ومن الناس - اللقاء الخامس - نموذج المجادل بغير علم

  • محاضرة في الأردن
  • 2022-07-18
  • عمان
  • الأردن

ومن الناس - اللقاء الخامس - نموذج المجادل بغير علم


مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ما زلنا في اللقاءات التي تتحدث عن نماذج بشرية، ومن الناس، تحدثنا عن عدة نماذج، تحدثنا عن نموذج المنافقين:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ(8)
(سورة البقرة)

وتحدثنا عن نموذج المشركين:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ ۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ(165)
(سورة البقرة)

وتحدثنا عن نموذج المفسدين:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُۥ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ(204)
(سورة البقرة)

وتحدثنا عن نموذج المؤمنين المخلِصين المخلَصين:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ رَءُوفٌۢ بِٱلْعِبَادِ(208)
(سورة البقرة)

وهذه النماذج الأربعة في سورة البقرة، ثم في سورة الحج تحدثنا عن نموذج:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍۢ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُۥ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِۦ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ(11)
(سورة الحج)

هؤلاء المشككون الذين يعبدون الله على حرف، (فَإِنْ أَصَابَهُۥ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِۦ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِۦ) هذا لم يتمكن الإيمان من قلبه، يربط الإيمان بالموجودات والمحسوسات، فإن جاءه خير اطمأنّ به واستمر على دينه (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلْآخِرَةَ) يترك دينه عند مرض يصيبه، أو فقر يصيبه، أو وفاة حبيب أو قريب أو صديق، لم يبنِ إيمانه على ثوابت.

مفهوم الجدال:
اليوم النموذج أيضاً في سورة الحج، قال تعالى:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ(8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ(9) ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (10)
(سورة الحج)

أصل الجدال من شدّة الحبل
هذا نموذج، ما مواصفاته؟ أولاً: هذا النموذج هو نموذج المجادل بغير علم، أصل الجدال من شدّة الحبل، يفتل الحبل، يجدله، يشده، ليقويه، لماذا يجُدل الشيء عادة؟ للتقوية، فأصل الجدال أن كل واحد من الطرفين يحاول أن يقوي حجته بإبراز ما عنده من أدلة، فكأنه يجدل ليقوي حجته، فلو تجادل شخصان في قضية ما سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية فكل طرف يحاول أن يقوي حجته ولكأنه يجدل حجته جدْلاً لتقوى حجته.
وهناك ما يشبه الجدال في اللغة العربية، وهو المِراء، المراء: من مريت الدابة إذا حلبتها حتى آخر قطرة، فأيضاً في المراء يحاول كل مُمارٍ أن يستخرج كل ما عنده، وكأن المراء أكثر من الجدال قوةً، وحدَّةً بين الناس، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم:

{ أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المِراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه. }

(سنن أبي داوود عن أبي أمامة)

زعيم: أي كفيل، في ربض الجنة: أي في أدنى الجنة، الرواية: وإن ترك المراء وإن كان محقاً، يعني اشتد الجدال حتى أصبح مراء وكل واحد يحاول أن يأتي بالحجة ليدحض الآخر فأحد الطرفين وجد أن الموضوع قد استحال من أفكارٍ تُناقش إلى عداوة شخصية فقال: انتهى الموضوع، لن أتكلم بعد في هذا الموضوع وهو يعلم أنه محق في المسألة ولكن ترك النقاش، وهذا لا يكون في شأن العقائد، فالإنسان في مسألة عقدية قد يجادل لآخر لحظة من أجل أن يثبت الحق للناس، لكن أحياناً يكون الجدال في أشياء لا تقدم ولا تؤخر، سواء اقتنعنا أن هذه البلد هوجمت بالحرب من قبل فلان أو من قبل فلان فقد هوجمت وانتهى الأمر، فأحياناً يمضي الطرفان سهرة كاملة في نقاش سياسي، فمن يترك المراء وهو يظن نفسه محقاً فيه تكفل له النبي صلى الله عليه وسلم ببيت في ربض الجنة.
وهناك الحوار، الحوار أهدأ:

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
(سورة المجادلة)

المجادلة كانت تجادل لأنها تريد حجة
المجادلة كانت تجادل لأنها تريد حجة، قال تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) ليس حواراً، تجادل، قالت: يا رسول الله، تزوجني وأنا شابة، فلما كبرت سني، ونثرت له بطني –خولة بنت ثعلبة- قال: أنت علي كظهر أمي، ولي منه أولاد، إن ضممتهم إلي جاعوا، هو يطعمهم، وإن تركتهم إليه ضاعوا، أنا أربيهم، تحدثت عن التكامل بين الذكر والأنثى، والرجل والمرأة، فيقول لها صلى الله عليه وسلم: والله ما أجد إلا أنك قد طلقت منه، لا يوجد حكم، حكم الظهار كالطلاق، لم يأتِ حكم متعلق بالظهار، وهي تجادل أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجادل وتجادل، وتدافع عن بيتها وعن زوجها وعن أسرتها حتى نزل قوله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ) ليشير إلى أن الحوار الهادئ الهادف ينتج في المحصلة خيراً أكثر من الجدال أو من المراء.
هي تجادل، لكن لما قال تعالى: (وَاللَّهُ يَسْمَعُ) قال (تَحَاوُرَكُمَا ۚ) يعني الطرف الآخر، هي تجادل عن حقها، لكن الله تعالى: (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ) إشارة لطيفة، هذه خولة بيت ثعلبة كما في أرجح الروايات بعد سنوات سيدنا عمر بن الخطاب تأتيه خولة وتقف معه وتطيل الوقوف معه، حتى يقول له مرافقه: يا أمير المؤمنين، قد أطالت الوقوف كفى، قال له: ألا تعلم من هذه؟ قال: من؟ قال: هذه خولة التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، فحُقّ لعمر أن يقف ويستمع إليها، وتقول عائشة رضي الله عنها: والله وأنا في ناحية البيت ما أكاد أسمع ما تقول، بيت النبي صلى الله عليه وسلم صغير، وهي تتكلم بصوت خفيض رغم أنه جدال ما علا صوتها، أدباً وحياء كي لا تفضح أسرار البيت، تقول عائشة: وأنا في ناحية البيت ما أكاد أسمع ما تقول، تقول عائشة: سبحان من وسع سمعه الأصوات، سمع قولها من فوق سبع سماوات وأنا في ناحية البيت لا أكاد أسمع ما تقول وهي تجادل.

{ الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله عز وجل ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) إلى آخر الآية . }

(صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها)

هذا الجدال بشكل عام.

متطلبات الجدال:
العقل هو الاستدلال
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) سأعود إلى قوله تعالى: (يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) ما معنى في الله، ولكن قال: (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) ما معنى ذلك؟ الذي يجادل ينبغي أن يملك إما معلومات بَدَهية، هذا العلم البدهي، أب جالس أمامه ابنه عمره ثلاث سنوات، وملتصق به، يأتي ابنك الثاني عمره سنتان، يزيح أخاه ليجلس مكانه، لأنه أدرك بالعلم البدهي أن الحيز لا يتسع لشخصين في آن معاً، إما أنا أو أخي، فيزيحه ليحظى بقرب والده، هذا إدراك، هذا علم بدهي، هناك أشياء بدهية، يعني الشيء أن يوجد من غير موجد مستحيل، علم بدَهي، هناك أشياء أصبحت بدهية، المعادن تتمدد بالحرارة بديهية صارت، يعلمها كل الناس مثلاً، لا يمكن أن يكون الإنسان موجوداً وغير موجود في الوقت نفسه، تناقض لا يقبله العقل، العقل لا يقبل التناقض، فهناك أشياء بَدَهية، هذا يحتاج إلى العلم، هذا أولاً.
(وَلَا هُدًى): الهدى غالباً استدلالي، يعني شيء موجود يدلك على شيء لا تراه فتؤمن بوجوده، الهدى لأن الهداية في الأصل من الدلالة، فالهدى هنا على قول كثير من أهل العلم تدل على المعنى الاستدلالي، يعني شيء غير مرئي لكنه موجود يدلك عليه موجود آخر.
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
(وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) الكتاب نص، خبر يأتيك لا تحتاج إلى استدلال ولا إلى علم بدهي، لكن يأتيك الخبر واضحاً بالكتاب المنير البين الواضح الذي تؤمن به، يقول لك تعالى: هناك ملائكة، لا يوجد شيء يدلني عليهم، وليس من البدهيات أن يكون هناك ملائكة، ليس علماً بدهياً، لكنه خبر كتاب منير.

الاتفاق على المرجعية:
إذاً عندما أدخل بأي جدال مع شخص ينبغي أن أملك هذه الأدوات، أو على الأقل أحدها، أما أن يُدخل في جدال والشخص لا يعلم ولا يُحسِن الاستدلال، ولا يؤمن بالغيب، فكيف تجادل!؟
العقل لا يقبل التناقض
إذاَ: جدال عقيم، يعني لن يُنتج في النهاية قبولاً ولا فكرة صحيحة، لذلك كأن الله تعالى في هذه الآية يبين أن الجدال ينبغي أن نتفق قبله على مرجعية نرجع إليها أنا وأنت، قبل أن نبدأ، إذا جلست تجادل أي إنسان بأي مسألة، قل له: ما المرجعية؟ إذا قلت لك: قال الله تسكت أم تريد أن تتابع؟ إن أردت المتابعة لن أستطيع إتمام الجدال معك، بالنسبة لي إذا قال الله أصمت، أنت إذا قال الله تستمر في الجدال، إذاً لن نصل إلى شيء، بل أصبح مراء وجدالاً عقيماً، لذلك ينبغي دائماً في أي جدال الاتفاق على المرجعية، إن أحببت أن نتكلم بالأعراف، ونجادل على أساس الأعراف، وأهلنا ربونا هكذا حسناً، تحب أن تجادل بالقوانين؟ دعنا نحضر الدستور ونتجادل، تحب أن تجادل بالدين لنحضر كتاب الله وسنة رسوله، تحب أن تجادل بالمنطق والعقل، المنطق والعقل عمليات لها مرجعية، لا يوجد منطق وعقل مجرد، لا يوجد إنسان عنده عقل مجرد من أي شيء، منطق وعقل يعني إما أن هذا المنطق والعقل يعتمد على العرف، أو يعتمد على القانون، أو يعتمد على الهوى، هناك شيء قبله، لا يوجد إنسان يأتي بمعلومة من عنده، تقول له: من أين جئت بها؟ يقول: أنا اكتشفتها، لا يوجد، لذلك الجدال بالمنطق والعقل حقيقة غير موجود، لكن الجدال بالكتاب المنير مع استخدام العقل، العقل هو الاستدلال، أنه يستدل، هذا هو العقل، لكن ليس هو الشيء المجرد أستطيع أن أجعله مرجعية بيني وبينك، لأن ما يقوله عقلي غير ما يقوله عقلك، فإذا دخلنا بجدال في العقل عن الاختلاط غير المنضبط بالشريعة أبداً، أن تجلس زوجة كل شخص كما تحب ومع من تحب، الاختلاط، وجلسنا بالعقل، قد يقول العقل: الاختلاط مسألة جيدة جداً، هو ليس مسألة جيدة جداً، ولكن بالهوى يحب الجلسات المختلطة، هوى نفسه تحب الجلسات المختلطة، أنت تقول له أنا بالعقل لا، معناها أنت تقول له: ليس بالعقل بشرع الله أو ربينا هكذا أو القانون يمنع الاختلاط، كما تريد ولكن هناك مرجعية، العقل وحده ليس مرجعية، هو عملية تعتمد على مرجعية.

مستويات الجدال:
فلذلك: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) ما معنى (يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) ؟ في الله: لنبدأ بالمستويات، كيف تجادل الناس:
أولاً: في وجود الله، يعني يجادل في وجود الله، الملحد مثل، يجادل في وجود الله، هذا حتماً (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) لأنه عن طريق العلم يوجد بدهيات، يعني إذا نظرت إلى ابنك بدهياً أن هناك رباً موجوداً خلقه، على الاستدلال، وهو قريب من البدهيات، تنظر إلى الموجود فتقول: لا بد له من موجد، وفق الخبر الكتاب المنير كل ما في القرآن وفي السنة يدلك على هذا الإله، وعلى صفاته، وعلى عدله، ورحمته وحكمته، فيجادل في الله: بمعنى في وجود الله، وهذا جدال الملحدين.
ثانياً: وهناك من يجادل في الله في وحدانيته، هذا جدال المشركين، لماذا آلهتنا لا تكون مع الله؟

أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
(سورة الزمر)

هذا عقل، لكنه هوى، آلهتهم تجلب المال، أما إذا إله غيبي يجب أن تهدم الأصنام، لا توجد أرباح، فهو يقول لك: أنا بالعقل ما في مانع آلهتي توصلني إلى الله ولكنه في الحقيقة هوى:

فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
(سورة القصص)

هوى النفس، فالمشركون أيضاً يجادلون في وحدانية الله، انظر العبارة القرآنية (يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) شملت كل الأمور، أولاً: في وجوده، ثانياً: في وحدانيته،
ثالثاً: في الأخبار الواردة عن الله عز وجل، يعني الساعة:

وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ(32)
(سورة الجاثية)

يجادل في الساعة، يعني هل يعقل أنه يوجد يوم قيامة؟ ما أظن.

وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
(سورة الجاثية)

إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(37)
(سورة المؤمنون)

يجادل في خبر صحيح ورد عن الله، كتاب منير من الله أن هناك يوماً ستُسوّى فيه الحسابات، يجادل.
هناك من يجادل في دين الله، في المنهج، يقول لك مثلاً: القرآن ليس صالحاً لكل زمان ومكان، الزمن تغير، وكأن الله تعالى يوم أنزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم -حاشاه جل جلاله أستغفر الله- لم يكن يعلم أن الزمان سيتغير، فأنزل منهجاً يختص بزمان دون زمان، تغير الزمن، اليوم هذا الحكم من غير الممكن تطبيقه، تقول: لا يوجد ربا، هذا لا يمكن، اليوم من الصعب جداً إقامة الحدود، ربما لأنه لا يوجد منهج إسلامي، لكن هي قابلة للتطبيق، وهي العدل والحق من الله تعالى، فيجادل في الله إما بوجوده، أو بوحدانيته، أو بالخبر الذي أتانا عن الله، أو بمنهج الله تعالى، افعل ولا تفعل، يقول لك: هذا يصلح ولا يصلح، أنفذ ولا أنفذ وإلخ.

الهوى والعقل والأعراف والقوانين ليست علماً:
الواقع ليس علماً
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) أريد أن أعود وأعلق على (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أحياناً الناس يجادلون بالواقع، الواقع ليس علماً دائماً، يعني مثلاً: يقول لك: اليوم الحياة تسير بهذا الوضع الاختلاط الموجود في المدارس وكذا، مثلاً يعني يستدل على صحة كلامه وجداله بالواقع الموجود، ومن قال لك: إن الواقع صحيح بكل مافيه؟ هناك واقع مزور، هناك واقع يوهمك بشيء، وهو اختلاف حقائق، يعني يقول لك: البنوك ماذا تفعل البنوك الربوية، يقول لك أنا ممنون وهم ممنونون، أضع الأموال ويعطوني عليهم فائدة وأنا جالس في بيتي وهم مسرورون وأنا مسرور، ولم تحدث معنا أي مشكلة من المشاكل التي تتكلمون عنها، أنهم مزعوجون وتأخر الوقت وزادوا علي، لا توجد مشكلة، يجادل في الواقع، الواقع ليس علماً، هذا الجدال بغير علم، لأن الواقع مزور، هو يظهر بأحسن أحواله، ولكن إن يدخل بالعمق الربا فتت أمماً، الربا عمل أزمات مالية عالمية، الربا يعني ألحق الضرر بالكثير من الناس، فالواقع ليس دائماً صحيحاً، ما تراه بعينك ليس علماً دائماً.
الهوى ليس علماً، هوى النفس هذا بغير علم، الذي يجادل بأهواء نفسه ليس علماً، يعني أنت كثيراً ما تحدث معي، أجلس مع إنسان أجادله في شيء، يتمسك بكلامه كثيراً، لما أخرج يقول لي أحدهم: هذا عمله متصل بهذا الذي تناقشه به، أرباحه كلها بهذا المجال، إذاً هوى نفس، لو لم يكن يسترزق من هذا لما ناقش بالموضوع، لكن لأن رزقه متعلق بقضية ربوية فهو يجادل عن هوى نفسه وليس عن علم.
العقل التبريري يرجع إلى الهوى
العقل التبريري ليس علماً، عملية العقل التي تكلمنا عنها سابقاً أحياناً يبرر لصاحبه، يعطيه المبررات لأفعاله، فهو يسميه عقلاً، هو في الحقيقة يرجع إلى الهوى، العقل التبريري يرجع إلى الهوى، لذلك دائماً العلماء الذين يتكلمون عن العقل يتكلمون عن العقل الصريح، فهو يبرر لنفسه، هو يريد أن يأخذ الرشوة، موقعه مبني على الرشوة، فهو يقول لك: هذه ليست رشوة، هذه هدية، والرجل كنت سأمضي له المعاملة سواء أعطاني أم لم يعطني، لكن هو من تلقاء نفسه، تقول له: هذه غيبة، يقول لك: لا، أنا إذا رأيته أتكلم أمامه، أنت ظننت لا أتكلم أمامه! بوجهه أقول له، وهو إذا واجهه لن يقولها، فهو يبرر، فعندما يبدأ العقل بالتبرير فهو الهوى، فالعقل التبريري ليس علماً.
أيضاً الأعراف ليست علماً، أحياناً الإنسان يظن عرفه وتقاليده علماً، يقول لك: أنت الآن تريد أن تأتي لتغير نمط العائلة كلها، وتقول لنا: هذا حلال وهذا حرام، نحن تربينا على هذا طيلة حياتنا، ولكن هذا الذي تربينا عليه غلط، هذا قول المشركين:

بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22)
سورة الزخرف

لا نغير نحن، الناس تتشبث دائماً بتقاليدها وأعرافها، لكن ليس دائماً كل عرف صحيح، لذلك الفقهاء يقولون: العادة محكّمة إذا لم تخالف نصاً شرعياً، نأخذ بعرف البلد، تعارف أهل بلد ما على أن الزواج يتم بجاهة، يأتي أهل الخاطب، الجاهة جميلة، هل تخالف نصاً شرعياً؟ لا، على بركة الله، تعارفوا أن يقسموا المهر إلى قسمين: معجل مقبوض ومؤخر غير مقبوض إلا عند الوفاة أو الطلاق، يعارض نصاً شرعياً؟ لا، المهر قسمناه إلى قسمين: قسم يُقبض وقسم يؤجل، فيه تخفيف على الناس وعلى الشباب، على بركة الله، لكن تعارف الناس أن يقيموا الحفلات الماجنة المختلطة، كلها هكذا البلد، هذا عرف فاسد، فالأعراف ليست علماً إلا إذا وافقت نصاً شرعياً فيستأنس بها مع النص الشرعي، تعضد النص الشرعي.
القوانين ليست دائماً علماً، إذا قال لك: نحن في بلد فيها قوانين، حسناً القانون حكم للمرأة إذا طُلّقت في أمريكا أن تأخذ نصف أملاك زوجها، هل نحتكم إلى القوانين؟ لا، بل نحتكم إلى شرع الله، القوانين ليست علماً، يقول لك أنا أجادل بعلم هذا القانون الأمريكي، لا، القانون إذا كان لتنظيم حياة الناس، ولا يخالف نصاً شرعياً يدخل ضمن طاعة أولي الأمر، قانون السير لا يخالف نصاً شرعياً، تنظيم حياة الناس، فإذا ناقشك أحدهم بقانون السير وقال لك لا يجوز أن تقطع الإشارة الحمراء تتسبب في أذية إنسان، وتعرّض نفسك للمساءلة وربما للسجن وتدفع غرامة، و، و، إلخ، جميل قانون السير، أما إذا ناقش بقانون يخالف النصوص الشرعية وقال لك أنا أناقش بعلم، لا هذا ليس علماً لأنه ليس معك فيه كتاب منير، (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ).
قال تعالى: (ثَانِيَ عِطْفِهِ) ما معنى ثاني عطفه؟ ثاني: من الثني، وهو اللوي، الاستدارة، ثنى الورقة: هكذا، ثنيتها، العِطف: هو الجانب، (ثَانِيَ عِطْفِهِ) يعطيك جانبه، هذا الإنسان عندما يفلس ولا تبقى له حجة، يتحرك حركات مضحكة، ناقشه بشيء ثم لا تصل معه إلى نتيجة، يقول لك مثلاً: أخي أنا هكذا، الذي تريده افعله ويدير وجهه (ثَانِيَ عِطْفِهِ) أو يستهزئ أو يبتسم، اعرف أنه قد حوصر وأفلس، ليس لديه حجة، فانظر إلى التعبير القرآني (ثَانِيَ عِطْفِهِ).

هدف المجادل:
(لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) يجادل بغير علم ليضل عن سبيل الله، سواء كان هدفه كذلك أو لم يكن النتيجة (لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) أحياناً لا يكون هدفه كذلك، مثل قوله تعالى:

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ(8)
(سورة القصص)

أخطر شيء الجدال في الله بغير علم
هل عندما التقط آل فرعون موسى التقطوه من أجل أن يعاديهم لا، لكن هكذا كانت النتيجة، هذه يسمونها لام العاقبة، ليست لام التعليل، وهنا قد يكون هدفه (لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) وقد لا يملك هذا التصور، ولكن في الحقيقة فعله يضل الناس عن سبيل الله، لأن هناك أناساً عندهم ضعف بالإيمان فتأخذهم أي شبهة، يقول لك: والله على الفيس بوك تكلم فلان، عندما تبين له يقول لك: صحيح مباشرة، ولكن كم من إنسان أضل هذا الذي خرج على الإعلام و(يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) وإنما بهوى نفسه وجعل يلوي النصوص كما يلوي عنقه ليضل عن سبيل الله، ويتأولها تأويلات باطلة بعيدة عن اللغة وفهم السلف الصالح، من أجل أن يحرف الناس عن منهج الله تعالى ويحلّ لهم الحرام، وهذا أخطر شيء الجدال في الله بغير علم، انظر قد يعصي الإنسان ربه، وكلنا عصاة ونسأل الله السلامة، لكننا لا نستحل المعاصي، أنا أقول لك: والله هذا الأمر حرام، لكنني فعلته وأرجو الله أن يغفر لي، لا يوجد مشكلة، واستغفر الله وكلنا ذو خطأ، ولكن أسوأ شيء أن أفعل الحرام وأريد أن أبرره وأن أشرعنه للناس، وأنا أقول لهم هذا هو الحق، هنا المصيبة، هذا من (يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الحكم الشرعي حرام وأنا اضطررت وفعلته فأسأل الله أن يعفو عني، أما الحكم الشرعي حلال لأنني أريد أن أفعله وقد غطيت نفسي، هنا المصيبة.
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قال: (لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) فيضل الناس عن سبيل الله، هناك ضعاف إيمانٍ، هناك أناس لا يملكون ثقافة إسلامية، ما تربوا في حاضنةإيمانية، فيسمعون الجدال بغير علم، ويوافق هوى أنفسهم، فيحيدون عن منهج الله تعالى.
منذ أيام وما زال، من أشهر وما زال أحد الناشطين على الفيس بوك يكتب بأن العذاب والنار مَجازٌ في القرآن، وليس هناك عذاب ونار، هذا يجادل في الله بغير علم، والناس جزء منهم من غير المتربين في الحاضنة الإيمانية وفي بيوت إيمانية يجدون في هذا الأمر شيئاً جيداً جداً، مادام لا يوجد نار غداً صباحاً يذهب إلى الزنا، لا تقصر إذاً، افعل ما يحلو لك، لأن العذاب في القرآن مجاز، والعياذ بالله.

الجزاء من جنس العمل:
العذاب الكامل يوم القيامة
فـ(ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) ما نتيجته؟ قال: (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) الخزي من أعظم ما يصيب الإنسان صاحب الكرامة، هو يعتزّ بنفسه ويجادل ويريد أن يثبت حجته، فجاءه العذاب في الدنيا والخزي فيها من جنس عمله، أراد أن يكرّم نفسه، ويعلي من قدرها، فأخزاه الله تعالى في الدنيا، قال: (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) العذاب في الآخرة، وفي الدنيا خزي: نوع من أنواع العذاب، لكن العذاب الكامل يوم القيامة، قال: (ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) يعني ذلك الخزي، وذلك العذاب عذاب الحريق بـ أي بسبب، هذه باء السبب في اللغة العربية (ذَٰلِكَ بِـ) أي بسبب (مَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) فما ظلمك الله تعالى، وإنما أنت قدّمت الأسباب التي أدت إلى أن يصيبك الخزي والعذاب وهذا من الأدلة على أن الإنسان مُخيّر فيما يفعله، وإلا لما قال له تعالى: (ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) ولكن كان قال له: ذلك بما قدرته عليك رغماً عنك، لا، قال (ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) أنت السبب، صحيح أن التقدير من الله في النهاية، ولكن السبب كان منك، فالخزي والعذاب أصابك بسبب (مَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) من إضلال الناس عن سبيل الله، والجدال في أمور لا علم لك بها، ولا هدىً معك تهتدي به في طريقك، ولا كتاب تقرؤه فتستنير به، فلا أنت انتفعت بالخبر، قرأت في كتاب، ولا أنت استخدمت ملكة الاستدلال الذي حباك الله بها لتفهم عن الله تعالى حكمته في الوجود والخلق، ولا أنت ملكت أبسط بدهيات العلم التي تؤهلك لتتكلم فيما تكلمت به، إنما كان كلامك هوى نفس، ضللت وأضللت الناس عن سبيل الله تعالى، أي كنت سبباً في ضلالهم أيضاً، (ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) وهي كناية عما يفعله الإنسان سواء كان قولاً أو فعلاً، أو مرضاً في القلب، الإنسان ما تقدمه يداه: إما أن يقول شيئاً حراماً، أو يفعل شيئاً حراماً، أو يضمر شيئاً حراماً فيؤدي إلى مرض في قلبه من حسد أو حقد إلخ، لكن يجمعها كناية (ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) الفعل (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) فلن يظلمك الله، ولن يظلمك حينما عاقبك لأنك كنت سبباً في ذلك، يعني إذا طالب لم يدرس، لم يقرأ، لم يقدم الامتحان، صدر قرار رسوبه، فإذا جاء وقال للمدرسة: لقد ظلمتموني، نقول له: المدرسة لا تظلم الطلاب (ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) دُعيت إلى الامتحان فلم تأتِ، أُعطيت الكتب فلم تقرأ، طُلبت منك الواجبات فلم تكتب.
الله تعالى غفور وغفار وغافر
(ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) ظلام: مبالغة من اسم الفاعل ظالم، إذا إنسان يأكل في اليوم ثلاث وجبات نقول فلان آكل، يأكل، إذا أصبحوا ثماني وجبات في اليوم أكول، إذا وجبة واحدة ولكنه أكل كيلو رز فهو أكول، فالمبالغة تكون إما في كمية ما يأكل، أو في تكرار الفعل، كمّاً أو نوعاً، والله تعالى غفور، وغفار، وغافر، كلها في القرآن، فيغفر الذنوب مهما كثر عددها، ومهما عظم الواحد منها، الآن لو قلت لإنسان: أنت لست بأكول، هذا لا ينفي أن يكون آكلاً، لكن ليس أكولاً، فنفي المبالغة لا يعني نفي اسم الفاعل، لست بأكول لكنه آكل، هنا قال تعالى (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ) فهل هو ظالم؟ حاشاه، لماذا قال: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) العظيم جل جلاله كلما عظم الإنسان في مكانته في المجتمع مثلاً، فأي شيء يقع منه مهما كان بسيطاً فيسمى ظلام، لأنه كامل، إذا كان هناك ملك للبلاد معروف بعدله الشديد، إذا صار ظلم مهما كان بسيطاً لن تقول الناس فلان ظلم تقول صار ظلاماً، لأنهم اعتادوا كماله وعدله، لكن الله تعالى في آيات أخرى بيّن أنه لا يظلم مثقال ذرة، حتى لا يتوهم إنسان أنه لما نفى أنه ظلام أن يظن أنه يظلم قليلاً حاشاه جل جلاله، قال:

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
(سورة الكهف)

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)
(سورة الأنبياء)

(شَيْئًا) مهما كان يسيراً، فالله حاشاه أن يكون ظالماً ولكن هنا (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) إشارة إلى عظمة الخالق جل جلاله وكماله، فلا يمكن أن يصدر عنه ظلم أبداً، (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ).

الجدال بحجة من الله تعالى:
إذاً هذا نموذج بشري أضرب عليه في النهاية مثالاً مقابلاً: ممن آتاهم الله تعالى الحجة في الجدال إبراهيم عليه السلام، قال:

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
(سورة الأنعام)

(آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ): الحجة من الله، الله يؤتيك الحجة، وثمنها إخلاصك لله، إذا دخلت في أي جدال مع شخص وأنت تبتغي به وجه الله فإن الله يمنحك الحجة، أما إذا كنت تبتغي به الاستعلاء عليه، وإقامة الدليل عليه فإن الله تعالى يحرمك الحجة، كان الشافعي رضي الله عنه لا يدخل جدالاً إلا وهو يخلص لوجه الله تعالى حتى إنه قال: ما دخلت جدالاً إلا تمنيت أن يكون الحق مع خصمي، وكان يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، طبعاً هذا ليس في العقديات، في الأمور التي تحتمل الخلاف، هناك أمور تحتمل، وهناك أمور لا تحتمل، ولا يدخل الإنسان أصلاً في جدال فيها إلا لإقرار الحق، كالجدال في وجود الله، أو في وحدانيته، أو في كماله، ولكن هناك خلافيات يدخل الإنسان فيها ويقول أنا 99% على صواب، ولكن ممكن 1% أكون لم أنظر نظرة كاملة والطرف الآخر عنده دليل ما عندي إياه، فالحجة من الله، إذا دخل الإنسان الجدال بإخلاص يؤتيه الله تعالى الحجة التي يقيمها، ويأخذها لذلك الجدال في القرآن جاء في عدة آيات مذموماً، جدال بغير علم، لكن جاء بشكل ليس ممدوحاً ولكن مأمور به، قال تعالى:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
(سورة النحل)


الجدال بالتي هي أحسن:
وقال:

وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
(سورة العنكبوت)

المجادل غالباً يربط أفكاره بشخصه
ما قال بالحسن، قال (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الموعظة قال الحسنة، أما الجدال (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) لأن المجادل غالباً وهذه طبيعة بشرية يربط أفكاره بشخصه، فيخاف إن خرج مخطئاً بفكرة ما أن يكون ذلك انتقاصاً من كرامته، فيبالغ في الجدال، فلذلك إذا قلت الكلام الأحسن له، من غير أن تجرح كرامته فإنه يقبل، تقول له: كلامك صحيح من هذه الزاوية، لكن يبدو أن هناك زاوية أخرى ربما لم تنتبه لها، لكن كلامك هنا يصح، لكن أعتقد إذا أضفت هذه وأنت ما شاء الله متفوق في ذاك المجال تستطيع أن تفهم علي ما أقول لك، هذا (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يقول لك: نعم، أما إن أردت أن أقيم الحجة عليك وأنت لا تفهم، لن يستجيب لأنه ربط الأمر بشخصه وبكرامته، فيجادل، والناس غالباً 90% منهم لا يعترفون بأخطائهم، الناس لا يعترفون بأخطائهم، يقول لك: معك حق ولكن....، عندما يقول لك: لكن، ويكمل فأنا كان معي حق أيضاً، فأنت حاول جهدك ألا تحرج إنساناً في الزاوية إن قال: لكن، فتح لنفسه منفذاً فاقبله، لكن أنا كان لدي ظرف، الله ييسر لك، الحق معك، انتهى الموضوع، فيقبل معك، أما لكن، كيف يعني لم تحصل؟ كان يجب أن تحصل، لا تحشره بالزاوية، فالإنسان لا يعترف بخطئه، كلنا، مصادفة أن تجد إنساناً ويقول لك: أنا مخطئ، ويصمت، والله أخطأت بهذه المسألة ولكن أنا..عندما يقول لك: لكن، بعد لكن سينقض ما قبل لكن، حتى يكون غير غلطان غلطة كبيرة، فلذلك حاول إن قال لكن، إذا أتاك أخوك متنصلاً فاقبل عذره، اقبل ما يريد قوله.
فإبراهيم عليه السلام أوتي الحجة، فلما قال له:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
(سورة البقرة)

يحاججه، يقول له: أنت آلهتك لا تحيي ولا تميت، (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) أنا ملك أقول: اقتلوا يقتلوا، أميت، محكوم عليه بالإعدام أفرج عنه وأعفو عنه فـ (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) إذاً بدأ التأويل، هوى النفس، هذا بغير علم، فماذا فعل إبراهيم؟ جاء بقضية لا تحتمل التأويل، لم يكمل معه الحوار في قضية تحتمل التأويل (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) فإذا وجدت قضية عقدية تحتاج جدالاً فحاول جهدك في الحجة ألا تأتي بشيء يمكن للطرف المجادل أن يلوي عنقه أو يتأوَّله بمعنى آخر، فإذا فعل ذلك فاخرج من الموضوع ولا تتابع معه، لأن النقاش سيكون عقيماً.
والحمد لله رب العالمين.