أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم

  • الإذاعة الأردنية - اللقاء المفتوح
  • 2024-07-22
  • عمان
  • الأردن

أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم


الأستاذ حسين:
السيدات والسادة، المستمعون و المستمعات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حيّاكم الله بأطيب تحياته، وأهلاً ومرحباً بكم في مستهل هذه الحلقة الجديدة من اللقاء المفتوح، وبرنامجكم فكرٌ وحضارة.

مقدمة:
عنوان حلقة اليوم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله عزَّ وجل:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
(سورة آل عمران)

وقال سبحانه:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
(سورة الأنبياء)

صدق الله العظيم.
اتفق فقهاء العربية على أنَّ مفردة النبوَّة مشّتقةٌ من مصادر ثلاثة:
النبوّ بمعنى الارتفاع والسمو، والنبيء بمعنى الطريق الصحيح، والنبأ الذي هو الخبر الصادق ذو الشأن العظيم، والنبي جامعٌ لكل هذه الصفات، فقد اكتملت فيه قبل النبوَّة وبعدها، صور الكمال البشري، حتى أنه صلى الله عليه وسلم، كان بمثابة كونٍ إنساني، انفتحت شخصيته على كل المعاني الإنسانية التي تصعد لله تعالى وتلتقي به وتعيش معه وتذوب فيه، ثم تتحرك من أجل أن تصنع الإنسان.

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128)
(سورة التوبة)

وفي القرآن الكريم وردت كلمة (خلق) بمشتقاتها نحو مئتين واثنتين وستين مرة، جاءت بضم الخاء (خُلق) مرتين فقط، مرةً في مقام مدح النبي عليه الصلاة والسلام

وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
(سورة القلم)

ومرةً في وصف ما درج عليه الأولون من أخلاق

إِنْ هَٰذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
(سورة الشعراء)

لكن من بين ستة آلافٍ وستٍ وثلاثين آية، هي عدد آيات القرآن الكريم، لا يوجد سوى خمسمائة آية حسب الغزالي تتحدث عن الأحكام، فيما تتحدث الآيات الأُخرى في كتاب الله العزيز عن الأخلاق، ولهذا صحَّ وصف عائشة رضي الله عنها، للنبي عليه الصلاة والسلام:

{ سُئِلَتْ عائِشةُ عن خُلُقِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَتْ: كان خُلُقُه القُرآنَ. }

(أخرجه أحمد والطحاوي)

في هذه الحلقة نستعرض سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وأخلاقه التي جسَّدت صورة الإسلام، بل صورة الأديان في أدق وأجمل معانيها، وشكَّلت نموذجاً للإنسان.

لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
(سورة الأحزاب)

فما أحوجنا اليوم إلى استذكار هذه القيَّم والأخلاق الكريمة، لنستلهم منها ما يساعدنا على فهم الدين أولاً، ومواجهة الحياة والتعامل مع من فيها، من بشرٍ وموجودات، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته دكتور بلال.

الدكتور بلال نور الدين:
حيّاكم الله أستاذ حسين، بارك الله بكم ونفع بكم، وشكراً لهذه الاستضافة الكريمة.

ماذا تحتل الأخلاق من الدين؟
الأستاذ حسين:
اسمح لي في البداية أن أطرح سؤال الأخلاق في الدين، ماذا تحتل الأخلاق في هذه المساحة الواسعة من الدين؟

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة أنَّ الإمام ابن القيِّم رحمه الله تعالى يقول: " الدين هو الخُلق، فمن زاد عليك في الخُلق، فقد زاد عليك في الدين"، وهذه المقولة لها في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ما يؤيدها، فإن الدين عبارة عن عبادات ومعاملات، العبادات هي علاقة الإنسان بخالقه، الصلاة، الصوم، الزكاة، الحج، والمعاملات علاقة الإنسان بمن حوله من البشر، في البيع والشراء والهِبة إلى آخره....
وهناك فيه الأحوال الشخصية، وهي علاقته مع زوجه، في زواجٍ وطلاقٍ ونفقةٍ وغير ذلك، ويتوِّج ذلك كله الأخلاق، فالأخلاق بمثابة رأس الهرم، لأن العبادات شُرعت لتحصيل الأخلاق.

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
(سورة العنكبوت)

ولأن المعاملات بين الناس تنتظمها الأخلاق.

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
(سورة البقرة)

من أجل أن لا نستغل حاجة الناس، واستغلال حاجة الناس خُلقٌ ذميم، والقرض الحسَن خُلقٌ حميد، وقِس على ذلك كل المعاملات، فكلها تنبع من الأخلاق، والأحوال الشخصية تنتظمها الأخلاق، علاقة الزوج بزوجته هي الإكرام، يكرمها وتكرمه، يتقرَّب إلى الله بخدمتها وتتقرَّب إلى الله بخدمته، يتقي الله أن يظلمها وتتقي الله أن تظلمه.
فإذا ذهبنا إلى كل ما في الدين من عبادات ومعاملات وأحوالٍ شخصية، فإننا في مُحصّلة الأمر نصل إلى الأخلاق، إذاً نحن مع قمة الهرم، لأن كل ما شُرِع من الشرائع شُرِع لتحصيل الخُلق، إذاً ليس مبالغةً أن يقول ابن القيِّم رحمه الله: " الدين هو الخُلق، فمن زاد عليك في الخُلق، فقد زاد عليك في الدين"، فالأخلاق هي روح الدين وجوهره، تحتل منه الرأس من الجسد، وتحتل منه الروح من الجسد.

الأستاذ حسين:
بمعنى أنَّ نقص الأخلاق، يعني نقصاً في الدين.

الدين المعاملة:
الدكتور بلال نور الدين:
مئةً بالمئة، قالوا: الدين المعاملة، هذا ليس حديثاً، لكن مضمونه شرعي، وجرَت على ألسنة الناس أنَّ الدين هو المعاملة، فالشخص الذي يفتقر إلى الأخلاق، هو في حقيقة الأمر يفتقر إلى الدين، يفتقر إلى التديُّن الصحيح، كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما يدعو يقول:

{ اللهمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي ، و أَصْلِحْ لي دُنْيايَ التي فيها مَعَاشِي ، و اجعلِ الموتَ رحمةً لي من كلِّ سوءٍ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

الدين عندما يخلو من الأخلاق بحاجة إلى إصلاح، الدين من عند الله كامل متكامل، لا يحتاج إلى تبديل ولا تغيّير ولا تطوير ولا تحديث، لكن ديننا عندما تنقصه الأخلاق، فنفهم أنَّ الدين في المسجد فقط فهذه مشكلة.
المسجد أخي الحبيب، شُرِع من أجل أن تأخذ فيه التعليمات، ثم تعود إليه لتقبض الثمن، فمثلاً مندوب المبيعات يأتي صباحاً إلى شركته ليأخذ التعليمات، وفي المساء يعود بالمبيعات ويقبض الراتب.
المسجد ولله المثل الأعلى ولبيوته المثل الأعلى، نأتي إليه من أجل أن نتعلم ديننا، ثم نعود إليه من أجل أن نأخذ السكينة، لكن أين ديننا؟ في المعاملة، في البيع والشراء، مع الزوج، مع البيت، مع الأولاد، مع الشريك في العمل، مع الناس في الطرقات، هناك يظهر تديُّن الإنسان، فتدينه ليس في المسجد، الوضع الطبيعي أن يكون في المسجد أميناً صادقاً بأعلى مستوى، لكن دينه أين يظهر؟ يظهر في السوق، يظهر في المعاملة، لذلك عندما نجد إنساناً يفهم أنَّ الدين هو مجرد عبادات شعائرية تؤدى، ويغفل عن العبادات التعاملية، فهذه مشكلة، سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، لمّا قال له النجاشي حدثني عن هذا الدين، ماذا قال له؟ كيف فهم جعفر رضي الله عنه الدين؟ قال:

{ لمَّا نزلنا أرضَ الحبشةِ جاورَنا بِها حينَ جاءَ النَّجاشيُّ، فذَكَرَ الحديثَ بطولِهِ، وقالَ في الحديثِ قالت: وَكانَ الَّذي كلَّمَهُ جعفرُ بنُ أبي طالبٍ قالَ لَهُ: أيُّها الملِكُ كنَّا قومًا أَهْلَ جاهليَّةٍ نعبدُ الأصنامَ، وَنَأْكلُ الميتةَ، وَنَأْتي الفواحِشَ، ونقطَعُ الأرحامَ، ونُسيءُ الجوارَ، ويأكلُ القويُّ منَّا الضَّعيفَ، فَكُنَّا على ذلِكَ حتَّى بَعثَ اللَّهُ إلينا رسولًا منَّا نعرفُ نسبَهُ، وصِدقَهُ، وأمانتَهُ، وعفافَهُ، فدعانا إلى اللَّهِ لتوحيدِهِ، ولنَعبدَهُ ونخلعَ ما كنَّا نعبدُ نحنُ وآباؤُنا من دونِهِ منَ الحجارةِ والأوثانِ، وأمرَنا بصِدقِ الحديثِ، وأداءِ الأمانةِ، وصلةِ الرَّحمِ، وحسنِ الجوارِ، والكفِّ عنِ المحارمِ والدِّماءِ، ونَهانا عنِ الفواحشِ، وقولِ الزُّورِ، وأَكْلِ مالِ اليتيمِ، وقذفِ المُحصنةِ، وأن نعبُدَ اللَّهَ لا نشرِكُ بِهِ شيئًا، وأمرَنا بالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ قالَت: فعدَّدَ عليهِ أمورَ الإسلامِ، فصدَّقناهُ وآمنَّا بِهِ، واتَّبعناهُ على ما جاءَ بِهِ مِن عندِ اللَّهِ، فعَبدنا اللَّهَ وحدَهُ، ولم نشرِكْ بِهِ وحرَّمنا ما حرَّمَ علينا، وأحلَلنا ما أحلَّ لَنا، ثمَّ ذَكَرَ باقيَ الحديث }

(صحيح ابن خزيمة)

إذاً لما لخَّص له الدين، قال له أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، فهذا هو جوهر الدين، جوهر الدين هو صدق الحديث وأداء الأمانة.

الصفات الأخلاقية العُليا والمُطلقة لله عزَّ وجل:
الأستاذ حسين:
وهذه السمات تماماً مصدرها الله سبحانه وتعالى، الذي تتجلى فيه كل هذه الأخلاقيات، فقد وصف نفسه سبحانه بالرحمة والعدل، وبالتالي امتلك الصفات الأخلاقية العُليا والمُطلقة، أليس كذلك؟

الدكتور بلال نور الدين:
بالضبط، لذلك من معاني قوله تعالى:

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)
(سورة الأعراف)

قال أهل العلم (فَادْعُوهُ بِهَا ۖ) أي اشتقوا كمالاً من كمال الله تعالى تتعاملون به مع خلق الله تعالى، فالله تعالى ودود فهل أنت ودود؟ وهو رفيق فهل أنت رفيق؟

{ إنَّ اللهَ رفيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ ويرضاه ويُعِينُ عليه ما لا يُعِينُ على العنفِ }

(الهيثمي مجمع الزوائد)

فإذا كنت تريد أن تدعو الله باسمه الرفيق، فهذا لا يعني ببساطة أن تقول يا رفيق ارفق بي، هذا معنى، لكن المعنى العميق (فَادْعُوهُ بِهَا ۖ) أي خذوا من رفقه شيئاً تترفقون به مع الناس، الصلة بالله هدفها أن تأخذ من الله، لذلك قال تعالى مخاطباً نبيُّه صلى الله عليه وسلم، الذي أوتيَ من كل شيءٍ أحسنه، قال له: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي بسبب رحمةٍ استقرت في قلبك يا نبي الله، من خلال اتصالك بالله، أصبحت ليِّناً لهم، فالتفّوا حولك وأحبوك، ولو أنك وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت معرضاً عنّا ومنقطع، لامتلأ القلب قسوةً، ولانعكست القسوة فظاظةً وغِلظةً مع الناس، فانفضّوا من حولك وتركوك، وأنت رسول الله.
فهذا الرجُل الذي جاء إلى رجُلٍ وقال له: سأعظك إلى أحد الأُمراء، وقال سأعظك وأُغلظ لك في القول، قال له: لقد بعث الله تعالى من هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌ مني، أرسل موسى إلى فرعون، فقال له:

فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
(سورة طه)

فإذاً نحن عندما نتصل بالله حقَّ الاتصال، ونعتصم به حقَّ الاعتصام، نأخد منه رحمةً وليناً وودّاً ورفقاً، ومغفرةً بالناس وتسامحاً مع الناس، فلا بُدَّ من أن نأخذ نصيبنا من كل اسمٍ من أسماء الله تعالى الحسنى، وصفاته الفضلى، فهو جلَّ جلاله ما أمرنا بخُلق، إلا وهو جلَّ جلاله متصفٌ به صفةً ذاتيةً فيه، دائمةً غير منقطعة جلَّ جلاله.

الأستاذ حسين:
النبي صلى الله عليه وسلم، بوصف الله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) وصف الخُلق هنا بالعظَمة ماذا يعني؟

الدكتور بلال نور الدين:
يا سيدي أضرب لك مثلاً منتزعاً من واقعنا: لو أنَّ طفلاً صغيراً جاء عيد الأضحى، فوضع في جيبه مبلغاً حصَّله من عمه وخاله وعمته وخالته كهدايا في العيد، فقال لك معي مبلغٌ عظيم، فأنت تقدر أنَّ المبلغ في جيبه هو مئتا دينار، لكن لو قال رئيس دولةٍ عُظمى، لقد أعددنا لهذه الحرب مبلغاً عظيماً، فإنك تنتقل من مئتي دينار إلى مئتي مليار، فالكلام على قدر قائله، فإذا كان الله ملِك الملوك جلَّ جلاله، يصف خلق نبيّه بأنه عظيم، فما عسى هذا الخُلق يكون؟ والعظيم يصف خُلق نبيّه بالعَظَمة، هذا من أجل أن يعلمنا أن نتأسى برسول الله، ثم انظر في قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ) هذه اللفظة البسيطة (على) تفيد الاستعلاء والتمكُّن، ما قال له إنك ذو خُلقٍ عظيم، ذو أي صاحب خُلق عظيم، لكن (على) أي أنت متمكِّن من الخُلق، ليس هناك تردد، أحياناً أخي الحبيب أنا في بيتي جاءني ضيوف، والضيوف جاءوا من محافظةٍ بعيدة، أو من مكانٍ بعيد، وعندي شيءٌ بسيط من الطعام، فأحتار في نفسي بين ان أتركه لأولادي، أو أن أقدّمه ضيافةً لهم، فأقع في نزاعٍ مع نفسي لدقائق، ثم أتغلَّب عليها وأُقدِّم الطعام ضيافةً للضيف إكراماً له، أنا ذو خُلق هنا، لكن صاحب الخُلق العظيم المستعلي (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ) لا يتردد ثانيةً، لا يفكر، أصبحت الأخلاق سجيَّةً فيه، أصبح هو مُستعلٍ عليها، هو أصبح متمكناً منها، بحيث يقودها ويتصرف بها بالطريقة الأمثل دائماً (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ).
ثم إذا نظرت فيما آتى الله نبيِّهُ صلى الله عليه وسلم، من الأمور التي انفرد بها عن بقية الخلق، قل جمال الصورة، نعم، قل حُسن القيادة نعم، قل زعامة الأمة نعم، قل ما شئت من الصفات الحسنة التي وهبها الله تعالى لنبيِّه، لكن عندما امتدحه امتدحه بخُلقه العظيم، أنت عندك ابن، ليس مناسباً وليس صحيحاً أن تمتدح جماله، لأن الجمال جاءه هبةً ومنحةً وعطيةً، فلا تقول له ما أجملك، لكن عندما يأتي بشهادةٍ عُليا بذل فيها جهده، تمتدحه على ما فيه من هذا الجهد العظيم، فالله تعالى لمّا امتدح نبيِّهُ امتدحه بالأخلاق العظيمة ليعلمنا أنَّ ما يُمدح به الإنسان ليس نسباً ينتسب إليه، ولا مكانةً يكونها، ولا منصباً يتبوأه، ولا شهادةً عُليا يحققها، وإنما يُمتدح على خُلقٍ يحمله في داخله.

الأستاذ حسين:
الخُلق هنا مرادف للفعل، للممارسة، للتطبيق، وهنا وصفة الخُلق، وصفة أصيلة للنبوُّة؟ لا تستقيم النبوُّة إلا إذا توفرت؟

الدكتور بلال نور الدين:
مئةً بالمئة، هذا الرجُل الذي جاء ليستطلِع، أرسله قومه قالوا إنَّ رجلاً يزعم أنه نبي، فاذهب إليه وانظُر أمره وعُد إلينا، فهذا الرجل ذهب وعاد كما في السيرة، فلمّا رجع قالوا له ماذا رأيت؟ قال رأيت رجلاً يحب مكارم الأخلاق.
هو لخَّص لهم القضية كلها، ما قال لهم رأيته يُصلّي، على عظمة الصلاة، نحن لا نريد أن نتطرف فيمن يقول الأخلاق فقط والدين دعه جانباً، كله متكامل، لكن ما دمنا نتحدث عن الأخلاق، فعبادتك لنفسك، وصلاتك تنفعك لنفسك، لكن ما الذي يجذب الناس إلى دينك، لا يجذبهم أنك تقف وتركع وتسجد، يجذبهم إليك أنهم يرون منك صدقاً وأمانةً وعِفّةً، النبي صلى الله عليه وسلم، كان يلقَّب بالصادق الأمين، وهذا الذي دفع البعض إلى أن يعتنق الدين، وأن يكون من أوائل المؤمنين، لأنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفوا كما قال جعفر: نعرف أمانته وصدقه وعفافه، انظر إلى هذه الكلمة، نعرف أمانته وصدقه وعفافه، هذه مكارم الأخلاق مجموعة في ثلاثة أمور، إن عاملك بالدرهم والدينار فهو أمين، إن حدَّثك فهو صادق، إن استُثيرت شهوته فهو عفيف، هذا هو الدين، أمانة وصدق وعفاف، هذه مكارم الأخلاق إن أردت أن تجمعها، فهي الأمانة والصدق والعِفَّة، فقال نعرف أمانته وصدقه وعفافه.

التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم:
فالأنبياء جميعاً هُم أُسوة، وأنت تفضلت في مقدمتك اللطيفة جداً (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ما هي الأسوة؟ هي الاقتداء، التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، بماذا نتأسى به؟ نتأسى بأخلاقه، نتأسى بحلمه، بكرمه، بتواضعه، بجوده، بعفوه عمن ظلمه، هذا هو جوهر الدين، وهذه هي بعثة الأنبياء، فقد بُعث الأنبياء جميعاً بالأخلاق الحسنة وبالقيَّم العالية.

الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليتمِّم مكارم الأخلاق:
الأستاذ حسين:
كيف نفهم إذاً أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء ليتمِّم مكارم الأخلاق، بمعنى أنَّ الأخلاق كانت موجودة منذ الأزل، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما جاء في قومٍ وفي زمنٍ، كانت الأخلاق أحياناً مرتبكة، وشذَّت عن الطريق الصحيح، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ليتممها، التتميم هنا هل يعني التصحيح، التعديل، التكميل، ماذا يعني؟

الدكتور بلال نور الدين:
جميل جداً هذا السؤال، فكما تفضلت

{ إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ و في روايةٍ ( صالحَ ) الأخلاقِ }

(أخرجه أحمد والبيهقي والبزار)

والحقيقة أنَّ العرب كانت عندهم أخلاقٌ فطرية، مكتسبة، الكرم موجود عند العرب، الشجاعة موجودة، لكن هل هي منظومة أخلاقية متكاملة؟ بمعنى أنَّ جزءٌ من الأخلاق مثلاً، لا يكون هناك عصبية، أو أن تقام حربٌ من أجل ناقةٍ تعثَّرت، لا، إذاً كان هناك نقصٌ في بعض الأخلاق، ثم كان هناك تطرُّف في بعض الأخلاق، فالفضيلة وسطٌ بين رذيلتين، الشجاعة وسطٌ بين الجُبن والتهوّر، وصلت فضيلة الشجاعة عند بعض العرب إلى التهوّر، فأخذت منحاً آخر، الكرم فضيلةٌ بين البخل والإسراف، ووصل بعض العرب إلى التطرُّف في هذه الفضيلة.

الأستاذ حسين:
حركة الصعلقة في التاريخ العربي معروفة.

الدكتور بلال نور الدين:
الصعلقة معروفة، والإسراف عند البعض للضيف والتكلف له، فجاء الإسلام، ليضيف الأخلاق التي فُقدت، والتي لم تكن موجودةً ضمن المنظومة الأخلاقية عند العربي، وليعدِّل بعضها وليهذِّبها وليجعلها في مكانها الصحيح المنضبط، فإذاً النبي صلى الله عليه وسلم، هذا من موضوعيته، والموضوعية خُلق.

كيف باشر الرسول صلى الله عليه وسلم مهمة تتميم الأخلاق:
الأستاذ حسين:
كيف باشر الرسول صلى الله عليه وسلم، مهمة التتميم هذه؟

الدكتور بلال نور الدين:
سيدي باشر مهمة التتّميم أولاً بربط الأخلاق بالمنهج الإلهي، بمعنى: أنا عندما أكون كريماً أكون كريماً لماذا؟ هل ليقول الناس كريم؟ لا، أكون كريماً لأن الله تعالى يأمرني أن أُكرِم ضيفي، فبدأ بالربط بالإله جلَّ جلاله.

الأستاذ حسين:
على قاعدة الوحدانية ونفي الشرك.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم، جُزيت الجنَّة، على قاعدة الوحدانية، لمّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرب، كان بإمكانه أن يعلنها دعوةً أخلاقية، وبالمناسبة كان استطاع أن يكتسب من الأتباع أكثر بكثير ممن اكتسبهم، وكان لم يكسب من المُعاداة أحد، لو كانت الدعوة مجرد أخلاق، وهُم يحبونه وهو يحبهم، وأنا جئتكم فقط من أجل أن أُتمّم الأخلاق، حسناً ماذا تريد؟ أريد أن نكون كرماء، فالبخيل سيصبح كريماً، لكانوا استجابوا له فوراً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم، جئت لأدعوكم لعبادة الله تعالى وحده، أولاً يجب أن تعرف الوجهة، الخُلق السليم يكون بالاتجاه السليم، أنا أريدك كريماً وأريدك شجاعاً، لكن أريد الشجاعة في سبيل الله، أريد الكرم في سبيل الله، ومن هنا وقفوا ضده، لأنه وقف ضد طواغيتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما أراد بناءً أخلاقياً أجوف، أراد بناءً أخلاقياً متكاملاً مرتبطاً بالله عزَّ وجل، أراد بناءً أخلاقياً مرتبطاً بمنهجٍ إلهيٍ يسير عليه المؤمن، افعل ولا تفعل، فالكرم في مكانه والشجاعة في مكانها، الشجاعة ليست في أن أقتل ابن قبيلةً أُخرى، الشجاعة في أن أقف في الحرب لإعلاء كلمة الله تعالى، فنظَّم الأخلاق بهذه الطريقة، عن طريق ربطها بأصلها.

الفارق بين مشروع الأخلاق في الإسلام و مشاريع الأخلاق في المذاهب الأُخرى:
الأستاذ حسين:
وهنا يبدو الفارق واضحاً، بين مشروع الأخلاق في الإسلام، أو مشاريع الأخلاق في المذاهب الأُخرى، سواءً كانت ديانات أو ايديولوجيات أو غيرها، مثلاً اليوم عندما نتحدث عن أخلاق الياباني، عندما نتحدث عن أخلاق الغربي، بالتأكيد لديهم منظومة من الأخلاق، لكن هذه الأخلاق هناك فوارق بينها وبين الأخلاق التي تستمد مشروعيتها من الدين، المتعلقة بالله وأسمائه وصفاته، أليس كذاك؟

الدكتور بلال نور الدين:
مئةً بالمئة، بمعنى أنَّ الأخلاق في غير المنظومة الإسلامية، ينقصها أولاً الارتباط بالله تعالى، ثم أن تكون منظومةً متكاملة، بمعنى أنَّ الأخلاق عند غير المسلم، قد تقول له مثلاً: عِرضك، شرفك، أختك، أمك، يستغرب عن ماذا تتحدث! ما علاقة شرفي؟ شرفي أن لا أكذب، شرفي أن آتي إلى العمل في الوقت المحدد، هذا شرفه، تقول له أختك شرفك، يقول لك ما علاقة أختي بشرفي؟ وهذا حدث، أنا لا أقوله من فراغ، حدث في أحد المجالس لغير المسلمين، استغرب أن يُربَط الشرف بأخت الإنسان، فالمنظومة الأخلاقية موجودة، لكن هل هي متكاملة؟ لا، فالإسلام جاء لربط المنظومة الأخلاقية بمصدرها وهو الله تعالى، وجاء لوضع المنظومة الأخلاقية المتكاملة في إطارٍ متكامل، وليس إطاراً جزئياً، من هنا لمّا يقول صلى الله عليه وسلم مخاطباً أولياء الفتيات:

{ إذا جاءَكُم من تَرضونَ خلقَهُ ودينَهُ فزوِّجوهُ فإلَّا تفعَلوا تَكُن فتنةٌ في الأرضِ وفَسادٌ عريضٌ }

(أخرجه ابن ماجه)

ربَط الدين بالخُلق هنا، دينه وخلقه، فالخُلق أليس جزءاً من الدين؟ بلى هو جزءٌ من الدين، وقلنا الدين هو الخُلق، لكن هل هذه الأخلاق نابعة من التديُّن، أم نابعة من أخلاق العرب، أو أخلاق اليابان كما تفضلتم، لا، ينبغي أن تكون نابعةً من التديُّن، لذلك قال: (من تَرضونَ خلقَهُ ودينَهُ) تأكيداً على أهمية الخُلق، لكن دون فصله عن منبعه وهو الدين، لأن الدين يعطي الخُلق ميزته في الارتباط بالخالق، ثم في منظومةٍ أخلاقيةٍ متكاملة، لا يمكن أن تتوفر إلا في منهج الله تعالى.

الأستاذ حسين:
بعض المفكرين المسلمين يربطون علاقة الأخلاق بالدين في مسارين، أو وفق مسلّمتين، الأولى مُسلّمة التبدُّل الديني حيث الفارق بين صورتين، الصورة الفطرية التي نزل بها الدين على الرسول، والصورة الوقتيَّة التي تشكّلت من قِبَل البشر على مرّ الزمن، هذه المُسلّمة الأولى، كيف يمكن أن نفهما؟ هناك صورة فطرية نزل بها الدين على الرسول، وصورة وقتيَّة تشكّلت من قِبَل البشر على مرّ الزمن، كيف كان الفعل النبوي لتجسيد المسألتين أو الصورتين؟

الله تعالى عندما خلق الإنسان فطره على حب الكمال والجمال:
الدكتور بلال نور الدين:
الحقيقة أنَّ أي دعوة لا تقوم على مراعاة الفطرة البشرية التي فطر الله عزَّ وجل الناس عليها، فهي عرجاء، بمعنى أنَّ الأصل أنَّ الله تعالى عندما خلق الإنسان فطره على حب الكمال والجمال، فالله تعالى فطر الإنسان، قال تعالى:

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
(سورة الروم)


الأستاذ حسين:
يعني الإنسان مفطور على خُلق.

الدكتور بلال نور الدين:
مفطور على الخُلق، يعني هب أنَّ إنساناً ولد في الأدغال، فتى الأدغال الذي كان يسمونه، ولد في الأدغال ولم يعلمه أحدٌ شيئاً من الأخلاق، لكن له أُمّاً تعيش معه لا يعرف غيرها في الحياة، وهي جائعةً وهو جائع، ثم اصطاد صيداً ثميناً فأخذه وغاب عن عين أمه وأكله وحده، سيشعر بمشكلة في ذاته، في داخله، لأنه الآن خالف فِطرته، لأنه لا ينبغي لك وأنت لك أُمٌّ قد رعتك، وأنجبتك، وترعاك كل يوم، وتسعى فيك أدباً وتنظيفاً وإلى آخره، ثم تأكل أنت وهي جائعة، فالفِطرة موجودة، ولا بُدَّ من مراعاتها، لكن هل الفِطرة تعني أن يكون الإنسان صادقاً؟ لا، تعني أن يحب الصدق، هل تعني أن يكون أميناً؟ لا، قد يكون خائناً، لكنه يحب الأمانة في الأصل، قال تعالى:

وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
(سورة الحجرات )

ولكن ما الذي يفعله الدين هنا؟ هذه الصورة الوقتيَّة، ما الذي يفعله الدين؟ ينقل الإنسان من الفِطرة إلى الصِبغة، فالفِطرة تعني أن يحب الصدق، والصِبغة تعني أن يصبح صادقاً

صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
(سورة البقرة)


الأستاذ حسين:
أحسنت، هذا التداخل بين الداخل والخارج وهي المُسلّمة الثانية، أنَّ الأخلاق مع الصورة الفطرية للدين، تنطلق من داخل الإنسان إلى خارجه، فيما تنطلق الأخلاق مع الصورة الوقتيَّة للدين، من الخارج إلى الداخل، اتجاهان يصبّان في نفس النتيجة، لكنهما يبدو متعاكسين، الفِطرية و الوقتيَّة.

الدكتور بلال نور الدين:
مئةً بالمئة، الإسلام ينقل كما تفضلتم، من الداخل أنا أحب الخير، الإسلام يريدني أن أُصبح خيّراً، الفِطرة أنني أحب الصدق، الإسلام يريدني أن أُصبح صادقاً، فيُهيّء لي من الأسباب ما يجعلني أنتقل من الفِطرة إلى الصِبغة، فيعطيني ما هو ثواب الصادق، ويعطيني ما هو عقاب الكاذب، ويُبيِّن لي منافع الصدق ومضار الكذب، ويوجهني إلى الله تعالى حتى أصدق ابتغاء مرضاته، ومئات الأمور كلها تتعاضد من أجل أن أُخرِج هذا الأمر من دائرة الحب أو الرغبة في الشيء، إلى ناحية تطبيقه عملياً على أرض الواقع، فأنتقل من الفِطرة التي فطر الله الناس عليها، إلى الصِبغة التي يصبغني الله تعالى بها عندما أُحسِن الاتصال به، وأُحسِن الأخلاق مع خلقه.

الأستاذ حسين:
هكذا إذاً تتم عملية التخلُّق؟

ما هو التخلُّق:
الدكتور بلال نور الدين:
هذا هو التخلُّق، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّما العِلمُ بالتَّعلُّمِ، والحِلمُ بالتحلُّمِ. }

(شعيب الأرناؤوط تخريج منهاج القاصدين)

{ مَن يَتصبَّرْ يُصبِّرْه اللهُ، ومَن يَستَغْنِ يُغْنِه اللهُ، ومَن يَستَعفِفْ يُعِفَّه اللهُ، وما أَجِدُ لكم رِزقًا أَوسَعَ منَ الصَّبرِ }

(أخرجه أحمد والطبراني)

هذه عملية التخلُّق، وإذا كنّا لا نستطيع أو لا نجرؤ على أن نقول إنَّ الإنسان بإمكانه أن يصبح حليماً، إذا لا داعي للدين نهائياً سامحني بهذه الكلمة.

الأستاذ حسين:
يمكن، بل يجب

الدكتور بلال نور الدين:
بل يجب أن يصبح، إذا إنسان قال لك أنا رجُل هكذا، لا أستطيع إلا أن أكذب، أُحب الكذب، الكذب يجري في دمي، لا، ما هو التديُّن؟ هو أن تتخلَّق بالخُلق الجديد، أن تنتقل من الخُلق القديم إلى الخُلق الجديد، فتغيير الأخلاق ممكن.

الترادف بين مسألة الخَلق والخُلق:
الأستاذ حسين:
ولهذا كان الترادف إن صح الترادف هنا، بين مسألة الخَلق والخُلق، أليس كذلك؟ الخَلق ونفس الجذر اللغوي باللفظين الخَلق والخُلق، بمعنى أن الإنسان قادر على أن يتخلَّق، كما هو قادرٌ أو كان من صنف الخَلق.

الدكتور بلال نور الدين:
هو في العلوم الحديثة يقول لك يوجد Input و processing و Output، المدخلات هي الخَلق، التخلُّق هو العمليات، والمخرجات هي ينبغي أن تكون الخَلق الجديد، فالدين هو هذه العملية، عملية التخلُّق، ندخل المدخلات ونخرجها بالشكل الصحيح، بعد عمليةٍ صحيحة هي التخلُّق بما يريده الشرع، ضبط الحياة بما يريده الشرع، هذا هو معنى العبادة أصلاً، فالعبادة يعني أن تُعبِّد نفسك وفق منهج الله، أنا أقول طريقٌ معبَّدة، أي وطئتها الأقدام حتى ذُللت وأصبحت قابلة للمسير عليها، أنا الآن عندي شيء، والشرع يريد مني شيءٌ يوافق ما في نفسي وشيءٌ لا يوافقها، سأدخل في هذه العمليات وأُجري هذه العمليات التي يريدها مني الله تعالى، حتى أخرُج بمخرجات صحيحة، الإنسان المؤمن الذي الآن يصبغ بصفة المؤمن أو بصفة الربّاني، ما معنى الربّاني؟ منتسب للربّ جلَّ جلاله، فأصبح فيه الحلم، وأصبح فيه الأمانة، وأصبح فيه الصدق وأصبح من سجيِّته التواضع، ومن سجيِّته التعفُّف عن الحرام، إلى آخره....

الأستاذ حسين:
كلمة الخُلق دكتور بلال وردت باللفظ هذا خُلق مرتين في القرآن الكريم، مرة في وصف أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) ومرة أُخرى بوصف ما درج عليه الأولون من أخلاق (إِنْ هَٰذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ).
من هُم الأولين هؤلاء؟ وكيف كان خُلقهم؟ وهل كلمة خُلق هنا تندرج في باب معنى الدين؟ أم العادات والتقاليد، بمعنى الأخلاق والسلوك أيضاً؟

الدكتور بلال نور الدين:
هنا جاء اللفظ الأول (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) جاءت باللفظ الشرعي، بمعنى الأخلاق التي يكتسبها الإنسان من خلال اتصاله بالله تعالى، والتي كان أعظم من عليها هو النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أعظم من اتصل بالله تعالى، يعني أقرب الناس إلى الله أعظمهم خُلقاً، وكلما كنت أقرب لله تعالى كنت أعظم خُلقاً، هذا بالمعنى الأول، الآية الثانية جاءت بالمعنى العام للخُلق، اليوم حتى العوام يقول لك أنا ليس لدي خلق لهذا الموضوع، أي ليس لي عادة أو طبع مُعيَّن به، أسوأ شيء في الإنسان هو أن يتعلق بخُلق الأولين، أي الماضين، بمعنى أن يقول لك نحن هكذا تربينا، أنت الآن تريد أن تغيِّر العادات! من أين جئت لنا؟ نحن هكذا نشأنا، أنت هكذا نشأت لكن الذي نشأت عليه ليس قرآناً ولا كلاماً مقدساً، هذا الذي نشأت عليه فيه إشكالٌ شرعي، فينبغي أن تغيره

بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22)
(سورة الزخرف)

هذه المشكلة التي يُسمّيها بعض العلماء الآبائيّة، أو التقليد الأعمى غير المنضبط، لذلك جاء الإسلام باحترام العُرف لكن بالعُرف الصحيح الصالح

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
(سورة الأعراف)

فالعُرف الصحيح الذي يوافق ما نحن عليه من خُلق الأولين، نأخذ به، لكن ما كان من خُلق الأولين فيه سفاهة أو بعدٌ عن الحق، أو فيه إنكارٌ للحق بسبب تعصُّبي أو بسبب مصالحي، فهذا لا نأخذ به.

الأستاذ حسين:
بارك الله بك فضيلة الدكتور بلال نور الدين، أستاذ الشريعة والفقه على هذه المداخلة، جزاكم الله كل خير، شكراً لك دكتور بلال.

الدكتور بلال نور الدين:
وإيّاكم، أحسن الله لكم.