من علامات السعادة ومن علامات الشقاء

  • محاضرة في الأردن
  • 2022-03-14
  • عمان
  • الأردن

من علامات السعادة ومن علامات الشقاء

السلام عليكم و رحمة الله وبركاته. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصَلِّي و أُسَلِّم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، وبعد.


علامات السعادة والشقاء ابتلاء من الله يبتلي به عباده:
من كتاب الفوائد لابن القيم الجوزية
ابن القيم الجوزية من العلماء الأجلاء له كتاب اسمه الفوائد، فوائد ابن القيم كتاب مشهور ينتقي فيه بعض الفوائد المستنبطة من الكتاب والسنة، اخترت لكم فائدة من هذه الفوائد يقول ابن القيم رحمه الله، سأقرأ النص، وبعد ذلك نتداوله بالفهم.
يقول: من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته، وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره، وكلما زيد في عمره نقص من حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس، وقضاء حوائجهم والتواضع لهم.
ومن علامات الشقاء أن العبد كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه، وكلما زيد في عمله زيد في فخره واحتقاره للناس، وحسن ظنه بنفسه، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه.
قال: وهذه الأمور ابتلاء من الله، وامتحان يبتلي بها عباده، فسعد بها أقوامٌ وشقي بها أقوام.
أي المادة واحدة، العلم موجود، العمل، العمر، القدر، المال، هذه الأمور الخمس يتحدث عنها، العلم، والعمل، والعمر، والمال، والقدر، والجاه، هذه الأمور يأخذها المحسن، ويأخذها المسيء، يبتلي الله تعالى بها عباده، يسعد شخص بالمال، ويشقى شخص بالمال، يسعد شخص بالقدر والجاه، ويشقى شخص بالقدر والجاه، يسعد شخص بعمره الذي أعطاه الله تعالى إياه، ويشقى شخص به، بالزمن نفسه، فمادة الامتحان واحدة، ولكن مواقف الناس منها إما أن تؤدي إلى سعادة، أو إلى شقاء.
لذلك نقول دائماً: كل ما وهبك الله تعالى إياه، أو كل ما صرفه عنك، هناك إنسان أعطاه الصحة، هناك من زوى عنه بعض الصحة، منع عنه بعض الصحة، هناك إنسان أعطاه المال، هناك إنسان قتر عليه بالمال، كل ما أعطاك الله تعالى، أو ما منعك منه فهو ابتلاء من الله، امتحان، ليس إيجاباً ولا سلباً، أي لا يجوز للإنسان أن يقول: هذا شيء جيد لي أنه أعطاني المال، لا، ليس جيداً، انتظر لحظة إذا أحسنت استخدامه فهو جيد، مثل إنسان سألته: السكين جيدة أم سيئة؟ إذا أجابك فوراً لا يوجد عنده علم دقيق، يجب أن يقول لك: انتظر ماذا تريد أن تفعل بها؟ السكين لا أستطيع أن أجاوبك عليها، هي شيء جيد إذا أردت تقطيع الطعام والفاكهة، أما إذا أردت قتل إنسان فهي شيء سيئ، هي نفسها لكن استخدامها يعطيك هل هي شيء جيد أم هي شيء سيئ، فهذه الأشياء التي وهبنا الله تعالى إياها، أو صرفها عنا لحكمة بالغة، هي حيادية موقوفة على طريقة استخدامها، فالذي يستخدمها في الصالحات يرقى بها، وهي نفسها يستخدمها غيره في المعاصي والآثام فيشقى بها، ما هذه الأمور؟

علامات السعادة والفرح:
1 ـ من زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته:
العلم أنواع ثلاث
قال: من علامات السعادة والفرح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته، هذه الأولى، كلما تعلم شيئاً وزاد في عمله سواء بالعلم الديني أو الدنيوي، مطلقة علم ديني، وعلم دنيوي، أو لنقل العلم أنواع ثلاث: علم بالله، وعلم بأمر الله، وعلم بخلق الله، أي علم أعطني أي علم يجب أن يندرج ضمن هذه العلوم الثلاث، إذا قلت لي: أنا أتعلم عن أسماء الله الحسنى، هذا علم بالله، إذا قلت لي: أنا أتدبر القرآن بالأسحار، هذا علم بالله، إذا قلت لي: أنا أصلي ركعتي قيام الليل، هذا علم بالله، إذا قلت لي: كل يوم ربع ساعة دعاء، هذا علم بالله، إذا قلت لي: أحضر مجلس علم بالفقه، هذا علم بأمر الله، كليات الشريعة علم بأمر الله، المعاهد الإسلامية علم بأمر الله، تعلمك يجوز لا يجوز، علم بأمر الله، إذا قلت لي: فيزياء، علم بخلقه، رياضيات علم بخلقه، صناعة الزيوت علم بخلقه، صناعة الخمور والعياذ بالله علم بخلقه، لكن منه ما هو محرم، ومنه ما هو جائز، ومنه ما هو مندوب، ومنه ما هو واجب، أحياناً العلم بخلق الله، إذا بلد لا يوجد فيه أي طبيب به، قال تعالى:

وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
[ سورة فاطر]

لأنه يتواضع، حتى العلم بخلق الله إذا كان موجهاً لفهم للكون وفق منظومة أن الله خالقه سيزيدك تواضعاً، فإذا رأيت عالماً مسلماً متفوقاً في الفلك تجد منه تواضعاً، هو عندما يرى عظمة الله في الخلق، في الكون يخر لله ساجداً، والمتواضع يرفعه الله، أما إذا تعلم العلوم، أما إذا تعلم العلوم الأرضية بنية السيطرة، غزونا الفضاء، والتعالي على عباد الله، وأنا معي أكبر شهادة، وأنا معي شهادة من جامعة كذا، هذا من علامات الشقاوة، كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه.

أسوأ شيء أن يتعلم الإنسان العلم الشرعي فيزداد كبراً:
العلم يضعك وجهاً لوجه أمام عظمة الله
الآن أسوأ شيء أن يتعلم الإنسان العلم الشرعي فيزداد كبراً، هذه أسوأ ميزة، بالعلم الدنيوي قد يفهم بعض ذلك إنسان بعيد عن الله، تعلم علماً دنيوياً، يحب السيطرة، والفخر، والخيلاء، أما أن يتعلم علم الشريعة ثم لا يتواضع لعباد الله فهذه مصيبة كبيرة جداً، معناها لم يتعلم كما ينبغي، العلم ما كان موجهاً بشكل صحيح، لا يمكن أن تجد عالماً متكبراً، العالم متواضع لأن العلم يضعك وجهاً لوجه أمام عظمة الله، فتصغر لا تكبر، العلماء يقولون: لم تبتل أقدامنا بعدُ ببحر العلم، كل ما فعلناه هو نقطة من البحر، ما فعلنا شيئاً، فالإنسان عندما يدخل في العلوم كلما تعمق بالعلم أكثر يظهر له جهله، كان الإمام الشافعي يقول: كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي.
لأن الذي لا يعلم أبداً يقول لك: الموضوع سهل، الذي قرأ قليلاً يقول لك: الموضوع صعب جداً، أنا ما عرفت منه إلا عشرة بالمئة، تعمق أكثر، أف لم أعلم منه إلا ثلاثة بالمئة، الموضوع أقوى مما كنت أتصور، فالعلم بالله مثلاً، كلما تعرف الإنسان على جانب من عظمة الله يقول لك: أين كنت؟ أنا لا أعلم شيئاً، لذلك قالوا: قمة العلم به قمة الجهل به، أو قمة الجهل به قمة العلم به، أي شخص واقف أمام المحيط الأطلسي ينظر إليه، جئت إليه وسألته: كم لتر ماء بالمحيط الأطلسي؟ قال لك: تقريباً عشرة مليار وثلاثمئة مليون وخمسمئة وثلاث عشرة لتراً فيه، جاهل ! إذا قال لك: لا أدري، عالم.
كلما كان الأمر عظيماً إذا قلت: أعلمه، فأنت جاهل به، أما إذا أظهرت تواضعك أمامه فأنت عالم به.
ربنا عز وجل خالق السماوات والأرض إذا إنسان قال: أنا عرفت الله مئة بالمئة، لا يعلم شيئاً معناها، لأنه كلما تعرف على جانب من عظمة الله، وقدرة الله، وخلق الله، يصغر ولا يكبر، فيتواضع لعباد الله، فالعلم تواضع، وإذا كان العلم أدى لكبر فهذا في الحقيقة جاهل يعلم معلومة اختصاصية، يعلم مثلاً باختصاصه بالطب، يعلم تماماً، لكن إذا كان يقول لك: أنا لا يوجد أفهم مني، جاهل، لأنه لا يعلم أن هناك من هو أفضل منه، وأقوى منه.

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)
[ سورة طه]

لأنه كلما تعلم ازداد تواضعاً فيقول: يا (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) العلم ليس له سقف.
لذلك قالوا: كلما زيد في علمه زيد في تواضعه، ورحمته، تواضعه مفهومة، ورحمته؟ العلم يرقق القلوب فيرحم من حوله.
وكلما زيد في عمله زيد في خوفه، وفي حذره، المقصود هنا بعمله؛ عمله الصالح أي هو عنده مصروف شهري للأرامل، للأيتام، يساعد الناس، يقضي حوائجهم، إلى آخره.

أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
[ سورة الزمر]

لا يتكئ على عمله، الذي يعمل لا يتكئ على عمله، فإذا اتكأ على عمله هنا المصيبة، لذلك قال الله تعالى:

وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
[ سورة المؤمنون]

قالت له السيدة عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله ! هؤلاء الذين يزنون، ويسرقون، ويشربون الخمر وهم خائفون؟! فقال لها: لا يا بنت الصديق، ذكرها بأبيها، ينبغي ألا تفهمي هذا الفهم، أنتِ ابنة الصديق، قال: لا يا بنت الصديق، هؤلاء الذين يصلون، ويصومون، ويتصدقون، ويخافون ألا يُتقبل منهم، لأن الذي يزداد عمله يزداد خوفه من القبول، يقول: لعل فيها حظ نفس، دعني أكثر من الأعمال، دعني أخفي من الصدقة، فالإنسان عندما يكثر من العمل لا يطمئن إلى عمله، بل يزداد خوفه وحذره من الله لأنه يجد أن هذا العمل مهما بلغ فهو لا يوازي نعمة الإيجاد وحدها، أو نعمة إمداد من الله، أو نعمة الهدى والرشاد، فيستصغر عمله، ويستقلُّه أمام عظمة رحمة الله، وأمام خير الله عليه، فكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره، حذره من ألا يقبل العمل، أو يشوبه رياء، وحذره في أنه قليل أمام ما ينبغي من حق العبودية لله تعالى.

2 ـ من زيد في عمره نقص من حرصه:
قال: وكلما زيد في عمره نقص من حرصه، يقول صلى الله عليه وسلم:
" يشيب ابن آدم، ما قال المؤمن، ابن آدم، وتشيب معه خصلتان الحرص والأمل "
من علامات السعادة أن يقل الحرص
أي الإنسان عندما يبلغ من الكبر عتياً كما يقال فالمفترض أن يقل حرصه، أي الإنسان ببداية حياته هو شاب صغير يحرص على جمع المال، يقول لك: أريد أن أتزوج، أؤمن أولادي، أؤمن مستقبلهم، لكن عندما يصبح بعمر متقدم، أولاده تزوجوا، وكذا، فيقل حرصه، هذا الشيء الطبيعي، من علامات السعادة أن يقل الحرص، لأنه إذا قلّ الحرص في خريف العمر، فمعناها الإنسان بدأ يستعد للقاء الله عز وجل، أي صارت الدنيا مطية بالنسبة له، ما عاد متعلقاً بها، فهذا من علامات السعادة.
فقال: وكلما زيد في عمره نقص من حرصه، طبعاً ليس المقصود، الحرص له معنى إيجابي، أن يحرص الإنسان على الطاعات، أن يحرص ألا يفوته حق عند الناس، هذا محمود، ليس والله لي حق عند الناس، ما بقي شيء من العمر، لا، إذا عنده تجارة، عنده عمل، يحرص على أن تصل الحقوق إليه، وأن يؤدي الزكاة فيه، لكن المقصود من الحرص هنا التعلق بالدنيا، أي لا ينفق في سبيل الله، لا يتصدق، يحرص أكثر، المفترض أنه يزيد في العطاء.
وكلما زيد في عمره نقص من حرصه.

3 ـ من زيد في ماله زيد في سخائه وبذله:
قال: وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله، من علامات السعادة أن الإنسان يزيد من العطاء إذا زاد العطاء عليه.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: يا بن آدم، أنفقْ أُنفِقْ عليك، وقال: يدُ الله ملآى، لا يَغيضُها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، أَرَأَيتم ما أنْفَقَ منذُ خلق السمواتِ والأرضَ؟ فإنه لم يَغض ما بيده، وكان عرْشُه على الماء، وبيده الميزانُ، يَخفِضُ ويَرفَعُ }

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ]

فإذا ربنا عز وجل فتح عليه هو يفتح على عباد الله، ويكرم عباد الله، لا يمسك عند زيادة العطاء، بل يعطي، الله تعالى في قرآنه الكريم وصف الإنسان بأنه هلوع، قال:

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19)
[ سورة المعارج]

سألوا ابن عباس رضي الله عنه قالوا له: ما معنى هلوعاً؟ الهلوع بمعناه اللغوي الشائع هو درجة أعلى من الخوف، الخوف، ثم الفزع، ثم الهلع، أي الهلع زيادة خوف، اضطراب، وقلق، فقال: لا أجد إلا ما في كتاب الله، تابعوا الآيات:

إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ
[ سورة المعارج]

الإنسان في القرآن لا يُمدح
هذا الهلوع التعريف القرآني، إذا لاح له شبح مصيبة، أو فقر، الأسعار ارتفعت وأنت تجارتك مهددة، لا تنام الليل، جزوع، لا تصبر، إذا أجريت له قسطرة قلبية كأن هناك مشكلة عندك لا ينام الليل (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً) وفي المقابل (وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) عندما يأتيه المال، أو تأتيه الدنيا، أو يأتيه الجاه بدلاً من أن ينفق يمسك، يمنع، يبخل بالعطاء، هذه طبيعة، هذه طبيعة من؟ الإنسان، الإنسان في القرآن لا يُمدح، لعلي ذكرت ذلك سابقاً، انظر في كل آيات القرآن هل تجد مدحاً للإنسان هكذا؟ (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً)

خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
[ سورة الأنبياء]

كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)
[ سورة العلق]

الإنسان غير ممدوح.

إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
[ سورة العصر]

لأن الإنسان هو مصطلح قرآني عن شخص قبل الإيمان، أي على وضعه البيئي، على وضعه مع ظروفه المحيطة به، فهو هلوع، جزوع، منوع، قتور، عجول، يطغى في الأرض، يفسد، خسران، هكذا الصفات القرآنية، لذلك أنا لا أحب كلمة أنا إنسان، أحب كلمة أنا رباني، إيماني، أنا أنتسب إلى الإيمان وليس للإنسان، لأن الإنسان من غير دين وحش، ونرى ما تفعله الإنسانية، اليوم يقول لك: حقوق الإنسان، ماذا فعلت حقوق الإنسان للعالم اليوم؟ لا شيء، إذاً الإنسان مذموم في القرآن، أو بأقل الأحوال هو حيادي، أوصافه حيادية، لكن عندما يؤمن بالله ينتقل من مرحلة الإنسان إلى مرحلة المؤمن هنا الموضوع مختلف تماماً، فقال: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ).
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر، أي أهمه أمر، ضاق عليه أمر صلى، أي فوراً بادر إلى الصلاة، وقف بين يدي الله، لأنك إذا اتصلت بالله عز وجل الله تعالى أصل الكمال، وأصل الجمال، وأصل النوال، كل جمال في الكون هو مسحة من جمال الله، كل عطاء في الكون هو شيء يسير لا يذكر مقارنة بعطاء الله، فإذا صلى الإنسان أحسن صلته بالله، فإنه ينجو من الهلع، والجزع، والمنع (إِلَّا الْمُصَلِّينَ).
وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله، لا يمنع.

4 ـ من زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم:
استخدام المكانة في قضاء حوائج الناس
كلما زيد في قدره وجاهه، أي تبوأ منصباً، أصبح كبيراً في العمر، صار الناس ينظرون إليه باحترام ومودة، يلقون عليه سلاماً خاصاً، قد يقبّلون رأسه لعمره، أو لمكانته، أي له مكانة، وكل إنسان فينا من فضل الله عليه أن له مكانة، على الأقل في أسرته، في عائلته، في عمله، في مجتمعه، الناس تنظر إليه باحترام.
قال: وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس، وقضاء حوائجهم، والتواضع لهم، المؤمن صاحب المنصب، أو صاحب الجاه، أو صاحب المكانة، لا يبتعد عن الناس فيعيش في برجه العاجي، ويترك الناس، وآلامهم، وحوائجهم، وإنما ينزل إلى الناس، من أعظم قدراً في الوجود كله من الناس؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أحد من الخلق عرج الله به إلى سمائه، ولما رجع من السماء عاد يجالس الفقراء، والمحتاجين، ويقضي حوائجهم، وتأخذ بيده الأمَة حتى يقضي لها حاجتها، جارية صغيرة تأخذ بيده حتى يقضي لها حاجتها، وجعل يجلس، وجعل يبحث عن جليبيب ليصلي عليه، وجعل يقول عن المرأة التي كانت تقم المسجد: ألا آذنتموني، حتى قام على قبرها، فوقف فصلى عليها، كل هذا الجاه والعظمة عاد ليجالس الفقراء والمساكين.
فالمؤمن كلما ارتقى جاهه، وأصبحت له مكانة يستخدمها، يستخدم هذه المكانة وهذا الجاه في قضاء حوائج الناس، في التواضع لهم، في القرب منهم، فلا يبتعد عن الناس، هذا من علامات السعادة والفلاح.

علامات الشقاء:
1 ـ من زيد في علمه زيد في كبره وتيهه:
علامات الشقاوة بالعكس تماماً لن ترهقنا في الشرح، سهلة، قال: كلما زيد في علمه زيد في كبره، وتيهه، والكبر يتناقض مع الإيمان.

{ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدْخُلُ الجنةَ مَنّ كان في قلبه مثقالُ حبَّة من كِبْر، فقال رجل: إنَّ الرجلَ يحب أن يكون ثوبُه حَسَنا، ونعلُه حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبِرْ: بطَرُ الحقِّ، وغمطُ الناس }

[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي]

لماذا الكبر بالذات؟ لأن الكبر يتنافى مع الإيمان.

{ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله جل وعلا: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في شيء منه أدخلته النار }

[أخرجه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم ]

الكبر ليس من صفات المؤمن
فالكبر ليس من صفات المؤمن، كيف مثقال ذرة من كبر؟ كان شيخنا الدكتور راتب يضرب مثلاً جميلاً: يقول عندك كيلو لبن، وجاءك ضيوف، ولا يوجد عندك ضيافة، صبه في إناء، وضع مثليه ماءً، وحركه قليلاً، وبعد أن تحركه تماماً قدمه مع ثلج، عصير عيران بارد طيب، كم تحمل اللبن من الماء؟ تحمل ضعفيه ماء، لو أنك تأخذ المازوت أو البنزين وجاءت نقطة واحدة إلى اللبن وانحلت داخله، تلقي به في القمامة، الكبر مثل نقطة البنزين لا يتحمل، الإيمان يتحمل أن الإنسان تزل قدمه، يستغفر الله، يغلط ويتوب، يتحمل، كلنا ذو خطأ، وما من مؤمن إلا وله زلة، هكذا خلق الله الإنسان، ينسى فيقع بالمعصية ليس كبراً وإنما غلبة نفس، أما الكبر تحديداً فلا يقبله الإيمان، هو كنقطة الكاز في اللبن يفسده، يفسد الإيمان، أما المعاصي، معاصي الغلبة، انظروا في بداية الخلق، هذا الامتحان العظيم الذي علمنا الله من خلاله طبيعة الحياة الدنيا ومآلاتها، إبليس عصى ربه، وآدم عصى ربه.

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
[ سورة طه]

كان في معصية من آدم، وكان في معصية من إبليس، آدم:

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
[ سورة البقرة]

لأن معصيته معصية غلبة، لم يخطط لها مسبقاً، أي هو ما كان يريد أن يعصي لكن هو زلت قدمه:

وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
[ سورة الأعراف]

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
[ سورة طه]

فعادا إلى الله فوراً، إبليس عصى ربه، قال له: اسجد، ما رضي أن يسجد، إبليس ما تاب، لأن إبليس كبراً.

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
[ سورة البقرة]

أما آدم عليه السلام فلا، فنحن دائماً نقول: يا رب نحن ما عصيناك كبراً، وإنما غلبة، فألف معصية من الغلبة أهون عند الله من معصية واحدة من الكبر، والاستعلاء، فكلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه.

2 ـ من زيد في عمله زيد في فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه:
وكلما زيد في عمله زيد في فخره، واحتقاره للناس، وحسن ظنه بنفسه، هذا العجب، معجب بعمله، أنا أنفق كذا بالشهر، أنا أطعم الأرامل، أنا أطعم الأيتام، أنا أساعد الناس، من أنت أمامي؟ يحتقر الآخرين ويغمطهم وهذا أيضاً من الكبر لكن يزيد إليه العجب، العجب يكون من الداخل من النفس، الكبر احتقار للآخرين والعياذ بالله، وكلاهما مرضان خطيران يصيبان النفس، وهما كالأمراض الخبيثة الوبيلة التي تصيب الجسم، يقضيان على النفس قضاء مبرماً، فالذي في قلبه عجب أو كبر مريض مرضاً عظيماً والله أعظم من أمراض الجسم.
وكلما زيد في عمله زيد في فخره، واحتقاره للناس، وحسن ظنه بنفسه.

3 ـ من زيد في عمره زيد في حرصه:
من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه
قال: وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، أي كلما يكبر في العمر يحرص أكثر على الدنيا ويتمسك بها، وهذه مشكلة، من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فالمؤمن إذا استقبل الآخرة أصبحت الدنيا وراءه، والحقيقة أننا منذ ولدنا استقبلنا الآخرة واستدبرنا الدنيا، وكل آتٍ قريب، لكن كلما اقترب الإنسان في العمر أكثر تصبح الدنيا وراءه، والآخرة أمامه، لكن هذا لا يعني أن الشاب يحرص على الدنيا أو له ذلك، لا، لكن هي من باب أن هذا أولى من ذاك، لكن كل الناس مذ ولدنا، قال:

{ عن مالك بن أنس رحمه الله أن لقمان قال لابنه: يا بُنَيَّ إن الناسَ قد تطاول عليهم ما يُوعَدُون، وهم إلى الآخرةِ سِرَاعا يذهَبُون، وإنَّك قد استدبرتَ الدنيا منذ كنتَ واستَقْبَلتَ الآخرةَ، وإن دارا تَسِيرُ إليها. أقربُ إليك من دار تخرج عنها }

[ زيادات رزين ]

فكن لما تستقبل أرجى منك لما تستدبر، الإنسان يرجو ما خلّفه وراءه أم يرجو ما سيأتي؟ فنحن نرجو الآخرة لأنها آتية، واستدبرنا الدنيا لأنها أصبحت وراء ظهورنا مذ خلقنا، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه، الله يعطيه وهو يبخل، قال تعالى:

هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
[ سورة الرحمن]

فإذا أحسن الله إليك أحسن لعباد الله، فالله يحب عباده، وكلما زدتهم إحساناً زادك عطاء.

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
[سورة إبراهيم]

قال: وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه، فبدلاً من أن يقضي حوائج الناس يتكبر عليهم بما أعطاه الله تعالى من جاه ومنصب إلى آخره.
هذه الأمور كما بدأنا ابتلاء من الله، وامتحان يبتلي بها عباده، فيسعد بها أقوام ويشقى بها أقوام، فالعناصر واحدة، والامتحان واحد، وموقف الناس من هذه الأمور الخمس إما أن يكون إلى سعادة، وإما أن يكون إلى شقاء، فنسأل الله تعالى أن يجعل علمنا زيادة في التواضع والرحمة، وأن يجعل عملنا زيادة في الخوف والحذر، وأن يجعل عمرنا نقصاً من الحرص، وأن يجعل أموالنا في طاعته، وفي السخاء والبذل، وأن يجعل قدرنا وجاهنا قضاء حوائج للناس جميعاً.
والحمد لله رب العالمين