القَسَم في الجزء الثلاثين - اللقاء الثاني

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-09-04
  • عمان
  • الأردن

القَسَم في الجزء الثلاثين - اللقاء الثاني

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، وبعد:


القَسم في القرآن الكريم، الجزء الثلاثون نموذجاً:
أحبابنا الكرام، هذا اللقاء الثاني من موضوع القَسَم في القرآن الجزء الثلاثون نموذجاً، وتذكرون أننا في اللقاء الماضي تحدثنا عن القَسم في القرآن عموماً، وقلنا أن جملة القَسم هي: أداة القَسم، واو القَسم غالباً، ثم المُقسَم به، ثم المُقسَم عليه، فلو قال قائل: "والله إن الجو لطيف" فقد جاء بواو القَسم، والمُقسَم به وهو الله، والمسلم لا يقسم إلا بالله، ولا يجوز له أن يحلف بغير الله.

{ من كان حالفًا فلْيحلفْ باللهِ أو ليصمتْ. }

(أخرجه الترمذي)

{ من حلفَ بغيرِ اللهِ فقد أشركَ. }

(أخرجه الترمذي)

فالمُقسَم به عند المؤمن دائماً هو الله، أو أسماؤه الحسنى، أو صفاته الفضلى، ثم يأتي جواب القسم: إن الجو لطيف، فيقسم بشيء على شيء، أما الله تعالى فله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وتكرر أسلوب القَسم في كتاب الله، وانطلقنا من أن هناك دائماً علاقة في القرآن الكريم بين المُقسَم به والمُقسَم عليه، وضربنا مثلاً بسيطاً، وهو سورة العصر:

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
(سورة العصر)

مضي العصر يجعلك في خسارة
مضي العصر يجعلك في خسارة؛ لأنك تخسر رأس مالك وهو الزمن، فكلما مضى العصر فأنت خاسر؛ لأنك تخسر الزمن الذي هو رأس مالك ووعاء عملك، ثم بدأنا بجزء عمّ نموذجاً، وتحدثنا عن أول قَسم في جزء عمّ الجزء الثلاثين؛ لأن القسم يكثر في السور المكية، والجزء الثلاثون معظم سوره مكية:

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا(1)
(سورة النازعات)

وأيضاً جئنا إلى:

وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)
(سورة التكوير)

وتحدثنا عن هذه الأيمان في كتاب الله تعالى.

القَسم في سورة البروج:
اليوم نتابع هذا الموضوع في أربع سور جديدة من جزء عمّ، السورة الأولى هي سورة البروج، ومفتتحها قَسَم، يقول تعالى:

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (4)
(سورة البروج)

جواب القسم في أرجح الأقوال:

قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ(3)
(سورة االبروج)

لو تأملنا في هذا القَسم ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ يقسم الله تعالى بالسماء، وما فيها من منازل للشمس والقمر وجميع الكواكب، البروج هي المنازل التي ينزل بها القمر من مبدئه إلى ختامه، كذلك منازل الكواكب، البروج هي ما تشكله بعض النجوم في السماء في حركتها؛ برج العقرب، برج الدلو، وما هنالك من الأبراج والعذراء وغيرها كما كان العرب يسمونها، فهذه البروج في السماء يقسم الله تعالى بالسماء التي من خواصّها تلك المنازل التي تسير بها الكواكب ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾.

البروج آية من آيات الله:
البروج هي آية من آيات الله عز وجل
وبالمناسبة البروج هي آية من آيات الله عز وجل ينبغي الالتفات إليها، لكن البعض يستخدمها استخداماً خاطئاً، فيجعلها متعلقة بسلوك الإنسان، وبمستقبل الإنسان، فيبني عليها، فيقول: برجك العذراء أنت شخص لطيف، وأنت برجك الدلو فأنت شخص طموح، ثم برجك الثور فأنت اليوم سيواجهك شيء سيئ، وأنت برجك الحمل اليوم ستجد خبراً حسناً عند خروجك من البيت، ويلعبون بعواطف الناس، "كذب المنجمون ولو صدقوا" وهذه أصلها كذب المنجمون ولو صدقوا، يعني ولو صادف أنهم وافق شيء من كلامهم شيئاً في الواقع فهم كاذبون، بمعنى أن الإنسان يومياً إذا خرج من بيته مُعرَّض لموقف يزعجه، أو موقف يفرحه، فيُقال له: اليوم ستجد موقفاً يفرحك، فيجد موقفاً فيقول هذا كما قالوا لي، أو الإنسان كل يوم يجد شيئاً يزعجه أو شيء يفرحه وهذه طبيعة الحياة، أو يقول له: أنت إنسان طموح، فيقول نعم أنا دائماً أسعى رغم أنني لم أحقق شيئاً، ولكن لدي طموح دائم، أو يقولون له أنت عصبي المزاج هذا اليوم، فيقول فعلاً اليوم الوضع صعب، والأسعار مرتفعة وأنا فعلاً منزعج، أو يقولون له: أنت إنسان لطيف هادئ، يقول: فعلاً، أنا من شدة لطفي ومن طيبة قلبي فعل الناس بي ما فعلوا، ليتني كنت قاسياً، فهو يطبق ما يقال له على واقعه، فيجد له مصداقاً في شيء من الأشياء، فيأتي مصادفة لأن هذه طبيعة الحياة، فيظن أنهم قد أصابوا بما قالوا، والحقيقة: لا يعلم الغيب إلا الله، والكهانة حرام، والكهانة سحر.

{ مَن أتى عرَّافًا أو كاهنًا فصدَّقه بما يقولُ فقد كفَر بما أُنزِل على محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. }

(سنن أبي داوود)

{ من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً. }

هذا إذا لم يصدق لم تقبل منه صلاة أربعين ليلة، فإن صدق فقد كفر بما أنزل على محمد، يعني كفر بقوله تعالى:

قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(65)
(سورة النمل)

فإذا قال أن فلان علم بما سيكون فقد كفر بما أنزل على محمد ببساطة، هذه على الهامش في موضوع البروج، أما البروج آية من آيات الله يلفت الله نظرنا إليها، والعربي ينظر في السماء فيجد اليوم في القبة السماوية ترى هذه البروج التي سموها العقرب لأنه على شكل عقرب، والثاني على شكل الدلو، وهكذا.
اليوم الموعود هو يوم القيامة
﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ القَسم الثاني بـ ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ وهو يوم القيامة الذي وعد الله تعالى به عباده، فهو يوم موعود، قبل أن نصل إلى جواب القسم طبعاً هناك ترابط بين ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ وبين ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ هناك ترابط وهذا ذكرناه في اللقاء الماضي وأعيد التركيز عليه، ربنا جل جلاله خلق السماوات بهذه العظمة بما فيها من البروج، أفيعقل ألا يكون هناك يوم موعود يحاسب الله تعالى به عباده؟ لا يستقيم، لأن كمال الخلق يدل على كمال التصرف، فالذي خلْقه بهذه العظمة تصرُّفه بهذه العظمة أيضاً لا يقل عن مستوى خلقه، يعني أنت إذا وجدت مدرساً صاحب علم، مدرساً صاحب خلق، مدرساً صاحب هندام مرتب، مدرساً له مكانة كبيرة في المدرسة، هل تقبل أن يكون هذا المدرس لا يجري امتحاناً في نهاية العام؟ ويعامل المُحسِن كالمسيء؟ تقول مستحيل، هذا المدرس جداً جداً ناجح، مستحيل ألا يميز بين المحسن والمسيء، وأن يعطي العلامة التامة للجميع سواء من درس أو لم يدرس، فتستدل على كمال تصرفه من خلال كماله الذي وجدته فيه، وربنا جل جلاله الذي خلق الكون بهذا الجمال والكمال، لا يعقل ولا يقبل ألا يحاسب عباده.

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
(سورة المؤمنون)

لا بد أن تدرك أن هناك يوماً موعوداً للعدل
تعالى الله أن يخلق عبثاً، وألا يحاسب، هذا ليس من شأن الإله، فلذلك ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ *وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ يعني كما أنك تنظر إلى عظمة السماء ينبغي أن تعرف من خلال عظمة السماء أن هناك يوماً ستُسوّى فيه الحسابات، لا يُعقل أن تنقضي الحياة، ويبقى الظالم ظالماً والمظلوم مظلوماً، لا تستقيم أن تنقضي الحياة وقد سرق من سرق، وسُرق من سُرق، لا تستقيم الحياة بهذا الشكل، لا بد أن تدرك أن هناك يوماً موعوداً للعدل، لذلك ابن قيم الجوزية من بين العلماء كان ينفرد بقول: "الدليل على وجود اليوم الآخر دليل نقلي عقلي" كل العلماء يقولون اليوم الآخر دليل نقلي؛ لأننا لم نره بعيننا، لكن الله أخبرنا بأن هناك يوماً آخر، ابن قيم رحمه الله كان يقول الدليل عقلي وهو أن الإنسان إذا فكر بعقله، بهذه المَلَكة التي وهبها الله إياها سيستنبط أن الله سيحاسب، من خلال عظمة الكون، ثم يأتيه القرآن ليوضّح له تفاصيل اليوم الآخر، وتفاصيل الحساب، فهو عقلي نقلي معاً.
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ* وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ*وَشَاهِدٍ وَمَشْهُود﴾ الله شاهد، وخلقه مشهود عليه، الله شهيد جل جلاله، النبي صلى الله عليه وسلم شاهد:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(45)
(سورة الأحزاب)

سيشهد على أمته، ونحن أمته مشهودٌ علينا، المال شاهد، وصاحب المال مشهود، فالمال يوم القيامة يشهد عليك أنفقته في الحلال أم في الحرام، استعملته في الطاعة أم في العصية، الجوارح شاهدٌ وأنت مشهودٌ عليك:

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
(سورة يس)

كل شيء يشهد عليك فهو شاهد
فكل شيء يشهد عليك فهو شاهد، وأنت مشهود عليك، المنصب شاهد، المنصب يشهد على صاحب المنصب يوم القيامة، هل استخدمه في طاعة الله أم ظلم به عباد الله، فكل شيء في الوجود يستقيم أن يكون شاهداً ومشهوداً، هذه الشجرة شاهد على وجود الله، وتشهد علينا إن عرفنا الله تعالى من خلالها وشكرنا الله عليها، أم هناك من البشر من يعبد شيئاً من خلق الله، فيشهد عليه يوم القيامة لأنه عبده من دون الله، فمفهوم ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُود﴾ مفهوم واسع، نعم بعض العلماء قالوا: الشاهد يوم الجمعة، لأنه ورد في بعض الأحاديث أن الشاهد والمشهود هو يوم عرفة، لكن هذا تفسير بالجزء ولا يلغي العموم، تفسير في الخاص ولا يلغي العام، العام كل شيء في الكون شاهد، وأنت أيها المخلوق مشهود عليك.
الآن جواب القسم ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ وقُتل في القرآن الكريم كما قال ابن عباس إذا جاءت فهي بمعنى لُعن، لعن أصحاب الأخدود، وأصحاب الأخدود هم الذين شقوا هذا الشق العظيم في الأرض الذي يسمى أخدوداً، ووضعوا فيه المؤمنين الذين رفضوا الانصياع لآلهة هؤلاء المزعومة، فشقوا لهم شقاً في الأرض، ووضعوهم فيه، وأضرموا فيهم النار، فجواب القسم أن الله عز وجل لعن هؤلاء الذين فعلوا ذلك، وجاء بلفظ ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ لأن في الحقيقة الذين قتلوا هم المؤمنون، الذين وُضعوا في الأخدود، لكن هؤلاء أحياء عند ربهم يرزقون، فالذين قُتِلوا حقاً هم القتلة وليس المقتولون.
لما إنسان يقتل إنساناً بالواقع نقول فلان مقتول وفلان قاتل، لكن عند الله عز وجل من الذي قُتل؟ القاتل لأنه لُعن إلى يوم القيامة، ولن يقبل الله تعالى منه صرفاً ولا عدلاً، لا فرضاً ولا نافلة.

{ لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِن دِينِهِ، ما لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا. }

(صحيح البخاري)

فالذي قتل هو الذي قُتل في الحقيقة؛ لأنه قتل حياته الأبدية، وأنهى وجوده عند الله عز وجل، فقال ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾.

العلاقة بين المقسم به والمقسم عليه:
الآن الذي نحن بصدده دائماً هذا الربط بين القسم وجواب القسم، المقسم به والمقسم عليه ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ الربط الأول ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ الذي خلق الكون بهذه العظمة كما قلنا هو الذي سيحاسب هؤلاء المجرمين؛ لأن الخالق بهذا الكمال لا بد أنه عدْل جل جلاله ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ لأن الحساب يوم القيامة لا في الدنيا.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)

في الدنيا لا يوجد حساب
في الدنيا لا يوجد حساب، بعض الأحيان ربنا عز وجل يعجل العقوبة للظالمين في الدنيا فنراها بأعيننا، نقول انظر إلى فلان كيف فعل الله به وقد ظلم وظلم، ولكن أحياناً يموت هذا الظالم ولا يفعل الله به شيئاً، يموت وهو في نظرنا في عزه، ما يُفعل به شيء، بل تخرج له جنازة أسطورية كما يقال، ولا يعلم أحد وهو في نعشه ماذا يجري معه الآن، ولا ماذا سيجري بعد موته، وماذا ينتظره، لكن اليوم الموعود هو يوم الحساب، لذلك ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ مرتبطة باليوم الموعود، ثم مرتبطة بالشاهد والمشهود لأن هؤلاء الذين قتلوا أصحاب الأخدود سيشهدون عليهم يوم القيامة أنهم قتلوهم، المقتولون، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:

{ يجيءُ المقتولُ متعلِّقًا بقاتلِهِ يومَ القيامةِ، آخذًا رأسَهُ بيدِهِ الأُخرى فيقولُ: يا ربُّ، سَل هذا فيمَ قتلَني؟ قال: فيقولُ: قتلتُهُ لتكونَ العزَّةُ لَكَ، فَيقولُ: إنَّها لي. قالَ: ويَجيءُ آخرُ متعلِّقًا بقاتلِهِ فيقولُ: ربِّ، سل هذا فيمَ قتلَني؟ قال: فيقولُ قتلتُهُ لتكونَ العزَّةُ لفلانٍ. قالَ: فإنَّها ليسَت لَهُ فيبوءُ بإثمِهِ. قالَ: فيَهْوي في النَّارِ سَبعينَ خريفًا. }

(أخرجه النسائي)

فأنت أخطأت الهدف، قتلته من أجل فلان، لكن العزة لله تعالى وحده. فيقال: "خذوه إلى النار" والعياذ بالله ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ هذا القسم في سورة البروج.

القَسم في سورة الطلاق:
ثم بعدها تأتي سورة الطارق، فيها قسمان:

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
(سورة الطارق)

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)
(سورة الطارق)

قِسمان، السورة قِسمان وقَسمان، القِسم الأول ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ﴾ والقسم الثاني ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾.

القَسم الأول:
الأول ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ﴾ يقسم الله تعالى بالسماء وبالطارق، وما هو الطارق؟ فسره الله تعالى فقال:

وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ(2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
(سورة الطارق)

الطارق في الأصل هو الذي يطرق ليلاً، في الأصل، فاليوم أي إنسان يطرق الباب نقول من الطارق؟ لكن في أصل الوضع اللغوي طارق ليس الذي يطرق بابك نهاراً، وإنما الذي يأتيك ليلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم:

{ نَهَى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنُهُمْ }

(صحيح مسلم)

الطارق في الأصل هو الذي يطرق ليلاً
أي يأتي إلى البيت في وقت لا يأتي به عادة وكأنه قادم من أجل إجراء تفتيش لعل أحداً في البيت قد زار زوجته في غيابه، فهذا يفسد العلاقة بين الزوجين، فقال (نَهَى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنُهُمْ) يعني من غير بينة، فقط أنه يأتي ليلاً، وهذا لا يجوز، من باب آخر كما قال أهل العلم المسافر لا يطرق أهله ليلاً حتى تكون الزوجة قد علمت بقدومه قبل ساعات، فجهزت له طعاماً، وجهزت له نفسها، وإلى غير ذلك مما يكون بين الرجل وزوجته، وهذا من أدب الإسلام الرائع، أن يخبر المسافر أهله قبل قدومه حتى تعلم بقدومه فتجهز له ما ينبغي تجهيزه.
﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ*النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ في القرآن الكريم إذا قال الله تعالى ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ فإنه يعلم نبيه فوراً:

الْحَاقَّةُ(1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
(سورة الحاقة)

الْقَارِعَةُ (1)مَا الْقَارِعَةُ (2)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
(سورة القارعة)

فيخبره، أما لما قال له: "وما يدريك" فما أخبره:

يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ ۚ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا(63)
(سورة الأحزاب)

النجم الثاقب أي نجم مضيء يطرق
وهذا من الاصطلاحات القرآنية، فدائماً وما أدراك أسلوب قرآني، أي أنت لا تعلم بنفسك ولكني سأعلمك، فهذا غيب من الله، فقال: ﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾ ما الذي يشعرك ما هو الطارق إن لم يخبرك الله تعالى به، قال ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ وقال ثقب الشيء أضاءه، ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ المضيء، وطبعاً أيضاً هذه لها تفسير علمي حديث متعلق ببعض الأصوات التي هي كالطرق تماماً على الباب، ولها أهلها الذين يتحدثون بها، ولكن بالعموم هو نجم مضيء يطرق، العلماء قديماً فهموا الطارق لأنه يظهر ليلاً كما يأتي الطارق ليلاً إلى دارك، فالطارق العرب يعرفونه أنه يطرق البيت ليلاً، وهذا النجم يختفي نهاراً ويظهر ليلاً بعرف العرب الذين ينظرون إلى السماء.

النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ(4)
(سورة الطارق)

جواب القسم ليس هناك نفس إلا عليها حافظ يحفظها.

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ(11)
(سورة الرعد)

فربنا جل جلاله جعل كل نفس عليها حافظ، والحافظ هو الله جل جلاله، ومن يوكله من الملائكة لحفظ بني آدم، أو لحفظ أعمالهم من خير ومن شر، فهم يحفظونه من أمر الله، ويحفظون عمله خيراً أو شراً فيسجلونه عليه، فالملائكة كتبة حافظون.

علاقة جواب القسم بالمقسم به:
هذا جواب القسم، ما علاقة جواب القسم بالمقسم به؟
العلاقة الأولى هي التي قلناها قبل قليل، التي حفظناها وهي: الذي خلق السماوات وخلق الطارق، وهذا النجم الثاقب هو الذي جعل على كل نفس من يحفظ عليها أعمالها.
المعنى الثاني في الربط: ربنا جل جلاله جعل النجوم حفظاً من كل شيطان مارد:

إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ (7)
(سورة الصافات)


وظائف النجوم في القرآن الكريم:
فالنجوم لتهتدوا بها، وزينة، وحفظ، هذه وظائف النجوم في كتاب الله.

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
(سورة الأنعام)

• العربي يعرف نجم الشعرى فيعرف المكان، يمين يسار...إلخ
﴿وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ﴾ يتبع الله الشياطين التي تريد أن تخترق الأرض بشهاب ثاقب من هذه النجوم.
• وزينة تنظر إلى السماء في الليل فهي مزينة بزينة الكواكب.
فكما أن النجوم حفظٌ للسماء، فإن الملائكة حفظٌ لبني آدم، النجوم حفظ للسماء، والملائكة تحفظ بني آدم، وتحفظ أعماله، هذا الربط بين القسم وجوابه.

القَسم الثاني:
والقَسم الثاني في سورة الطارق:

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ(14)
(سورة الطارق)

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ ربما تحدثنا عنها سابقاً، التفاسير القديمة الرجع هو المطر؛ لأنه يرجع من السماء إلى الأرض، المحيطات تشكل معظم الكرة الأرضية، تتبخر، ثم ينزل المطر، فهي تُرجِع الماء مطراً عذباً.
• وبعد حين قالوا ﴿ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ لأن الأمواج الهوائية تحمل الصوت، فأنتم اليوم تسمعونني لأن السماء ذات رجع، والآن يسمعني إنسان ربما في أوروبا عبر الأثير لأن السماء ذات رجع، فالهواء يحمل الصوت.
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ لأن كل شيء فيها يدور ويرجع إلى مكان انطلاقه الأول.

لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
(سورة يس)

﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ أي ذات الشق، فتُشق الأرض فتوضَع بها البذور فتنبت، وتُشَق الأرض فتحصل الزلازل، وتُشق الأرض قبلاً فتكون الأنهار والينابيع، فالأرض الصفة الجامعة المانعة لها ككرة أرضية أنها ذات صدع، الأصل فيها الصدع، الشق.
جواب القسم ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ*وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ القرآن الكريم.

العلاقة بين المقسم به والمقسم عليه:
ما العلاقة بين المقسم به والمقسم عليه؟
قالوا: "الكون قرآن صامت، والقرآن كون ناطق" إذا قرأت القرآن كأنك تقرأ عن الكون ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، أكثر من ألف آية في القرآن تتحدث عن الكون، فالقرآن كون ناطق منه الأرض ذات الصدع، الطارق، والشمس وضحاها.

أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا(45)
(سورة الفرقان)

القرآن كون ناطق
القرآن كون ناطق، الكون قرآن صامت، فإذا نظرت في الكون من غير أن يتكلم يقول لك الله موجود، الله واحد، الله كامل، فيدلك على الله، فهنا الربط بين المُقسَم به والمُقسم عليه؛ الكون والقرآن، فالذي خلق الأكوان هو الذي أنزل القرآن بالحق، فالكون يدلك على القرآن، والقرآن يدلك على الكون، علاقة متبادلة:
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ *وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ *إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ فإذا أردت أن تعلم أن القرآن قول فصل فانظر إلى السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع، وإذا نظرت إلى السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع بكل ما فيهما علمت أن القرآن هو كلام الله تعالى، فكل منهما يدل على الآخر، فهو قول فصل يفصل في كل ما نختلف فيه، وهو قول جد، وعد ووعيد، وليس بهزل، فانتبه.

القَسم في سورة الفجر:
وأما السورة الثالثة اليوم والأخيرة، هم أربعة أقسام في ثلاثة سور، الفجر قال تعالى:

وَالْفَجْرِ (1)وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2 (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
(سورة الفجر)

إلى آخر السورة، جواب القسم أين هو في هذه السورة؟ جواب القسم متأخر هنا كثيراً، وهو قوله تعالى:

إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
(سورة الفجر)

لكن جاء في قصص معترضة﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ سنعرّج عليها.
الفجر وقت مبارك
﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ الفجر: وقت الفجر، بزوغ الفجر، وهو وقت مبارك، وفيه صلاةٌ ركعتا النفل فيها خير من الدنيا وما فيها، فهو وقت مبارك، وقت ملائكي، فأقسم بهذا الوقت، وأقسمَ بهذه الظاهرة، وهي ظاهرة بزوغ الفجر بعد الليل.
﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ في أرجح الأقوال هي ليالي عشر ذي الحجة، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل هي ليالي العشر الأخير من رمضان، فهنا شرف الزمان، جزء من الزمان وهو الفجر، وما قبله الليالي العشر التي تنتهي بالفجر. ليلة القدر:

سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ(5)
(سورة القدر)

فالفجر هو نهاية الليل أو الليالي العشر ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾.
﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ الشفع هو المخلوق.

وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا(8)
(سورة النبأ)

وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(49)
(سورة الذاريات)

والشفع هو الزوج، ومنه الشفاعة، لأنني أشفع لإنسان في شيء، فأنا وهو شيئان، شافع ومشفوع، فنحن الشفع.
الوتر هو الله:

{ يا أهل القرآن، أوتروا؛ فإن الله وتر، يحب الوتر. }

(سنن النسائي)

طبعاً هما قراءتان، والوِتر، والوَتر، قراءة حفص ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ وطبعاً الشفع هو كل شيء خلقه الله تعالى من زوجين اثنين.
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ إذا أدبر، إذا سار وذهب،

وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ(33)
(سورة المدثر)

كما في آية أخرى.
﴿هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ﴾ الحِجر: هو العقل، ونُهية، النهى، العقل يمنع، يعقل صاحبه عن الحرام، الحِجر يحجره، يمنعه عن الوقوع فيما يهلكه، النهى ينهاه عن الوقوع في الحرام، فهي كلها مترادفات لشيء واحد، العقل، الحِجر، النهى، هنا جاء بالحجر،

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا (53)
(سورة الفرقان)

فأسماك كل بحر محجورة على البحر الآخر، وكأن بينهما خط وهمي، حاجز، هذا حِجر على هذا، محجور عليه، وإذا إنسان فقد التعامل السّوي مع ماله يُحجَر عليه، أي يُمنع من التصرف بماله، فـ ﴿لِّذِي حِجْر﴾ يعني لذي عقل يحجره عن المعصية، عن الحرام، ﴿هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ﴾ يعني ينبغي أن يكون في ذلك قسم لذي حجر، أصحاب الحِجر يفهمون ﴿وَالْفَجْرِ *وَلَيَالٍ عَشْرٍ*وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾.
ثم ضرب الله تعالى مثلاً:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)
(سورة الفجر)

إلى أن جاء جواب القسم ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد﴾.

العلاقة بين المقسم به والمقسم عليه:
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد من أشد أنواع التوكيد
والربط بين المقسم به والمقسم عليه، نفس الربط السابق، ربنا جل جلاله الذي خلق الفجر، والذي خلق الليالي العشر، والذي خلق من كل شيء زوجين اثنين، والذي خلق الليل الذي يدبر، ويذهب، هو بالمرصاد لكل من يطغى في البلاد، ولكل من يفسد في الأرض، يرصد أعمالهم ويحصيها عليهم ويسجلها عليهم، فكما أحصى جل جلاله الفجر والليالي العشر، والشفع والوتر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، فإنه بالمرصاد لكل من يعصيه، ولكل من يسيء لعباده، ولكل من يظلم عباده ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد﴾ وهذا من أشد أنواع التوكيد، إنّ واللام معاً، ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد﴾ المرصاد يعني لن تنجو منه، ليس هناك إفلات من العقاب، أنت مرصود، يعني مصوِّرة مراقبة 24/24 فإياك أن تسيء قاصداً عامداً، إياك أن تظلم ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد﴾ وخاصة هنا بالمرصاد لظلم العباد، لأنه ذكر ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ *وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ*وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ*الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ*فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ*فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد﴾ أي بالمرصاد لكل من كان على شاكلة عاد وثمود وفرعون.
وقوم عاد، في القرآن الكريم ما ذكر الله قوماً إلا ذكر أنه أهلك من هو أشد منهم قوة وبطشاً، إلا قوم عاد لما ذكرهم قال:

فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
(سورة فصلت)

﴿وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ فما ذكرهم فقال فلان أشد منكم قوة، قال:﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ بدليل أن عاداً في وقتها لم يكن فوقها في القوة إلا الله، بلغت منتهى القوة، ووصفهم الله تعالى بوصفين جامعين مانعين، قال: ﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ*فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ فـ ﴿طَغَوْا فِي الْبِلَادِ﴾ بنتاغون يقصف، ﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَاد﴾ هوليوود تنتج أفلاماً، يعني الركنان الرئيسيان لأي قوة بعيدة عن منهج الله تعالى في الأرض هما الطغيان في البلاد، وليس في بلدهم، قال قائلهم مرة: نحن سياستنا الخارجية كسياستنا الداخلية، وقد صدق وهو كذوب، فهم يتعاملون مع الدول الأخرى على أنها وزارة داخلية تتعامل فيها، هي تابعة لها، العالم كله، طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد بنشرهم الإباحية والخمور والمخدرات وغير ذلك، فأي طغيان يقوم يقوم على قوة عسكرية، وعلى إفساد، الإفساد لأن الشعوب عندما تفسد لا تطالب بحقوقها، يصبح همها المال والفرج فلا تطالب بحقوقها، والطغيان من أجل أي إنسان يحاول أن يرفع رأسه ﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ*فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ*فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ*إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ وعاد كانوا متفوقين عمرانياً، قال تعالى:

أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ(128)وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
(سورة الشعراء)

قوة عسكرية، وكانوا أذكياء، عندهم تخطيط،

وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ۖ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ(38)
(سورة العنكبوت)

يعني يعملون عن بصيرة، يخططون لمئة سنة، لا يخبطون خبط عشواء كما نفعل نحن، خططهم مستمرة، وقال تعالى

وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ (50)
(سورة النجم)

وكأن هناك عاداً ثانية وثالثة تحملها الأيام، وأن الله تعالى كما تكفّل بإهلاك عاد الأولى بريح صرصر عاتية، فنسأل الله أن يهلك عاداً الثانية برياح صرصر عاتية وأن يريح الناس من شرورهم.
والحمد لله رب العالمين.