليه، اللهم العَنه، كما يحلو لبعض الآباء والعياذ بالله وهو يُحب ابنه.
سيدنا نوح عليه السلام، رغم أنَّ الله تعالى وجّهه أن لن ينجو أحدٌ من أهلك، لكن لمّا صعد السفينة دعا الله تعالى لابنه، يعني انظروا إلى رحمة الأنبياء، رغم أنه يعلم لكن سبقته عاطفته:

وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(45)
(سورة هود)

ولمّا أغرقه الله تعالى قال:

قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ(43)
(سورة هود)

يعني لم يُرِهِ مصرع ابنه أمامه حتى لا يُعذَّب برؤية ابنه، فهذا الأب الذي لا يعي ما يقول وهو في حالة غضب، والأم في ساعة غضب تدعو على أولادها بالويل وبالثبور، وبالهلاك، وبحادث السير أحياناً والعياذ بالله، تقول أنها لغوة لسان ومن غير قصد، لا، هذا له أثرٌ سلبيٌ جداً جداً على الأولاد، الابن الذي ينشأ في بيئةٍ يسمع والده ووالدته يدعوان عليه بشكلٍ دائمٍ، فإنه يصبح شخصاً مُحبطاً، شخصاً لا يجد له قيمةً عند والديه، بخلاف ما لو سمع مثلاً، أحياناً بعض الأمهات لهنَّ كلام رقيق جداً، يعني في اللحظة التي تُزعَج جداً من ولدها، أو من سلوكه، أو من تصرفٍ معه، أو علا صوته في البيت، وهذا كله سُلوكاتٍ خاطئة بلا شك، ندعو الأبناء لتجنبها، لكن في هذه اللحظة ترفع يديها إلى السماء، فيظنُّ الظان أنها ستدعو عليه، فإذا بها تقول اللهم اهدهِ، يا رب أصلحه لي، كيف يكون شعور الولد وهو يجد أمه في هذه اللحظة تدعو له؟ وكيف يكون شعور الآخر وهو يجد أباه وأمه يدعوان عليه بالويل والثبور؟
لذلك أبناؤنا أمانةٌ بين أيدينا، وأبناؤنا ثروتنا، وأبناؤنا الورقة الرابحة الوحيدة التي بقيت لنا في هذه الدنيا، مع تكالب الأعداء علينا من الشرق والغرب، فلا بُدَّ أن ندعو لهم دائماً، وأن نتجنب الدعاء عليهم، فإنَّ ذلك فيه من المسالب ما لا حصر له.
المُحاوِرة ولاء أبو خضير:
نصيحة في الختام دكتور تقدمها لكل شخص يسمعنا.

ليس لنا إلا الله فلنقف بين يديه وندعوه ونناجيه:
الدكتور بلال نور الدين:
والله نصيحتي ونحن نتحدث عن الدعاء وعن التوجُّه لله تعالى، أن نقول ليس لنا إلا الله، الله تعالى يواعِدُنا كل ليلة، ويطلب منّا كل ليلةٍ أن نكون على الموعد من أجل أن نقف بين يديه، قبل الفجر بربع ساعة، بعشر دقائق، نستيقظ قبل الفجر والموعد قد حان، والليل بسكونه وهدوئه ثم نناجيه بدمع العيون، نطلب منه، نسأله حاجتنا كلها، نسأله كل ما يخطر في بالنا من حوائج الدنيا والآخرة، وهو يسمعنا ونحن موقنون بسماعه، وموقنون بأنه سيُجيبُنا بالطرُق الثلاث التي ذكرتُها قبل قليل، إذاً لماذا نتأخر عن الموعد؟ لماذا لا نقف بين يديه؟ لماذا لا نتذلل على أعتابه؟ لماذا لا نقرع الباب؟ عبيدك بفنائك يا ربّ، عبيدك ينتظرونك، ينتظرون إجابتك، ينتظرون سماع أصواتهم، فليس لنا إلا الله، الدنيا تضيق بالإنسان ولا يُفرِّجها، ولا يجلو ما فيها، ولا يتسع صدرنا، ولا تملأه السكينة والحُب والقرب إلا بصِلتنا بالله تعالى، فلنعزم العزم على أن نكون دائماً بين يدي الله تعالى، نطلب منه، ندعوه، نُناجيه بدمع العيون، والله تعالى ينتظرنا:

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا(27)
(سورة النساء)

المُحاوِرة ولاء أبو خضير:
ونوجِّه أيضاً دكتور رسالةً للأهل، علينا أن نَعي أنَّ الدعاء وحده لا يكفي، صحيح كما تحدثنا أنه من أعظم الأسباب في صلاح الأبناء، لكن الله عزَّ وجل أمرنا بالأخذ بالأسباب والتوكل عليه، يعني لا يكفي الدعاء بوجود تقصيرٍ في التربية، أو بوجود الإهمال والتساهل في غرس القيَم عند الأبناء.
الشكر الجزيل لكم دكتور على هذا الكلام الطيب، والتوجيهات التربوية للأهل، شكراً لكم الدكتور بلال نور الدين، أستاذ التفسير والإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسُنَّة النبوية الشريفة، شكراً لكم دكتور.
الدكتور بلال نور الدين:
عفواً، بارك الله بكم، شكراً لهذه الاستضافة.