ومن الناس - اللقاء الرابع

  • محاضرة في الأردن
  • 2022-06-27
  • عمان
  • الأردن

ومن الناس - اللقاء الرابع

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يارب العالمين وبعد:


مقدمة:
ما زلنا نتحدث عن الآيات التي تبدأ بقوله تعالى: (وَمِنَ ٱلنَّاسِ)، تحدثنا عن نموذج المنافقين:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ(8)
سورة البقرة

وتحدثنا عن نموذج المشركين:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ ۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ(165)
سورة البقرة

وتحدثنا عن نموذج المفسدين:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُۥ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ(204)
سورة البقرة

وتحدثنا عن نموذج المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ رَءُوفٌۢ بِٱلْعِبَادِ(208)
سورة البقرة

هذه النماذج وردت في سورة البقرة.

التعامل مع الدين على أنه صفقة تجارية:
اليوم النموذج من سورة الحج، قال تعالى:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍۢ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُۥ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِۦ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ(11) يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُۥ وَمَا لَا يَنفَعُهُۥ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلْبَعِيدُ(12) يَدْعُواْ لَمَن ضَرُّهُۥٓ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِۦ ۚ لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ(13)
سورة الحج

هذا نموذج من الناس في كتاب الله موجود في كل زمان وفي كل مكان، (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍۢ) حرف: يعني طرف، بناء عالٍ ونهايته يوجد الحجر في الطرف، فوقف عليه الإنسان، احتمال السقوط أصبح وارداً، ربما تأتي رياح قوية فتسقطه، أو ربما يزيغ بصره فيسقط، لأنه يقف على الحرف، أما لو وقف في وسط السطح فقد أصبح في الأمان، فهناك من يعبد الله على حرف، وهناك من يدخل في العمق، لذلك قال مجاهد وغيره: حرف: أي شك، أخذوا المعنى الضمني، النتيجة أنه في شك، فلذلك يقف على حرف، لا يريد أن يدخل إلى العمق، بل يقف على حرف.

{ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهما، قالَ: كانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ المَدِينَةَ، فإنْ ولَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلامًا، ونُتِجَتْ خَيْلُهُ، قالَ: هذا دِينٌ صالِحٌ، وإنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ، ولَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ، قالَ: هذا دِينُ سُوءٍ.. }

صحيح البخاري عن سعيد بن جبير

البعض يريد تحقيق الأرباح من الدين
طبعاً هذا النموذج قد يبدو مضحكاً فيقول إنسان اليوم: أيعقل أن هناك شخصاً عبادته لله مرتبطة بأن يأتيه غلام أو لا أو تنتج خيله يعني يكثر ماله أو لا؟ هل يعقل أن هناك من يفعل ذلك؟ نعم، موجود هذا نموذج قرآني موجود، معناه أن كثيراً من الناس يتعاملون مع الدين على أنه صفقة تجارية، وتأتينا الأسئلة كل يوم بهذا الشأن حتى لا تقولون من يفعل ذلك، موجود، الدين عنده صفقة تجارية، فهل تحقق له الأرباح أو لا، فإذا كانت تحقق الأرباح يستمر، إذا لا يترك صلاته، أعرف أشخاصاً يسألون بهذا المنطق، يقول لك: عشرون سنة وأنا أصلي لله وما زلت فقيراً، ما العلاقة؟ لماذا تربط صلاتك بأنك يجب أن تكون غنياً لأنك تصلي؟ أو يقول لك: فلان من الناس ما توجه إلى القبلة في حياته، وعنده من الأموال ما لا تأكلها النيران، قارون كان عنده من الأموال ما لا تأكله النيران، فإذاً المنطق والحسابات والموازنات التجارية لا ينبغي أن تدخل إلى الدين، لأنني قلت لكم سابقاً وأقولها الآن: ديننا ينطلق من مفهوم الغيب، التعامل بمفهوم الغيب، فهو عندما يأمرك أن تصلي فالصلاة أجرها عند الله يوم القيامة، نعم، نعم قد يكافئ الله بعض المحسنين في الدنيا، يقول: والله كنت باراً بوالدتي والله تعالى فتح عليّ من الخير ما فتحه، حالة موجودة بالتأكيد، وقد يعاقب الله بعض المسيئين في الدنيا، فنقول: انظر إلى خاتمة فلان كان يعادي الله ورسوله فانظر بم ختم الله تعالى له، مات أبشع ميتة، أو كان غنياً فافتقر، إن الله تعالى يظهر بعض آياته في الدنيا، هذا موجود ومُشاهَد، لكن هل الثواب والعقاب على الأعمال المتعلقة بالإيمان هو دنيوي؟ لا، قال تعالى:

كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ(185)
سورة آل عمران

وكل ما يجري في الدنيا -إن جرى- من الحساب والعقاب فهو ما يسمى: دفعة على الحساب، فيجب ألا يتعامل الإنسان مع الدين بمنطق الحسابات التجارية والصفقات لأن الدين غيب، ولأن الإيمان غيب، ولو لم يكن الإيمان غيباً لما كان هناك من فضل لمؤمن، فما معنى أن يقول إنسان: أنا مؤمن بوجود هذه الطاولة الآن هنا والجميع يراها، أنا أؤمن بشيء لا أراه، أؤمن بحساب وعقاب، لأن الله أخبرني أن هناك حساباً وعقاباً وثواباً، فالإيمان ينطلق دائماً من الغيب، قال تعالى:

ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ(3)
سورة البقرة

أول صفة من صفات المؤمنين في سورة البقرة: (ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ) فالإيمان بالغيب هو أساس الدين، فإذاً أول فكرة في هذا اللقاء الطيب: من يعبد الله على حرف يتعامل وفق المنظومة التجارية، والله تعالى لا ينبغي أن نتعامل معه على هذا الأساس، الدين عقيدة نعتنقها، لا ننتظر خيرها في الدنيا، وإنما ننتظر أجرها في الآخرة، خيرها الدنيوي أقصد، طبعاً الإنسان المؤمن سيأخذ من الخيرات في الدنيا، يكفي راحة البال يكفي سكينة النفس يكفي أنه يعرف كيف يتعامل مع أسرته، كيف يتعامل مع أهل بيته، إيجابيات لا تعد ولا تحصى لكن لا يُنتظر أن يكون العقاب والثواب في الدنيا على الأعمال، وإنما هو يوم القيامة، فهؤلاء تعاملوا بهذا المنطق.

حقيقة الفتنة:
(وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍۢ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُۥ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ) يعني سكن إليه ومال إليه، الأمور بخير، (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ) الفتنة في الأصل هي: الابتلاء بالشر أو بالخير، قال تعالى مخاطباً نبيه موسى عليه السلام:

وَفَتَنَّٰكَ فُتُونًا (40)
سورة طه

الفتنة هي الابتلاء بالشر أو بالخير
فالفتنة أن تفتن الإنسان أي أن تمتحنه، وكانت العرب تقول: فتنت الذهب أي وضعته على النار حتى أعرف جيده من رديئه، فتنة، لكن هنا في الآية جاءت في مقابل الخير، فهي تعني هنا الفتنة بالشر حصراً، لكن لو جاءت وحدها ، قال تعالى:

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
سورة الأنبياء

فقد تكون الفتنة بالخير، وقد تكون الفتنة بالشر، قد تكون الفتنة بمجيء المال أو بذهابه، بزوجة أو بعدم وجود زوجة، ببيت، أو بعدم وجود بيت (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) لكن هنا في الآية جاءت في مقابل الخير فاختصت بمعنى الضر، يعني فتنة الضُّر، أو فتنة الشر، (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ) كناية عن ارتداده عن الدين وعودته إلى المعاصي والآثام لأنه لم يحصّل من الدين ما كان يرجوه من خير الدنيا، من مالٍ أو جاهٍ أو سمعةٍ، أو أو ..إلخ.
قال: (خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلْآخِرَةَ) خسر الدنيا لأن الفتنة التي جاءته وفيها ضر أفسدت عليه دنياه فما ربح الدنيا، وخسر الآخرة لأنه عاد إلى كفره أو إلى معاصيه وآثامه، وأعرض عن الله تعالى فخسر آخرته.

الخسران المبين:
قال تعالى: (ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ) في الدنيا يوجد خسران، خسارة في الدنيا موجودة، تاجر اشترى بألف ثم كسدت البضاعة فباعها بثمانمئة، خسر مئتين، هذا خسران، لو أن طالباً درس وتعب ثم تبين بعد ذلك أنه قد درس كتاباً آخر غير المقرر، خسر، لكن لو أن تاجراً اشترى بضاعة بألف وحذّره تجار متخصصون من أن هذه البضاعة كاسدة لن تباع معك، حذّروه: إياك أن تفعل، لا تشترِ هذه البضاعة، بضاعة كاسدة، البضاعة فيها عيوب، وهو أصر واشتراها ثم بدل أن يبيعها بألف اضطُرّ أن يتبرع بها تبرعاً حتى فقط يحملونها عنه ويفرغ المستودع، هذا خسران مبين، لماذا مبين؟ أول شيء كبير جداً، خسر المبلغ كاملاً ما استرد شيئاً من رأس ماله، وثانياً لأنه حُذِّر من هذا الخسران فلم يتحذّر، حُذِّر فلم يستجب قيل له فلم يفعل فنقول له: هذا خسران مبين واضح لا يخفى على أحد، كيف خسرت؟ فهنا يعض أصابع الندم في هذه الخسارة لأنَّ خسرانه مبين، عظيم.
كل شيء في الدنيا ينتهي
فقال تعالى: (ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ) بعد أن أسلم بعد أن استقام على أمر الله جاءه شيء من عرَض الدنيا الذي يزول، مهما امتد فإنه يزول، المرض ينتهي والفقر ينتهي وكل شيء يأتي في الدنيا من المصائب ينتهي، ومهما امتد به العمر فهو سنوات وينقضي، ثم هذا الرجل بعد أن عرف الحق من أجل شيء من الدنيا خسر دنياه وأخراه، فهل هناك أبين من هذا الخسران؟ أوضح من هذا الخسران؟! قال: (ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ) إذاً هذا هو النموذج البشري الذي يعبد الله على حرف، على شك، في الدين لا يوجد شك بالإيمان، قال تعالى:

فَٱعْلَمْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَىٰكُمْ(19)
سورة محمد

ما قال فتوفع، فشكّ، معاذ الله، الموضوع ليس فيه شك، ليس في ديننا ما قاله الشاعر:
قالَ المُنَجِّمُ وَالطَبيبُ كِلاهُما لا تُحشَرُ الأَجسادُ قُلتُ إِلَيكُما إِن صَحَّ قَولُكُما فَلَستُ بِخاسِرٍ أَو صَحَّ قَولي فَالخُسارُ عَلَيكُما
{ أبو العلاء المعري }
لا، قولي هو الصحيح، ليس لأنه قولي، بل لأني أعتمد في اعتقادي على الخبر الصادق، على الكلام الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أنا أعتمد على الوحي، فهذا هو الحق، فليس في ديننا إيمان بالشك، ولا بالظن، وإنما باليقين وبالعلم القطعي، فمن يعبد الله على شك وعلى حرف يسهل أن يتنازل عن مبادئه وقيمه عند أدنى مصيبة تصيبه.

بين الحلال والحرام:
الذي يعبد الله في العمق لا يمكن أن يتنازل عن دينه، مثلاً: شاطئ نهر، والنهر يتدفق بقوة، الشاطئ له حرف زلِق ومائل، وبعد ذلك يوجد تراب جاف وقاسٍ ومستوٍ، الذي يقف على الشاطئ الزلق الحرِف المائل ممكن بأي لحظة تزلّ قدمه ويسقط، أما الذي يدخل في العمق صار في الأمان، من هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم:

{ الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا إنَّ حِمَى اللَّهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ.. }

صحيح البخاري عن النعمان بن البشير

إنسان قلنا له: الغش حرام، الصدق حلال، التجارة ببيع الأقمشة حلال، يتاجر بالخمور حرام (الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ) الله وضحهما (وبيْنَهُما مُشَبَّهَاتٌ) هناك مساحة لأمور تشبه الحلال من جهة والحرام من جهة، قال لك أحدهم: أنا أعمل في بيع مواد حلال، لكن هناك بعض الناس يستخدمونها بالحرام وأنا أجد ذلك، وكثروا صار معظم الناس يستخدمون هذه البضاعة في الحرام، هي في أصلها حلال، سأل عالماً: قال له ما دام أصل البضاعة حلالاً بِع ولا شيء عليك، ذهب إلى آخر قال له: لا.

وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَٰنِ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ(2)
سورة المائدة

لا تقترب من الحرام
أنت متعاون تبيعه البضاعة وهو يتصرف بها بالحرام فإن علمت أنه يستخدمها بحرام فلا تبعه، مشتبهات، بحاجة إلى نظر، لا يبيع خمراً ولا يبيع قماشاً (مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) الآن كيف وجّه النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: (فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ ومَن وقَعَ في الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ) هناك منطقة ممنوع أن يدخلها الراعي، ارعَ بعيداً، لا، يريد أن يرعى عند السور، فممكن بأي لحظة تتفلت منه أغنامه وتدخل إلى الحمى، (ألَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا إنَّ حِمَى اللَّهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ) ربنا عز وجل عنده حمى، فهو الملك جل جلاله، أنت اليوم في أي بلد في العالم قصر الملك يوجد مساحة حوله لا يمكن أن تفكر أن تقربها لا بسيارتك ولا راجلاً، من بعيد ترجع، ممنوع (ألَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى) ربنا ملك الملوك جل جلاله، مالك الملك، جعل لنفسه حمى، ما حماه؟ (مَحَارِمُهُ) الحرام لا تقترب منه، إن أردت أن تقترب من الملك جل جلاله بحلاله خذ راحتك، إن كنت تريد القرب منه مناجاة وحباً وقرباً توكل على الله، لكن على الحرام هذا حمى الله، فالذي يقارب الشبهات وضع رجله على الشاطئ الزلق، يمكن أن يسقط فوراً.

مفهوم الورع:
الورع هو أن تدع ما لا بأس به خشية ما به بأس
فلذلك الورع: أن تدع ما لا بأس به خشية ما به بأس، الورع مرتبة عالية لا نلزم بها كل الناس في كل حين، أحياناً يكون هناك إنسان عنده مشكلة ينبغي أن تعالجها وفق معطيات الإنسان، لكن الإنسان يأخذ نفسه دائماً قدر الإمكان بالورع فإذا وجد شيئاً سيقوده إلى الحرام أو سيوقعه في الحرام أو سيهوّن الحرام في عينيه فيجب أن يتركه، نحن اليوم مثلاً: على سبيل المثال والشيء بالشيء يُذكر، مواقع التواصل الاجتماعي التي في يدنا سهّلت بطريقة أو بأخرى واستمرأ الإنسان بعض الأشياء التي كان يعدها من المحرمات القطعية، يعني أن يمسك بيده الريموت كونترول ويوجهه إلى الشاشة ويفتح على امرأة تظهر بألبسة فاضحة، حرام أعوذ بالله لا يجوز، هذا نظرٌ محرّم، علاقتي بالله لا أريد أن أقطعها، لا يفعلها، لكن لما يتصفّح تظهر له من غير أن يطلبها، أنا لا أقول لا تتصفح، لكن الإنسان ينبغي أن يوطن نفسه دائماً على الأخذ بالأحوط لنفسه، كانوا يقولون: فلان حنبلي، ماسكها حنبلية (قول عوام) لماذا؟ الناس يفهمون لأن مذهب الإمام أحمد بن حنبل هو أقوى المذاهب، صعب، لا، مذهب الإمام أحمد بن حنبل يعتمد على الأثر والحديث فليس فيه محرمات إضافية عن المذاهب الأخرى أبداً، لكن الإمام أحمد بن حنبل كان دائماً يأخذ نفسه بالعزائم، مع أنه قد يفتي للآخرين بالرخص، يأتيه رجل يجد من حاله أن يُرخّص له في مسألة، والله أنا متعب جداً لا أستطيع الذهاب لصلاة الجماعة فيرخّص له بشيء معين، لكن لا يرخص لنفسه يأخذ نفسه بالعزيمة، اليوم هناك حالة عكسية للأسف أحياناً عند البعض يأخذ نفسه بالرخص ويفتي للناس بالعزائم، ومع نفسه يقول: بسيطة، إن جاء غيره يقول له: حرام لا يجوز، لذلك يقولون: ماسكها حنبلية، لأن الإمام أحمد بن حنبل كان معروفاً بأخذه بالعزائم، في مسألة خلق القرآن الإمام أحمد سُجِن وعُذِّب وكان بإمكانه أن يأخذ بالرخصة ولكنه قال انا إمام في الدين فإذا أخذت أنا بالرخص ماذا يفعل الناس، الناس لن يأخذوا بالرخص بل سيأخذون بالمحرمات، فوقف موقفاً شجاعاً ثبّت به دين الله إلى يوم القيامة ولقي الله به.

الضلال المبين والضلال البعيد:
(وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍۢ) بمعنى أن الإنسان حتى في موضوع الشبهات يحاول جهده أن يبتعد عن الشبهات قدر الإمكان، نعم، لأن عصرنا فيه شبهات كثيرة، فيه مشتبهات كثيرة، اليوم يدخل الإنسان إلى السوق بغير فقه فيأكل الربا شاء أم أبى، فالإنسان يحاول جهده أن يلقى الله وقد استبرأ لدينه وعرضه.
أي نفع في أن يعبد الإنسان غير الله؟
تتمة الآيات قال: (يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُۥ وَمَا لَا يَنفَعُهُۥ) الأصنام: الصنم الذي عاد إلى عبادته هذا الذي عبد الله على حرف إلى أين رجع؟ رجع إلى عبادة صنمه، هو ترك دين الله من أجل ضرٍّ أصابه فهذا الذي تعبده لا يملك لك أصلاً ضراً ولا نفعاً، وقيل: (يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ) إن ترك عبادته (وَمَا لَا يَنفَعُهُ) إن عبده، فأي نفع في أن يعبد الإنسان غير الله، وأي ضر يلحقه إن ترك عبادة اللات والعزى، قال: (ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلْبَعِيدُ) هناك (ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ) وهناك في القرآن ضلال مبين أيضاً في آيات أخرى:

إِنِّىٓ إِذًا لَّفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ(24)
سورة يس

ما فرق البعيد والمبين؟
الضلال المبين: خرجت في سيارتك من عمان إلى العقبة، على الطريق إلى العقبة، إدارة المرور كانت حكيمة جداً، فوضعت لك اللافتات من عمان إلى العقبة توضح لك طريق العقبة تماماً، بعد ثلاثمئة متر يمين لوحة أخرى لوحة مضاءة في الليل، ورغم كل هذه اللافتات التوضيحية أخذت طريقاً آخر فوجدت نفسك في مكان آخر، ضلال مبين.
الضلال البعيد: دخل في الطريق الخطأ واكتشف أنه في الطريق الخطأ بعد ثلاث ساعات، هذا ضلال بعيد.
هنا قال تعالى: (يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ) تحدثنا عن (من دون الله) كل ما يدعوه الإنسان فهو من دون الله (مَا لَا يَضُرُّهُۥ وَمَا لَا يَنفَعُهُۥ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلْبَعِيدُ) أخذ في الضلال بالعمق، دخل في عمق الضلال.

النفع مقابل الإثم:
الآية الثالثة: (يَدْعُواْ لَمَن ضَرُّهُۥٓ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِۦ ۚ لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ) البعض يقولون كيف قال ربنا عز وجل بالآية: (يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُۥ وَمَا لَا يَنفَعُهُ) هنا قال: (يَدْعُواْ لَمَن ضَرُّهُۥٓ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ) إذاً هناك ضرر وهناك نفع ولكن الضرر أكثر من النفع (يَدْعُواْ لَمَن ضَرُّهُۥٓ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ) أي أدنى إليك من نفعه، لأنه كما تعلمون أقرب على وزن أفعل، وأفعل نسميه باللغة العربية اسم التفضيل، واسم التفضيل يدل على أن شيئين اشتركا في حكم ما وتفوّق أحدهما على الآخر فيه، فنقول: فلان أشجع من فلان، فهما كلاهما عنده شيء من الشجاعة، لكن تفوق أحدهما على الآخر فنقول أشجع من فلان، فهنا (يَدْعُواْ لَمَن ضَرُّهُۥٓ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِۦ) إذاً هذا الذي يدعوه عنده نفع وعنده ضر ولكن الضر أقرب من النفع، كقوله تعالى:

يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلْءَايَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219)
سورة البقرة

القرآن يعلمنا الموضوعية
يعلمنا القرآن الموضوعية، قلت له: إن هذا الأمر كله إثم، لا، فيه نفع لكن ما قيمة النفع مقابل الإثم؟ لأن العرب بالنسبة لهم يوجد منافع تجارية من الخمر، وقد يقول لك أحدهم نفع وهمي ممكن أن أرتاح قليلاً مع الخمر، نفع وهمي لكن يظنه نفعاً، لكن المنافع التجارية موجودة كانوا يعتمدون في تجارتهم على بيع الخمور، لكن الله عز وجل يقول: (وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) فهنا: (يَدْعُواْ لَمَن ضَرُّهُۥٓ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِۦ ۚ لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ) كيف؟ هذه الآية الثانية ليست على اللات والعزى، الأولى على اللات والعزى.

وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلْأُخْرَىٰٓ(20)
سورة النجم

تلك لا تضره ولا تنفعه، حجرٌ، صنم، جالس أمامه، طبعاً لا تضره ولا تنفعه في الدنيا هذا الكلام، في الآخرة سوف تضره عبادتها، ولكن هو كصنم لا يقدم له، لا يستطيع أن يُمرضه ولا أن يشفيه، الآية الثانية ليست تكراراً للأولى، الثانية (يَدْعُواْ لَمَن) من للعاقل، هذه طواغيت البشر وليست للأصنام، هذه للأصنام البشرية وليست للأصنام الحجرية، عندما يعبد الإنسان شخصاً من دون الله كما كان يُعبد فرعون من دون الله:

فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُۥ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ(54)
سورة الزخرف

عندما يُمدح سلطان لسلطانه على كفره، أو تطيع إنساناً على ماله لماله، هذا هنا (يَدْعُواْ لَمَن ضَرُّهُۥٓ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِۦ) الآية الثانية لطواغيت البشر وليست لطواغيت الحجر، فليس بين الآيتين تناقض حاشا كلام الله تعالى:

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَٰفًا كَثِيرًا(82)
سورة النساء


النفع والضر بين الدنيا والآخرة:
(يَدْعُواْ لَمَن) من البشر (ضَرُّهُۥٓ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ) هذا الطاغية له نفع، إذا كان هذا القوي قد أحببته وتقربت منه قد يعطيك منصباً في الدنيا لا تحلم به بخبراتك وشهاداتك وقد يهبك مالاً، وقد يعطيك بيتاً وسيارة ومزرعة يوجد نفع لكن (ضَرُّهُۥٓ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ) إليك لأن كل ما أعطاك سيزول وسيبقى الضرر إلى يوم القيامة، ثم الحساب والعذاب والعياذ بالله، فأيهما أدنى إليك وأقرب إليك؟ نفعه أم ضره؟ قد يقول قائل: والله النفع لأن النفع آخذه، بينما الضر ما زال مجيئه بعيداً، لا، الضر أقرب من النفع، لأنه أعظم بكثير من النفع ولأنه سينسيك كل المنافع لأن المؤمن إذا رأى نعيم الآخرة وقد ذاق في الدنيا ما ذاقه يقول: لم أرَ شراً قط، والكافر إذا غُمس غمسة في النار وكان قد عاش في كل نعيم الدنيا يقول: لم أرَ خيراً قط، (يَدْعُواْ لَمَن ضَرُّهُۥٓ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِۦ ۚ لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ) بئس أي ساء، نِعم: فعل مدح، فعل جامد لإنشاء المدح: نِعمَ، نِعْمَ الرجل عمر، بِئسَ الرجل سيّئ الأخلاق، فبئس للذم ونعم للمدح (لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ) ما الفرق بين المولى و العشير؟
المولى: تصاحبه وتواليه من أجل أن يكشف عنك الضر أو يلحق بك خيراً، فتواليه، مصلحتك معه.
العشير: قد يكون ضعيفاً مثلك، لكن تعاشره من أجل السهرة مساء، يؤنسك، أعنده فرج لهمك؟ لا، أعنده مال يعطيك؟ لا، لكن يجلس معك ويؤنسك فهو عشير، فالعشير للأُنْس، والمولى للنصرة والمساعدة، فقال: (لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ) لا هو نافع لدفع ضر، أو جلب خير، ولا هو نافع لمؤانسة.
والحمد لله رب العالمين