حصار شعب ابي طالب وربطه بحصار غزة

  • الإذاعة الأردنية - برنامج أذن خير
  • 2024-03-30
  • الأردن
  • عمان

حصار شعب ابي طالب وربطه بحصار غزة


المُذيعة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
مُستمعينا حيَّاكم الله وأهلاً بكم إلى هذه الحلقة الجديدة من سلسلة حلقات برنامجكم أُذنُ خير، فخير الصلاة والسلام على خير أُذن، وعلى خير قلب، وعلى خير البشر.
إنَّ دراسة السُنَّة النبوية المُطهَّرة، من أعظم ما ينبغي الاحتفاء به، والاعتناء بتحصيله على عوام المسلمين وخواصهم، لِما في ذلك من الفوائد الجليلة التي تعود عليهم في دنياهم وأُخراهم، ويكفي للاقتناع بأهمية الاطلاع على السيرة، بل والتبحُّر فيها، أن يعلم أنَّ مَحبَّة النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الدين وقواعده، ولا يَتم إيمان المؤمن إلا بها، هذه المَحبّة لا تستقر في قلب المسلم إلا بعد معرفة رسول الله، صلوات ربي وسلامه عليه، وكلما زادت معرفة المسلم بإمامه وقدوَته، فإنَّ مَحبَّته في القلب تَزيد، مُستمعينا نُكمِل أحداث السيرة النبوية اليوم وفي هذا اليوم المُبارك وهو التاسع عشر من رمضان، مع ضيفنا في الاستديو، فضيلة الدكتور الداعية بلال نور الدين، عضو رابطة علماء الشام، أستاذ الأعجاز العلمي في الكتاب والسُنَّة، أستاذ التفسير وعلوم القرآن، المُشرِف العام على الموقع الخاص بالعلّامة الدكتور محمد راتب النابلسي، حيَّاكم الله دكتور وتقبل الله طاعتكم.

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، ونفع بكم، وجزاكم خير الجزاء.

المُذيعة:
بارك الله بكم، قبل الحديث بتسلسل أحداث السيرة، انتهينا في حلقة الأمس بالحديث عن الهجرة إلى الحبشة، اليوم ننتقل إلى الحِصار في شِعب أبي طالب، أو شِعب بنو هاشم، لكن نودّ من فضيلتكم كلمات خصوصاً لرمضان، في هذه الليلة العظيمة من أواخر شهر رمضان ليلة عتقٍ من النيران، الكلام عن فضل قيام الليل، وأول ما نَزل على سيدنا محمد كانت:

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
(سورة المدثر)

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
(سورة المزمل)

فكانتا هُما الآيتان أو السورتان، هُما حجرا الزاوية مع سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، تفضل دكتور.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم بارك الله بكم، بسم الله الرحمن الرحيم الحقيقة نحن في بداية العشر الأواخر من هذا الشهر الكريم المُبارك، وهذه العشر المُباركة فيها ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ. }

(صحيح البخاري)

نحن مع فرصةٍ عظيمةٍ استثنائيةٍ نسأل الله تعالى أن يُعيدها علينا وعلى المسلمين، نحن مع هذه الفرصة لنخرج في واحد شوال بصحيفةٍ خاليةٍ من الذنوب والمعاصي والآثام، يعني بإمكاننا في الأول من شوال أن نكون بإذن الله تعالى في صحيفةٍ بيضاء مع الله تعالى، فما أحرانا في هذه الليالي أن نكون من عُتقاء الله تعالى من النيران، بالإكثار من الصلاة، والدعاء، والتضرع إلى الله تعالى في هذه الليالي المُباركة ليالي العشر:

{ كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، إذَا دَخَلَ العَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ. }

(صحيح مسلم)

كناية عن الاجتهاد في العبادة وزيادة الطاعات، فالمؤمن يُسابق في خيرات الله تعالى، ولله تعالى في دهرنا نفحات فينبغي أن نتعرض لها.

{ إنَّ لِرَبِّكم في أيَّامِ دَهْرِكم نَفحاتٍ، ألَا فتَعرَّضوا لها. }

(أخرجه الطبراني)


حِصار شِعِب أبي طالب:
المُذيعة:
بارك الله بكم دكتور، الآن ننتقل للحديث عن السَنَة السابعة للبعثة، وكان هنالك حصار شِعب بنو طالب، أو كما تقول الروايات بنو هاشم، نحن في هذه السَنَة سبع سنوات من العذاب، من الأذى، من الكُفر بالدعوة، إيذاء النبي، كل ذلك في سبع سنوات، تحدثنا عن ذلك كله يا دكتور، ونحن نعيش معهم، مع خُطاهم، كانت الأنفاس أحياناً تتقطَّع، كانت القلوب تبلُغ الحَناجر، ونحن نرى ما يحصل مع سيدنا محمد ومع الصحابة، نتحدث الآن عن الحِصار، سبحان الله هذه الكلمة أصبحت مُلاصقة لنا على الشاشات، في التلفاز، الأخبار، مواقع التواصل، حِصار، حِصار، لكن ليس حِصار مكَّة، حِصار غزَّة، فما أشبه اليوم بالبارحة، ونحن نقرأ عن حِصار النبي، اليوم نُشاهد الحِصار، هناك كان معهم النبي في الحِصار عليه الصلاة والسلام، وأهل غزَّة معهم سُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام، هم ضُعفاء في إنسانيتهم لكنهم أقوياء بعزيمتهم، بإيمانهم، بثباتِهم، فلتُحدّثنا عن ذلك يا دكتور تفضل.

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة كما تعلمون لمَّا أشتدَّ أذى المشركين على المسلمين كأشدّ ما يكون، وبلغ المسلمين ما بلغهم من الجهد والبلاء، وأجمعت قريشٌ أمرها أن يقتلوا مُحمداً صلى الله عليه وسلم، أبو طالب عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم، لمّا رأى عمل القوم، ورأى إصرارهم على قتله، جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يُدخِلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِعبِهم، وفي حمايتهم وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، أبو طالب عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم، كان يريد بذلك أن يحمي ابن أخيه من تلك المؤامرة التي كانت تُحاك ضِده، الذي حصل أنَّ قريش لمّا عرفت أنَّ القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجمعوا أمرهم أن لا يُجالسوهم، وأن لا يُبايعوهم، وأن لا يدخلوا بيوتهم، يعني مُقاطعة مع حِصار، مُقاطعة اقتصادية، ومُقاطعة اجتماعية، يعني إدخال مساعدات ممنوع، إدخال طعام ممنوع، وإدخال غذاء ودواء وكِساء، التاريخ لا يُعيد نفسه لكن الأحداث تتشابه، الأحداث تتشابه بشكل كبير، وكأننَّا نعيش هذا الواقع، أحداث السيرة فيها إعجاز، بحيث لو قرأت في السيرة النبوية فلا تجد حدثاً من حياتك إلا تجدُ مثيلاً له في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأنَّ الله تعالى يقول:

لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
(سورة الأحزاب)

فإذا لم يَعِش النبي صلى الله عليه وسلم الواقع الذي نعيشه اليوم فكيف نَتأسى به؟ لذلك أراد الله في سِني سيرة النبي الله صلى الله عليه وسلم وعمره الشريف، أن يعيش كل الأحداث التي تعيشها الأمّة، فَقر افتقر، غِنى اغتنى، ضعف كان ضعيفاً، قوّة كان قوياً، حِصار حوصر، وفاة قريب، وحبيب، وصديق وابن، وزوجة، كله حصل معه، حتى يعيش الأحداث التي نعيشها، فإذا قرأناها اليوم نشعر وكأننا نعيش هذه الأحداث بواقعنا، فنجد فيه الأُسوة صلى الله عليه وسلم.

سيدنا محمد بشرٌ وتجري عليه خصائص البشر ليكون أُسوة لنا في حياتنا:

المُذيعة:

أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا (93)
(سورة الإسراء)

سبحان الله

الدكتور بلال نور الدين:
نعم هو بشر تجري عليه كل خصائص البشر، ولذلك كان سيد البشر، لأنه انتصر على بَشرِيته صلى الله عليه وسلم.
فكتبوا في مكرهم وفي حِصارهم صحيفةً، وعلّقوها في جوف الكعبة زوراً وبُهتاناً، وكان في الصحيفة، أن لا يُبايعوهم، وأن لا يُجالسوهم، وأن لا يسمحوا بدخول أي شيء إليهم، فتمَّ هذا الحِصار ولبث بنو هاشم في شِعبِهم ثلاث سنين، ثلاث سنوات وهم في الحِصار ليست يوم أو يومين، حِصار كامل حتى بلغ الجهد منهم أن أكلوا أوراق الشجر، وكانت قريش تسمع أصوات الصبية من خلف الحِصار، ومن خلف الشِعب يتضاغون من الجوع، يبكون من شِدّة الجوع، وهذا ألم شديد، اليوم نحن عندما نسمع صِغار في غزَّة يَتضاغون من الجوع ويريدون الطعام ولا نستطيع أن نُعطيهم ما يُقيم أودَهم إلا النَذر اليسير، نشعر بالأسى والحزن وهذه علامة إيمان، لكن هؤلاء بعضهم من شِدِّة قسوة القلب التي تتولد عن الكُفر، كانوا يسمعون أصوات الصبية يَتضاغون وكأنهم لا يسمعون شيئاً، ولكن دائماً يشاء الله تعالى أن يُحرّك بعض الفِطَر السليمة، فكان عمر بن هشام، وزهير بن أمية، ومعهم الحكم بن البختري، وغير هؤلاء اجتمعوا على نقض هذه الصحيفة الظالمة، وتعاونوا على ذلك، وكان أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عمَّه بأنَّ الأرضة، (دويبة من دويبات الأرض) قد أكلت تلك الصحيفة إلا قولهم وكتابتهم باسمك اللهم، فاجتمع الأمران معاً، أراد ألله أن تتحرك بعض الفِطر ليُبين أنَّ خلقه جلَّ جلاله فيه فِطر سوية تتحرك كما نرى اليوم بعض الأصوات التي تنادي من هنا وهناك وإن كانت قليلة ولكنها دائما تُشير إلى فِطرة الله التي فَطَر الناس عليها، تحرّكت هذه الفِطَر، ونزلوا إلى الكعبة، ومزّقوا الصحيفة، فلما وجدوها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، كان هذا مُنطلقاً لفك الحِصار بعد ثلاث سنوات.
هذا الحِصار الذي حصل لا بُدَّ أن نتعلّم منه دروساً ودروس سأختصرها.
الدرس الأول: الصبر صبران، صبر قهر، وصبر رضا، بنو هاشم وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الشِعب صبروا، لكنهم ما صبروا صبر قهر، صبروا صبر رضا، فالصبر مع الرضا طريق النصر، والصبر مع القهر طريق القبر.

المُذيعة:
نعم فقط مداخلة لهذه الجملة الجميلة يا دكتور، لننَّوه أنَّ من كان في الشِعب هُم بنو هاشم لوحدهم، صغيرهم وكبيرهم، غنيَّهم وفقيرهم، كافرهم ومسلمهم، يعني الكافر صَبر كما صَبر المسلمون، يعني هذه نقطة ممكن تكون غائبة عن بعض المُستمعين، أو عن أذهاننا جميعاً أنَّ الحِصار كان على غنيَّهم وفقيرهم، كافرهم ومسلمهم.

سنوات الحصار التي عاشها الصحابة كانت زاداً للجيل الجديد:

الدكتور بلال نور الدين:
صحيح الحِصار كان عامَّاً لكل بني هاشم، لأنهم أرادوا أن يَحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مادمتم تريدوا أن تمنعوه مما تمنعون به أنفسكم فأنتم شُركاء معه، هذا حالهم كل من يُناصر هؤلاء المُستضعفين فسنُعاديه وسنقف ضده، كما يحصل اليوم تماماً، من يقف معهم، من يُناصرهم، من يتحدث عنهم في الإعلام، من يكتب عنهم في الفيسبوك، فهو عدونا، هذا منطق الطُغاة والظالمين في كل عصر، فهم حاصروهم جميعاً، ووقفوا ضدهم جميعاً لأنهم منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لمّا صَبروا ورضوا بما قضاه الله تعالى عليهم، وكما تفضّلتِ البعض منهم ليس مسلماً، ولكن الله تعالى يُنزِّل من الصبر على قدر ما ينزِل من البلاء، فألقى الله في قلوبهم الصبر والرضا والسكينة حتى كان ذلك مفتتح الفرج والنصر والتمكين.
أيضاً هناك ظاهرة مهمة وهي ظاهرة أبي جهل، أبو جهل كما قيل:
وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
{ طرفة بن العبد }
فالمُصلِحون دائماً سيجدون من أقرب الناس إليهم من يُعاديهم ومن يقف ضدهم هذه ظاهرة، أيضاً سنوات المِحَن الثلاث التي عاشها الصحابة الكرام في الشِعب كانت زاداً للتربية، للجيل الجديد قال تعالى:

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
(سورة السجدة)

فقالوا: " بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين" لا يمكن أن تحصل على إمامة وأن تكون إماماً يأتم الناس بك، وأنت لم تذُق الحِصار، لم تذُق البلاء، لم تذُق الصعوبات، وراء كل محنةٍ منحةٌ ربّانيّة، ووراء كل شِدَّةٍ شَدَّةٌ إلى الله تعالى.

الحِصار والتجويع أخرج قضية فلسطين إلى العلن:
الأمر المهم جداً، ما إن انفك هذا الحصار حتى أقبل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، كما يقول كُتَّاب السيرة، فارتد سلاح الحِصار على الأعداء بالنِقمة، الحِصار والتجويع أخرج قضية المسلمين إلى العَلن، كما نجد اليوم في غزَّة.
قضية فلسطين كانت نائمة في الإعلام، وفي كل شيء، وكان المتآمرون يتآمرون في السِرّ دون أن يعلم أحد ما الذي يجري، وما الذي يريدون فِعله بالمسجد الأقصى، لكن لمَّا حصلت هذه الأحداث خرجت الأحداث إلى الواجهة، ورآها الناس بأُمِّ أعينهم، وعَلِموا ظلم الأعداء، وعَلِموا مَكرهم، وعَلِموا إجرامهم، فربُّنا جلَّ جلاله يُدبر الأمر جلَّ جلاله، حكيم، فدبّر الأمر، فكان ما بعد الحِصار قد ارتدَّ سلاح الأعداء عليهم بالنقمة، فأصبحت قضية المسلمين قضيةً ظاهرةً للعيان، فدخل كثيرٌ من الناس في دين الله أفواجاً بعد هذا الحِصار.
وأخيراً نذكر موقف زهير بن أبي سُلمة عندما وقف وقال: " أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم جائعين لا يبتاعون ولا يُبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى أشُقَّ هذه الصحيفة الظالمة"، هذا الموقف العظيم الذي نحن بحاجته اليوم، زهير لم يكن مسلماً ولكنه كان يحمل في داخله الفِطرة التي فَطر الله الناس عليها، أن لا يبيت الإنسان شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم.

{ ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ }

(أخرجه البيهقي وأبو يُعلى)

فما أحوجنا اليوم إلى مواقف الرجال الذين يقفون ويقولوا لا والله لا نُقيم الاحتفالات، ونبذخ بالصرف وبالأموال، ونصوّر موائد الإفطار مساءً، ونضعها في كل مكان، وأهلنا إلى جوارنا لا يبعدون عنّا إلا شيئاً يسيراً، وهُم لا يبتاعون ولا يُبتاع منهم، فهذا التعاطف مهم جداً ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

{ مَن أصبح وهَمُّه الدنيا ، فليس من اللهِ في شيءٍ، ومَن لم يَهْتَمَّ بأمرِ المسلمينَ فليس منهم، ومَن أَعْطَى الذِّلَّةَ من نفسِه طائعًا غيرَ مُكْرَهٍ ، فليس منا }

(أخرجه الطبراني ضعيف جداً)


الرابطة بين حصار غزَّة وحصار بنو هاشم:
المُذيعة:
إذاً الرسالة التي نودّ توجيهها اليوم يا دكتور من خلال هذه الحلقة أنَّ في الحِصار ظهر الثبات، الثبات على الحقّ، الثبات على قوة هذا الدين، وما أشبه اليوم بالبارحة كما أنت ذكرت، وأنا أُجزِم أنَّ أغلب من يستمع إلينا الآن، هو يُسقِط الواقع على ما يحصل من مشاهدات لحِصار غزَّة، نحن نسمع بحِصار بني طالب، ولكننا لم نُشاهد، لم تُوثَّق هذه الأحداث بالصورة، لكن الآن نُوثقها بالصورة فنُسقِط هذا الكلام على هذه الصورة.
لكن هناك سؤال دكتور أنَّ المسلمون طبعاً كانوا ثابتون، الكفار كانوا ثابتون، أبو طالب كان ثابت، وكان عمره قد زاد عن الثمانين، خديجة كان عمرها فوق الخمسين، وكانت هي السيدة الوحيدة التي سمحت لها قريش بالخروج من الشِعب، لكنها أصرَّت أن تبقى بجانب الرسول، ما الرسالة التي نوَّد توصيلها للنساء، وللزوجات في تحمُّل المصاعب والحياة المتعبة مع أي زوجة.

دور الزوجة والمرأة الصالحة في تحمُّل مصاعب الحياة:
الدكتور بلال نور الدين:
كانت نساء السلف الصالح إذا خرج زوجها إلى العمل، والعمل فيه صعوبات، وفيه ربما أكل مال حرام أحياناً ممّا لا يُرضي الله، تخرج خلفه وتقف على الباب وتقول له: " يا أبا فلان اتقِ الله فينا، فإننا نصبر على الجوع ولا نصبر على الحرام"، الزوجة هي السند الداخلي، هي دِفء الرجل في بيته، والمرأة الصالحة هي حَسنة الحياة الدنيا.

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
(سورة البقرة)

قالوا الحَسنة حَسَنة الدنيا هي المرأة الصالحة، فاليوم المرأة لها دور عظيم جداً في المجتمع.
النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكُر خديجة دائماً، يذكُرها لقد واستني، لقد أعطتني من مالها، لقد أكرمتني، حين قيل له ما أبدلك الله خيراً منها؟ قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها.

{ كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا ذكَرَ خَديجةَ أَثْنى عليها، فأحسَنَ الثناءَ، قالت: فغِرْتُ يومًا، فقُلْتُ: ما أكثرَ ما تذكُرُها حَمراءَ الشِّدْقِ، قد أبدَلَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها خَيرًا منها، قال: ما أبدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها، قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ، ورزَقَني اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

النبي صلى الله عليه وسلم كان يعي تماماً أهمية ودور المرأة، لمّا جاء يرتجف زملوني زملوني قالت: والله لا يُخذيك الله أبداً، من الذي ثبّته؟ خديجة رضي الله عنها، فالمرأة مع زوجها في بيتها تقوم بأشرف عمل، وأقدس عمل، وأهم عمل عندما تكون في رعاية هذا البيت الذي إن تفكَّك من الداخل، فلن ينفع رجل، ولن ينفع طفل، فهي المدرسة الأولى، وصَدَق حافظ إبراهيم إذ قال:
الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها أَعدَدتَ شِعِباً طَيِّبَ الأَعراقِ
{ حافظ إبراهيم }

المُذيعة:
دكتور الآن نحن نتحدث عن الحصار ونقول أنَّه بقي ثلاث سنوات، هُم صبروا ولم يكونوا يعلموا أنهم سيبقوا ثلاث سنوات، هناك أسئلة كثيرة تتداخل لدي دكتور، لماذا الرسول لم يدعُ الله بمُعجزة؟ لماذا لم يدعُ أن ينزِل العذاب بأهل قريش؟ الكُفّار لماذا ثَبَتوا؟ لماذا لم نسمع أنَّ أحداً من الكُفّار خرج من الشِعب وتبرأ من محمد، أو حتى من المسلمين؟ عليه صلوات الله وسلامه.
السؤال الأهم لماذا الرسول لم يُرخِّص لهم كما رَخَّص لبلال الآية:

مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
(سورة النحل)

لِمَ لم يُرخِّص لهم؟ حتى يُخفِّف عنهم من هذا العذاب الذي كانوا يُعانوه؟

كل شيء في الكون يجري وفق السُنَّن الكونية:

الدكتور بلال نور الدين:
الحقيقة نحن عندنا رُخصة وعندنا عزيمة، لو أخذ كل الناس بالرُخصة لالتغت البطولات، ربنا جلَّ جلاله كما تفضلتم، (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) رَخَّص جلَّ جلاله، لكن أحياناً عندما يتجّه الناس جميعاً إلى الرُخصة فأين البطولة؟ وأين الثبات؟ وكيف يُبنى إسلام؟ وكيف يُبنى منهج؟ وكيف يُبنى مجتمعٌ مسلم والناس تأخذ بالرُخَص؟
الحقيقة هذه المرحلة التي هي نسبياً مُبكِّرة من الدعوة قبل المدينة، هذه الدعوة المكيَّة، مرحلة مُبكِّرة، في هذه المرحلة لا بُدَّ من التمحيص، ولا بُدّ من الابتلاء، النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنَّ الأمور تجري الآن وفق السُنَّن الكونيَّة، ويعلم أنَّ الله تعالى يُهيئ لخيرٍ بعده، في الإسراء والمعراج مُعجزة كما سيأتي معنا في حلقاتٍ قادمة، الإسراء والمعراج مُعجزة، لكن الآن وفق السُنَّن الكونيَّة، الهجرة وفق السُنَّن الكونيَّة، حصار الشِعب وفق السُنَّن الكونيَّة، المُعجزة هي شيءٌ يأتي من الله تعالى في الوقت الذي يعلم الحكيم جلَّ جلاله أنه يُثبّت به، يقوّي به الفؤاد، لكن أراد المولى جلَّ جلاله أن تسير أحداث السيرة بتسعين بالمائة منها وأكثر وفق السُنَّن الكونيَّة، إذاً نتعامل مع الله بالسُنَّن، لا يقول إنسان أنه سيأتي الآن عذاب أليم ويُهلِك الظالمين، يجب أن يُهلَك الظالمين بأيدينا، بسَعينا، بجُهدنا، بصبرنا، بثباتنا وإلا لَمَا استحق أهل الجنَّة الجنَّة إلا بالبذل والتضحية.

المُذيعة:
بارك الله بكم دكتور، لكن هناك سؤال كبير، الدعوة الإسلامية توقفت خلال هذه السنوات، ثلاث سنوات والدعوة الإسلامية موقّفة إلا بموسم الحج، عندما كان يخرج النبي وكانت قريش تَهاب أن تَمسَّه بسوء أمام القبائل العربية، وهو موسم التجارة بالنسبة لها، فكان يَعرِض نفسه على القبائل.
السؤال الرسول الكريم لماذا لم يدعُ أهله وقبيلته الكافرين وهُم في الشِعب؟ لماذا لم يَعرِض نفسه عليهم، أو أن يتلو عليهم القرآن، أو يعلمهم أحكام الدين، أو أن يُسلِموا؟! يعني كل الوقت كان معهم وكان يسمح بذلك، هناك أيضاً أسئلة كثيرة تجول في خاطرنا وفي خاطر المُستمعين ولكن ندع الإجابة لهم أن يبحثوا عنها في كُتب السيرة، فالوقت لا يسمح بالإجابة على كل هذه التساؤلات.
هنالك تساؤل آخر، أين كان جبريل؟ وأين كانت الملائكة عن هذا الحدث.

من مهام الملائكة تثبيت المؤمنين بأمرٍ من الله تعالى:

الدكتور بلال نور الدين:
ربُّنا جلَّ جلاله خلق الملائكة وجعل لهم مُهمّات من مُهمّاتهم تثبيت المؤمنين، يعني عندما نقرأ مثلاً في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم:

{ لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ. }

(صحيح مسلم)

فإذا كانت الملائكة تحفُّ مجالس الذِكر، فهي من باب أولى تحفُّ مجالس الصبر، وهؤلاء في شِعبهم لولا أنَّ الله ثبّتهم، بملائكةٍ تحفُّهم، وبسكينةٍ تتنزل على قلوبهم، وبقوةٍ من عند الله تعالى لَمَا ثبتوا.

وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
(سورة الإسراء)

التثبيت من الله.

المُذيعة:
إذاً الثبات، الثبات هي كلمة تتكرر.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم هي كلمة السرّ، هي المفتاح، لن ينال الإنسان التمكين قبل أن يثبُت ويصبِر، الإمام الشافعي رضي الله عنه، سُئل ندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين، فأجاب إجابة رائعة، قال: " لن تُمكَّن قبل أن تُبتلى"، لن تُمكَّن، يعني مثل طالب يسأل يعني أدخُل الجامعة أدعو الله بالنجاح أم بالامتحان؟ لن تنجح قبل أن تُمتحن، هي القضية هكذا، هي تثبُت على الحقّ، تنتصر للحقّ، يُثبّتك الله عزَّ وجل، يُمكِّن لك في الأرض، لن تسير الأمور إلا وفق هذه السُنَّة الكونية.

المُذيعة:
نعم بارك الله بكم، إذاً في نهاية الحلقة يا دكتور عند فكِّ الحصار كيف كان حال المسلمين وحال الكُفّار، ونحن نعلم أنَّ خديجة وأبو طالب لم يمكثا طويلاً حتى توفيا من الإنهاك، ومن التعب ومن الأمراض التي لحقت بهم، ماذا تقول في نهاية هذه الحلقة.

معركة الحقّ والباطل لن تنتهي إلى قيام الساعة فهي سُنَّة الله في الكون:

الدكتور بلال نور الدين:
بعد فكّ الحصار، لم يتوقف، ولن يتوقف في كل عصر، وفي كل مِصِر، لن يتوقف المجرمون والمُعتدون عن إجرامهم واعتدائهم، فمازالوا يحاولون المحاولات تلوَّ المحاولات، ومن محاولاتهم عندها أنهم جاؤوا إلى عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ من الكِبَر عتياً كما يُقال، جاؤوا إليه يحاولون معه المحاولة الأخيرة، والعرض الأخير بأن لك شأنك ولنا شأننا، نحن لن نمنعك من الكعبة، وأنت لن تمنعنا، أنت ادعو من شئت ودعنا وديننا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: << يا عمّ هل لكم في كلمةٍ خيرٌ من ذلك؟ قالوا: نعم، قال: تقولوا لا إله إلا الله>>، يعني رجع بهم إلى المربع الأول، تملكوا العُرب والعجم، أعطاهم شيئاً يحبونه، ألا تُريدون أن تَملكوا؟ لا إله إلا الله تُملّككم العُرب والعجم معاً، لكن لن أتنازل عن ديني قيض أُنملة، لن أتنازل عن المبدأ، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج من الشِعب أكثر ثباتاً، وهم خرجوا أكثر شراسةً، هذه هي طبيعة الحياة، معركة الحقّ والباطل لن تنتهي إلى قيام الساعة، هذه سُنَّة الله، سُنَّة التدافع بين الحقّ والباطل، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج ثابتاً، في هذه اللحظة التي يعرضون عليه هذا العرض، يعني قد يقول قائل الوضع الآن صعب وثلاث سنوات حِصار، الآن يمكن أن تدعو إلى الله بأريحية، وأعطوك مساحة جيدة، فالآن تنازل لهم قليلاً وقل لهم على بركة الله، أنتم من طرفكم وأنا من طرفي، لا لن أتوقف عن ديني، ولا عن مبدأي، ولا عن ثباتي، ولا عن قيَمي، لقّنهم درساً عظيماً، وأنه ثابتٌ على مبدأه، وأنَّ هذه السنوات لم تنل من عزيمته ولن تنال منها.

للصابر مرتبة عظيمة عند الله:

المُذيعة:
نعم وفي ختام هذه الحلقة نستذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام وهو يستذكر الحِصار:

{ لقد أُخِفتُ في اللَّهِ وما يُخافُ أحدٌ . ولقد أوذيتُ في اللَّهِ وما يُؤذى أحدٌ، ولقد أتت عليَّ ثلاثونَ من بينِ يومٍ وليلةٍ وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأْكلُهُ ذو كبدٍ إلاَّ شيءٌ يواريهِ إبطُ بلالٍ }

(أخرجه الترمذي وابن ماجه)

تخيَّل تحت إبطه وفي النار وفي الحر! يعني تخيَّل هذه العَظَمة، وتخيَّل كيف كان ثابتاً على الحقّ حتى يصل إلينا؟!
دكتور وأنا أقرأ فقط حصار الشِعب وأنا أحُضِّر لهذه الحلقة، والله لا أعلم ماذا أقول، وماذا أترك وماذا أكتب، وماذا أؤجل، يعني كلها أحداث عظيمة جداً، والله أنها تدمع العين ونحن نقرأ ونشاهد غزَّة، نقرأ ونُطبّق على مشاهدات غزَّة، كلها أحداث مترابطة مع بعض.

الدكتور بلال نور الدين:
كل كلمة فيها عِبرة، وكل موقف وكل حركة وكل سَكَنة في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم كما تفضّلتم كان يستذكر هذه الأيام مع أنها أيام قاسية، كان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: " وجدنا خير عيشنا في الصبر" لأنَّ الصابر له مرتبةٌ عظيمةٌ عند الله، فعندما يستذكر أيام الصبر والمِحَن يستذكر كم كان قريباً من الله، وكم كان الله معه، وكم أنزل عليه من التثبيت والتمكين.

المُذيعة:
نعم ولكن أختِم أين نحن يا دكتور؟ ماذا قدّمنا للإسلام؟

كل إنسان من موقعه عليه أن يُقدِّم ما يستطيع للإسلام:

الدكتور بلال نور الدين:
نحن اليوم كلٌّ من موقعه يجب أن يُقدِّم، كلٌّ من موقعه، أنا وأنتِ اليوم نجلس هذا المجلس نسأل الله أن يجعله شاهداً لنا عند الله تعالى، نُحاول أن نُقدِّم، الأب يستطيع أن يُقدِّم، والأم تستطيع أن تُقدِّم، النبي صلى الله عليه وسلم لولا هذا الحِصار، ولولا هذا الثبات، لما كُنّا اليوم نجلس ونتحدث عنه، وننشر هذا الخير في العالمين، هو خيره صلى الله عليه وسلم، نحن اليوم ننقله فقط نقلاً لأنّه ثَبَت صلى الله عليه وسلم، فاليوم نحن ما أحرى بنا ونحن في راحة، نسأل الله أن يُديم النِعَم، ما أحرانا ونحن في هذه الراحة أن نجعلها في طاعة الله تعالى، في تعليم الناس سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرته ومدّ يد العون لإخواننا المنكوبين والمُستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.

المُذيعة:
بارك الله بكم، وشكراً جزيلاً، الداعية الدكتور بلال نور الدين أستاذ التفسير، وأستاذ الإعجاز في الكتاب والسُنَّة انتهى اللقاء، ولكن لم تنتهِ المحاور، نتابع معكم في حلقة الغد بإذن الله تعالى، نشكركم جزيل الشكر على ما قدّمتم وأفدتّم، طيَّب الله أنفاسكم دكتور شكراً جزيلاً.

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم.