مؤشر السعادة

  • لقاء مع منتدى الراقيات حول العالم
  • 2021-01-14

مؤشر السعادة


الدكتور شادي ظاظا:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته حديثنا اليوم عن السعادة، ومن أين أتت هذه التسمية؟ جزاكم الله عنا كُلَّ خير.

الدكتور بلال نور الدين:
أكرمكم الله دكتور شادي بارك الله بكم ونفع بكم وشكراً لهذه المقدمة الطيبة، أسأل الله أن أكون عند حسن ظنك، وعند حسن ظن الأخوات الكريمات في ملتقى الراقيات، وعند حسن ظنِّ كلّ من يتابعنا وأن يجعل في هذا الحوار النفع إن شاء الله لكل من يتابعنا.

مقدمة:
أنطلق من مسلّمةٍ أظنُّ أنّ كل من يتابعنا الآن يشاركني الرأي فيها وهي أن البشر كلَّهم دون استثناء، بل لا أبالغ إن قلت حتى غير البشر من الكائنات الحيَّة يبحثون عن السعادة، إن أردنا أن نجمع البشر جميعهم على مبدأ واحد فهو أن الجميع يحرصون على السلامة والسعادة، حتى القطة إذا كانت تعبر الشارع ورأت سيارةً مسرعةً فإنها تعود فوراً لأنها تحرص على سلامتها وأيضاً تبحث عن سعادتها، فمن باب أولى أن البشر جميعهم يبحثون عن سلامتهم وعن سعادتهم، هذا مطلبٌ بشريٌّ ثابتٌ لا خلاف في ذلك.
أين نبحث عن السعادة؟
لكن أين نبحث عن السعادة؟ كثيرٌ من البشر بحثوا عنها، بحث عنها الفلاسفة في فلسفاتهم، وبحث عنها أصحاب الأموال في قصورهم، وبحث عنها محبو النساء من الرجال ومحبَّات الرجال من النساء في مُتعِهم الرخيصة، وبحث عنها بعض الناس في العلوِّ في الأرض _ المنصب الذي يتسلمه_ فيصبح الآمر الناهي، بحث الناس عن السعادة لكن هل وصلوا إليها؟ الجواب أن كثيراً من هؤلاء الباحثين عادوا صفر اليدين، بل إن بحثهم عن السعادة في غير مظانِّها ما زادهم إلا تعاسةً وبؤساً وشقاءً.
هذا إبراهيم بن الأدهم عاش المُلْك ثم عاش حياة الإيمان، عاش الأمرين معاً، عاش المُلْك ثم ترك المُلْك وعاش حياة الإيمان، فكان يقول في حياة الإيمان: لو يعلمُ الملوك - وهو قد عاش المُلْك لو كان غيره لربما قال أحدهم وما أدراه بحياة الملوك لكن هو يعلم حياة الملوك- فكان يقول: لو يعلمُ المُلوك ما نحن عليه من سعادةٍ لقاتلونا عليها بالسيوف.
فمن هنا أخي الحبيب الناس يبحثون عن السعادة بل يلهثون وراء تحقيق المُتع لكن هل وصل الجميع إلى السعادة؟ لا، قلةٌ قليلةٌ وصلت إلى السعادة، عنوان اللقاء قَدَحَ في ذهني وأنا أقرأ منذ أيام أنه قد صدرت قائمة الدول وفق مؤشر السعادة العالمي لعام 2020، ولما قرأت الدول وجدت أنهم وضعوا أكثر الدول الإسلامية في ذيل الأمم وكأننا لا سعادة لنا، قلت: أريد أن أنظر ما معيارهم في التصنيف؟ لماذا وضعونا في ذيل الأمم؟ أنا أعاني ما أعاني أعلم ذلك، بلدي فيها حروب وعندنا فقر وعندنا مشكلات، وأسأل الله أن يُنجينا من ذلك، لكن لماذا وضعونا في ذيل الأمم؟ ففتحت الويكيبيديا وبعض الموسوعات فوجدت أن مؤشر السعادة أولاً الدخل والناتج المحلي للفرد، دخل الفرد بالناتج المحلي، ففهمت شيئاً، هم يضعون الدول الأكثر ثراءً في مقدمة الركب لأنهم يحصّلون أموالاً أكثر، ثم الدخل الإضافي، ثم يضعون بعض الأمور التي تُحصّل بعض السعادة كالتخلص من الفساد وبعض الحريات وكذا.. وهذه أمورٌ مساعدة.
لكن ما وجدت أي إشارةٍ لأي شيءٍ له علاقةٌ بالدين، بالإيمان، بالله، بالعمل الصالح، فقلت: أريد أن أضع مؤشر سعادة وأنسِفَ مؤشرهم، أريد أن أضع أنا وأنت اليوم أخي مؤشر سعادةٍ جديد، على الأقل نحن المسلمين نقيس به أنفسنا يا أخي أو من يؤمن بفكرتنا ممن عندهم شيءٌ من الإيمان، حتى من غير المسلمين لكن ممن يؤمنون بالعمل الصالح على الأقل يا أخي، يكون عندهم رضا ناتجٌ عن إسعاد الآخرين، عن تقديم شيءٍ نافعٍ للأمة، لا أن يجعلوا مقياس السعادة هو ما يملكه الإنسان من المال، لذلك كان لقاؤنا هذا اليوم عنوانه مؤشر السعادة لأننا نريد في هذا اللقاء أن نبحث عنه؛ ولعلنا أن نصل، وأنا وضعت بعض التصورات في نهاية اللقاء إلى المعايير التي ينبغي أن تُعتمد لتحصيل السعادة إن شاء الله، وليصنفونا هم في المرتبة التي شاؤوا، لكن نحن نريد أن نصنف أنفسنا وفق منهج الله، لأننا إن شاء الله نبحث عن السعادة في مظانّها ولسنا كمن يبحث عن اللؤلؤ في الصحراء فنعود صِفْرَ اليدين.

الدكتور شادي ظاظا:
يعني: لنا سعادتنا ولكم سعادتكم.

الدكتور بلال نور الدين:
تماماً أنت ابقَ في سعادتك، أنا أريد أن أبحث عن سعادتي، تماماً هذا الذي نريد أن نصل إليه.

الدكتور شادي ظاظا:
سبحان الله الموضوع والله أعلم؛ أول شيءٍ فتح الله عليك بهذه المقدمة حقيقةً وكأننا يعني نهتدي إلى ما نريد حقيقةً الوقوف على معرفته وعلى حقيقته، هذه المقدمة تساعدنا دائماً فالمتحدث لمّا يُعبِّر عن فكرته كيف انطلقت ومن أين جاءت مثل أي مشروعٍ يريد أن يبيِّنه للناس، وكذلك الدرس عندما يكون مبنيَّاً على تفكيرٍ داخليٍّ عميق، ثم بحثٍ، ثم بيانٍ يجعل المستمع والمتابع في حلقةٍ يُسهِّل عليه أن يهضم وأن يأخذ هذه المعاني ويستفيد منها، فنحن كمسلمين عندنا حقائقٌ ودلالاتٌ مستنبطةٌ من المصادر التشريعية القرآن والسنَّة، كتاب الله وسنَّة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم ما هي فلسفة السعادة في الإسلام؟

الدكتور بلال نور الدين:
تمام جزاك الله خيراً.

فلسفة السعادة في الإسلام:
الآن دخلنا في صلب الموضوع بعد المقدمة، حتى أّميِّزَ أولاً بينما يظنه البعض سعادةً وما هو في الحقيقة ليس سعادةً وإنما هو لذةٌ طارئةٌ، اللذة شيءٌ والسعادة شيءٌ آخر يا أخي، يحصّل بعض الناس اللذائذ فيقول لك: أنا سعيد، لا يا أخي ودليل أنك لست سعيداً بأن هذه اللذة الطارئة عندما تنقضي تعود إلى بؤسك وشقائك، فاللذائذ الطارئة شيءٌ والسعادة شيءٌ آخرٌ، اللذائذ الطارئة تحتاج إلى مركبة واسعة، بيت جميل له إطلالة، زوجة جميلة تروق له، عملٌ طيبٌ يدرُّ عليه مالاً وفيراً، هذه لذائذ.
الصحة أساسٌ في الاستمتاع في الحياة
اللذة تحتاج إلى الوقت وتحتاج إلى الصحة وتحتاج إلى المال، وشاءت حكمة الله تعالى أن غالب الناس لا يستطيعون تحصيل الثلاثة في وقتٍ واحدٍ، فإما أن يملك الصحة ولا يملك مالاً ولا وقتاً، وإما أن يملك الوقت لكن ليس لديه صحةٌ ليستمتع بمناهج الحياة، وإما أن يملك المال لكنه لا يملك الصحة، والصحة أساسٌ في الاستمتاع في الحياة، فهؤلاء يحصّلون لذائذ، اللذائذ طارئة، ما معنى طارئة؟ يعني أنها تأتي ثم تنقضي، فإذا انقضت انتهت اللذائذ وربما إذا كانت في معصية الله- نسأل الله السلامة- تعقبها كآبةٌ مدمرةٌ، كثيرٌ من الناس وأنا أتابع بحكم ما يأتيني من أسئلةٍ من الناس، لما دخل إلى المعصية ليقترف الفاحشة والعياذ بالله كان لا يرى إلا الفاحشة وبأنها ستُحقق له كلَّ شيء، بعد انتهاء الفاحشة يندم أشد الندم، خرب بيته ودمَّر علاقته بأسرته وعلاقته بربه فيشعر بالندم والخزي والعار لما فعله، لأنّ هذه لذةٌ طارئة.
فالإسلام من فلسفته - إن صحَّ التعبير - في قضية السعادة أنه يريد السعادة التي تنبع من الداخل، المتنامية، التي تنتهي بجنةٍ عرضها السماوات والأرض، لا يريد منك أن تستمتع آنيّاً ثم تنقضي لذائذك، سأضرب مثلاً وربما كثيرٌ عاشه وأنا واحدٌ من الناس عشته، يوم يشتري الإنسان سيارةً جديدةً، يضعها في مكانٍ مناسبٍ أمام الرصيف، وينزل من السيارة ويبدأ يتلفت يمنةً ويسرةً ليتأكد أنها قد صُفَّت بطريقةٍ سليمةٍ، وكلما نزل ليركبها ينظر إن كانت قد تعرَّضت لأي أذى أو خدشٍ أو شيء، هذا في اليوم الأول، وربما يخرج كلَّ ساعةٍ إلى الشرفة لينظر إلى سيارته، اليوم الثاني أقلّ بهجة، الثالث أقل، بعد أسبوع، بعد شهر، ثم تخدش السيارة، وتتسخ، ولا يهتم لها، المهم أنها تنقله من مكانٍ إلى مكانٍ، هذه لذة، هو استمتع باللذة لحين لكنها تناقصت ثم تلاشت.
السعادة تنبع من الداخل
بينما السعادة تنبع من الداخل لذلك لا تحتاج إلى الوقت ولا إلى الصحة ولا إلى المال، لذلك نجد في تاريخنا سعداء ولم تكن صحتهم كما ينبغي، وسعداء ولم يملكوا المال، وسعداء ولم يملكوا وقتاً للاستمتاع بمباهج الحياة، بل قضوا وقتهم وراء القرطاس والقلم في طلب العلم لكنهم كانوا سعداء، من أين جاءت سعادتهم؟ جاءت من الداخل، هذا ابن تيمية رحمه الله تعالى كان يقول: ماذا يفعل أعدائي بي؟ بستاني في صدري، إن أبعدوني فبُعدي سياحة، وإن سجنوني فسَجني خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فشعر بالسعادة رغم أنه كان في السجن.
يوسف عليه السلام كان في السجن وكان سعيداً، إبراهيم عليه السلام وُضِعَ في النار ليحرق بها وكان سعيداً يبتسم:

قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69)
(سورة الأنبياء)

نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم كان يمكثُ في غار حراء يتحنّث الليالي ذوات العدد، وكان سعيداً في هذا المُكث، سيدنا موسى عليه السلام يوم تاه طريقه في الصحراء وبدأ يبحث عن جذوةٍ من نار لعله يأتي بها لأهله ليتدفؤوا بها، ذهب في الصحراء ما الذي أسعَده هناك؟

إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)
(سورة النازعات)

ذهب ليأتي بجذوةٍ من نارٍ فإذا نور الوحي العظيم يتجلَّى عليه فكان في أسعد لحظات حياته وهو في ظلمة الليل.
يونس عليه السلام كان في بطن الحوت، وكان يقول:

لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
(سورة الأنبياء)

إذاً نحن عندما ننظر في القرآن الكريم وفي سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أن الإسلام لا يربط السعادة أبداً بما يأتي من الخارج، وإنما يربطها بما يأتي من الداخل، لأن ما يأتي من الداخل يتنامى بينما ما يأتي من الخارج يتناقص، لأن ما يأتي من الداخل تعقِبُه جنة، بينما يأتي من الخارج تعقِبُه كآبة، لأن ما يأتي من الداخل لا يمكن أن يُلغى بينما ما يأتي من الخارج يمكن أن يُلغى بقطع أسباب السعادة عن الإنسان التي يتوهمها سعادة، إذاً الإسلام يضع للسعادة ضوابط وقواعد تؤدي إلى ديمومتها وتناميها وما يعقِبُها من فرحٍ وسرورٍ، وأسعد أيام الإنسان يوم يلقى الله، فهو يكون في سعادةٍ متناميةٍ تتوَّجُ بلقاء الله تعالى.

الدكتور شادي ظاظا:
إذاً عندنا سعادة وهمية يحسبُها الإنسان واهماً أنها سعادة، وعندنا سعادةٌ مضبوطةٌ ضمن ضوابط الشرع الحنيف التي هي تضمن له سعادته في الدنيا وتؤدي إلى سعادةٍ أبديةٍ في الآخرة، الآن إذاً الناس تحتاج إلى تصحيح مفهوم السعادة وإعادة ضبط هذه النظرة من حيث المنطلق الشرعي، وهذا لا يتم إلا بطلب العلم، لهذا يجد الإنسان لذة في طلب العلم لأن طلب العلم يُرشده إلى مصادر السعادة الحقيقية، كما تفضلت وذكرت في الأمثلة أن الشيء المادي قد لا يُسعد الإنسان، سيدنا يوسف كان في ظرفٍ صعبٍ جداً في السجن وهو سعيد، وأيضاً هناك ملوكٌ أتوا على هذه الأرض ملكوا الرقاب وملكوا كلَّ شيءٍ ولم يكونوا سعداء، فتصحيح مفهوم السعادة عند الإنسان قد يكون له دورٌ كبيرٌ في عيش السعادة ومعرفة أنه سعيد، أحياناً الإنسان هو نفسه لا يعرف هل هو سعيدٌ أم لا، هل هو يهنأ لأنه يبذل الوقت في سبيل نيل السعادة ثم يذهب العمر ولم يُحصّل شيئاً، فجزاك الله خيراً على هذه الإطلالة في تصحيح ضبط مفهوم السعادة في الإسلام، هل هناك علاقةٌ بين السعادة والرضا وما هو الفرق؟

الدكتور بلال نور الدين:
نعم جزاك الله خيراً، هذا سؤالٌ مهمٌ جداً.

العلاقة بين الرضا والسعادة:
أخي الحبيب كما تفضلت طلب العلم أساسٌ في كلِّ شيء، طلب العلم هو سعادة الدارين؛ الدنيا والآخرة؛ لأن الإنسان بطلب العلم يعلم ما يُسعده وما يُشقيه، مثلاً إنسانٌ جاءه مبلغ من حرام وهو لم يطلب العلم فظنه مغنَمَاً فأخذه، هو ظنَّ أنه يُسعده لكن في الحقيقة هو يأكل مالاً سوف يُحرقه في نار جهنَّم، هو يظنه سعادةً وهو في الحقيقة نهايته، لأنه لم يطلب العلم.
المؤمن ينظر بنور الله
ما الذي يختلف به المؤمن عن غير المؤمن؟ المؤمن ينظر بنور الله، عنده رؤيةٌ وبصيرةٌ ينظر إلى المآلات، المال متلألئٌ ومغرٍ، المرأة للرجل أو الرجل للمرأة متلألئٌ ومغرٍ، لكن ما الذي يأتي في المآل هذا ما ينظر إليه المؤمن، كأنّ من يطلب العلم يعلم ما سيكون، لا أقول يعلم الغيب حاشا لله، لكنه يعلم ما أخبره الله به، الربا هو مَحقٌ للمال فلا يأكل الربا، غيره يجدها مغنَماً أنه جاءه مال، الزنا والعياذ بالله مآله إلى دمار البيوت في الدنيا، وضياع الإنسان في الدنيا ومآله نار جهنم والعياذ بالله يوم القيامة، فلا يأتيه لأنه يرى المآل، هذا من طلب العلم.
الآن قلتم السعادة والرضا، الحقيقة عندما نريد أن ننتهي في نهاية اللقاء إلى مؤشر السعادة سنضع على رأس الأولويات الرضا، حتى هؤلاء الذين وضعوا مؤشر السعادة العالمي أوردوا كلمة الرضا في البداية، لكنهم وجدوا أن المال هو الذي يُحقق الرضا فأخطؤوا هنا، لكنهم عرفوا أن السعادة لا تتحقق إلا بالرضا، والدليل أنك اليوم تجد إنساناً يملك مئةً وسعيدٌ بها لأنه راضٍ، وتجد إنساناً آخر يملك مليوناً وليس سعيداً بها لأنه ليس راضياً، فالرضا أساسٌ في السعادة، ليس ما نملكه من المال هو المهم، المهم ما نرضى به من المال، فالرضا هو سبيلٌ مهمٌّ جداً إلى تحقيق السعادة، الرضا عن الله، الرضا عن دخْلك، الرضا عن البيئة التي أوجدك الله بها، الرضا عن شكلك الذي وهَبَك الله إياه، بعض الناس لا يرضى عن شكله يقول لك: أنا قصير، يعيش عمره مُنزعجاً لأنه قصير القامة، لأنه لم يرضَ، لم يرضَ عن الله، الله هو الذي اختار لك، هل الطول بيدك؟ ليس بيدك، فالله تعالى هو الذي اختار لك ذلك فارضَ عن الله، اسعَ إلى أن تُغيِّر الأشياء التي تستطيع أن تُغيرها من أخلاقك ومن علمك ومن معاونتك للناس، سبيله الوحيد هو الرضا فلا سعادة بغير الرضا، لا سعادة إلا بالرضا، لكن لا بد أن ندخل في معاني الرضا بشكله الدقيق، لا بالشكل الذي وضعوه في مؤشر السعادة على أنه الرضا بما يُحققه لك المال، وإنما الرضا بمفهومه العام الواسع الشامل.
مرَّةً حدثنا أخٌ كريمٌ من كبار المحسنين في دمشق رحمه الله تعالى، أنه قدَّر الله تعالى له أن يزور في اليوم نفسِه بيتين، ذهب إلى شخصٍ ثريٍّ جداً يملك الملايين، فكلَّمه هذا الثري عن هموم الحياة وعن صعوبات السوق وعن التجارة الكاسدة وعن البضائع في المستودعات وعن الضرائب الحكومية التي أرهقته وعن تعاسته بسبب هذه المعطيات، حتى قال المحسن: كدت لا أستطيع الوقوف على قدميَّ من شدة ما أحبطني بكلامه، قال: ثم خرجت من عنده وكان عندنا زيارةٌ إلى امرأةٍ لها بيتٌ صغيرٌ يؤويها، والرجل مريضٌ في سريره والأولاد الصغار يلعبون في البيت، جئت إليها وقلت لها: نريد أن نرى وضعك، فاستضافتهم، قال: رأيت النظافة والرتابة والأولاد والقرآن في البيت، فقلت: ما شاء الله، نعطيك إن شاء الله ألفي ليرة في الشهر، قالت: لا أحتاج ألفين يكفيني ألف، عندنا ألفٌ تأتينا وندفع بها الإيجار لكن أحتاج ألفاً للمصروف، أصرّ عليها وألحّ أن تأخذ الألفين فرفضت رفضاً قاطعاً، قال: والله لقد صغُرتُ أمامها وخرجت وقلت: يا سبحان الله هذا الذي يملك الملايين لا يجد السعادة، وتلك بقناعتها وبرضاها تجد السعادة في هذا البيت المتواضع.
هذه مؤشراتٌ موجودةٌ في الواقع لا يستطيع إنسان أن يُنكرها، أنا لا أتكلم من الخيال، أن يقول إنسانٌ الآن مثلاً يسمعنا: أنت لا تتكلم عن الواقع، لا، هذا الواقع كلنا يعرف هذه الحالات، يجد إنساناً سعيداً رغم قلَّة ذات يده بالرضا، ويجد إنساناً رغم كلِّ ما يملكه تعيساً بعدم الرضا.

الدكتور شادي ظاظا:
الله يفتح عليك يارب، صدَقتَ يا سيدي صدَقت، سبحان الله، نعود إلى أننا نحتاج أن نُعيد ضبط مفهوم السعادة عند الناس، أنك تستطيع أن تسعد وأنت لا تملك شيئاً إذا كنت راضياً عن الله تبارك وتعالى، لكن مفهوم الرضا في القرآن بما أننا عرّجنا وسريعاً في قول الله تعالى:

جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)
(سورة البينة)


الرضا عن الله سبحانه وتعالى:
من يرضى أولاً؟ أول شيءٍ رضا الله أم الإنسان يرضى عن الله؟ (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).

الدكتور بلال نور الدين:
نعم هذه حصلت مع محمد بن إدريسٍ الشافعي رحمه الله تعالى؛ كان يطوف بالبيت فسمع رجلاً يقول: يارب ارضَ عني، فإذا بالشافعي يقول له: يا فلان وهل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك؟ قال له: عجباً لك من أنت؟ قال: محمد بن إدريس، قال: كيف أرضى عنه وأنا أطلب رضاه؟ فقال له الشافعي: إذا كان رضاك بالنقمة كرضاك بالنعمة فقد رضيت عن الله، لما يأتيك شيءٌ من مكروه القضاء لا تُحبه فتقول: يارب لك الحمد أنا راضٍ عنك يارب فعندها يرضى الله تعالى عنك، فهنا في هذه الآية التي تفضَّلت بها في ختام سورة البينة، ولها وقعٌ في النفوس:

جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
(سورة البينة)

ينبغي أن ترضى أولاً عن الله حتى يرضى عنك
فبدأك جلَّ جلاله برضاه قبل أن يطلب رضاك، وهو حاشاه أن يطلب رضا مخلوقٍ من مخلوقاته فهو الغني عنا، لكن انظر إلى هذا التودد: بدأك بالرضا قال: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) ثم قال: (وَرَضُوا عَنْهُ وإن كان فحوى الكلام يقول: ينبغي أن ترضى أولاً عن الله حتى يرضى عنك، لكنه جلَّ جلاله أراد أن يبادئك بالرضا حتى يَشُعَّ هذا المفهوم في حياتك، كيف يشعر المؤمن وهو يقرأ: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ)؟

لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18))
(سورة الفتح)

الواحد منا اليوم إذا قالت له أمه: رضي الله عنك يا بني، ينام مغتبطاً مسروراً برضا والدته عنه، أو برضا والده عنه لما يقول له: رضي الله عنك، فكيف إذا سمع أنّ الله تعالى قد رضيَ عنه؟! فبدأه تعالى جلَّ جلاله بالإحسان فقال: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ثم ذكّرك بأنك ينبغي أن ترضى عن الله تعالى وهو ليس بحاجةٍ إلى رضاك لكنك بحاجةٍ إلى أن ترضى عن الله، لأن رضاك عن الله يجعلك في سرورٍ وحبورٍ ويجعلك في حالةٍ من الأمن والسكينة والطمأنينة التي تملأ نفسك وأنت تشعر بمفهوم الرضا.

الصبر والرضا:
كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:
"وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ"
{ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه }
الشكر هو رضا
كنت أتأمل في قوله، فأقول: يا سبحان الله يا أيها الفاروق كيف وجدت خيرَ عيشك في الصبر؟! والله أنا أجد خير عيشي في الشُّكر، عندما تكون الأمور ميسرةً وأقول: يا ربي لك الحمد، أما إذا كانت الأمور صعبة المنال فالصبر؛ الحمد لله نصبِر، لكن هل الصبر هو خير العيش ؟! ثم فهمت المعنى: سيدنا عمر عاش أيامًا صعبةً جداً في بداية الإسلام، في الغزوات، في صعوبات الحياة، في الهجرة من مكة إلى المدينة، ثم كتب الله تعالى الاستقرار للمسلمين وأصبحت حياتهم أكثر هناءةً وفتح الله به الفتوحات، فأصبح يحنُّ إلى الحالة التي كان يشعر فيها بمعنى الرضا، لأن الشُّكر أخي الحبيب؛ الشكر هو رضا لا شك، لكن إذا أعطيت لأحدهم ألف ليرةٍ فقال لك: أنا راضٍ، طبعاً أنت راضٍ معك ألف ليرةٍ لماذا لا تكون راضياً؟! لكن البطولة أن أسحب منك المبلغ وتقول: أنا راضٍ، وليست أن أُعطيكَ فتقول: أنا راضٍ، فالشكر هو حالةٌ طبيعية، فكان عمر يحنُّ إلى الأيام التي كان يتمثَّلُ فيها معنى الرضا، الرضا عن الله، يوم يقول: يارب نحن رغم كل ما يمرُّ بنا من محنٍ ثابتون على الحق، بلال رضي الله عنه يقول: أحدٌ أحدٌ، وهو في الصحراء وتوضع الصخور فوقه يقول: أحدٌ أحدٌ، وهو أسعد الناس بالله وهو في هذا الحالة، لماذا؟ لأنه يستشعر حالة الرضا عن الله عزَّ وجلَّ، أصحاب الأخدود استشعروا حالة الرضا عن الله عزَّ وجلَّ،لذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:

{ عن أنسٍ قالَ: أتى نبيُّ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ على امرأةٍ تبكي على صبيٍّ لَها فقالَ لَها: اتَّقي اللَّهَ واصبِري فقالت: وما تُبالي أنتَ بمصيبَتي، فقيلَ لَها: هذا النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فأتتهُ، فلم تجِدْ على بابِهِ بوَّابينَ فقالت: يا رسولَ اللَّهِ، لم أعرفْكَ، فقالَ: إنَّما الصَّبرُ عندَ الصَّدمةِ الأولى أو: عندَ أوَّلِ صدمةٍ }

(صحيح أبي داود)

هذه هي الحياة لا نريد أن نكون غير واقعيين الحياة فيها مصائبٌ سوف تأتيك مصيبة:

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186))
(سورة آل عمران)

لا بد من الابتلاء، فعندما يأتي الابتلاء ففي اللحظة الأولى تقول: يا ربي لك الحمد، إذا فعلتها فوالله هذا منتهى الرضا وهو الذي يملأ القلب سعادةً لأنك تشعر بقيمة الصبر وبقيمة الرضا عن الله تعالى.

الدكتور شادي ظاظا:
نعم هي منزلةٌ من منازل مدارج السالكين في كتاب ابن القيم سماها منزلة الرضا، لكن قول الله تبارك وتعالى (لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) وكأنَّ هذا موهبةٌ أو كرامةٌ من الله تبارك وتعالى أن يجعلهم في هذا المقام، الشيخ عدنان السقا الذي توفي من أيامٍ رحمه الله انتشر له مقطعٌ يُحدِّثُ طلابه وأحبابه أن كلمة الله يرضى عليك من والدك تساوي الدنيا وما فيها، نحن أحياناً نفقد معاني هذه الكلمات لكن لما نقف على حقيقتها ونُدرك أهميتها ونُحيي معانيها يشعر الإنسان بأنه سبحان الله البارحة أنا لما سمعت هذا المقطع فوراً اتصلت بوالدتي قلت لها: هل رضيتي عني اليوم أم نسيتي؟ لأن بالفعل حقيقةً كلمة رضيَ الله عنك تساوي الدنيا وما فيها، وإذا رضي الله عن الإنسان طوّع له كلَّ شيء، لكن نحن الآن كنا نتحدث عن موضوع السعادة والرضا والربط بينهما، الآن نريد أن ننتقل إلى الفرق بين السعادة واللذة، ما هو الفرق بين سعادةٍ ولذةٍ؟ عندما نقول: سعادة، وعندما نقول: لذة، ما هو الفرق بينهما؟

الدكتور بلال نور الدين:
نعم جزاك الله خيراً أخي الحبيب الأخ شادي، أنا أشرت للموضوع سريعاً لكن جميل أن نعود ونعتني به.

الفرق بين اللذة والسعادة:
اللذة حالةٌ طارئةٌ تأتي ثم تنقضي
اللذة: هي حالةٌ طارئةٌ تأتي ثم تنقضي، إذا كانت في طاعة: طعام، شراب، نزهة جميلة، تأتي وتنتهي وانتهى الأمر، لكن إذا كانت في طاعة الله إن شاء الله تُسجَّلُ عند الله من العبادة إن ابتغى الإنسان بها وجه الله، اللذة إن كانت في معصيةٍ عندما تنتهي تأتي بعدها الكآبة، ألا نُصدِّقُ القرآن الكريم؟ يقول تعالى:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124
(سورة طه)

هذا قانون (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) لا بد أن تأتي المعيشة الضنك لمن أعرض عن ذكر الله تعالى.

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
(سورة النحل)

وانظر كيف سمَّى الله تعالى الحياة الطيبة؛ سماها حياة، والضنك سماه معيشة، ما معنى يعيش؟ يعني يأكل ويشرب وينام ويتزوج ويأتي كل ما يريد من المتع هذا يعيش لكنه لا يحيا، الحياة الحقَّة لا تكون إلا في رضا الرحمن هذه هي السعادة، السعادة هي الحياة، اللذة هي المعيشة، فإذا قال لك إنسانٌ أنا سعيدٌ جداً لأنني آكل وأشرب وعندي مالٌ وعندي كذا.. قل له: والله ليس عندك شيءٌ مميزٌ لأن كلَّ المخلوقات تَسعَدُ إذا أكلت وشربت فأنت ما الذي تميَّزت به؟! أنت تَسعَدُ إذا حققت الحاجات العليا، تَسعَدُ إذا أسعدت الناس، تَسعَدُ إذا اتصلت بالله، تَسعَدُ إذا طلبت العلم.
من منطلق التحديث بنعم الله عزَّ وجلَّ: أحياناً أذهب في نزهةٍ في طاعة الله إن شاء الله، مع الأهل، وأعود مسروراً لأنني أدخلت السرور على أسرتي وهذا مطلوبٌ من كلِّ مسلمٍ، لكن عندما أُنجز شيئاً كأن يطلب مني أخٌ شيئاً أو فتوى وأسعى له فيها والله ما يغمُرني من السعادة بها أضعاف النزهة التي تنزهتها لأنني أشعر أني فعلت شيئاً، هذه هي الحاجة العليا في الإنسان، المعيشة هي الحاجة السفلى في الإنسان أن تعيش، كلنا نعيش، نسأل الله لمن أرهقتهم الحروب والجوعى وأنتم صاحبو قدمٍ في مساعدة الناس أسأل الله أن يجزيكم خيراً أنتم ومنظمتكم، نعم هناك حالاتٌ لكن في النتيجة حياةٌ وتمضي بصحن برغل أو بصحن أرز، بحلوياتٍ بعد الطعام أو دون حلويات بعد الطعام لكن تنقضي، هي أيامٌ وتنقضي، لكن ما الذي يبقى؟ ما يُسعدك، وما الذي يُسعِدُ الإنسان؟ طاعة الله ورضا الرحمن، أما اللذائذ فهي معيشةٌ ومن يأتي المعيشة في طاعة الله تنفعه إن شاء الله، لكن من يأتيها في معصيةٍ الله تكون(مَعِيشَةً ضَنكًا) لأنه أعرَضَ عن ذكر الله:

الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
(سورة الرعد)

لن تجد إنساناً يطمئن قلبه إلا بذكر الله.

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ(82)
(سورة الأنعام)


الدكتور شادي ظاظا:
يا شيخ بلال ممكن أن تسمح لي أن أُدللَ على هذا المعنى بآية من القرآن الكريم في قول الله تبارك وتعالى في سورة هود:

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
(سورة هود)

وكأن السعادة دائمةٌ مستمرةٌ كما تفضَّلت واللذة آنيةٌ طارئةٌ وسرعان ما تنتهي وتتلاشى.

الدكتور بلال نور الدين:
وهذه هي الآية الوحيدة التي جاء بها لفظ السعادة، التي تفضَّلت فيها (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا) هذه الآية الوحيدة التي جاء فيها لفظ السعادة بينما في الدنيا كله متاع:

كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ۚ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
(سورة التوبة)

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
(سورة الحديد)

الدنيا متاعُ الغرور، لم يقل تعالى عن شيءٍ في الدنيا أنه يُمِدُّ بسعادةٍ وإنما بمتعة، المتعة نظير اللَّذة، هي اللفظ القرآني للذة، المتعة وهي الشيء الآني الذي يتناقص وإن كان في معصيةٍ ينتهي بكآبة.

الدكتور شادي ظاظا:
لما خاطب ربّ العالمين أهل النار قال:

قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
(سورة النساء)

قبل أن انتقل إلى موضوع السعادة والفرح بالتمييز بينهما وقول الله تعالى:

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)
(سورة يونس)

لكن أريد أن أؤكد على ما ذكرته من معنى في حياتنا العملية، قبل أن ينتشر كورونا أنا كنت في زيارة إلى مخيمات الشمال السوري وكنت في غزة، وبعدها بأيامٍ جئت إلى أمريكا، طبعاً رأيت أحوال الناس هناك، والله دخلت إلى خيمٍ في المخيمات تجد السعادة تسكن هذه الخيمة على بساطتها، أهلها يعني سبحان الله رغم البؤس والشدة والفقر والفاقة لكن تعلو مُحيّاهم هذه البسمة والرضا عن الله وقول الحمد لله من الأعماق، ثم لما جئت إلى أمريكا كنت في زيارة شخصٍ يحمل في يده مفتاح سيارته المازيراتي 150 ألف دولار وسبحان الله مُقَطِّبُ الوَجْهِ، عابس، متثاقلٌ من الدنيا، فربطت المشهدين مباشرةً قلت حقيقةً السعادة ليست بالدنيا أبداً، وليس بما نملك، وليس بما بين أيدينا، السعادة هي ما تنطوي عليه سريرتنا وما نحمله في داخلنا، فيَسعَدُ الإنسان ولو فقد كلَّ شيء، لو لم يملك من حطام الدنيا شيء.
فأردت فقط أن أستعير هذه الصورة تدليلاً على الذي ذكرته جزاك الله خيراً، لكن الآن السعادة والفرح يا شيخ بلال (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا).

الفرح في الإسلام:
الدكتور بلال نور الدين:
الفرح هو التعبير عن السعادة
أخي الحبيب؛ السعادة: هي الحالة التي تمتلئ بها النفس، والفرح: هو ما يُعبَّرُ به عن تلك السعادة، لذلك القرآن الكريم لا يُحدِّثُك عن السعادة إلا كما تفضَّلت وقلت كما في الآية: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ) هذه سعادة الآخرة، لكن يُحدِّثُك في الدنيا عن ما ينبغي أن تفرَحَ به وعما ينبغي ألا تفرح به، لا أستطيع أن أقول لإنسان اليوم: كن سعيداً، لكن أنا أستطيع أن أنظر في وجهه فأرى الفرح فأقول: هذا فرِح، أو أنظر فأرى في وجهه الكآبة فأقول: هذا الإنسان كئيب، فالفرح هو التعبير عن السعادة تماماً كما أن الود تعبيرٌ عن الحب، فالله تعالى ودود، يُعبِّرُ عن حبِّه لنا برزقٍ حسنٍ، يُعبِّرُ عن حبِّه لنا بماءٍ من السماء، يُعبِّرُ عن حبِّه لنا بأخٍ في الله، يُعبِّرُ عن حبِّه لنا بزوجةٍ صالحةٍ، هذا الود والحب، فالحب: هو الشعور الداخلي، والود: هو التعبير عن الحب، قال تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا (96)
(سورة مريم)

أي وُدَّاً فيما بينهم، ووُدَّاً فيما بينهم وبين الله، الآن السعادة والفرح تماماً كالحب والود، السعادة ما يمتلئُ به قلبك والفرح ما تُعبِّرُ به عما في داخلك، لذلك في القرآن الكريم يوجد (فَلْيَفْرَحُوا) ويوجد (لا تَفْرَحْ) ينهانا عن مظاهر السعادة لأن الفرح (لا تَفْرَحْ) عندما يكون الفرح بمعصية الله:

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
(سورة القصص)

بينما في آيةٍ أخرى كما تفضَّلت:

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)
(سورة يونس)

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ۖ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ۚ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ ۚ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
(سورة الرعد)

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
(سورة الرعد)

(وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ذَم.

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
(سورة الحديد)

بينما الحزن لم يرِد في القرآن الكريم مأموراً به وإنما ورد منهيّاً عنه دائماً:

إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
(سورة التوبة)

وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)
(سورة آل عمران)

لأن الله تعالى يُريدنا سعداء، أن نُعبِّرَ عن السعادة بالفرح، إلا الفرح في المعصية، إلا الفرح فيما يُغضِبُ الله فهذا منهيٌّ عنه، لكن أمرنا بآياتٍ كثيرةٍ بأن نفرح، افرح بفضل الله، افرح برحمة الله، افرح بالوحي عندما يأتي الوحي من الله، أنس بن مالك رضي الله عنه يقول لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: أحدنا لم يعمل بمثل عمل رسول الله وأبي بكر وعمر وهو يحب أن يكون معهم،فأنزل الله تعالى:

وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (69)
(سورة النساء)

يقول أنس: فما فرحنا بشيءٍ فرحنا بقوله تعالى:
(فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم) قَالَ:

{ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: (وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا)؟ قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ }

(صحيح البخاري)

فالفرح مأمورٌ به، الحزن منهيٌّ عنه، الفرح مأمورٌ به إلا ما كان في معصيةٍ فهو منهيٌّ عنه، والفرح هو التعبير الحقيقي الذي نراه بأعيننا عن السعادة، نحن لا نرى السعادة لكن نرى الفرح أو نرى الحزن.

الدكتور شادي ظاظا:
نعم، جزاك الله عنا كل خير، كتلخيصٍ للمعاني التي تفضَّلت بها أن السعادة بداخلنا، هل ممكن نحن أن نُسعِدَ أنفسنا بأيدينا؟ وكيف ننال السعادة؟ ومصدرها؟

الدكتور بلال نور الدين:
جزاكم الله خيراً، أنا أريد أن أصل الآن كما قلت لك وهذا جوابٌ على سؤالك وأوسع بقليلٍ من السؤال وهو مؤشر السعادة عنوان لقائنا.

مؤشرات السعادة:
أنا وضعت مؤشراً للسعادة وأنت اقبله مني أو ناقشني به والإخوة معنا والأخوات معنا، أنا وضعت خمسة معايير، كما وضعوا هم خمسة معايير للسعادة المزعومة:

1- حسن الصلة بالله:
المعيار الأول للسعادة: هو حسن الصلة بالله، لماذا؟ لأن الإنسان يريد إن يَسعَد، السعادة تكون: بالجمال، أو بالكمال، أو بالنوال، بالجمال: يَسعَدُ بامرأةٍ جميلة، أو بابنٍ جميل، أو بمنظرٍ جميلٍ، بالكمال: يَسعَدُ بإنسانٍ يحبه، يصبر عليه، يساعده، موقفٌ كامل، يحب الإنسان الكمال، بالنوال: يُحب العطاء، فإذا أعطاه إنسان شيئاً يَسعَد، جاءه شيء، الإنسان يَسعَد بما يأخذه.
الجمال والكمال والنوال عند الله تعالى
حسناً أين الجمال؟ عند الله، الله هو الجميل كل ما تراه في الكون جميلاً هو مسحةٌ من جماله جلَّ جلاله. أين الكمال؟ عند الله، الحكيم، الخبير، اللطيف، الودود، هذا هو الكمال، تُحب إنساناً لأنه لطيفٌ معك ولا تُحب الخالق الذي جعله لطيفاً معك؟! ما هذا البُعد عن المنطق!
النوال من الذي يعطيك؟ تقول: إنسانٌ أعطاني مئة، طيب الله عزَّ وجلَّ أعطاك الوجود، وأعطاك الهداية، وأعطاك المطر، وأعطاك الولد، وأعطاك الزوجة، وأعطاك الطعام والشراب، إذاً أصل الجمال وأصل الكمال وأصل النوال عند الله، فأول مؤشرٍ من مؤشرات السعادة فيما أعتقده هو حسن الصلة بالله.

2- الرضا والقناعة:
وتكلمنا عن الرضا أن ترضى بما وهبَكَ الله تعالى إياه وأن تقنَعَ به، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

{ اتَّقِ المحارمَ تكن أعبدَ الناسِ، وارْضَ بما قسم اللهُ لك تكن أغنى الناسِ وأَحْسِنْ الى جارِك تكن مؤمنًا، وأَحِبَّ للناسِ ما تُحبُّ لنفسِك تكن مسلمًا، ولا تُكثِرِ الضحكَ، فإنَّ كثرةَ الضحكِ تُميتُ القلبَ، كن ورعًا تكن أعبدَ الناسِ، وكن قنعًا تكن أشكرَ الناسِ وأَحِبَّ للناسِ ما تُحبُّ لنفسِك تكن مؤمنًا، وأحْسِنْ مجاورةَ من جاورَك تكن مسلمًا }

(أخرجه الترمذي)

تريد أن تكون أغنى إنسانٍ في الأرض؟ أريد، أغنى من (بيل غيتس) كيف؟ كن قنعاً، اقنع بما آتاك الله، بعد البذل والأسباب لا مانع لكن بالنتيجة هذا رزقي، هذا دخلي، هذا شكلي، هذه زوجتي، هؤلاء أولادي، أنا قنع بما آتاني الله، مقتنعٌ بما آتاني الله، قال: كن قنعاً تكن أغنى الناس:

{ لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْس }

(صحيح البخاري)

فالإنسان يكون غنياً من داخله، هذا المؤشر الثاني.

3- إسعاد الآخرين:
الثالث وهو مهم جداً جداً إسعاد الآخرين:
"إذا أردت أن تسعَد فأسعِد الناس"
العطاء أجمل من الأخذ
سُئل حكيمٌ من أسعدُ الناس؟ قال: من أسعدَ الناس، فإذا أردت أن تكون سعيداً اعمل عملاً صالحاً، والله يدخلُ من السعادة على الإنسان الذي يُطعم الآخرين الذي يَكسُو الآخرين الذي يُساعد الناس ما لا يدخله على أي إنسانٍ يُتخَمُ بالأشياء ويأخذ، يبني حياته على الأخذ، يأخذ، ويأخذ.. وماذا بعد؟ أعطِ يا أخي، جرب العطاء، العطاء أجمل من الأخذ، العطاء فيه جمال أكثر من جمال الأخذ.

4- الإيمان بموعود الله:
الرابع وهو مهمٌ جداً جداً؛ الإيمان بموعود الله، قال تعالى:

أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
(سورة القصص)

أعتقد ولا أجزم أن كثيراً ممن يتابعوننا الآن ربما قال في داخله: الحياة متاعب، كيف تريد أن أكون سعيداً وأنا أسعى لتأمين رزقي ورزق عيالي والحياة فيها متاعبُ وحروبٌ.. أقول لك: نعم والله صدقت وكلنا ذاك الرجل، كلٌّ له ابتلاؤه والله تعالى قال:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
(سورة المؤمنون)

موعود الله في الآخرة أعظمَ من كلِّ شيءٍ
فكلنا مبتلون، من أين تنبع سعادتنا؟ ننتظر موعود الله، فتهون الشدائد في سبيل ما ننتظره، تماماً كإنسانٍ يمشي في صحراءٍ موحشةٍ وفيها ما فيها من المخاطر لكنه بعد أيامٍ موعودٌ أن يصل إلى مكان يحصل فيه على كنزٍ ثمينٍ، فتهون عليه مصائبه ومتاعبه لأنه ينتظر شيئاً بعد أيام، نحن ننتظر شيئاً أعظمَ من كلِّ شيءٍ وهو موعود الله في الآخرة، بجنةٍ يدوم نعيمها وبنظرٍ إلى وجه الله الكريم وبرضا لا يعقبه سخط، هذا الانتظار الذي نعيش عليه يجعلنا سعداء ونحن في أقسى ظروف الحياة، رغم ما نواجهه لكن لما نستشعر معنى الموعود والإيمان بالآخرة تَهون علينا المصائب، لا أقول: تُلغى، لكنها تَهون، هذا المؤشر الرابع.

5- مدى التوكل والتسليم:
التسليم لله تعالى هو السعادة
أما المؤشر الخامس والأخير فهو مدى التوكل والتسليم عندك، ما مدى التوكل عندك؟ تقول: أنا متوكلٌ على الله، نعم، كلنا نقول: نحن متوكلون على الله، لكن هل أنت متوكلٌ على الله إلى مرحلةٍ من التوكل بحيث يجعلك هذا التوكل لا تخشى شيئاً في الله؟ هنا السؤال؟ هل أنت مسلِّمٌ أمرك لله مئةً بالمئة أم تشعر أنك أنت من تدبِّرُ أمرك؟ إذا كنت تشعر أنّ الله يدبِّرُ أمرك والله سوف تَسعَد، لأنك بيد حكيمٍ وخبير، الأمر عنده، أنت في الدنيا إذا قال لك ملكٌ من ملوك الأرض: هذا الموضوع عندي، فإنك لا تنام أياماً وأنت تطيرُ فرحاً لأن أمرك أصبح عند ملكٍ من ملوك الأرض، فإذا قلت لملك السماء: يا رب الأمر عندك، افعل ما تشاء يارب نحن راضون، هل عندك هذا التسليم؟ والله التسليم هو السعادة، فالمؤشر الخامس هو مدى التوكل والتسليم لله تعالى.
اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفيك الوجوهَ كلَّها
{ الأمير منجك بن محمد }
الناس يريدون أن يُرضوا كل الناس، ولن تستطيع أن ترضيَ كل الناس، لكن المؤمن يريد أن يُرضيَ الله، فإذا رضيَ الناس في رضا الله فأنعِم بها وأكرم، وإذا غضبوا في رضا الله فليغضبوا ما شاؤوا المهم أنني أُرضِي الله تعالى.

{ قال صلّى الله عليهِ وسلَّم:مَنْ جَعَلَ الهُمومَ هَمَّا واحِدًا، هَمَّ المَعادِ، كَفَاهُ اللهُ سائِرَ هُمومِه، و مَن تَشَعَّبَتْ به الهُمومُ من أحوالِ الدنيا لَمْ يُبالِ اللهُ في أيِّ أوْدِيَتِها هَلَكَ }

(أخرجه ابن ماجه)

رضا الآخرين لا يكون إلا في رضا الله تعالى
اجعل لك هماً واحداً أن ترضي الله وأن تكون من الناجين عنده يوم القيامة، والله هذا مصدر سعادة، لأنك لا تحتاج إلى أن تُرضي كل الأطراف، يقول لك: فلانٌ ذكيٌّ يُرضي جميع الأطراف! لا يا أخي أنا مؤمنٌ لا أُرضي جميع الأطراف، أنا أُرضي كلَّ الأطراف إذا كانت في رضا الله، أما الذي لا يريد أن يرضى فلا أطلب رضاه إذا كان في سَخَطِ الله، أنا أطلب رضا الرحمن جلَّ جلاله، يوسف عليه السلام وقد جئنا على ذكره؛ يوم سأله صاحبا السجن عن تأويل الرؤيا بدأهما بما يبقى وبما يدوم فقال لهما:

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
(سورة يوسف)

أنت تريد أن تعبُدَ أرباباً أم تعبُدَ رباً واحداً؟ القرار لك، لا شك أنّ عبادة ربٍّ واحدٍ هو الخير، لأنك تجعل أمورك كلها عند الإله العظيم، أعتقد بأنه لا يوجد حريةٌ في الأرض نهائياً، لا يوجد حرية، كلنا عبيد، الحرية كذبة، هل الناس في البلاد التي تسمى بلاد الديمقراطية يعيشون أحراراً؟ لا والله، وأنت أدرى الناس أخي شادي، لا يعيشون أحراراً لكنهم يعيشون عبيداً لشهوتهم ولمالهم ولسلطانهم ولسيارتهم وللبنوك التي تُقرضهم، مئة عبودية وعبودية، أنا – المؤمن - اخترت أن أعبد إلهاً واحداً فقط، لا أريد أن أعبد الدينار ولا الدرهم، أنا أعبد الله فقط لذلك أنا الحرُّ الوحيد في الأرض.

الدكتور شادي ظاظا:
سبحان الله من أجل هذا كان الإيمان بالله والتسليم لأمره والخضوع والانقياد والطاعة ضرورةً للإنسان، لأنه يَسلَمُ بها ويَسعَدُ بها ويُسلِّم الأمر ويُوحِّد الوجهة لله، ويجمَعُ الله عليه شمله، سبحان الله لما يطمئن القلب بالله وبذكر الله يصبح هذا الإنسان قوياً، أما هذا الذي اطمأنّ للدنيا يعيش في خوف، يعيش في رعب، يعيش في قلق، لذلك سبحان الله قول الله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
(سورة يونس)

سبحان الله على هذا البيان (لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) مثلما تفضَّلت الإيمان بموعود الله، موضوع الآخرة ليس داخلاً في حساباتهم أبداً، ثم (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) رضِيَ، بدلاً من أن يرضى بما أعطاه الله، رضيَ بالدنيا بالمال بالسيارات بالجاه في الشهرة، (وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) لذلك العلم، ثم العلم، فالعلم.
أسعدُ الناسِ من أسعدَ الناس
عن أسس السعادة التي ذكرتها وتفضَّلت بها أحببت أن أُعقَّب أن في البند الثالث (إسعاد الآخرين) لما سَئِل من هو أسعد الناس قالوا: من أسعد الناس، أسعدُ الناسِ من أسعدَ الناس، كان سبباً في سعادتهم، وهذا يذوقه سبحان الله كل من ذاق طعم العطاء والبذل والتضحية والإنفاق وأن يمشيَ في حاجات الناس وأن يكون سبباً في نفعِهِم، والحديث:

{ الخلْقُ كلُّهم عيالُ اللهِ فأحَبُّ الخلْقِ إلى اللهِ أنفَعُهُمْ لِعيالِهِ }

(أخرجه الطبراني)

ثم الإيمان بموعود الله، البند الرابع، قول الله تبارك وتعالى في سورة القصص:

أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
(سورة القصص)

يعني نعود إلى موضوع المتعة اللذة الآنيّة التي سرعان ما تذهب وتنقضي، حقيقةً أنت كنت تتحدث وأنا أطوفُ معك وأحلِّقُ وتأخذنا في هذه الرحلة الماتعة في فضاء الإيمان والقرب من الله وتَحبيبُ الخلق من خالقهم وبارئهم، ولا نشبع من كلامك ولا نشبع من هذا الذي ينبُعُ من القلب ويذهب فوراً إلى القلب، والله أنا أتعلَّم منك يا شيخ بلال، في كلِّ محاضرةٍوجلسةٍ أستفيد وأتعلَّم والله الذي لا إله إلا هو، سأخطب خطبتي غداً من وحي كلامك.

الدكتور بلال نور الدين:
وهذا يسعدني، يسعدني جداً، الله يحفظك ويبارك فيك.

الدكتور شادي ظاظا:
أكرمك الله يا شيخ بلال وحفظك الله ورعاك إن شاء الله، ووفقنا الله وإياك بإذن الله تعالى، هل عندك كلمةٌ أخيرةٌ في نهاية الموضوع؟ هل تريد أن تُعقّبَ بشيء؟

الملخص:
الدكتور بلال نور الدين:
والله يا أخي الحبيب الكلمة الأولى والأخيرة أننا جميعاً طلابُ سعادة، ولكن دعونا نفتِّشُ عنها ونبحث عنها في مظانِّها، ومظانُّها: القرب من الله والصلة به والإحسان إلى خلقه، هذا ملخصُ الملخص، أحسن صلتك بالله وأحسن إلى الناس، هذا ملخصُ السعادة، والله لن تجدَ سعادةً إلا في ركيعاتٍ تقومُها لله تعالى أو في مَدِّ يدِ عونٍ لأخٍ كريمٍ يحتاج مساعدةً، وهذا معنى قول عمر رضي الله عنه وأرضاه:
"والله لولا ركيعاتٌ في جوفِ الليلِ وإخوةٌ يُلتَقطُ معُهم طيِّبُ الكلامِ كما يَنتَقِي آكلُ الثمرِ أطايبَه لآثرتُ الموتَ عَلى الحَياة"
لا يوجد في الدنيا ما يُسعِدُ إلا صلةٌ بالله أو إخوةٌ في الله أمدُّ لهم يدَ العون ويمُدُّون لي يدَ العون ونتعاون ونتناصح ونأتمِرُ بالمعروف ونتناهَى عن المنكر، هذه هي السعادة وما سِواها لذائذُ تنقضي وتأتي بعدها كآبة مُدمِّرة إن كانت في معصية الله نسأل الله السلامة.

الدكتور شادي ظاظا:
آمين، اللهم آمين، باسم ملتقى الراقيات والإخوة والأخوات المتواجدين معنا أشكرك جزيل الشكر على هذه الكلمات الطيبات النافعات، وعلى الوقت الذي أعطيتنا إياه نسأل الله أن يجزيك عنا خير الجزاء، ونطلب منك الدعاء إن شاء الله في نهاية هذا اللقاء.

الدكتور بلال نور الدين:
الدعاء منكم أخي، الدعاء من عندكم أخ شادي أنت إمامُنا.

الدكتور شادي ظاظا:
أن تكرمنا أنت بدعائك الصالح، الله يحفظك يارب، لو سمحت، الله يكرمك يارب.

الخاتمة والدعاء:
الدكتور بلال نور الدين:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، اللَّهمَّ أَصْلِحْ لنا دِيننا الَّذي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنا، وأَصْلِحْ لِنا دُنْيَانا التي فِيهَا مَعَاشِنا، وَأَصْلِحْ لنا آخِرَتنا الَّتي فِيها معادُنا، وَاجْعلِ الحيَاةَ زِيادَةً لنا في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الموتَ راحَةً لنا مِنْ كُلِّ شَرٍ، مولانا رب العالمين، اللهم بفضلِك ورحمتِك أعطِنا من كريم عطائك، اللهم بفضلك ورحمتك اعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا، اللهم ربنا وربَّ كلَّ شيءٍ ومليكه نسألك بكل اسمٍ هو لك سمّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا، ذكِّرنا اللهم منه ما نُسِّينا وعلِّمنا منه ما جهِلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على النحو الذي يُرضيك عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة واجعل أسعد يومٍ في حياتنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا أنت حسبنا عليك اتكالنا، اللهم اجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك، اللهم اجعل خير أيامنا خواتيمها وخير أعمالنا خواتيمها وخير كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، اللهم ربنا اجعل لنا ولجميع المسلمين في هذا اللقاء خيراً ونفعاً وبركةً، وفرّج عن المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، أطعِم جائِعهُم واكسُ عريانهم وارحَم مصابهم وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبَّلاً نسعَدُ بإسعاد الناس يا أرحم الراحمين، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

الدكتور شادي ظاظا:
آمين اللهم آمين، جزاكم الله خيراً شيخنا الفاضل على هذا الدعاء الطيب المبارك، وباسم ملتقى الراقيات نشكرك مرةً ثانيةً، وندعو لك في ظهر الغيب، ونسأل الله أن يُلهمك أن تُكثِرَ علينا من هذه اللقاءات والإطلالات المباركة فوالله نحن نسعدُ بك.

الدكتور بلال نور الدين:
هذا من حسن ظنكم وأنا أسعدُ الناس بكم.

الدكتور شادي ظاظا:
ونسأل الله أن يزيدك توفيقاً وفتحاً.

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم ونفع بكم.

الدكتور شادي ظاظا:
الله يحفظكم يارب، وإلى هنا إن شاء الله نأتي إلى نهاية هذه الحلقة دُمتم بخيرٍ وعنايةٍ ورحمةٍ.