رمضان شهر البر والعطاء

  • لقاء مع رابطة حملات الحج السورية
  • 2021-03-30

رمضان شهر البر والعطاء


مقدمة:
الدكتور حسن الجمل:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أخواني وأخواتي أينما كنتم، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم على صفحة البث برابطة حملات الحج السورية، ونحن ننتظر فضيلة شيخنا العلّامة الدكتور محمد راتب النابلسي، حفظه الله تعالى ورعاه، ولكن لأمر تقني تأخر علينا، وأناب عنه فضيلة الدكتور بلال نور الدين مدير مكتبه ومدير أعماله العلمية ومدير مكتب الفتوى لمكتب الدكتور محمد راتب النابلسي، لعل الله يكرمنا أن ينضم إلينا بإذن عز وجل إن لم يكن هناك مانع تقني.
نرحب بفضيلة الدكتور بلال نور الدين على صفحة رابطة حملات الحج السورية، بالإنابة عن فضيلة شيخنا محمد راتب النابلسي، وجميعنا في انتظاره وانتظاركم حفظكم الله سبحانه وتعالى، ولعل الأمر التقني إن شاء الله يعالج بسرعة بإذن الله عز وجل، أهلاً وسهلاً بكم فضيلة الدكتور...

الدكتور بلال نور الدين:
حياكم الله، بارك الله بكم وأسعدكم، و نفع بكم في الدارين.

الدكتور حسن الجمل:
جزاكم الله عنا كل خير، وتشرفت رابطة حملات الحج السورية باللقاء مع فضيلتكم، وأنتم تحملون من العلم ما تحملون، وتحملون من الخلق والأدب والأعمال الدعوية على القنوات الفضائية وفي قنوات الفتوى لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي حفظه سبحانه وتعالى، أبدأ بين يدي فضيلتكم بكلمات لنمهد لهذا الموضوع الذي تمّ اختياره من قبل مكتب فضيلة العلّامة الدكتور محمد راتب النابلسي حفظه الله سبحانه وتعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الذي غرس الرحمة في قلوب المؤمنين، وتفضل علينا بنعمة الإسلام والقرآن العظيم، وكتب علينا الصيام كما كتبه على الأولين السابقين، اللهم بارك لنا فيما بقي من شهر شعبان، وبلغنا رمضان وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في محكم التنزيل:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
[ سورة البقرة ]

وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي تنزل عليه القرآن في شهر رمضان، فقال تعالى:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
[ سورة البقرة ]

اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد أسوتنا وقدوتنا الذي زف لنا بشائر الخير والبر والعطاء في شهر رمضان، فقال عليه الصلاة والسلام:

{ أتاكم شهر رمضان شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خير فقد حرم }

[ صحيح الألباني]

وأصلي وأسلم على من علمنا استقبال رمضان بدعائه، عندما قال:

{ الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله }

[ ورد في الأثر]

ورضي الله عن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد أيها الأخوة؛ القلوب تملؤها السكينة والوقار، والنفوس مطمئنة بعد طول انتظار، والعقول مستعدة لتنهل من العلم النافع الشريف، الذي يفيض به مولانا على قلوب من أحبه من عباده، عندما استقاموا وصدقوا في الطلب فعلمهم الله ما لم يكونوا يعلمون، قال سبحانه:

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
[ سورة النساء]

وقال جلّ جلاله:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
[ سورة البقرة ]

فضيلة الشيخ الدكتور بلال نور الدين المشرف العلمي لمكتب فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي حفظه الله، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم مع إخوانكم في رابطة حملات الحج السورية من دعاة وطلاب علم يقومون على خدمة ضيوف الرحمن، وإخوانكم في لجنة الحج العليا وجميع حجاج بيت الله الحرام ومع أهلنا داخل سوريا وخارجها، كلهم شوق ولهفة لسماع الدرر والجواهر التي تمسح الجراح فتكون بلسما شافياً لقلوب قد عصرها الألم والبعد والفراق، والظلم والعذاب، والجوع والفقر، ومزقها القهر والتشرد والغربة والضياع، أكان ذلك في الشتات أم في المخيمات أم في الحصار داخل البيوت أو داخل البلاد أو خارجها؟ ومع ذلك فهي صابرة محتسبة لله تعالى، فما العمل وقد اقترب شهر رمضان، شهر جبر الخواطر؟ وفضيلتكم قد اخترتم لنا عنواناً رائعاً دقيقاً لبيان كلماته ومعانيه، التي تأتي في وقت نحن أشد ما نكون بحاجة إليه، وهو رمضان شهر البر والعطاء، قال تعالى:

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
[سورة آل عمران]

وقال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
[سورة آل عمران]

وقد نبه النبي عليه الصلاة والسلام لهذا المعنى، بقوله: ((الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذوي الرحم ثنتان صدقة وصلة))
وبهذا النداء فضيلة الشيخ أسس النبي عليه الصلاة والسلام تلك المشاريع العظيمة من الخير والبر والعطاء بين ذوي القربى الأقارب، ثم الأرحام، ثم الجوار، ثم الفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل والغارمين وغيرهم، بل وبين أبناء الأمة الإسلامية، بل ولغير المسلمين ممن نعيش معهم في بلد واحد، ففتح الدنيا برحمته فتح علم وهداية إنه الرحمة المهداة للعالمين.
وها نحن اليوم نحتاج لإعادة تلك المشاريع الخيرية التعاونية بالبر والعطاء التي تجمع ولا تفرق، وتساهم في بناء الأرواح والقلوب والنفوس، ونوحد كلمة الأمة من جديد بالبر والإحسان، لأن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، نرحب بفضيلتكم فضيلة الدكتور بلال نور الدين أجمل ترحيب، بين أهل وإخوانكم، كما نرحب بجميع الإخوة والأخوات المتابعين للبث المباشر على صفحة رابطة حملات الحج السوري، ونحن نستمع لمعاني هذا العنوان الرائع الدقيق، كلمة كلمة رمضان شهر البر والعطاء، نحلق معهم في روضة غناء من رياض الجنة، ليجبر خاطر المستمعين، وكلنا آذان صاغية فتفضلوا مشكورين مأجورين مرحباً بكم، أهلاً وسهلاً ومرحباً بفضيلة الشيخ.

سعادة الإنسان لا تكون إلا إذا كانت حركته متوافقة مع هدفه:
الدكتور بلال نور الدين:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين وبعد؛
أشكر رابطة حملات الحج السورية هذه الدعوة الكريمة التي إن دلت على شيء فعلى حسن الظن، وأسأل الله تعالى أن أكون عند حسن ظنهم، كما أشكر الدكتور حسن الجمل جزاه الله خيراً على حسن التقديم وحسن الظن، وأسأل الله تعالى أن يجزيه عني خير الجزاء.
ثم أقول وبالله المستعان: إن شيخنا حفظه الله الدكتور راتب كان ينبغي أن يكون هو المحاضر، وأن نكون جميعاً في الاستماع لكلماته الطيبة، التي تتشوق لها آذان الملايين في العالم، إلا أن ظروف الحظر المنزلي والصحي الذي يجري الآن في الأردن- نسأل الله أن يرفع الوباء عن الجميع - حال دون الوصول إلى منزله لترتيبات البث، وما زال الأخوة يحاولون فعذراً منكم جميعاً، ثم أجد نفسي في موقف محرج، ذلك أن المتابعين والمترقبين ينتظرون كلاماً من فضيلة شيخي وأستاذي الدكتور محمد راتب النابلسي، فمهما قلت الآن فاسأل الله أن يعينكم على سماع كلماتي، وأن يعينني على تقديم شيء في هذا اللقاء، لاسيما وأن الموجودين جميعاً أهل فضل، وأهل علم، وأهل خير، وأهل عمل، وربما يكون بينكم بل أجزم أن بينكم من هو خير مني علماً و خلقاً وأدباً وفضلاً، فأسأل الله أن يعينني على هذه المهمة، وأن يعينكم على سماع كلماتي في الدقائق التالية.
أيها الكرام؛ سأبدأ بمثال وشيخنا بارع في ضرب الأمثلة، سأبدأ بهذا المثال اللطيف، رجل سافر إلى باريس، وباريس مدينة كبيرة مترامية الأطراف، فيها المتنزهات والجامعات والمصانع والشركات، استيقظ صبيحة اليوم الأول لوصوله إلى فندق في باريس وسأل سؤالاً قال: إلى أين أذهب ؟ سيسأله من في الفندق: لماذا أنت هنا ؟ لأنك إن جئت إلى باريس سائحاً فسندلك على المتنزهات، وان جئت تاجراً سندلك على المصانع والشركات، وان جئت طالباً سندلك على المعاهد والجامعات، فأنت عندما تحدد هدفك في المجيء نحدد لك الحركة.
حركة الإنسان لا تصح إلا إذا عرف هدفه
هذا يدل على أن الإنسان لا تصح حركته إلا إذا عرف هدفه، وهذا المثال ينطبق على واقعنا في الحياة الدنيا، فإن حركتنا في الحياة لا يمكن أن تصح إلا إذا عرفنا الهدف الذي خلقنا من أجله.
مثال آخر، طالب في البكالوريا، عندنا في الشام اسمها البكالوريا، هنا في الأردن التوجيهي، أي الثالث الثانوي، أي الصف الأخير قبل الدخول إلى الجامعة، بحيث يحدَّد مستقبل الطالب في هذا الاختبار النهائي، في الثالث الثانوي، وهو في الفرع العلمي، وعنده مادة الرياضيات، وهي أهم مادة في الفرع العلمي، والمادة يوم السبت، جاءه رفاقه يوم الجمعة، وأخذوه في نزهة إلى أجمل مكان في البلد، حيث العصافير تزقزق، والأرض معشبة، والماء دفّاق رقراق، تجده يقضي كل نهاره في النزهة وهو في أمتع مكان ولكنه منقبض القلب، لماذا هذا الانقباض في قلبه مع أنه في مكان جميل؟ لأن هذه الحركة التي يقوم بها تتناقض مع هدفه، فهو عنده امتحان مصيري، وما زال أمامه دراسة ومراجعة وتمكين للمادة، ولكنه ترك هدفه واتجه إلى النزهة، فهو مكتئب قلق، لكن لو أنه جلس يوم الجمعة في بيته وربما تكون الحرارة مرتفعة، وليس عنده في البيت مكيف، لكنه عكف على الكتاب وقرأ المقرر وراجعه وحل المسائل ستجد أنه في أسعد حالاته رغم أنه جالس في غرفته المتواضعة، وليس في نزهة، لماذا ؟ لأن حركته الآن تتوافق مع هدفه.
إذا لن يسعد الإنسان إلا إذا كانت حركته متوافقة مع هدفه، صار عندنا قاعدتان، لن تصح حركة الإنسان حتى يعرف هدفه، ولن يسعد حتى تأتي حركته متوافقة مع هدفه، لو طبقنا هاتين القاعدتين على حياتنا الدنيا، لماذا نحن في الدنيا ؟ لنعبد الله، بالمفهوم الواسع لكلمة العبادة، من عبادات شعائرية فيها صلاة وصيام وزكاة وحج، ومن عبادات تعاملية فيها صدق ومحبة وإخاء، وعمل دؤوب ورفعة للمسلمين، ومد يد العون لمن يحتاج، وعمارة الأرض بالخير، هذا كله مفهوم العبادة، فنحن موجودون لتكون حركتنا في الحياة عبادة لخالقنا، فلن تصح حركتنا حتى نعرف هدفنا، ثم لن نسعد في حياتنا إلا إذا تصرفنا وفق هذا الهدف.

رمضان شهر البر والعطاء:
نحن في رمضان أسعد الناس
من هنا أقول لماذا نسعد في رمضان؟ وهذا سؤال كنت في كل رمضان أطرحه على الأخوة، لماذا نسعد في رمضان ؟ نحن جميعاً في رمضان أسعد الناس، رغم أن في رمضان مشقة، مشقة الصيام في النهار والقيام في الليل، وقلة النوم من السحور إلى العمل إلى الفطور، ثم إلى صلاة المغرب ثم العشاء ثم التراويح، فنحن في عمل دائم يوجد مشقة على الجسم، فلماذا نحن أسعد الناس في شهر رمضان رغم المشقة ؟ لأننا نتحرك وفق الهدف الذي خلقنا من أجله، تذكروا الطالب الذي أخبرتكم عن قصته قبل قليل، نحن في رمضان نتحرك وفق الهدف الذي وجدنا من أجله، نحن من أجل عبادة الله ونحن في رمضان نعبد الله فنسعد، خارج رمضان نحن مشغولون بأشياء لم نُخلق من أجلها، هذا لا يعني أنني أنكر على الناس أن يعملوا، وأن يرتزقوا، وأن يكسبوا، لكن أنكر عليهم أن ينشغلوا عن العبادة، بما ضمن لهم من الرزق، لكن العمل مطلوب واتخاذ الأسباب مطلوب، وهذا لا خلاف فيه، لكنني أقصد أننا خارج رمضان منشغلون عن هدفنا في الحياة، فتجد الواحد منا منزعجاً، تجد الواحد منا كئيباً، لأنه لم يشغل نفسه بما خلق من أجله، بل انشغل بأشياء أخرى عن الهدف الذي خلق من أجله، لذلك نحن نسعد في رمضان.
أبدأ بالعنوان كلمة كلمة، شهر رمضان ثم نأتي إلى البر والعطاء، ثم إننا في رمضان سعداء بأننا نعمل وفق قاعدة عظيمة، مفادها إذا أردت أن تسعد فأسعد الآخرين، مفادها هذا الحكيم الذي سئل: من أسعَدُ الناس؟ فقال: من أسعَدَ الناس.
السعادة تكون في العطاء
عندما تنطلق من ذاتك وتخرج من داخلك إلى الناس تسعد، صدقوني أيها الكرام السعادة لا تكون في الأخذ لكنها تكون في العطاء، السعادة لا تكون فيما تملكه لكن فيما تعطيه، انظروا إلى سيد الخلق وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم، يوم كان يوزع شاة وزع منها ما وزع ولم يبق إلا كتفها. تقول له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله لم يبق إلا كتفها. فيصحح المفهومات بأبي هو وأمي، ويقول لها: يا عائشة بل بقيت كلها إلا كتفها.
لأن الذي قدمته يبقى، لكن الذي تأكله يفنى، هذا تصحيح للمفهومات. روي عن أحد السلف أنه أمسك بيده تفاحة، فقال: أكلتها ذهبت، أطعمتها بقيت. فأطعمها لفقير وأخذ أجرها.
يقول ابن ادم: مالي مالي ؟ وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، هذا فني وبلي وانتهى، قال: أو تصدقت فأبقيت.
فالصدقة هي التي تبقى وهي التي تدوم، أسعد الناس من أسعد الناس، إذا أردت أن تسعد فأسعد الآخرين، لن تكون السعادة أيها الكرام إلا بالعطاء، الأنبياء الكرام عليهم صلوات ربي كلهم جاؤوا الدنيا فأعطوا ولم يأخذوا، والطغاة والأقوياء والبغاة جاؤوا الدنيا فأخذوا ولم يعطوا، أين ذكرُ الأنبياء الآن ؟ ما ذكروا في مجلس إلا تعطرت المجالس بذكرهم، وصلى الناس عليهم وذكرهم باق إلى قيام الساعة، قال تعالى:

وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
[سورة الشرح]

وأين ذكر الطغاة وقد أصبحوا في مزابل التاريخ؟ ما ذكروا في مجلس إلا وتعكر المجلس، وما ذكروا في ناس إلا وأثنى عليهم الناس شراً، والعياذ بالله.
إذاً أيها الكرام؛ نحن عندما نتحدث عن السعادة في رمضان، نتحدث عن أمرين اثنين، الأول أننا مشغولون بما خلقنا من أجله وهو العبادة، والثاني أننا في بر وعطاء، والعطاء وحده سعادة.

الفرق بين اللذة والسعادة:
سعادة المؤمن هي سعادة الداخل
أيها الأحباب؛ غير المؤمن يظن نفسه في سعادة، وهو في لذة طارئة، اللذة متناقصة والسعادة متنامية، اللذة طارئة والسعادة مستمرة، جرب أيها الأخ الكريم لذائد الدنيا، كلنا جربنا لذائد الدنيا، أليس شراء سيارة على سبيل المثال لمن أكرمه الله بالمركبة لذة من اللذائذ؟ في اليوم الأول يسر الإنسان بسيارته، وربما خرج كل دقيقة - وهذه للطرفة - إلى شرفة منزله لينظر إلى سيارته ويطمئن على حالها، وبعد يوم ويومين وثلاثة هو كذلك يخشى عليها من أي خدش أو من جرح في طلاء السيارة، لكنه بعد أشهر لا ينتبه إليها، إلا أنها تقوده إلى عمله وانتهى الأمر، وتصبح السيارة من كل حدب وصوب فيها جروح وكسور ولا يلتفت إليها، لأنها لذة تناقصت وانتهت، أما السعادة؛ سعادة المؤمن التي يعيشها بالعطاء فهي سعادة الداخل التي تتنامى وتتنامى وتنتهي بجنة عرضها السماوات والأرض، من هنا كان بعض السلف يدعو فيقول: اللهم اجعل نعم الدنيا متصلة بنعم الآخرة، وسعادة الدنيا متصلة بسعادة الآخرة.
لذائذ الدنيا إن كانت في مباح فهي متناقصة، أما إن كانت في محرم فهي متناقضة وبعدها كآبة مدمرة، فالذي يجد لذته والعياذ بالله في النظر الحرام، وفي الفحش، وفي المال الحرام، تتناقص اللذائذ وتنتهي بكآبة مدمرة، هذا ابن تيمية رحمه الله تعالى يوم كان في السجن كان يقول: ماذا يفعل أعدائي بي؟ بستاني في صدري - سعادتي من داخلي - إن أبعدوني فبعدي سياحة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، وإن حبسوني فحبسي خلوة.
الآن سيأتي رمضان علينا جميعاً وسينقضي رمضان، عندما ينقضي رمضان سينقضي على من صامه وعلى من لم يصمه، على من أعطى وعلى من أمسك، على من قام وعلى من لم يقم، قال ابن القيم رحمه الله: الطاعة تنقضي وتبقى حسناتها، والمعصية تنقضي وتبقى حسراتها، كلنا سيمضي علينا رمضان، كم رمضان مضى علينا ؟ والله أيها الأخوة كلمح البصر، بالأمس كنا نستقبل رمضان ونقول: جاء رمضان الماضي، واليوم هناك أشخاص ودعونا ليسوا معنا في رمضان هذا العام وما أكثرهم، تحت أطباق الثرى، هذا حال الدنيا، هذه حقيقة، فنحن مقبلون على شهر هو فرصة نوعية للعطاء، للتضحية، للبر، للإحسان، للخير.

الإحسان قبل البيان:
أيها الأخوة الأحباب؛ أيها الكرام؛ النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث الصحيح، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، حتى ينسلخ أي حتى يمضي الشهر فيأتيه جبريل فيعرض عليه القرآن، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان، لأنه شهر النفحات، وشهر تضاعف فيه الحسنات.
الناس يتعلمون بعيونهم
أيها الكرام؛ الناس لا يتعلمون بآذانهم، الناس يتعلمون بعيونهم، لذلك قالوا: الإحسان قبل البيان، الإحسان قبل البيان، وقالوا: املأ قلب من تدعوه بإحسانك، حتى يفتح عقله لبيانك، الناس اليوم يريدون الموقف الطيب، العطاء، الخير، ولو بالكلمة، ولو بالابتسامة، تبسمك في وجه أخيك صدقة، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق.
العطاء ليس مالاً فقط أيها الكرام؛ حتى لا يقول فقير حال: ماذا أعطي ؟ يا أخي الدنيا كلها عطاء، والله ابتسامة منك بصدق في وجه إنسان وأنت لا تملك مالاً ربما يكون أجرها عند الله أعظم ممن أعطى مالاً فيه رياء، نسأل الله السلامة، فبابتسامة حانية، تربت على كتف يتيم، بمساعدة الناس، بحل مشكلاتهم، بالإجابة على تساؤلاتهم، ببر الوالدين في البيت، برعاية الأولاد، الطرق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، من منا لا يملك أن يعمل عملاً صالحاً؟ والله لا يوجد إنسان وفي الأرض لا يمكن أن يعمل عملاً صالحاً، العمل الصالح أيها الكرام؛ قيل هو صالح لأنه يصلح للعرض على الله، ولا يصلح العمل للعرض على الله إلا إن كان خالصاً وصواباً، الخالص ما ابتغي به وجه الله، والصواب ما وافق الكتاب والسنة، هذا مقياس العمل الصالح؛ والعمل الصالح يرفعه، مقاييس أهل الدنيا كثيرة، الناس اليوم يعظمون أهل المال، يعظمون أهل القوة، أهل المناصب، لكن الإسلام لم يجعل للتمايز بين البشر إلا صفتين اثنتين، العلم والعمل، فقال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
[ سورة المجادلة]

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
[ سورة فاطر]

فلن ترتفع عند الله إلا بعلمك وعملك، والعلم بلا عمل شجرة بلا ثمر، والعمل الصالح في رمضان أعظم أجراً، وأعظم مثوبة عند الله، لأنك تتعرض لنفحات الله في شهر من مواسم الخيرات وفي الحديث:

{ مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ }

[ أخرجه مسلم]

ما الذي دفعه إلى الإسلام ؟ دفعه الموقف البطولي العظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، دفعه العطاء، الإحسان، الإحسان قبل البيان أيها الكرام.

لين الكلام عطاء وإحسان وبر:
أيها الأخوة الأحباب؛ النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقول:

{ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام }

[ أخرجه ابن حبان]

لين الكلام برٌّ وإحسان
اليوم يتباهون أحياناً بإنجازات بشرية قد تقترب من بعيد من هذه الغرف بأنها شفافة، انظروا إلى وصف النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: لمن هي يا رسول الله ؟ قال: لمن ألان الكلام ؟ لين الكلام عطاء، لين الكلام إحسان، لين الكلام بر، لو لم تستطع أن تعطي ألن الكلام، وأطعم الطعام، وبات لله قائماً والناس نيام.
أيها الأخوة الأحباب؛ ما أعظم العطاء عندما يكون معه ابتسامة صادقة ! ما أعظم العطاء عندما يكون معه كلام طيب !
أيها الأحباب الكرام؛ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لعائشة:

{ يَا عَائِشَةُ، اسْتَتِرِي مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ }

[ أخرجه أحمد]

صنائع المعروف تقي مصارع السوء، يقول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه:

{ مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ }

[ متفق عليه]


التعامل الصحيح مع القرآن الكريم:
كما قدم أخي الدكتور جزاه الله خيراً بقوله تعالى:

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
[سورة آل عمران]

ولا يخفى عليكم قصة هذه الآية الكريمة كما في الحديث الذي أخرجه الإمامان البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال:

{ كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل- عنده نخل كثير - وكان أحب أمواله إليه بيرحاء - نخل بيرحاء اسم مكان - وكانت مستقبلة المسجد - مقابل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في عرفنا الحديث موقع استراتيجي، اليوم إذا أردت أن تأخذ متراً مقابل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كم سعره اليوم ؟ فكانت في مستقبلة المسجد -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وان أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ بخ - وهذه كلمة تقال للتعظيم وللتحقير معاً، فهي من ألفاظ التضاد، وهنا أراد بها النبي صلى الله عليه وسلم بيان عظم ما فعله - أبو طلحة قال: ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فالأقربون أولى بالمعروف، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه }

أيها الكرام؛ هذا أبو طلحة لما سمع: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، كيف تعامل مع القرآن؟ نحن غدا ًمقبلون على شهر القرآن، كيف يتعامل الناس اليوم مع كتاب الله ؟ البعض يتعامل معه بشعور التبرك، والله إن القرآن لبركة، ووالله إننا لنستشفي به، ولنتبرك به، لكن هل يكفي أن نتعامل مع القرآن بشعور التبرك؟ لا يكفي، لأن الله تعالى يقول:

كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
[سورة ص ]

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
[سورة محمد ]

التعامل مع القرآن بشعور التلقي للتنفيذ الفوري
البعض يتعامل مع القرآن بشعور القراءة لنيل الثواب، وهذا حسن، بل كلنا نقرأ القرآن نرجو ثواب الله، بكل حرف من أحرفه لكن هل هذا يكفي ؟ لا يكفي، الصحابة الكرام - كما كان يقول صاحب الظلال - كانوا يتلقون القرآن بشعور التلقي للتنفيذ الفوري، عندما يسمعون قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا، من الذين آمنوا؟ الذين آمنوا، أنا ماذا تريد مني يا رب حتى أفعل ؟ هذا اسمه: شعور التلقي للتنفيذ، هذا الذي تعامل به أبو طلحة، لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، نهض من فوره، هذا قرآن يخاطبني، كيف أنال البر؟ أنفق مما أحب، أي أحب المال إليّ؟ آخذها على أحسن محمل، وعلى أعظم محمل، إنه بيرحاء، إذاً اجعله يا رسول الله في الصدقات، هذا اسمه شعور التلقي للتنفيذ الفوري.
إذاً أيها الكرام؛ التعامل مع القرآن بشعور التلقي للتنفيذ الفوري، أسمع لأنفذ، هذا ينبغي أن يكون حالنا مع القرآن في شهر رمضان، في شهر البر والعطاء والإحسان.

أخلاق الأنبياء:
أيها الأحباب الكرام؛ أيها الأخوة الأحباب؛ الذين أتشرف بمجالستهم هذا اليوم، هذه المجالسة الافتراضية، التي ألجئنا إليها لكنها خير من تركها، ونسأل الله أن نجتمع معاً بمكان واحد وفي دمشق إن شاء الله جميعاً.
رمضان شهر البر والعطاء، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، الأنبياء ملكوا القلوب بكمالهم، والأنبياء عاشوا للناس، جاء الطغاة والأقوياء فأخذوا ولم يعطوا، وملكوا الرقاب بقوتهم، وعاش الناس لهم، ولا يمدحون إلا في حضرتهم بينما الأنبياء يمدحون في غيبتهم وفي حضرتهم، والناس جميعاً تبع لقوي أو غني. فإذا أردت أن تكون من أتباع الأنبياء فعليك أن تعطي وأن تبني حياتك على العطاء، وعليك أن تعيش للناس لا أن تنتظر من الناس أن يعيشوا لك، وأن تملك القلوب بالحب لا أن تملك الرقاب بالقوة، وأن يتكلم الناس عليك، وعلى حسنك، وعلى أخلاقك في غيابك وفي حضورك، لا في وجهك فقط، هذه أخلاق الأنبياء الكرام الذين جاؤوا الدنيا وخرجوا منها بهذا الذكر العطر.

التكامل بين الليل والنهار كالتكامل بين الذكر والأنثى:
الآن الله تعالى يقول في قرآنه الكريم:

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)
[سورة الليل]

هذا قسم والله تعالى يقسم بما يشاء من خلقه ليلفت نظرنا إلى عظمة هذه الآية..

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)
[سورة الليل]

التكامل بين الليل والنهار يشبه التكامل بين الذكر والأنثى، لا كما يدعي أصحاب حقوق المرأة اليوم، والذين يدعون أنهم يريدون حقوقها، وهم يريدون حرية الوصول إليها، الليل والنهار متكاملان، كلٌّ يؤدي وظيفته، ولا يغني واحد عن الآخر، فهما ليسا متشابهين ولكنهما متكاملان، وما خلق الذكر والأنثى، إشارة إلى التكامل بين الذكر والأنثى.

البشر صنفان لا ثالث لهما:
إن سعيكم لشتى
الآن: إن سعيكم لشتى جواب القسم، اليوم عندنا في الأرض سبعة مليارات إنسان فرضاً، السعي مختلف، كل صباح يخرج الناس، كل الناس يغدو، كل إنسان يخرج لهدف منذ الصباح، إن سعيكم لشتى، الآن ربنا عز وجل هذا السعي المتشتت المتفرق سيجمعه في حقلين اثنين، فأنت ضع نفسك في أحد هذين الحقلين ولا ثالث لهما، قال:

فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
[سورة الليل]

كل إنسان موجود بأحد الحقلين ما معنى ذلك ؟ أما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، ما الحسنى ؟ الحسنى هي الجنة كما قال أهل العلم، للذين أحسنوا الحسنى؛ الجنة وزيادة النظر إلى وجه الله الكريم..

فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)
[سورة الليل]

صدق أنه مخلوق للجنة، وهذه الدنيا ممر لا مقر، وهذه الدنيا منزل ترح لا منزل فرح، وهذه الدنيا ممر للوصول إلى رضوان الله بالسلام، فصدق بالحسنى، فلما صدق بالحسنى اتقى أن يعصي الله، لأنه لا يمكن لإنسان أن يؤمن بالجنة ويسعى للجنة ثم يعصي الله، إلا زلة قدم فيتوب بعدها، وكل بني آدم خطاء، صدق أنه مخلوق للجنة فاتقى أن يعصي الله، وبنى حياته على العطاء، وهنا جاء العطاء مطلقاً كما قلت لكم سابقاً ليس العطاء مالاً فحسب، أعطى من علمه، من خبرته، من ماله، من سمعته، من جاهه، من ابتسامته، من صدقته، من كل شيء، فهذا الصنف الأول، ما جواب الله العظيم على فعله؟ قال تعالى:

فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)
[سورة الليل]

في الدنيا والآخرة أيضاً مطلق، اليسر حليفه..

وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)
[سورة الليل]

لما كذب بالجنة استغنى عن طاعة الله، لماذا أطيع الله؟ هذا لسان حاله لأنه لا يؤمن بالجنة، فبخل، هناك أعطى، وهنا بخل، أمسك ماله، لا يريد حتى مثلاً أن يتدخل بجاهه لإصلاح بين اثنين، يقول لك: لا يوجد مال لن أتدخل، اليوم علماؤنا الأجلاء تجد الواحد منهم يقضي نهاره لحل مشكلات الناس، ولا يتقاضى قرشاً واحداً، لأنه مصدق بالجنة، يرجو أجره عند ملك الملوك، هذا العطاء، لماذا يعطي الإنسان بلا مقابل؟ صدقوني لا يوجد إنسان يعطي بلا مقابل حتى المؤمن لا يعطي بدون مقابل، لأنه يرجو المقابل عند الملك جلّ جلاله.
شاب في المدرسة والده ملك من ملوك الأرض، كلف أستاذاً أن يدرس ابنه إحدى المواد التي قصر بها، يأتي المدرس كل يوم إلى القصر ويدرسه المادة، بعد أول درس، ثاني درس، ثالث درس، انتبه الأستاذ أن الملك لا يعطيه أجره، فقال للطالب: أخبر أباك أريد مالاً، فقال: كم تريد على الدرس؟ قال: كل درس بألف، أعطاه أكبر رقم ممكن، فقالوا له: حسناً كم درساً أعطيت؟ عشرة؟ هذه عشرة آلاف، لكنه استعجل لأن الملك في باله أن يعطيه بيتاً بعد أن ينتهي العام الدراسي، لكنه استعجل فأخذ العشرة آلاف، هذا جهل، المؤمن يحب الخير، ويحب أن يأخذ الخير لكن يحبه من ملك الملوك، لذلك إذا أعطى لا ينتظر من الناس، وإنما ينتظر من رب الناس، لأنه يعلم أن ما عند الله خير وأبقى، خير وأبقى، خير في نوعيته وأبقى في ديمومته، وللآخرة خير لك من الأولى.

علة وجود الإنسان:
إذاً أيها الأخوة الأحباب؛ نحن في الدنيا يجب أن نوطن أنفسنا على العطاء، جئنا إلى الدنيا لنعمل عملاً صالحاً، والدليل أن الإنسان حينما يحضر أجله إذا كان بعيداً عن الله قال:

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِي* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
[سورة المؤمنون]

العمل الصالح علة وجود الإنسان
ولا يقول: ربي أرجعوني لعلي أبني بناء، ولا لعلي أحصل تجارة، وإنما يرجو أن يعود إلى الدنيا ليعمل عملاً صالحاً يلقى به الله، وكان بعض السلف يقولون: إن الإنسان في القبر لا يندم إلا على ساعة قضاها في غير عمل صالح أو في غير ذكر الله تعالى، فنسأل الله تعالى أن يلهمنا أن نستقبل هذا الشهر بنفسية العطاء والبر والإحسان والخير والصبر، والإقبال على القرآن، وعلى القيام، وعلى الصيام، اللهم بلغنا رمضان وأنت راض عنا يا ارحم الراحمين، اللهم اجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، وارزقنا حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك، وأشكر مرة ثانية لرابطة حملات الحج السوري هذه المبادرة الطيبة وهذه الاستضافة الكريمة، كما أستميحكم عذراً مرة ثانية لتعذر تواصل شيخنا حفظه الله تعالى معنا في هذا اللقاء، وأرجو أن تعذروني لما قدمت وعسى أن يكون فيه تناصح وبر وتذكير فكلنا نذكر بعضاً إن شاء الله، وجزاكم الله خيراً، وأحسن إليكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدكتور حسن الجمل:
جزاكم الله عنا كل خير فضيلة الدكتور بلال نور الدين، طبعاً كنا مهيئين لبعض المحاور، أو بعض الأسئلة التي تهم المسلمين في كل مكان، وتهم أهلنا في سوريا وفي خارج سوريا، لأن كلام أهل العلم دائماً بلسم ودواء وشفاء وجبر للخواطر، فضيلة الدكتور حفظك الله سبحانه وتعالى، أرجو أن يتسع صدركم لبعض هذه الأسئلة، وهذه الأسئلة أرجو من الله أن تكون نافعة ومفيدة لنا ولمتابعينا وللسامعين.
أولاً: ما أهمية اختيار هذا الموضوع ؟ اختيار الموضوع له أهمية كبيرة في التأثير على المتابعين والمستمعين، فما أهمية اختيار هذا الموضوع ؟ في زمن الشدائد والأزمات وبالأخص قبل شهر رمضان ما أهمية اختيار هذا الموضوع ؟ رمضان شهر البر والعطاء، السؤال له شطر آخر: ما هو الفرق بين البر وبين العطاء ؟ وما هي صلة الوصل بين البر والعطاء من خلال المدلولات اللغوية والإيمانية والشرعية والأخلاقية والاجتماعية؟ طبعاً سؤال كبير له مناح كثيرة، آسف على الإطالة في السؤال.

التكافل في زمن الشدائد أعظم أجراً عند الله وأعظم بركة:
الدكتور بلال نور الدين:
أنا سأختصر قدر الإمكان حتى نأخذ أكثر قدر ممكن من المحاور الجميلة واللطيفة، أولا: أهمية الموضوع في هذا الوقت قبل رمضان، وفي هذا الزمن زمن الشدائد، لأن التكافل أخي دكتور حسن في زمن الشدائد أعظم أجراً عند الله، وأعظم بركة، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ }

[متفق عليه]

أرملوا أي التصقوا بالرمل من شدة الجوع، ومع ذلك ما توقفوا عن التكافل، واحد وضع مئة دينار، وآخر وضع ديناراً، والثالث لم يضع شيئاً، كل واحد وضع كل شيء معه في جيبه، تعاهدوا على ذلك وضعوه في إناء واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فيقول صلى الله عليه وسلم: فأنا منهم وهم مني، الله أكبر على هذه الشهادة المحمدية، فهم مني و أنا منهم، وهم قوم الأشعريين، وهم قوم أبي موسى الأشعري، من شدة التكافل في العطاء، من أخلاق المؤمن في الأزمات، أن لا يمسك الناس عموماً، في زمن الخير ربما تعطي، وبالأزمة تمسك، لا يا أخي الناس بحاجة العطاء في الأزمات أكثر، فنحن في شدة، لكن خزائن الله ملأى، فالمؤمن لا يتوقف عن العطاء، فهذا الموضوع مهم جداً في زمن الشدائد لأنه من باب التكافل، هذا الأمر الأول.

اصطفاء شهر رمضان لأن للعطاء فيه أجراً مضاعفاً:
ثم إنه يأتي قبل رمضان لأن لله خواصاً في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، الله تعالى في الأزمنة خلق الشهور كلها، ثم اصطفى منها شهر رمضان، واصطفى من شهر رمضان العشر الأواخر، واصطفى من الأواخر ليلة القدر، فجعل هذا الشهر اصطفاء، وأنت عندما تعطي في شهر رمضان - والنبي كان أجود ما يكون في رمضان - عندها يكون للعطاء أجر مضاعف عند الله.

صلة الوصل بين البر والعطاء:
البر كلمة مثلثة
البر كلمة مثلثة، الِبر والبُر والبَر، فهي من المثلثات كما يقول أهل اللغة، فالبِر هو العطاء، مطلق العطاء، أو هو مطلق الخير، والبُر هو القمح، والبَر هي اليابسة، الِبر كما قال العلماء في قوله تعالى:

وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
[سورة آل عمران]

قالوا: الِبر صلاح الدنيا، والتقوى لصلاح الآخرة، الِبر لصلاح الدنيا والتقوى لصلاح الآخرة، فالِبر والعطاء لا أقول مترادفان مئة بالمئة، لكن الِبر مصطلح شرعي أكثر، يأتي للدلالة على كل ما يصلح دنيا الإنسان، فكل عمل يمكن أن يوصف أنه بِر، أما العطاء فهو شامل بكل ما يخرج به الإنسان من نفسه إلى الآخرين، فالابتسامة عطاء، الكلمة الطيبة الحانية عطاء، المال عطاء، البِر هو مصطلح شرعي أعم من العطاء، فالعطاء من البِر، وهذا من باب عطف الخاص على العام، البِر العام ثم عطفنا عليه العطاء، بارك الله بكم.

الدكتور حسن الجمل:
جزاكم الله عنا كل خير فضيلة الدكتور على هذا التعريف الرائع.
سيدي الدكتور بلال حفظكم الله سبحانه وتعالى، كان سابقاً في سورية عندما كان الناس في الطيبة والتآلف والتكاتف والمحبة، وكان أهل الغوطة، وأهل القرى، الدمشقيون، وأهل حمص، وأهل حماة، وباقي مدن سوريه التي كان التكاتف والتآلف فيها والإخاء والمحبة، والكبير مسموع الكلمة، والعلماء يسعى الناس إليهم، والأيتام والأرامل كانوا مكفولين من أهل البلد كلها، القرية كلها تعرف بيت اليتيم فتذهب لعطائه وإكرامه، لذلك أنا عندما وعيت على هذه الدنيا كنت أسمع هناك عن مشروع الفرنك، ثم مشروع الليرة ثم أصبح مشروع العشر ليرات، هذا المشروع كانوا يجمعونه من كامل أهل البلد لإيجاد مشاريع خيرية من أجل الفقراء و المساكين، أليس قوله سبحانه وتعالى:

لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
[سورة النساء]

ودليل على العودة لإيجاد هذه المشاريع التي أوجدها النبي عليه الصلاة والسلام، التي تحدثت عنها مثل قوم الأشعريين وغيرهم، فمنهم من دفع درهماً والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "رب درهم سبق مائة ألف درهم ".
ألسنا اليوم بأشد الحاجة الماسة لتوحيد عمل الجمعيات الخيرية، المنظمات، المجتمع المدني، العمل الجماعي، والتعاون فيما بينهم، و ألا تكون هناك جمعية تملأ خزائنها وجمعية ليس عندها ما تنفق على من سجلت أسماءهم؟ ما رأيكم في هذا فضيلة الشيخ؟

التعاون فرض وأمر إلهي:
الدكتور بلال نور الدين:
أحسن الله إليكم، الآية القرآنية واضحة، قال تعالى:

وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
[سورة آل عمران]

فالتعاون فرض وأمر إلهي، قال تعالى:

وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
[ سورة الشورى]

نحن اليوم بحاجة إلى أن نوحد الجهود
كل الأدلة القرآنية بل إنك لا تجد في كتاب الله ضمير الأنا، الأنا مختفية في كتاب الله، لكنها حاضرة في واقع المسلمين للأسف الشديد، لا تجد الله تعالى يقول كتابه: يا من آمن، وإنما يقول: يا أيها الذين آمنوا، لا يقول: سارع، وإنما يقول: وسارعوا، وسابقوا، ففروا إلى الله، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون، قرآننا كله واو الجماعة، وواقعنا أنا، فينبغي أن ننتقل من واقع الأنا إلى حقيقة واو الجماعة، ما تفضلت به أثني عليه، وأؤكد عليه، وأرجو أن يلقى آذاناً صاغية عند أهل الشأن، نحن اليوم بحاجة إلى أن نوحد الجهود، والبركة في المجموع في أن يكون لدينا صندوق مركزي، في أن يكون لنا تشاور، في أن يكون لكل جمعية اتصال مع الجمعيات الأخرى، أهل الباطل على باطلهم يتعاونون وينشؤون قواعد بيانات مشتركة، وتجد الواحد منهم يعرف كل شيء - نسأل الله السلامة - من الفروع الأخرى، وهم على باطل وعلى ظلم، فنحن أولى بالتعاون، ونحن أولى بالتعاضد وبالتكاتف، وبأن تجتمع كلمتنا، لأن ديننا يأمرنا بذلك، ولأن ربنا يأمرنا بذلك، ولأن نبينا صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك، فلماذا التفرق؟ ما دام الهدف واحداً؟ ونحن نمشي في طريق واحد فلابد أن نلتقي، فإن لم نلتق فيبدو أن أحداً منا أو كلينا لا نسير على الطريق، فيجب أن نراجع حساباتنا، اللقاء حتمي لأن هدفنا واحد ونسعى في طريق واحد، إذاً ينبغي أن نلتقي على الطريق الموصل إلى هدف واحد، فأنا أشدد على ما تفضلت به وأؤيده وأسعى له بكل جهدي، في أن نتعاون، وفي أن نتكاتف، وفي أن نسعى إلى عمل جماعي مشترك، فالغرب لم يتفوق علينا إلا بمفهوم فريق العمل، بحيث يكون الجميع متكاتفين، متعاونين، متضامنين، ونحن أولى بهذا التكاتف والتعاون والتضامن.

الدكتور حسن الجمل:
بارك الله بكم على هذا الثناء، وكنت أود أن أوصل هذا المشروع لفضيلة شيخنا الذي نحن بانتظاره، ولعل الأمر خير بإذن الله فاللقاءات مقدرة، عطاء الله عطاء، فنحن نؤمن بالقدر ونؤمن بما قدر الله تعالى فلا نحزن ولا نتألم، بل نرضى بما رضي الله عز وجل لنا، قد يكون نصيبنا اليوم من النفع والفائدة من قلبكم الطاهر، وإن شاء الله سيأتي الخير والعطاء من قلب فضيلة شيخنا الذي أحبه الملايين، لإخلاصه، ولعطائه، ولخدمته من نعومة أظفاره، وما زال يعطي، بارك الله بحياته فضيلة الشيخ المبارك.
البِر كما عرفتم البِر هو الإحسان مع الصلة، هناك بِر مع الإحسان للأيتام، هناك للأرامل، هناك للجيران، هناك للأبوين، هناك للمعلم، هناك للمسلم، هناك لجارك غير المسلم، والبِر والعطاء يختلف بنوعه وكمه، فمثلاً النبي عليه الصلاة والسلام عندما يقول:

{ من نفس مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب القيامة }

[سنن أبي داود]

أليس هذا عطاء أم بر؟ ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه، العطاء يختلف نوعاً وكيفاً بالوقت والزمان والمكان، وفي رمضان يكون البِر والعطاء أشد أجراً وثواباً عند الله سبحانه وتعالى.
هل للبِر والعطاء أثر نفسي في راحة نفس المؤمن وطمأنينة قلبه كما جاء أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله لقد قسا قلبي وجفت دمعتي؟ فماذا كان أثر كلام النبوة عليه؟ تفضلوا فضيلتكم.

السكينة عطاء إلهي لا يقدر بثمن:
الدكتور بلال نور الدين:
جزاكم الله خيراً، إن ما يجده المؤمن من سكينة تتنزل على قلبه من خلال البِر والعطاء لا أبالغ إن قلت لو وزعت على أهل بلد لكفاهم، السكينة عطاء إلهي، الله تعالى قال:

ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (26)
[ سورة التوبة]

السكينة عطاء إلهي
فعندما تتنزل السكينة على نفس المؤمن، عندما يجد أثر بره وعطائه في الناس، يجد هذا الذي ستره كيف أصبح حاله، وهذا الذي نفس عنه كربته كيف أصبح حاله، وهذا الذي تصدق عليه فأطعم أولاده كيف أصبح حاله، والله يتنزل من السكينة في قلبه ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم، لذلك أخي الحبيب السكينة عطاء إلهي لا يعطيه الله تعالى إلا لمن يحب من خلقه، إن الله تعالى يعطي المال - كما قال أهل العلم - لمن يحب ولمن لا يحب، فقد أعطى المال لعثمان بن عفان ولعبد الرحمن بن عوف، وهو يحبهما، وأعطى المال لقارون وهو لا يحبه، وإن الله تعالى يعطي القوة لمن يحب ولمن لا يحب، فأعطى القوة لذي القرنين وهو يحبه، وأعطاها لفرعون وهو لا يحبه، لكنه لا يعطي السكينة بقدر إلا لأصفيائه، وثمن هذه السكينة أن تُسعد الآخرين، وأن تعطي مما أعطاك الله، فيملأ الله قلبك سكينة تعوضك أضعافاً مضاعفة عما أعطيته، عطاء الله تعالى للمؤمن لا يعقل أن يكون آنياً أو مؤقتاً، هو عطاء دائم مستمر، لأن الكريم إذا أعطى أدهش، فلذلك من أعطى لله فلينتظر العطاء من الله، صحيح أنه يعطيه أضعافاً مضاعفة بالمال، يعوض عليه، بعد حين القرش بعشرة، لكن أعظم عطاء من الله هو هذا الذي تفضلت به وهو السكينة التي يشعر بها المؤمن عند عطائه، لذلك قال تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم:

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
[ سورة التوبة]

ما معنى تطهرهم وتزكيهم؟ قال أهل العلم: المال يطهر من تعلق حق الآخرين به، فجزء من المال ليس لك أصلاً، عندما تعطيه يطهر المال، وقالوا: نفس الغني تطهر بالعطاء، ونفس الفقير تطهر من الحقد، وتزكيهم، الزكاة النماء، فنفس الفقير تزكو بالإنفاق لأنه يشعر أن المجتمع لم يتخلَّ عنه، وأنه يعطيه، والمال ينمو بحسابات عند الله ليست على الآلة الحاسبة، إنما بعطاء الله عز وجل، ونفس الغني تنمو أيضاً، تزكو النفس، لأنه يرى أثر عطائه في المجتمع، فيسعد ويدخل على قلبه من السكينة والأمن والطمأنينة ما يجعله أسعد الناس، ولو كان في ظروف ما يعيشها الناس جميعاً لكن نفسه تشعر بالطمأنينة والسكينة عندما يعطي ويجد أثر عطائه في الناس.

الدكتور حسن الجمل:
بارك الله بكم فضيلة الدكتور وحفظكم الله، وأذكر من بعض ما عندكم من علم ورواية وعطاء، حفظكم الله سبحانه وتعالى، إن العطاء وإن مد يد العون إلى الناس يلين القلوب، كما ذكر ذلك الذي ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو حاله من قسوة قلبه، وجفاف دمعته، فقال له عليه الصلاة والسلام: " امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين يلين قلبك وتذرف دمعتك ".
ما أحوجنا لهذا البيان النبوي العظيم ! وما أحوجنا لقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه لنا سيدنا عمر رضي الله عنه مرفوعاً عندما سئل عن أفضل الأعمال فقال : إدخال السرور على المؤمن، تقضي عنه ديناً، تقضي له حاجة، تنفس له كربة.
قضى الله حاجتكم فضيلة الدكتور بلال نور الدين، وقضى الله حاجة شيخنا العلّامة الدكتور محمد راتب النابلسي، وأرجو من الله عز وجل أن يجمعنا به في القريب العاجل، بحلقة تشفي صدور أخواننا وأحبابنا الذين كانوا في انتظاره، وبأشد الشوق لسماع كلامه، ولكن كلامكم موصول بكلام فضيلة شيخنا العلّامة الدكتور محمد راتب النابلسي، جزاكم الله عنا كل خير، ونرجو منكم كلمة بسيطة توجهونها في ختام هذا اللقاء، بعد الشكر لكم.

طلب العلم فريضة على كل مسلم:
الدكتور بلال نور الدين:
إذا أردت الدنيا والآخرة فعليك بالعلم
أنا أشكر لكم حسن استماعكم، وحسن إنصاتكم، وحسن بيانكم فيما لا أحسبني عليه، لكن أسأل الله أن يعفو عني، وأقول لكل من يتابعنا في هذا البث المباشر المبارك: أسأل الله تعالى أن يبلغكم رمضان على خير وسلام وأمن وطمأنينة، وأقول لهم ما كنت أسمعه دائماً من فضيلة شيخنا جزاه الله عنا خير الجزاء، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، إن طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً.
هذه ساعة مباركة قضيناها في طلب العلم، إن شاء الله تشهد لنا يوم القيامة على أنها ساعة طيبة قضيناها بعيداً عن لذائذ الدنيا، ولكن في سعادة وأنس وسكينة الآخرة، فهي ساعة من ساعات الله، ويوم من أيام الله، وذكرهم بأيام الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

خاتمة وتوديع:
الدكتور حسن الجمل:
قبل أن نودعكم فضيلة الدكتور حفظكم الله، نريد منكم أن تبلغوا تحيات وسلام إخوانكم في الرابطة، ولجنة الحج العليا، وجميع المتابعين، وجميع المتشوقين لسماع فضيلة دكتورنا محمد راتب النابلسي، وأن تعدونا أن يكون لنا - تتوسطون لنا عند الشيخ - لقاء قريب معه نعوض هذه الحلقة، لأن الأخوة كانوا في شوق كبير، حقيقة الاتصالات التي كانت بيننا وبين أخواننا وهم في شوق لسماع شيخنا هذا حب من الله وعطاء من الله لعباده الذين أحبهم وأحبوه، يعطي دائماً شيخنا من وقته، ومن علمه، ومن صحته لجميع المسلمين، جزاكم الله عنا كل خير، بلغوا تحياتنا لشيخنا ولأحبابه وأحبابكم ولجميع أخواننا في الأردن المبارك، ولجميع المستمعين.
في نهاية هذا اللقاء لا يسعني إلا أن أشكر جميع المتابعين والمتابعات والمشاهدين والمشاهدات نلقاكم على خير دائماً في طاعة الله، اللهم بارك لنا فيما بقي من شهر شعبان، وبلغنا رمضان وأنت راض عنا، وفرج عنا وعن بلادنا وعن سوريا وأهلها داخل سوريا وخارجها، اللهم فرج عنهم وردنا إلى بلادنا رداً جميلاً، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وارزقنا نعيم الدنيا بطاعتك، والنظر إلى وجهك الكريم يوم القيامة، شكراً لكم جميعاً أخواني وشكراً لكم فضيلة الدكتور بلال نور الدين حفظكم الله على هذا اللقاء المبارك، وان شاء الله سيكون لنا لقاءات متوالية بإذن الله عز وجل، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

الدكتور بلال نور الدين:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياكم الله، بارك الله فيكم، ونفع بكم، وأعلى قدركم.
والحمد لله رب العالمين