النصيحة في القرآن الكريم

  • الإذاعة الأردنية - اللقاء المفتوح
  • 2024-01-22
  • عمان
  • الأردن

النصيحة في القرآن الكريم


المقدم:
السيدات والسادة، المستمعون والمستمعات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله بأطيب تحياته، وأهلاً ومرحبًا بكم في مستهل هذه الحلقة الجديدة من اللقاء المفتوح وبرنامجكم (فكر وحضارة) وفيها نتابع سلسلة حواراتنا الفكرية التي تأتيكم في مثل هذا الموعد من كل أسبوع يصحبكم فيها حسين الرواشدة، عنوان حلقة اليوم: (النصيحة في القرآن الكريم)

تعريف النصيحة:
وردت كلمة النصيحة في القرآن الكريم 14 مرة، وجاءت في معظم السياقات على لسان الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فالنصيحة هي وظيفة النبوة الأولى، أو هي الدين كما قال محمد-صلى الله عليه وسلم-، هذا نوح يقول لقومه:

أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
(سورة الأعراف)

وهذا هود -عليه الصلاة والسلام- يقول لقومه:

أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّى وَأَنَا۠ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
(سورة الأعراف)

ومثله صالح -عليه الصلاة والسلام-:

فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ (79)
(سورة الأعراف)

ومثله شعيب -عليه السلام-:

فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ ۖ فَكَيْفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍۢ كَٰفِرِينَ (93)
(سورة الأعراف)

والنصيحة في الاستخدام القرآني كلمة جامعة لكل خصال الخير للطرف الآخر، وهي بتعريف ابن حِجْر: تخليص الشيء من الشوائب والغش، ولا تقتصر النصيحة على الأقوال فقط وإنما قد يكون الصمت عن بعض المواقف نصيحة، مثلما تكون القدوة نصيحة، وبهذا تتعدد أساليب النصح في القرآن الكريم من الحث إلى الأمر والنهي والنداء إلى المقارنة والاستفهام، إلى الوصية وغيرها، كما أن النصيحة تتقاطع مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومع الإخلاص، ومع الشورى، ومع غير ذلك من قيم الإسلام ومبادئه ومقاصده، في هذه الحلقة نستعرض مفهوم النصيحة وقيمتها في الإسلام، ومدلولاتها في القرآن الكريم والسنة الشريفة، ونتساءل: ما هي النصيحة؟ وكيف تكون؟ ومتى تكون؟ وما مرتكزاتها وشروطها وآدابها؟ وما العلاقة بين النصيحة والناصح، والنصيحة والمنصوح له؟ هل ثمت فرق بين النصيحة والفضيحة؟ وبين النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ نتساءل أخيرًا هل يمكن للنصيحة أن تكون رافعة للحرج عن القاعدين للضرورة؟ وما حكم النصيحة في الإسلام وضوابطها؟ وكيف تكون لله ولرسوله وكتابه ولولاة أمر المسلمين وعامتهم؟ وما أثر غياب التناصح بين المسلمين؟ وهل يسقط واجب النصح، ومتى؟ وما هي العوامل التي تؤثر على قبول النصيحة؟ ثم ما أثر هذه النصائح على المجتمعات وعلى حركة الإنسان في الحياة؟
أرحب أيضًا بفضيلة الدكتور بلال نور الدين أستاذ الشريعة والفقه الإسلامي، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته دكتور بلال.

الدكتور بلال نور الدين:
حياكم الله أستاذ حسين، أهلًا وسهلًا ومرحبًا، بارك الله بكم ونفع ببرنامجكم الطيب المبارك.

المقدم:
الله يبارك فيك، أهلًا وسهلًا فيك، دائمًا تشرفنا في هذا البرنامج دكتور بلال.

الدكتور بلال نور الدين:
نتشرف بكم يا سيدي.

المقدم:
أشار الدكتور سعيد إلى مرتكزات النصيحة وأهميتها، لكن كيف ننصح؟ من ننصح أيضًا؟ ما هي آداب النصيحة؟ كيف نمارسها دكتور بلال في حياتنا؟

النصيحة لمن؟ آدابها وأحكامها:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، أما النصيحة كما ورد في الحديث الصحيح، وأظن أنكم ذكرتموه في مطلع الحلقة، فلا يخلو حديث عن النصيحة منه.

{ الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ. }

(صحيح مسلم عن تميم الداري)

فالدين كله نصح، فمن يلتزم منهج الله تعالى فهو ينصح لكتاب الله تعالى، ومن يصدّق برسول الله -صلى الله عليه وسلم-ويتّبع سنته فهو ينصح لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن ينصح لأئمة المسلمين سواء كانوا من الولاة والحكام أم كانوا من العلماء فكلاهما يطلق عليه أئمة المسلمين فينصح لهم بالحكمة والموعظة الحسنة فهو ينصح، وكذلك لعموم المسلمين فينصح لأخيه، وينصح لشريكه، وينصح لابنه، وينصح لزوجه كما فعل لقمان مع ابنه.

وَإِذْ قَالَ لُقْمَٰنُ لِٱبْنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
(سورة لقمان)

فنصح لأولاده، فالنصيحة تشمل كل نشاط من نشاطات الإنسان، حتى إن الصلاة والصيام والزكاة كلها كما ذكر الإمام النووي -رحمه الله تعالى- كلها تشتمل عليها النصيحة بطريقة أو بأخرى، أما كيف ننصح؟ فهذا سؤال مهم جدًا، ويدخلنا فيما يسمى آداب النصيحة وهو أمر مهم جدًا.

آداب النصيحة:
أولاً: فأول ما ينبغي أن يتأدب به من ينصح أن يكون مخلصًا لله تعالى في نصحه، قال تعالى:

وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلْقَيِّمَةِ (5)
(سورة البينة)

الدين النصيحة -كما أسلفنا- فإخلاص النصيحة لله أول أدب من آدابها، لا ينصح ابتغاء أن يراه الناس، أو أن يسمع به الناس، أو يقولون: فلان أعلم من فلان، وإنما ينصح مبتغياً وجه الله.
ثانياً: وثاني أدب: هو الرفق واللين، فينبغي للناصح أن يتحلى بالرفق، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شَيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شَيءٍ إلَّا شانَهُ. }

(صحيح مسلم عن عائشة أم المؤمنين)

جاء الرجل إلى أحد الخلفاء وقال له: سأنصح لك وسأغلظ عليك في النصيحة، قال: ولِمَ الغلظة يا أخي؟ قد أرسل الله تعالى من هو خير منك إلى من هو شر مني، أرسل موسى -عليه السلام- إلى فرعون فقال:

فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
(سورة طه)

فالرفق واللين مهم جدًا في النصح، والله تعالى يقول:

فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ (159)
(سورة آل عمران)

فاللين في النصح والتعامل يستدعي من الطرف الآخر أن يقبل النصيحة.
ثالثًا: ومن الآداب أيضًا أن تكون النصيحة سرًا، وهذا أدب مهم جدًا، كان الإمام الشافعي-رحمه الله-يقول:
تَعَمَّدني بِنُصحِكَ في اِنفِرادي وَجَنِّبني النَصيحَةَ في الجَماعَه فَإِنَّ النُصحَ بَينَ النــاسِ نَــوعٌ مِنَ التَوبيخِ لا أَرضى اِستِماعَه

المقدم:
تتحول إلى فضيحة أحيانًا.

الدكتور بلال نور الدين:
قالوا -كما تفضلتم-: "من نصحك سرًا فقد نصحك، ومن نصحك بين الناس فقد فضحك، أو فقد وبخك"، فأن تكون النصيحة سرًا فهذه يقبلها، يقول الفضيل بن عياض:" المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعيّر"، ويقول الإمام الشافعي:" من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه"، وابن عباس -رضي الله عنهما- لما سُئل عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر، قال:" إن كنت فاعلاً ولا بد ففيما بينك وبينه".، فهذا أيضًا من الآداب.
رابعًا: ومن الآداب أيضًا أن يختار الناصح الأحوال والأزمنة المناسبة، يقول ابن مسعود-رضي الله عنه-: " إن للقلوب شهوة وإقبالاً، وفترة وإدبارًا، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها"، فالداعية الموفق، والناصح الشفوق يختار الوقت المناسب لينصح، فقد ينصح في وقت معين يكون فيه المنصوح له غاضبًا، أو في وقت معين، أو عنده هموم معينة فلا ينتبه للحكمة في النصيحة فينقلب أمره بمعروف إلى إشكال، لذلك قالوا: " من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف، ومن نهى عن منكر فليكن نهيه بمعروف"، هذه مجمل الآداب التي ينبغي أن يتأدب بها الناصح.

المقدم:
فيما أشرت إليه دكتور بلال وكأنه فهمت أن هنالك تقاطعًا بين النصيحة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة، وبين الشورى من جهة، وبين الإخلاص من جهة، هل هذه المنظومة متشابكة يمكن أن تكون النصيحة عنوان لها؟

الدكتور بلال نور الدين:
100%، النصيحة هي الأعم، لذلك الدين النصيحة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-:

{ الحَجُّ عَرَفةُ }

(أخرجه النسائي، والترمذي، وابن ماجه عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي)

أهم ما في الحج عرفة مع أن فيه سعيًا وطوافًا، ولا يصح حج دون طواف الإفاضة، ولكن من أدرك عرفة فقط أدرك الحج فقال: (الحَجُّ عَرَفةُ)، ومن أدرك النصيحة فقد أدرك الدين كله؛ لأن ما بعده ينضوي تحته، تفضلت قلت: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نعم هو جزء من النصيحة لأن النصيحة كما قالوا لها حكم، أي نحن عندما نقول: ما حكم صلاة الظهر؟ نقول: هو فريضة مثلًا، فرض عين على كل مسلم.

المقدم:
وما حكم النصيحة؟

حكم النصيحة:
الدكتور بلال نور الدين:
ما حكم النصيحة؟! النصيحة فرض كفاية، أي لو كنا في مجلس وإنسان يحتاج إلى نصح فتوكّل بذلك أحدهم ونصح له بينه وبينه، فرض كفاية قام به البعض سقط عن الكل، لكن قد تتعين النصيحة فرضًا عينيًا على رجل معين عندما تُطلب منه، كأن يقول لك أحدهم: يا أخي، أنا مقدم على شيء انصح لي هل أنا على حق أم على باطل، انصح لي، هنا وجب النصح لأن النبي -صلى الله عليه وسلم - يقول:

{ حَقُّ المسلِمِ على المسلِمِ ستٌ: إذا لقيتَهُ فَسلِّمْ علَيهِ، وإذا دَعاكَ فأجِبْهُ، وإذا استنصَحَكَ فانصَحْ لهُ، وإذا عَطسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وإذا مَرِضَ فَعُدْهُ، وإذا ماتَ فاتْبَعْهُ }

(أخرجه البخاري ومسلم باختلاف يسير عن أبي هريرة )

وعدّ منها (وإذا استنصَحَكَ فانصَحْ لهُ) إذا طلب النصيحة فانصح له، وأيضًا عند رؤية المنكر تصبح النصيحة واجبة.

{ مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ }

(أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري )

هنا وجوبًا ينبغي أن يقول له: هذا لا يجوز الذي فعلته، ففي حالات معينة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو جزء من النصيحة تصبح النصيحة واجبة فتصبح أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر.

المقدم:
وكأني أيضا قد فهمت أن أساليب النصيحة ليست في الكلام فقط، في الحديث الأخير في النهي عن المنكر يمكن أن تنصح بقلبك، بصمتك، هذا صحيح؟

أساليب النصيحة:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم عند العجز، أي أن إنسانًا لم يستطع أن ينصح بيده، كحال مثلًا الأب في بيته له أن يغيّر المنكر بيده فيزيل المنكر: لا أسمح بهذا في بيتي، فانتقل إلى لسانه مع صديقه، قال له: هذا لا يجوز، ثم لم يستطع بلسانه، و في الطريق سمع منكرًا لا يستطيع إزالته الإنسان بلسانه، لذلك قالوا قاعدة مهمة جدًا في إزالة المنكر، وهو جزء من النصيحة، قالوا: " لا ينبغي أن يؤدي إزالة المنكر إلى منكر أكبر منه"، كأن يكون في حافلة ويسمع شخصًا يتكلم كلامًا سيئًا وهو لا يعرفه فيحاول أن يزيل المنكر فإذا بهذا الرجل يتكلم كلامًا أعظم من الأول فهنا أعظم إثمًا، فهنا ينتقل إلى الإنكار بالقلب وهذا جزء من النصيحة وهو نهي عن المنكر لكن بقلبه فيقول: اللهم إن هذا منكر لا أرضى به.

المقدم:
ويمكن أن يكون أيضًا النصيحة بالقدوة دكتور، أي أن يكون في المجتمع قدوات بهيئتها وبسلوكها وممارستها، وكأنها تقدم النصيحة للآخرين دون أن تتحدث لهم.

الدكتور بلال نور الدين:
هذا حال الأنبياء، الأنبياء أسوة (وَأَنصَحُ لَكُمْ) (وَأَنَا۠ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) هذه يسمونها سيدي (الدعوة الصامتة) أن تعلّم الناس وأن تنصح لهم بسلوكك، وهذا اليوم من أعظم الأساليب تأثيرًا؛ لأن الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم، مما يروى عن الحسن والحسين -القصة المشهورة جدًا- وكانا غلامين شابين ورأيا هذا الرجل الذي لا يُحسن الوضوء فكيف يعلمانه وهو بقدر جدهم أو والدهم؟ فقالا له: سنتوضأ أمامك لعلك تصحح لنا -انظر إلى الأدب- فلما توضأا أمامه قال: أنا والله الذي لا أحسن الوضوء وليس أنتم، فأحيانًا الإنسان عندما يتصرف بالشكل الصحيح فينظر إليه الناس فيتعلمون منه بعيونهم، والتعليم بالعين أوسع أثرًا وأطول أمدًا من التعليم السماعي، لذلك كل مؤمن فينا اليوم بسلوكه، بتفاعله مع الناس، في طريقه إلى العمل، في عمله، في شركته، مع شركائه، مع المحامي، مع المعلم... إلخ، يمكن أن يكون ناصحًا للناس بسلوكه عندما ينظرون إليه فيجدونه كما وُصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرآناً يمشي، فأنت ترى أخلاق القرآن في تعامله وفي تعاطيه مع الآخرين، هذا من أعظم أنواع النصح؛ النصح بالقدوة بالأسوة الحسنة.

المقدم:
فيما يتعلق دكتور أحيانًا بعدم قبول النصيحة، اليوم نسمع كلامًا عندما أحد ينصح أحدًا، يقول له: أنت لست أعلم مني، وأنا لست بحاجة إلى نصائح، أنا اليوم عندي من القدرة على الفهم والتحليل وكذا... مالا أحتاج لنصائح الآخرين، وكأن النصيحة أصبحت غير مطلوبة عند البعض، كيف نفهم ذلك؟ وكيف ممكن أن نتجاوزه أيضًا؟ كيف يمكن اليوم المسلم أن يقتنع أن النصيحة سواءً كانت إسداء أو قبولاً، جزء من الدين، بل هي الدين كله؟

العوامل المؤثرة في قبول النصيحة:
الدكتور بلال نور الدين:
يا سيدي هو الناس عمومًا في داخلهم في أعماقهم يشعرون بشكل أو بآخر أنهم لا يخطئون، وانظر الآن إلى شخص قل له: هذا كأنه خطأ، فإذا أراد أن يعترف بخطئه بعد محاولات كثيرة للتهرب، يقول لك: ربما أخطأت لكن...أو فقط...، وعندما يقول: لكن أو فقط سينقض بما بعدها ما قبلها، لذلك أقول: هناك عوامل مؤثرة في قبول النصيحة منها:
1- الآداب التي ذكرناها، عندما يتأدب الناصح بآداب الإسلام فإن الآخر يغلب أن يقبل النصيحة.
2- منها أن التثبت والتأكد من أن الشخص الذي أريد نصحه قد وقع منه الخطأ والزلل فعلاً، ألا آخذ الناس بالظن وإنما باليقين.
3- ومنها وهو أهم شيء أن يكون الناصح قدوة حسنة لمن ينصح لأن أكثر ما يواجهنا أن تقول لإنسان فيقول لك: وأنت ماذا فعلت؟

المقدم:
صحيح، انصح نفسك.

الدكتور بلال نور الدين:
لا يستطيع أن يقبل لذلك قال تعالى:

أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
(سورة البقرة)

وكان أبو أسود الدؤلي يقول:
يا أَيُّهـــا الرَجُــــلُ المُعَــــلِّمُ غَــيــرَهُ هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليمُ تَصِفُ الدَّواءَ لِذي السَّقامِ وَذي الضَّنا كيما يَصحّ بِهِ وَأَنتَ سَقيمُ
4- الأمر الآخر المهم جدًا جدًا أن يشعر المنصوح له وخصوصًا عندما ننصح أبناءنا وطلابنا والأصغر منا أن يشعر بك بشفقتك ومحبتك له، كان هذا هدي الأنبياء (وَأَنَا۠ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ)، بالابتسامة، بالكلمة الطيبة، الثناء عليه، اذكر محاسنه، انظر لما نصح النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الرجل الذي دخل المسجد فأحدث جلبة حتى يلحق الركعة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له:

{ أنَّهُ انْتَهَى إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أنْ يَصِلَ إلى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذلكَ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا ولَا تَعُدْ. }

(صحيح البخاري عن أبي بكرة نفيع بن الحارث )

نظر إلى أن هذا الركض منه كان بغية خير لكنه أخطأ الوسيلة، قال: (زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا ولَا تَعُدْ)

المقدم:
انظر كيف مهد -عليه الصلاة والسلام- له، ليس بغلظة وبشدة وكأنه يؤنبه.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم، أنت اليوم عندك موظف يتأخر على الدوام مرة ومرتين وثلاثة وتريد أن تنصح له ألا يتأخر، ألا تستطيع أن تقول له: والله أنت موظف جيد وأمين، وما علمت عليك إلا خيرًا، لكنني أتمنى عليك أن تكمل هذا السلوك الطيب بالتزام يومي بالدوام.

المقدم:
أسلوب النصيحة مهم.

الدكتور بلال نور الدين:
الأسلوب مهم جدًا في أن يشعر الناس أنك لست الآن بوارد أن تعاقبهم أو أن تؤدبهم وإنما بوارد الشفقة والحب لهم ثم إنزال الناس منازلهم، أنت لا تستطيع أن تنصح الناس بالأسلوب نفسه، أنت الآن تقول: سأنصح بغلظة، هذا عالم وألقى درسًا وربما وجدت منه شيئًا بوقت معين، بطريقة معينة، برسالة مؤدبة عبر الوتساب، اختر الطريقة المناسبة، فهذه كلها تجعل الناس أكثر قبولًا للنصيحة.

المقدم:
وأن يكون الناصح أيضًا مؤهلًا، أحيانًا تسمع نصائح من أناس غير مؤهلين أو لديهم خلل في الفهم.

أهمية طريقة الناصح في تقديم النصيحة:
الدكتور بلال نور الدين:
100%، ليست النصيحة عملًا اعتباطيًا أو عملًا عشوائيًا، ينبغي أن نتعامل معها على أنها عمل عبادي، عبادة لله تعالى فيها إخلاص، فيها حب، فيها شفقة للناس، فيها إرادة الخير، بماذا عرّف العلماء النصيحة؟ قالوا: إرادة الخير للغير؛ للمنصوح له، أنا أريد لك الخير.

المقدم:
لا يحركني فيما أقول إلا محبتي الخير لك.

الدكتور بلال نور الدين:
ويجب أن يشعر بذلك، وهذا والله أنا أقول: لعله ليس بقوانين أرضية، لكن عندما تكون أنت مخلصًا يلقي الله تعالى في روعك وروع من تخاطبه بقبول النصيحة، عندما يشعر هو فعلاً؛ لأن المشاعر أخي الحبيب تنتقل على صورنا، وعلى حركات يدنا، وعلى حركات وجهنا، وعلى طريقة كلامنا من غير أن نشعر.

المقدم:
لا تخطئ طريقها، حديث القلوب.

الدكتور بلال نور الدين:
أحسنت، فالناس عندما يرون يشعرون بأنني جئت (وَأَنَا۠ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) جئت للنصيحة، جئت حبًا وخيرًا وشفقةً، ليس في مجلس مثلاً فيه عشرون شخصًا، ويتكلم شخص بأمر فنهضت من فوري وقلت: هذا لا يجوز، هذا حرام، ماذا تقول؟! هذا أمر مخالف، فيشعر مني أنني الآن أنال منه، وأنال من هيبته، ومن جمهوره، يجب أن أخلص النية، والله إذا أخلصنا النية في النصيحة وأحسنا الأسلوب فيها لقبلها الناس جميعًا، ولكن لما كانت النوايا أحيانًا زائغة عن المطلوب وكان هناك غلظة وشدة، النبي -صلى الله عليه وسلم- سيد الخلق، وحبيب الحق يخاطبه ربه فيقول له: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) فمن أنا وأنت؟! ماذا أوتينا؟ هل أوتينا جمال الصورة أم جمال المنطق أم النبوة؟!!

المقدم:
الله يرحمنا برحمته.

الدكتور بلال نور الدين:
على ضعفنا، يقول لنبيه:
(وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)
فمن نحن، ولماذا الغلظة والفظاظة، فعندما نتأدب بآداب النصيحة ونخلص النية بها، نسأل الله أن تكون مقبولة عند الناس.

المقدم:
آمين، الله يسلمك دكتور، بارك الله فيك وجزاك كل خير الدكتور بلال نور الدين أستاذ الشريعة والفقه الإسلامي، شكرًا جزيلاً لك، وبارك الله فيك يا دكتور.

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، عفوًا

المقدم:
حياك الله، يا مرحبًا.