منهج العدل في القرآن

  • برنامج فكرٌ وحضارة
  • 2022-10-31
  • عمان
  • إذاعة الممكلة الأردنية الهاشمية - الأردن

منهج العدل في القرآن


المقدم:
السيدات والسادة، المستمعون والمستمعات؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله بأطيب تحياته وأهلاً ومرحباً بكم جميعاً في مستهل هذه الحلقة الجديدة من اللقاء المفتوح وبرنامجكم (فكر وحضارة)، وفيه نتابع سلسلة حواراتنا الفكرية التي تأتيكم في مثل هذا الموعد من كل أسبوع يصحبكم فيها حسين الرواشدة، عنوان حلقة اليوم: قيمة العدل في القرآن الكريم.
قال الله -عز و جل-:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(8)
(سورة المائدة)

وردت كلمة "عدَلَ" بمشتقاتها في القرآن الكريم نحو ثمانٍ وعشرين مرة، لكن الحديث عن قيمة العدل في القرآن لم يقتصر على هذه المواضع فقط بل تجاوزها لنحو ألف مرة بعبارات تكاتفت فيها إضاءة البناء العام لهذا المفهوم القرآني، و يمكن الوقوف على أكثر من جذر لغوي يتضافر مع العدل ليجعل منه ضرورة عمرانية، إنسانية و كونية، فهنالك جذر "قَسَطَ" بمشتقاته المختلفة، و جذر "وَزَنَ" الذي جاء منه الميزان كرمز للعدل و الشورى، و جذر "قَدَرَ" الذي يضيء المجال الكوني لحقل العدل الدلالي، وأخيراً جذر "حقّ" الذي ورد مئات المرات في القرآن الكريم للتعبير عن منظومة العدل والصدق وإعطاء الحقوق لأصحابها.
يمكن أن نلاحظ هنا أن كلمة "عدل" بمشتقاتها ودلالاتها اُستخدمت في ثلاثة مستويات متدرجة في القيمة والأهمية.
1-المستوى المادي للعدل: وهو المماثلة والمعاينة بالقيمة والقدر أو التوازن والاعتدال.
2-والمستوى المعنوي للمساواة: وهو الذي يُدرك بالبصيرة انطلاقاً من الأحكام في المنازعات، وما يستدعيه من احتياط وأمانة في التقويم.
3-وأخيراً مستوى الفضل والإضافة: حيث يتجاوز فيه العدل مجال المساواة الشكلية أو المماثلة القانونية والاجتماعية إلى أفق أرحب من التسامي والإحسان والأريحية التي لا تُبنى المدنيات إلا بفضلها.
العدل في الأصل قيمة إنسانية
والعدل في الأصل قيمة إنسانية وإقامته بين الناس هو هدف الرسالات السماوية كلها، فبالعدل أُنزلت الكتب، وبُعثت الرسل، وقامت السماوات والأرض، فإذا ظهرت إمارات الحق وقامت أدلة العقل فثَمَّ شرع الله، والشريعة عدل كلها وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور فليست من الشريعة في شيء.
في هذه الحلقة نستعرض مفهوم العدل في القرآن الكريم وقيمته في الإسلام، ونتساءل ما معنى العدل؟ وما مستوياته ومجالاته؟ وكيف يمكن أن يتحقق؟ ثم كيف يكون العدل أساساً للعمران البشري؟
نتساءل أيضاً لماذا انشغل المسلمون بالتوحيد الذي هو عماد العقيدة أكثر من انشغالهم بالعدل الذي هو أساس الشريعة؟ هل يمكن للعدل أن يزدهر في غياب الحرية؟ وما الفرق بين العدل الإلهي والآخر البشري وبين القسط والعدل والحق والعدل؟ كيف نتعامل مع شبكة المفاهيم القرآنية التي تحمل معنى العدل ودلالاته؟
نتساءل أخيراً هل ثمة فرق بين العدل في الخطاب القرآني والعدل في التراث التفسيري؟ وما شروط تطبيق العدل في حياتنا وواقعنا المعاصر؟ هل صحيح أن العدل قد يلتقي مع الاستبداد ومع الكفر؟ كيف نفهم ذلك؟
أهلاً ومرحباً بكم السادة المستمعين والمستمعات، اسمحوا لي باسمكم جميعاً أن أرحب بضيفي العزيز الدكتور بلال نور الدين أستاذ الشريعة والتفسير القرآن الكريم يا مرحباً بك، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.

الدكتور بلال نور الدين:
حياكم الله أستاذ حسين؛ بارك الله بكم ونفع بكم وجزاكم خيراً.

المقدم:
ما معنى العدل دكتور بلال؟ هل هنالك منظومة في القرآن الكريم للعدل؟

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
العدل مقصد من مقاصد الشريعة
العدل سيدي أن يُعطى كلُّ ذي حق حقه، والقرآن الكريم بل شريعة الإسلام كلُّها جاءت بالعدل، بل إن العدل مقصد من مقاصد الشريعة، وقد جئتم بكلام نفيس لابن القيم-رحمه الله-:"الشريعة عدل كلها، رحمة كلها، مصلحة كلها، حكمة كلها؛ فأي قضية أُخرجت من العدل إلى الجور فهي ليست من الشريعة ولو أدخلت عليها بالتأويل."
فالعدل مقصد شرعي، بل إن السماوات والأرض قامتا بالعدل، وما لم تعُد الأمة إلى المنهج القرآني وتترسم خطاه.

المقدم:
قامت بالعدل الإلهي؟

الدكتور بلال نور الدين:
بالعدل الإلهي.

المقدم:
أم بالعدل البشري؟

الدكتور بلال نور الدين:
قامت بالعدل الإلهي ابتداءً وتستمر بالعدل البشري.

المقدم:
نعم.

الدكتور بلال نور الدين:
فالظلم مؤذن بخراب الأمم، هي قامت بالعدل يوم خلق الله السماوات والأرض ابتداءً؛ لقوله –جل جلاله:

وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّورِ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ(73)
(سورة الأنعام)

والحق عدل.
بل إن الله تعالى من أسمائه الحق، ومن أسمائه العدل.
لكن إذا عاث الناس فساداً في هذه القيمة العليا فإن الظلم مؤذن بخراب الأمم، فهي قامت بالعدل ابتداءً من الله تعالى وتستمر بالعدل من البشر في تعاملاتهم فيما بينهم.

المقدم:
ينصرف الذهن كما قلت في الغالب: الحاكم العادل، القاضي العادل، كما قلت: المساواة وإعطاء ذي الحقوق حقه، فقط هذا هو العدل؟!

الدكتور بلال نور الدين:
العدل أوسع من ذلك، نعم ينصرف ذهن الناس إذا قلت عدلاً، ينصرف ذهنهم إلى الحاكم العادل.
الإمام العادل في ظل عرش الرحمن
والإمام العادل في ظل عرش الرحمن يوم القيامة وهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، هذا لا خلاف فيه، لكن الناس عموماً -أستاذ حسين-ونحن في هذا البرنامج دائماً –جزاكم الله خيراً-نعوّل على الدخول إلى واقع الناس.
الناس عموماً يحاولون بعقلهم الباطن دون أن يشعروا أن يلقوا بمسؤولية العدل والظلم على جهات عُليا لا يملكون فيها القرار. ويتجاوزون أموراً يستطيعون إقامة العدل فيها.
فيقول لك فلان في تلك الدائرة: "ظالم، ظلمني"، وأنت ألست ظالماً لأختك حارماً لها من الميراث.
وقبل ذلك ألست ظالماً لنفسك حينما حرمتها من معرفة منهج ربها والأنس به والأنس بطاعته؟ ألست ظالماً لنفسك حينما لم تحملها على طاعة الله تعالى؟!
فهو ظلم نفسه، وظلم أهل بيته وظلم شركاءه.

المقدم:
كيف يكون الإنسان عادلاً مع نفسه؟

الدكتور بلال نور الدين:
العدل مع النفس أن الله تعالى خلقها لجنة عرضها السماوات والأرض، فحينما يسخّرها الإنسان لغير ما خُلقت له فقد ظلمها، فقد ظلم نفسه، قال تعالى:

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(130)
(سورة البقرة)

أستاذ حسين كلنا نرغب عن أشياء لأننا نسفهها، فقد تُعرض عليّ سفرة فأسفهها فأرغب عنها-أتركها-، وقد يُعرض عليّ بيت فأقول: "هذا البيت ليس مناسباً، مساحته ضيقة" فأرغب عنه فأسفهه، لكن هناك شيئاً واحداً إذا أعرض عنه الإنسان سفه نفسه وظلم نفسه؛ إنه منهج الحق منهج العدل (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ).
فالإنسان يسفه نفسه ويظلمها حينما يحرمها مما خُلقت له من سعادة في الدنيا وفي الآخرة، وهذا أعظم أنواع الظلم؛ بل إن القرآن الكريم أشار إلى أن الشرك ظلم قال:

وَإِذْ قَالَ لُقْمَٰنُ لِٱبْنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13)
(سورة لقمان)

فأعظم أنواع الظلم أن يشرك الإنسان بالله تعالى شيئاً فيطيع مخلوقاً ويعصي خالقه، فيُرضي مخلوقاً ويعصي خالقاً، أن يبتز أموال الناس، أن يعاملهم بالسوء والله تعالى أمره أن يعاملهم بالإحسان، فأول ما يظلم الإنسان نفسه حينما يُعرِض عن منهج الله، إذ يحرمها من الخير ثم يظلم الناس ثم ينتقل الظلم إلى مستوياته الأعلى والأعلى، فالظلم يبدأ كما أشرتم وتفضلتم من ظلم النفس.

المقدم:
ظلموا أنفسهم في القرآن الكريم.

الدكتور بلال نور الدين:
في آيات كثيرة ينسب الله تعالى ظلم الإنسان لنفسه.

وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَٰهُمْ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(118)
(سورة النحل)


المقدم:
وهذه نقطة جوهرية اليوم في تقييم كما قلت، في تقييم حركة المجتمع واشتباك الناس مع الحياة، أنهم دائماً يعزون الظلم إلى الآخر إلى الغير، يتناسون أنهم هم أيضاً شركاء في هذا الظلم عندما يظلمون أنفسهم، وأنفسهم قد يعني تنصرف إلى الذات، وقد تنصرف إلى المحيط القريب، عندما تظلم كما قلت أبناءك، عندما تظلم أرحامك هذا ظلم منافٍ للعدل.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم، لأن الناس عموماً يرغبون أو الناس عموماً لا يخطئون في زعمهم، لا يحب أن يقول:" أنا أخطأت" فإذا حدثته عن العدل وعن الظلم انصرف فوراً إلى من ظلمه، لكنه لم ينصرف إلى من وقع الظلم منه عليه ليبرئ نفسه، الناس تحتاج دائماً إلى مشجب.

المقدم:
يعني من يضع نفسه مفعولاً به وليس فاعلاً.

الدكتور بلال نور الدين:
بالضبط تماماً، لا يريد أن يكون فاعلاً في منطقة الفاعل في الشر، وإنما هو فاعل خير دائماً، ولذلك القرآن الكريم دائماً يلفت أنظارنا إلى الداخل.

أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ(165)
(سورة آل عمران)

الجواب يمكن أن يكون: قل: "هو من عدوكم"، قل: "هو من تآمرهم عليكم"، قل: "هو من التفافهم عليكم بعد إذ نزلتم عن جبل الرماة"، هناك مئة طريقة لإلقاء اللوم على الآخرين، قال تعالى: (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ).

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)
(سورة الرعد)

القرآن الكريم ً يوجه سهام النقد إلى الداخل
فالقرآن الكريم دائما ً يوجه سهام النقد إلى الداخل ونحن نحاول دائماً أن نطلقها إلى الخارج، نحن الذين نحتاج أن نكون في عدل في مجتمعاتنا الصغيرة قبل أن نطلب من الجهات الأخرى أن تعدل معنا.
هل أنت عادل في بيتك مع زوجتك؟ عفواً -أستاذ حسين- الرجل عندما يقضي سهرة كاملة-للأسف الشديد-وهو يسخر من أم زوجته ويتحدث عنها بما لا يليق وبما لا ينبغي، فعلت وقالت، وألم تنظري ماذا فعلت؟ ثم تسكت زوجته لأنها تشعر أنها الحلقة الأضعف في البيت ثم بعد دقائق تتكلم كلمة واحدة عن أمه فيقيم الدنيا ولا يقعدها، هذا عدل أم عنصرية؟!
لماذا تقول: إن هناك عنصرية في الدول تجاهك، ولا تقول: إنني عنصري وظالم؟ عندما أكيل بمكيالين فأسمح لنفسي وأتجرأ أن أنال من أهل زوجتي ولا أسمح لها أن تتكلم بكلمة، أنت ظالم، هذا ظلم ولا ينبغي أن تطالب الناس أن يعدلوا معك قبل أن تكون أنت عادلاً مع الآخرين.

المقدم:
العدل يبدأ منك.

الدكتور بلال نور الدين:
العدل يبدأ منك، لماذا تقول: فلان أخذ أرضي، ولا تقول: أنا منعت أختي من الميراث وأخذت حصتها من البيت؟ أنت ظلمت فيما تملك وهو ظلم فيما يملك، ولو كنت مكانه لفعلت أكثر مما فعل، فلا تُطالب الآخرين أن يرفعوا الظلم عنك قبل أن ترفع الظلم الواقع منك.

المقدم:
حسناً هنا، العدل قوالب؟ يعني بمعنى أنه كما ضربت مثال: مثلاً العلاقة بين الأب وأبنائه، واحد صغير وواحد كبير، هل يُعلّب العدل هنا بالتساوي والمماثلة.

الدكتور بلال نور الدين:
العدل شيء والمساواة شيء
لا طبعاً -جزاك الله خيراً -العدل شيء والمساواة شيء، هناك صورة انتشرت على مواقع التواصل، جدار وخلفه ثلاثة أطفال بأطوال مختلفة، فأراد المدرب أن يعدل معهم من أجل أن يشاهدوا المباراة خلف الجدار فأعطى كلاً منهم مكعباً، فالطويل كفاه مكعب واحد ونظر، والأقصر منه المكعب جعله قاب قوسين أو أدنى.
بالكاد يستطيع أن يرى، والصغير لم يرَ شيئاُ فكان العدل أن تعطي الصغير مكعبين حتى يطول قوامه ويستطيع النظر، فليس العدل دائماً هو المساواة، نعم في كثير من الأحيان يلتقي العدل مع المساواة كأن يهب الإنسان عطية مطلقة لبعض أولاده، فنقول له: هل وهبت الآخر؟ كما قال النبي -صلى الله عليه السلام-لذاك الرجل النعمان بن بشير الذي جاءه فقال: اشهد يا رسول الله أني نحلت ابني هذا حديقة، قال:

{ (يا بشير ألك ولد سوى هذا؟) قال: نعم، قال: (أكلهم وهبت له مثل هذا؟) قال: لا، قال: (أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور) }

( متفق عليه )

هنا التقى العدل مع المساواة والمماثلة.
لأنه عطية مطلقة، لكن عندما أكون في الصباح وعندي ولد سيذهب إلى الجامعة وآخر سيذهب إلى الروضة وأقول: من العدل أن أعطي الاثنين كل واحد ديناراً، فهذا ليس عدلاً هذه مساواة لكنها ليست عدلاً، العدل أن الكبير يحتاج اليوم عشرين ديناراً لأن لديه تجارب يحتاج إلى شراء متطلباتها، والصغير يكفيه دينار لشراء بعض الحلويات في المدرسة، فليس العدل دائماً هو المساواة.
هناك عدل وهناك مساواة، والعدل هو المطلوب حتى يشمل المساواة أحياناً، وقد لا يشملها أحياناً أخرى.

المقدم:
في المستوى المادي إذاً العدل قد يُفهم منه المماثلة والمساواة، في المستوى المادي.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم في المستوى المادي.

المقدم:
المستوى المادي في الغالب، لكن ماذا على المستوى المعنوي؟ يعني كيف ينصرف العدل معنوياً في هذا المستوى، أحياناً لا تملك أن تكون عادلاً معنوياً.

الدكتور بلال نور الدين:
هناك مجال محدد لا يملكه الإنسان، هذا مُستثنى.

المقدم:
يعني في الآية التي أشار إليها في التعدد.

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا (3)
(سورة النساء)

يعني هنالك خوف من ...وفي آية:

وَلَن تَسْتَطِيعُوٓاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا(129)
(سورة النساء)


الدكتور بلال نور الدين:
النبي-صلى الله عليه وسلم-فسر هذا المعنى يوم قال:

{ اللَّهمَّ هذا قَسْمي فيما أملِكُ، فلا تلُمْني فيما تملِكُ ولا أملِكُ }

(أخرجه أبو داود عن عائشة أم المؤمنين)

هناك أشياء لا يملكها الإنسان (العاطفة) يقول لك: كيف أعدل في الحب؟ عندي ولد متميز جداً يقبّل يدي في اليوم عشر مرات، يحببني بنفسه، لا آمره بأمر إلا بادر إليه فوراً، فأنا أجد في قلبي ميلاً إليه، هذا الميل لا تُحاسب عليه، لكن أنت تُحاسب على الأشياء الظاهرة، يوم تعطي هل تعطي هذا لقربه منك؟ وتبعد هذا فتزيده بعداً، أحياناً -أستاذ حسين-يأتيني بعض الأشخاص يستفتونني، يقول: والله ابني بارّ بي كثيراً والآخر لا يسأل عني ويغيب ويغيب، فأريد الآن أن أقْسم لابني هذا ميراثاً وأدع الآخر أو أقلل من حصته.

المقدم:
صحيح، تحصل في المجتمع.

الدكتور بلال نور الدين:
فأقول له: أنت بذلك تزيد العاق عقوقاً، هذا لما برّك برّك إرضاءً لربه فدع عمله لله تعالى لن يضيعه الله، لكن أنت عند الحقوق كن كما أراد الله تعالى، عند العواطف أنت لا تملك عواطفك ولن أحاسبك عليها، بالتأكيد ستميل إلى البار أكثر.
أما من مقتضيات العدل هنا أن تعطي كل ذي حق حقه. فلا تحاسب هنا على البر والعقوق.
أبداً، في الميل القلبي مسامح ولا يملك إنسان أن يمنع قلبه من أن يميل إلى زوجة دون زوجة إن كان معدداً، وإلى ولد دون ولد، لكن في الحقوق الميزان واضح صارخ لا بد من أدائه على الوجه الذي أراده الله تعالى.

المقدم:
يُقال بأن المستوى المعنوي للعدل لا يُدرك إلا بالبصيرة انطلاقاً من الأحكام في المنازعات وما يستدعيه من احتياط وأمانة في التقويم، يعني بمعنى أنه كما قلت مشاعرك لا تستطيع أن تضبطها تماماً بميزان العدل، لكن إذا حان وقت المنازعة أو وقت الخصام أو وقت التقويم كما كان الرسول يتعامل مثلاً مع زوجاته، يعني كان يميل إلى إحداهن مثلاً هنا، لكنه وقت الخصومة أو وقت التقويم كان منضبطاً بميزان العدل تماماً.

الدكتور بلال نور الدين:
عند الحقوق العدل واجب
مئة بالمئة هذا هو المطلوب، الذي تفضلتم به، عند الحقوق العدل واجب، لمّا أرسل سيدنا عمر بعض عماله ليقيّم تمر خيبر، هذا ما يشبه اليوم بالجمارك أو المالية، يريد أن يأخذ منهم الجزية فأغروه بحليّ نسائهم يعني رشوة، فقال لهم: "جئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولأنتم أبغض عندي من القردة والخنازير" الله أكبر هكذا بصراحة، "ومع ذلك فلن أحيف عليكم".

المقدم:
لن أظلم.

الدكتور بلال نور الدين:
لن أظلم، فقالوا له: "بهذا غلبتمونا وبهذا قامت السماوات والأرض"، فإذاً ما الذي فعله؟! يُروى أن سيدنا عمر بن الخطاب جاءه رجل قال له: أتحبني؟ قال: لا والله. سيدنا عمر كان من النوع الصريح والرجل صاحب مشكلات -كما يقال-، فقال له: لا والله، قال: هل يمنعك بغضك إياي أن تعطيني حقي؟ قال: لا والله، قال: إنما يبكي على الحب النساء، طبعاً هذا قوله: إنما يبكي على الحب النساء، الحب يبكي عليه حتى الرجال، لأن الحب قيمة عُليا، لكن المعنى في الكلام أنه" لن يمنعني بغضك أن أعطيك حقك"، قال تعالى:( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي ولا يحملنكم (شَنَـَٔانُ قَوْمٍ) أي بغض قوم( عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) إذاً القضية أنني عند الحقوق أؤدي الحقوق إلى أهلها.

إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
( سورة النساء)

(وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ) عموماً (أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ).

المقدم:
فالعدل إذاً مطلب يعم الجميع، لا يوجد هنا احتياطات لنوع في الجنس أو نوع في الجنسية.

الدكتور بلال نور الدين:
العدل قيمة لا تتجزأ
العدل مطلق، العدل قيمة لا تتجزأ، لا يمكن أنت تقول لي: أنا عادل في بيتي، لكن لست عادلاً في عملي، أنت لست عادلاً أنت ظالم نقطة انتهى، العدل حدي وليس نسبياً، أنت يمكن أن تقول لي: هذا الخزان ممتلئ 70%نسبي، لكن لا يمكن أن تقول لي هذا الخزان محكم70% إما أنه محكم أو غير محكم، فإذا كان الثقب كبيراً سيفرغ الخزان من مائه خلال ساعة، وإذا كان صغيراً سيفرغ خلال يوم، لكن الخزان ليس محكماً والعدل كذلك، أنت لا يمكن أن تقول لي: أنا أعدل مع من أحبهم، أنا أعدل مع المسلمين؛ أبداً نقطة انتهى أنت ظالم، العدل لا يتجزأ.

المقدم:
متى يتسامى العدل ويتحول إلى مرتبة الفضل والإحسان، يعني يصبح ليس قضية أريد أن أوزع حقوقاً أعطي كل واحد حقه، ولا قضية مشاعر أضبطها وأحرص على أن أكون عادلاً فيها، يتسامى إلى درجة أعلى من ذلك.

الدكتور بلال نور الدين:
أخي الأستاذ حسين؛ بارك الله بك على هذا السؤال الطيب، الله تعالى يقول:

إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ وَإِيتَآئِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ وَٱلْبَغْىِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90)
(سورة النحل)

وهذه الصيغة دائماً تلفت نظري (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا) وقبلها قال موسى لقومه:

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوٓاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ (67)
(سورة البقرة)

إن الله يأمر، فعندما تُدرك من الذي يأمر تختلف نظرتك للأمر، عندما تدرك من الذي يأمر، أنا أقول لك: إن والدك يأمر، تقول: والدي قال لك أن أفعل كذا؟ أقول لك: نعم، تقول: الله أكبر، فوراً سأفعل ما أمرني به، أما عندما أقول لك: إن فلاناً صديقك قال لك، تقول لي: أنا الآن مشغول، الله هو الذي يأمر، فكيف لا تبادر إلى تنفيذ أمره ؟!(إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ).
الآن هنا لو جئنا إلى العدل والإحسان، الإحسان مرتبة فوق العدل أو هو أعلى مراتب العدل إن شئت أن تقول.
لأن العدل أن تعطي كل ذي حق حقه، لكن الإحسان أن تتسامى وأن تعلو، وأن تسمو نفسك فوق الحقوق إلى مرتبة أعلى وهي أن تحل المشكلة بالإحسان، ما كل مشكلة تُحل بالعدل، المشكلات الزوجية، المالية.
قد تصل إلى مرحلة تقول: المشكلة لن تُحل بالعدل لا بد أن يتنازل طرف، لا بد أن يغض إنسان عن حقه قليلاً.

المقدم:
لا بد أن أرحم أحياناً، والعدل أحياناً يسبق الرحمة.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم.

المقدم:
الرحمة تسبق العدل.
منظومة الإحسان من ضمنها الرحمة.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم، من ضمنها الرحمة، متى يُحسن الإنسان؟ سؤالكم الكريم، متى ينتقل من العدل إلى الإحسان؟
الناس عموماً لا يعطون شيئاً بلا مقابل.
أبداً، لا يوجد إنسان يعطي شيئاً بلا مقابل، انظر إلى قوله تعالى في سورة الإنسان:

إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُورًا(9)
(سورة الإنسان)

تابع الآيات إلى نهايتها يقول لهم تعالى:

إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا(22)
(سورة الإنسان)

قالوا: لا نريد منكم.

المقدم:
لا نريد المقابل.

الدكتور بلال نور الدين:
منكم أنتم.

المقدم:
لكن من الله.

الدكتور بلال نور الدين:
لكن نريد جزاء وشكوراً من غيركم من الله تعالى، فالإنسان متى ينتقل من العدل إلى الإحسان؟ حينما يؤمن يقيناً أن ما يتنازل عنه الآن في هذه اللحظة ثوابه عند الله عظيم، النبي – صلى الله عليه وسلم-هذا الرجل المعسر الذي أخبرنا عنه يقول: تجاوزوا عنه، قال:

{ فلقي اللهَ فتجاوَز عنه }

(أخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة)

فالإنسان ينتقل من المطالبة بحقه إلى الإحسان إلى الآخرين والتنازل عن بعض حقه أحياناً، حينما ينظر في الغيب، فيقول: أنا ما سأفعله الآن له جزاء أعظم مما سأناله في جلسة التحكيم، سأسكت الآن عن بعض الحق لكيلا أحرج فلاناً، أو أعلم أنه معسر ويريد مالاً، وأنا أعلم أن لي حقاً عنده، وأنه لن يستطيع أن يؤديه تماماً.

المقدم:
أتنازل.

الدكتور بلال نور الدين:
أتنازل، لكن في ذهني شيء آخر، أنتظر شيئاً آخر فقط.

المقدم:
ويندرج هنا في موضوع الإحسان: الرحمة والعفو والتجاوز وكل هذه من منظومة...

الدكتور بلال نور الدين:
كلها من الإحسان، من منظومة الإحسان.

المقدم:
في القرآن الكريم إشارات كما قلت إلى عَدَلَ ومشتقاتها (يعدلون، اعدلوا..) طبعاً في مواجهة منظومة أخرى للظلم، وتكاد تكون الآيات تكون متوازنة حتى في العدل، لكن هناك منظومة أخرى أيضاً تترادف مع موضوع العدل منها القسط.
هنا يوجد فرق في الاستخدام، هناك فروقات؟ سواء كانت لغوية أو دلالية في موضوع استخدام الحق والقسط والقَدر وغيرها التي تفضي إلى العدل؟

الدكتور بلال نور الدين:
قد يقول لك قائل: هما مترادفان، وأنا أؤمن أنه لا ترادف في القرآن، أو في اللغة عموماً ليس هناك ترادف بمعنى الترادف.

المقدم:
نعم، لا يوجد تطابق.

الدكتور بلال نور الدين:
100% لا يوجد، فهناك مجالات للقسط ومجالات للعدل، القسط جاء أكثر ما جاء مع الميزان:

وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ(9)
(سورة الرحمن)

العدل أعم من القسط
العدل أعم من القسط، القسط يميل غالباً إلى الأشياء المادية المحسوسة، يعني عندما أذهب إلى البائع وأطلب منه سلعة تُوزن أو تُكال فيزن970 غرام، ويحاسبني على أنها واحد كيلو غرام، هذا ما أقام الوزن بالقسط، هذا مستوى مادي جداً، الله تعالى يقول:

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ(1)
(سورة المطففين)

المستويات العليا في القسط تسمى عدلاً، فالعدل يشمل الأمور المعنوية وليس المادية فقط، القسط يميل غالباً إلى الاستخدامات المادية، العدل أعلى مستوى من القسط يعني حتى في قوله تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ)،
أستاذ حسين، أما وأن الموضوع قد فُتح، المعني الذي يتبادر إلى عموم الناس:

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ(1) ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)
(سورة المطففين)

يعني إذا كان الحق له يحاسبك بالغرام، وإذا كان الحق لغيره يُخسر في الميزان يعطيك أقل هذا مطفف، حسناً، الآن الشريك مع شريكه ألا يطفف؟! صاحب العمل عندما يخاف على ابنه أن يحمل فوق طاقته ثم يحمّل العامل أضاعف طاقته، أليس مطففاً؟!
علاقات المجتمع كلها فيها تطفيف.

المقدم:
والميزان هنا لا يشير إلى الميزان بمعناه المجرد الميزان العادي، إلى الميزان في كل مجالات الحياة.

الدكتور بلال نور الدين:
بين الناس، ميزان الحب والبغض، كل الحياة ميزان، لذلك قال تعالى:

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ(25)
(سورة الحديد)

فالله تعالى أرسل الرسل بالبينات، بالآيات الواضحات البينات، وأنزل مع الكتاب هذا القرآن الكريم أنزل الميزان، الميزان لتزن به أمورك.

المقدم:
أليس العدل؟

الدكتور بلال نور الدين:
ليقوم الناس بالقسط، هدف إنزال الميزان وهو العدل أن يقوم الناس في حياتهم بالقسط فيما بينهم.

المقدم:
هذه الحياة لا تستقيم إلا بهذا، إلا بالقسط.

الدكتور بلال نور الدين:
أبداً مستحيل.

المقدم:
لا يمكن أن تستقيم.

الدكتور بلال نور الدين:
مستحيل.

{ يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا }

(صحيح مسلم عن أبي ذر الغفاري)

الله تعالى حرم الظلم على نفسه، وهو:

لَا يُسْـَٔلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـَٔلُونَ(23)
(سورة الأنبياء)

فلو ظلم حاشاه-جل جلاله-فلا يقول له أحد: لماذا ظلمت؟ -حاشاه أن يظلم-.

المقدم:
لكنه حرم الظلم.

الدكتور بلال نور الدين:
لكنه حرم الظلم على نفسه تحريماً ذاتياً، فما ألزمنا بالعدل إلا بعد أن قال لنا: أنا أعدل العادلين.

وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ(115)
(سورة الأنعام)

فكل ما في القرآن الكريم إما أنه خبر فهو صادق، وإما أنه أمر ونهي فهو عادل.

الدكتور بلال نور الدين:
ومعنى آخر لها، قال أهل العلم (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) قال: تتفاوتون فيما بيني بصدقكم؛ أي بصدقكم في الطلب، فالبعض صادق جداً في نيته يريد أن يصل الله، والبعض أقل صدقاً والبعض أقل وهكذا....، وأنا أعدل بينكم.
منكم الصدق ومني العدل – جل جلاله-.

المقدم:
حسناً، قد يقترن أحياناً العدل بالكفر أو بالاستبداد، يقال كثيراً: أن المستبد قد يكون عادلاً، ويقال على
ألسنة بعض الفقهاء أن الدولة الكافرة العادلة أفضل من الدولة المسلمة الظالمة.
إلى أي مدى يمكن أن تتطابق مثل هذه المقولات ولا هذه بحاجة إلى مراجعة وتحرير؟

الدكتور بلال نور الدين:
جزاك الله خيراً هذا طرح مهم جداً، نعم إن من أهل العلم كما قلتم من يقول: إن الله يقيم الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الظالمة.
العدل من غير دين يظل ناقصاً
وأنا أؤكد على كلمة يقيم وليس ينصر؛ لأن النصر مفهوم شرعي، والنصر للمؤمنين لكن يقيم، يقيمها، وعلى كل حال لو افترضنا أن هناك عدلاً من غير دين، يُقام العدل في الأرض من غير دين لكان هذا العدل ناقصاً حتماً، لا يمكن أن توجد منظومة عدل متكاملة، وقد بدأنا في البداية فقلنا: ظلم النفس أين العدل؟ كيف تُقام دولة كافرة عادلة؟ كيف يلتقي الكفر مع العدل؟ تقول لي: يعطون الإنسان حقوقه في المجتمع تأمين طبي
نعم هذا عدل جزئي، وقد أسلفنا أن العدل قيمة لا تتجزأ، فكيف يكون عدلاً مثلاً وهم يعلمون فرضاً -لا أريد أن أدخل في التفاصيل -لكن وهم يعلمون مثلاً أن خيرات الدول الأخرى تُنهب من أجلهم.
هذا ليس عدلاً، كيف يرضون به؟ طبعاً العدل لا يتجزأ، فما طرحته أن هذا الكلام يحتاج مراجعة، نعم؛
لأنه تكرر على ألسنة كثير من الناس.

المقدم:
بالضبط وكثير من المقولات: دعونا من الإيمان.

المقدم:
دعونا من الإيمان نأخذ الكفر والعدل، المهم العدل.

الدكتور بلال نور الدين:
لا أبداً، هل من العدل أن يخرج ابني مثلاً إلى الشارع ويرى الموبقات تحيط به من كل جانب وتصرفه عن دينه؟ هل من العدل أن تنتشر المخدرات في المجتمع؟

المقدم:
وأنا أصمت كأب.

الدكتور بلال نور الدين:
وأنا صامت. هل هذا عدل؟

المقدم:
هل هذا عدل في التربية مثلاً؟!

الدكتور بلال نور الدين:
أبداً، العدل منظومة كلية لا يمكن أن تُوجد من غير دين-أستاذ حسين-العدل كمنظومة كلية، أمّا جزئيات العدل ممكن أن ترى مظاهر.

المقدم:
اسمحلي هنا أتعمق قليلاً في موضوع العدل النسبي والعدل المطلق، العدل الإلهي مطلق تماماً.

الدكتور بلال نور الدين:
100%.

المقدم:
لا يوجد نقاش، العدل البشري أياً كان فهو نسبي.
اليوم عندما نتحدث عن هذه المقولة، نتحدث عن قوانين يضعها البشر ويطبقها البشر وقد تكون أيضاً فيها نسبة من العدل، لكنها بالتأكيد ليست عادلة تماماً ليست مطلق العدل. كيف يستطيع الإنسان أن يترقى في مدارج العدل حتى يصبح أقرب ما يكون إلى عادل؟

الدكتور بلال نور الدين:
نعم، كما تفضلتم الله تعالى عدله مطلق، اليوم نحن في حياتنا لو أن قاضياً حكم خلال مسيرته بثلاثين عاماً ألف حكم (980) حكماً جاءت كما ينبغي، وعشرون حكماً بسبب نقص في المعلومات عنده جاءت بخلاف ما ينبغي ليست عادلة تماماً، يقول أهل الأرض عنه: هذا قاضٍ عادل.

المقدم:
تمام، صحيح.

الدكتور بلال نور الدين:
الله تعالى عدله مطلق ليس هناك واحد بالمئة، ولا واحد بالألف، ولا واحد بالمليون خوارم عدل هذا مفروغ منه.

وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحْصَىٰهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(49)
(سورة الكهف)

البشر عدلهم نسبي في التطبيق والتنفيذ، لكن لا ينبغي أن يكون نسبياً في التشريع، يعني العدل ليس انتقائياً في التشريع بمعنى أنني أنا أختار ما سأعدل به.

المقدم:
تمام.

الدكتور بلال نور الدين:
يجب أن أكون عادلاً في كل شيء
العدل مطلق في التشريع، يجب أن أكون عادلاً في كل شيء، وهذا لا يقام إلا مع الدين، الآن في التنفيذ قد نخطئ كلنا نخطئ، فعلى المستوى الأرضي قد نخطئ، كيف نترقى الآن لتقل نسبة الخطأ؟
بالنقد بالمراجعة بأن نفتح باب المراجعة دائماً، الأب في بيته إن لم يسمح لصوت النقد أن ينطلق -طبعاً بالأدب ويعلمهم على الأدب والتربية -لكن إن لم يسمح أن تقول له زوجته يوماً: يا أبا فلان، كأنك ظلمت ابنك فلاناً اليوم، جئت غاضباً من عملك فأفرغت جام غضبك عليه، إن لم يسمح لا يمكن أن يكون عادلاً، أبداً.

المقدم:
لا يمكن أن يكون عادلاً. وبالتالي هنا ننقض مسألة تواؤم الاستبداد مع العدل

الدكتور بلال نور الدين:
100% لا يمكن أن يكون هناك استبداد كلي بمعنى أنه ليس هناك صوت للحق ينطلق وأكون عادلاً؛ لأن الإنسان من طبيعته في التنفيذ أنه يخطئ، كيف يقوّم بأن يفتح مجالاً للرأي الآخر بأن ينطلق، نعم هناك من الناس من يقول لك: يا أخي استبداد فيه عدل خير من حرية لا عدل فيها، يعني من باب أنهم سئموا من هذه الحرية فيقولون: يا أخي دعنا مع مستبد يعدل بيننا في استبداده.

المقدم:
في حالة البلوى العامة.

الدكتور بلال نور الدين:
لكن ليس معنى هذا أن الاستبداد محمود أو أنه يمكن أن يُنشئ عدلاً حقيقياً -معاذ الله -.

المقدم:
حسناً، هناك أيضاً مسألة أخرى تتعلق بمنظومة العدل والمنظومات الأخرى التي تتصل بالقيم الإسلامية، ينشغل البعض في مسائل التوحيد أكثر من انشغالهم بمسائل العدل ومنظومة القيم مع أن هذا العدل مثلاً هو أساس الشريعة كما أن التوحيد هو أساس العقيدة، ما مرد هذا الانشغال، لمَ؟

الدكتور بلال نور الدين:
التوازن بين العقيدة والشريعة مهم جداً
هذا التوازن -أستاذ حسين-هذا التوازن بين العقيدة والشريعة مهم جداً، وأنا ألمحه في برنامجك الطيب، والناس عموماً يحتاجون في حياتهم إلى الشريعة، فالناس لا ينتبهون إلى ما تعتقده على أهميته العظمى، لكن ينتبهون إلى كيف تعاملهم فيستدلون من معاملتك على أنك لو لم يكن في ذهنك عقيدة صحيحة لما انطلقت أصلاً إلى هذا العمل ، فالعقيدة وسيلة والشريعة غاية، نعم هناك أناس عندهم إشكال في العقيدة في التوحيد وهذا أمر خطير لا شك في ذلك، ولكن إلى متى نتكلم بالعقيدة وننشغل عن الشريعة ، يعني إلى متى نبقى في الوسيلة ولا نصل إلى الغاية ؟

المقدم:
حسناً، أريد أن أسألك سؤالاً أو نقطة نظام، دائماً في مجتمعاتنا وفي تاريخنا أيضاً في تجربتنا التاريخية إشكالية أن ينصرف العدل في الذهن العربي المسلم إلى موضوع الحكم، دائماً يقلص من الاهتمام فيه خاصة عند الفقيه، يعني لا يقدر يجرؤ أن يتكلم في السياسة يقول لك: ما أهتم.
هل هذه إشكالية أدت بنا إلى تراجع، اليوم نهتم نحن، هناك قضايا كثيرة أنت عارف، ولكن العدل الاهتمام فيه حتى في الفقه الظاهر محدود.
هل هذا معقول أنه انصرف الذهن إلى السياسة وبالتالي الفقيه تراجع؟

الدكتور بلال نور الدين:
مهمة الدعاة أن يظهروا قيمة العدل
هذا أحد أهم الأسباب أننا نصرف العدل إلى مفهوم ضيق جداً، فنظن أننا لا علاقة لنا به، وهذا كما قلنا في البداية موجود في العقل الباطن من غير أن يشعر الإنسان، الآن مهمة الدعاة اليوم أن يظهّروا هذه القيمة، أن يعلوا من شأنها، أن يرفعوا من شأنها، كما قلنا العدل ليس قضية سلوكية فقط، العدل مقصد من مقاصد الشريعة، اليوم هناك علم اسمه مقاصد الشريعة، الله تعالى لما فرض الفروض فرضها لمقصد، قال الإمام الشاطبي:" إنما جُعلت العبادات لمصالح الخلق"

ٱتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(45)
(سورة العنكبوت)

خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103)
(سورة التوبة)


المقدم:
هناك مقصد هناك هدف.

الدكتور بلال نور الدين:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)
(سورة البقرة)

الصيام لعلكم تتقون، فكل العبادات معللة بمصالح الخلق فهذه اسمها المقاصد، فاليوم جاءت الشريعة من أجل العدل، من أجل الحكمة هذه مقاصد عليا وكبرى في الشريعة، أنا لا أبالغ إذا قلت: أريد أن أهتم بالعقيدة فينبغي أن تهتم بالعدل، العدل ليس شريعة.

المقدم:
ليس جزءاً من شريعة فقط، مرتكز العقيدة.

الدكتور بلال نور الدين:
أنا فهمت عليك لما أنت قلت: التوحيد، أنك لا تقصد بالتوحيد أن يؤمن الإنسان يقيناً أنه لا إله إلا الله، وإنما قصدت...

المقدم:
ليس الإيمان فقط لا، النقاش في مسائل أخرى.

الدكتور بلال نور الدين:
بالضبط.

المقدم:
في الصفات والأسماء.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم، حتى لا يفهم علينا المستمعون بأننا نقلل من شأن التوحيد كإيمان بأنه لا إله إلا الله.

المقدم:
لا، هو الأساس.

الدكتور بلال نور الدين:
هو الأساس، لكن أقول: العدل جزء من العقيدة، نحن اليوم عندما قصَرْنا العقيدة على بعض المسائل الإلهيات.

المقدم:
هذه إشكالية.

الدكتور بلال نور الدين:
والغيبيات وتركنا أن هناك أشياء ينبغي أن تكون في صلب عقيدتنا.

المقدم:
والله العدل.

الدكتور بلال نور الدين:
الله تعالى هو العدل، أليس التعرف إلى أسماء الله الحسنى عقيدة؟!

المقدم:
طبعاً، أساس التوحيد.

الدكتور بلال نور الدين:
أسماء الله الحسنى كثير منها فيه قيمة العدل، المنتقم من العدل.

المقدم:
حسناً، هل هنالك كان يوجد فرق بين تناول العدل في الخطاب القرآني وتناول العدل في التراث التفسيري، في التفسير أو في الفقه أو كذا؟ يوجد فرق أم كان هذا الخطاب خطاباً للموروث سواء في التفسير أو سواء في الفقه متطابق تماماً وسامٍ تماماً وشامل تماماً للخطاب القرآني؟

الدكتور بلال نور الدين:
تراثنا التفسيري تناول العدل بلا شك، لكن هل كان مطابقاً؟ أعتقد لا، بالمطلق لا، العدل في القرآن الكريم
أعم وأشمل مما تناولناه نحن، أعم وأشمل بكثير مما تناولناه نحن، نحن بحاجة إلى......

المقدم:
هل توقفتَ مثلاً عند مسائل كان فيه الخطاب التفسيري ناقصاً عند بعض آيات أو عند بعض دلالات أو عند بعض شيء؟

الدكتور بلال نور الدين:
نعم، مثلاً نحن اليوم علاقتنا بالآخر علاقة عدل، هذه يتناولها التفسير، علاقتنا بالمنهج، التعامل مع المنهج.

المقدم:
حسناً، يتناولها في هذه الآية يتناولها، لكن في آيات تفسير أو في تفسير آخر لآيات أخرى لا يعتقد أو لا يعتمدها كمرجعية فيذهب بالتفسير جوانب أخرى في التعامل مع الآخر.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم، صحيح نحن دائماً-أستاذ حسين-عندنا مشكلة في الإسقاط عندنا تابوهات للتفسير،يعني نتناول القضية وكأنها قضية لا تعنينا.

المقدم:
تمام.

الدكتور بلال نور الدين:
يعني أضرب مثلاً؛ كيف عندما نذهب -نسأل الله أن يطيل الأعمار في طاعة-كيف نذهب إلى جنازة؟ عندما يدفن الناس الميت كأن الموت لا يعنيهم.

المقدم:
تمام.

الدكتور بلال نور الدين:
وقد ورد في بعض الخطب:" كأن الموت فيها على غيرنا قد كُتب"، نحن ليس لنا علاقة.
هو مات نحن لم نمت، لسان حالنا كذلك.
عندما تنظر إلى الناس، أحياناً أناس لا يدخلون ليؤدوا صلاة الجنازة يقف خارج المسجد حتى تنتهي الجنازة فيقوم بواجب العزاء وكأنه لن يموت، نحن نتناول القضية بهذه الطريقة، مثال من واقع الحياة: النبي –صلى الله عليه وسلم-عندما جاءت صحفة من عند أم سلمة -رضي الله عنها-فغضبت عائشة – رضي الله عنها-إذ ترسل ضرتها الطعام لرسول الله وهو في يومها، فكسرت الصحفة فالنبي -صلى الله عليه وسلم-قال:

{ غَارَتْ أُمُّكُمْ }

(صحيح البخاري عن أنس بن مالك)

وأمسك الصحفة المكسورة وبعث صحفة أخرى إلى بيت التي كُسرت صحفتها، الآن لو قرأت هذا الحديث أمام الناس يقولون: صلى الله على سيدنا محمد، ما أجمل هذا الأمر! ما أجمل ما فعل!

المقدم:
لكنه لا يتحول في حياته.

الدكتور بلال نور الدين:
بعد يوم لا تكسر زوجته صحفة وإنما تغضب من شيء فيعلو صوتها فيقيم الدنيا ولا يقعدها، ثم إذا قلت
له فلان غضبت زوجته فعاملها بإحسان ولطف وهدّأ من روعها يقول لك: فلان تابع لزوجته، فلان ليس رجلاً، لماذا سمعت الحديث وصليت على رسول الله وحمدت من أخلاقه ما حمدت، ثم أنت في الواقع مختلف!
هذه الأمثلة الواقعية في حياتنا تصلني إلى الموضوع الذي تذكره، نحن نتعامل مع الموضوع بتعامل وكأنه تراث نقرؤه، لا هذا لنا نحن فينبغي، مشكلتنا الأساسية في الإسقاط، أن نُسْقط (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ)، ما مجالات العدل اليوم في حياتنا؟ ما تطبيقاته؟

المقدم:
هو هذا السؤال المهم اليوم، كيف نتعامل مع العدل في حياتنا؟ ماهي تطبيقات هذا العدل؟ لماذا اليوم يعني كثير الشكوى من الظلم، وكأن الظلم فعل لآخرين وليس فعل عام وشامل نمارسه نحن؟

الدكتور بلال نور الدين:
نعم، نعم، نتعامل مع العدل عندما نؤمن أولاً أنه أمر من الله تعالى كما أسلفت قبل قليل (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ)، نتعامل بالعدل ثانياً حينما نوقن أن هذه المنظومة منظومة العدل ستفيد أول ما تفيد أنا، فالله تعالى عندما أمرني ألا أظلم الناس، أمر مليارات الناس أن لا يظلموني، اليوم أنا عندما أخاف على ابنتي أن تظلم في بيت أهل زوجها ثم أظلم زوجة ابني في بيتي فهذا ليس عدلا.ً

المقدم:
أنت تقول هنا أن للظلم عدوى تنتقل؟

الدكتور بلال نور الدين:
الجزاء من جنس العمل
الجزاء من جنس العمل، فعندما أؤمن أن العدل سيصل أولاً إلى بيتي أنا، وأن الظلم سيصل إلى بيتي أنا، والإنسان يحب نفسه، من منا لا يحب نفسه؟ يحب السلامة، يحب السعادة، يحب الاستقرار، يحب أن يكون سعيداً، فمردودات العدل عليه ومردودات الظلم عليه، فالبار بأبيه يبره أبناؤه في الأعم الأغلب، والمحسن لكنته في بيته يُحسَن لابنته في بيت أهل زوجها وهكذا.
فإذاً العدل منظومة متكاملة أنا عندما أكون عادلاً أكون حجراً في جدار كبير تنتقل إلى الأسرة الكبيرة، إلى العائلة ثم إلى المجتمع.

المقدم:
تقويض منظومة العدل هنا، يعني هناك كثير اليوم هناك حكي يكون مثلاً عن موضوع الإرث، العدالة في الإرث أيضاً، العدالة في الوصية، العدالة في العلاقات في كل مجالات الحياة، هل تشعر أنه اليوم يوجد محاولات لتقويض مثل هذه المنظومات، والثاني يقول لك: يا عمي لماذا المرأة تأخذ نصف ما يأخذه الرجل؟ ولماذا الوصية مثلاً تجب لأبناء المرأة ولا تجب لبناتها؟ وهكذا....

الدكتور بلال نور الدين:
هناك محاولات حثيثة للدفع باتجاه ما يسمونه العدل، وهو المساواة المطلقة حتى بين الذكر والأنثى.
من المساواة مثلاً: أن إذا احتجت جرة غاز والمصعد معطل أنني في المرة الأولى نزلت أنا وحملت الجرة الآن زوجتي هذا دورها، هذا من المساواة.
ومن المساواة أنني إذا فُرض علي شيء خاص بالرجال أن يُفرض على المرأة، ومن المساواة أنها إذا امتنعت سبعة أيام في الشهر عن الصلاة أن امتنع أنا عنها، مثلاً.
هذه مساواة.

المقدم:
طبعاً.

الدكتور بلال نور الدين:
متى ندرك أن العدل هو شريعة الله تعالى، العدل هو أن نعطي الإنسان حقه الذي أعطاه له الخالق الخبير.

إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ(14)
(سورة فاطر)

أستاذ حسين أنت اليوم إذا اقتنيت جهازاً بالغ التعقيد عظيم النفع، كمبيوتراً صناعياً كبيراً وأنت لا تحسن استخدامه، بربك هل الجهاز أهم أم الكتلوج المترجَم الذي يعطيك المعلومات؟

المقدم:
طبعا الكتلوج.

الدكتور بلال نور الدين:
الكتلوج أهم؛ لأنك إذا استخدمت هذا الجهاز بغير تعليمات الصانع أعطبته، وإن لم تستخدمه عطّلته.

المقدم:
خسرته، لا قيمة له.

الدكتور بلال نور الدين:
لذلك لما قال تعالى:

ٱلرَّحْمَـٰنُ (1) عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ (2) خَلَقَ ٱلْإِنسَـٰنَ (3)
(سورة الرحمن)

لم يبداً بخلق الإنسان، بدأ بتعليم المنهج (عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ*خَلَقَ ٱلْإِنسَـٰنَ) هذا تقديم رُتبي وليس زمنياً، خلقه ثم علمه لكنه قدّم التعليم؛ لأنه لا معنى لوجوده من غير منهج يسير عليه، متى ندرك أن تعليمات الصانع هي العدل؟! حتى لا نناقشها ما دامت جاءت في قطعيات عندما يقول تعالى:

يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِىٓ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَٰحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٌ وَوَرِثَهُۥ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُۥ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(11)
(سورة النساء)

فهذا هو العدل.
ولو أخذ الذكر كالأنثى فهو ليس عدلاً، ربما يُطلق عليه مساواة لكنه ليس عدلاً، متى ندرك أن الأنثى عندما أعطاها الله هذه الخصائص أعطاها لتقوم بمهمة نبيلة عظيمة، وعندما أعطى الرجل الخصائص أعطاها لمهمة نبيلة عظيمة.

المقدم:
في إطار التكامل، وليس في إطار التساؤل.

الدكتور بلال نور الدين:
والتنافس، أنا عندما أقول لإنسان أيهما أفضل السيارة الشاحنة أم سيارة الركاب السياحية؟ أنا أخطئ في السؤال، أنت ماذا تريد؟ إذا كنت تريد نقل البضائع فالشاحنة أفضل لك.
التكامل بين الذكر والأنثى
وإذا كنت تريد أن تأخذ أهلك في نزهة فالسياحية أفضل، فمتى نترك هذه الثنائية التي نستمر فيها ونسمح لغيرنا أن يتدخل في ديننا؟ الذكر أفضل أم الأنثى؟ وهل هناك مساواة بينهم أم ليس هناك مساواة؟

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلْأُنثَى وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّىٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيم(36) ِ
(سورة آل عمران)

الله تعالى يقول:( وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلْأُنثَى)، لكن في الحقوق وفي الواجبات وفي التكاليف هناك عدالة مطلقة بينهم، لكن ليس هناك تساوٍ بالمعنى الذي تريدونه؛ لأن الله تعالى خلق الذكر وخلق الأنثى وأودع في كل منهما من الخصائص والصفات ما يعينه على أداء مهمته التي خُلق من أجلها، فليس المقام مقام صراع وإنما المقام مقام بناء، ومقام تكامل، ومقام حب ومودة:

وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(21)
(سورة الروم)


المقدم:
لكن هنا ندخل في إشكالية أخرى أيضاً، كلام 100%صحيح، لكن هذه النصوص التي فيها العدل المطلق الذي لا شك فيه أبداً، لأن الله-سبحانه وتعالى-خلق الكون على أساس هذا العدل، ولا يستقيم هذا الكون أصلاً إلا بوجود العدل، لكن الإشكالية هنا في فهم النصوص، وعندما أشرت إلى التراث التفسيري والتراث الفقهي أشرت إلى ذلك، هناك فهمات مختلفة وبالتالي يختلف فهم العدل، أليس كذلك؟

الدكتور بلال نور الدين:
بلى، إلى حد ما، لكن القيم العليا في المجتمع، القيم العليا الخلافات حولها يسيرة يعني بمعنى: من منا يستطيع أن يرى مظهراً فيه ظلم ثم يقول لك: "هذا ليس ظلماً"، الواقع المُشاهد أقوى من كل شيء، يعني مثلاً سأعطيك أنا مثالاً طريفاً: لو جاءك شخص بخريطة وفيها عمان تُطلّ على البحر الأحمر، وخريطة موثّقة ومختومة من دائرة المتاحف والآثار، هل تصدقه؟

المقدم:
لا

الدكتور بلال نور الدين:
لذلك هنا أقول شيئاً مهماً جداً: في قضية العدل أهم ما في العدل اقلب، ما معنى اقلب؟ يعني إذا وجدت نفسك في موضع، ضع نفسك في موضع الشخص الآخر، عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، دعك من تفسيرات النصوص، أنت اليوم الآن في هذا الموضع تقول لي: هل هذا المال حلال أنا آخذه، أنا أعمل عند فلان وآخذ منه.

المقدم:
أنت تفتي نفسك.

الدكتور بلال نور الدين:
أنت الآن ضع نفسك مكان الرجل الآخر، أنت إذا كنت موجوداً بمكانه تسمح أن يأخذ أحد هذا المال؟ لا.

المقدم:
وبالتالي لا مجال للمراوغة هنا.

الدكتور بلال نور الدين:
الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع الناس عليه وإن أفتاك الناس.

المقدم:
أشكرك، انتهى للأسف وقت هذه الحلقة ولم ينتهِ الحديث عن العدل، ولن ينتهي.

الدكتور بلال نور الدين:
ولن ينتهي.

المقدم:
اسمحوا لي في نهاية هذه الحلقة نشكر ضيفي العزيز الدكتور بلال نور الدين أستاذ الشريعة والتفسير، اسمحوا لي أن أشكر أيضاً زميلي من الهندسة الإذاعية ومن المراقبة، إلى أن ألقاكم في حلقة قادمة أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.