العقل والنقل
العقل والنقل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، وبعد: |
فيا أيها الإخوة الكرام، سأبدأ من حيث انتهى شيخنا، ومما تعلمته من شيخنا، فقد انتهى الحديث عن العقل والنقل، وسأل أخي أبو باسل سؤالاً مهماً عن علاقة العقل بالنقل وأجاب شيخنا، وأتابع فأقول: |
تعريف العقل:
العقل في الأصل، في اللغة هو الربط والمنع، ومن ذلك الحديث الذي تحفظونه جميعاً لما سأل الرجل: |
{ أُرسِلُ ناقتي وأتوكَّلُ؟ قال: اعقِلْها وتوكَّلْ. }
(صحيح ابن حبان)
العقل في الأصل هو المنع والربط
|
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)(سورة الحج)
فجعل العقل بالقلب، والله أعلم بهذا القلب هل هو تلك المضخة، أم هو قلب النفس، وهذا الأمر لا يزال قيد بحث ودرس، وليس من اختصاصي أن أخوض فيه. |
فالعقل هو عملية إدراك، وربط، مدخلات؛ يعني inputs كما يسمونها الآن، processes هي العقل، وoutputs هي المخرجات، فالعاقل هو شخص يسمع النص، يسمع الكلام، الآن نحن جميعاً نجري عملية عقل، كلنا الآن في هذا المجلس يوم كان شيخنا جزاه الله خيراً يتكلم، وكنا نصيغ السمع له، كنا نقوم بعملية العقل، ندرك ما يتكلم به، المدخلات كانت كلام شيخنا الرائع، وكنا نقوم بعمليات التي هي عقل ويخرج معنا مخرجات؛ أننا إن شاء الله سنلتزم بواحد، اثنين، ثلاثة، بناء على ما استفدنا من كلام شيخنا، فكنا نقوم بعملية العقل، فالعقل هو تلك العملية التي يقوم بها العاقل، فيعالج المعلومات ويخرج بمخرجات جديدة بناء على العقل، فالذي يقول لك: قال لي عقلي كما كان يقول أهل الشام، ما الذي سيقوله لك عقلك؟ الله يقول لك، الشرع يقول لك، العالم يقول لك، عقلك يعالج ما يقوله لك الآخرون، فالعقل عملية. |
العقل لا يتعارض مع النقل:
العقل هو هبة من الله
|
{ والَّذي لا إلَهَ غيرُهُ إنَّ أحدَكُم ليعملُ بعملِ أَهْلِ الجنَّةِ حتَّى ما يَكونُ بينَهُ وبينَها إلَّا ذراعٌ ثمَّ يسبِقُ علَيهِ الكتابُ فيُختَمُ لَهُ بعملِ أَهْلِ النَّارِ فيدخلُها، وإنَّ أحدَكُم ليعملُ بعملِ أَهْلِ النَّارِ حتَّى ما يَكونَ بينَهُ وبينَها إلَّا ذراعٌ ثمَّ يسبِقُ علَيهِ الكتابُ فيُختَمُ لَهُ بعملِ أَهْلِ الجنَّةِ فيَدخلُها. }
(صحيح الترمذي)
فيحار العقل في تفسير هذا النص، كيف إنسان أمضى حياته في الطاعة، ثم في آخر لحظة.. إلى أن نجد الرواية الثانية التي هي رواية صحيحة أيضاً، وفيها زيادة: |
{ إنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ الجَنَّةِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ وهو مِن أهلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ النَّارِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ وهو مِن أهلِ الجَنَّةِ. }
(صحيح مسلم)
فهم يظنونه أو يتهمونه أن عمله من عمل أهل النار، وهو في الحقيقة من عمل أهل الجنة، فتتوازن وتفهم المقصود. |
فإما أن النقل فيه إشكال فلا بد من مراجعته وفهمه وربط النصوص مع بعضها، وهذه أيضاً عملية عقلية مهمة جداً. |
أو أن يقول العقل غير صريح، أي العقل تبريري، كأن يقول شخص: أنا لا أرى أن الربا حرام، عفواً ما به الربا؟ برضاك وبرضاه، والبنك مستفيد، وأنت سعيد، ويمدك بالمال، فأنا لا أرى أن هناك مشكلة، فهذا عقل تبريري غير صريح؛ لأنه منتفع بالربا، وعنده أسهم في البنك الربوي، أو لديه مدرسة مختلطة ودخله الكامل منها، فيقول الاختلاط لا يوجد به شيء، على العكس المدرسة عندنا ممتازة، وعلى العكس تماماً، الشباب تتهذب أخلاقهم عندما يجلسون مع البنات، والبنات يهتممن أكثر بحياتهم كي يراهم الشباب بمظهر أفضل، فالاختلاط مبرر لأن عقله تبريري، فيبرر لأن له مصلحة، لأن دخله من مدرسة مختلطة، فلا يستطيع أن يقول أنه حرام، وأنه فتح مدرسة يفسد فيها الناس، فيكون العقل فيه مشكلة، أو النقل لا بد من التحقق من صحته أو فهمه، أو ربطه بنصوص أخرى، أو فهم أسباب ورود الحديث، أو أسباب نزول الآية...إلخ، فمن هنا ينشأ أحياناً بعض التعارض. |
العقل لا يمكن أن يكون حكماً على النقل:
لكن في محصلة الأمر، العقل ليس دوره أن يكون حكماً على النقل؛ لا يمكن أن يكون العقل حكماً على النقل، لأن النقل: |
لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)(سورة فصلت)
وحي السماء لا يمكن أن يحكم عليه عقل بشري
|
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)(سورة المائدة)
في القرآن والسنة يوجد عذاب قبر
|
أسباب عدم قدرة العقل أن يكون حكماً على النقل:
العقل لا يصح أن يكون حكماً على النقل لثلاثة أسباب سريعة ألخصها لكم: |
أولاًـ غير قادر على إلزام صاحبه بالصواب:
السبب الأول: أنه غير قادر أصلاً على إلزام صاحبه بالصواب، والدليل: نحن كلنا بفضل الله لا نشرب الخمر، السبب أن الله عز وجل حرمه، ويوجد طبيب عنده معلومات عن الخمر، ومضارّ الخمر ويشرب خمراً، يعني عقله ما استطاع أن يلزمه بالكف عن شرب الخمر، تقول له: أنت ألست طبيباً وتعرف مضاره، يقول لك: الكميات القليلة غير الكثيرة، ونحن نأخذه ونكسره بالماء فنعرف ماذا نفعل، عقله لم يستطع أن يلزمه بالصواب، فكيف سيحكم على النقل؟ |
ثانياًـ العقل فردي وليس جمعياً:
العقل مرتبط بالبيئة والحياة والعصر
|
ثالثاًـ العقل مرتبط بالواقع:
|
فعقله لا يستطيع إدراك ما تدركه أنت فقط لاختلاف الزمن، مربوط بواقعه، فكيف سأجعل هذا العقل المرتبط بالبيئة حكَماً على النقل المطلق، على الوحي الذي من عند الله عز وجل. |
فإذاً: العقل هو الربط والمنع وهو عملية يقوم بها الإنسان العاقل، يستوعب من خلالها المدركات، وينتج عنها مخرجات، لكن هو ليس جهازاً يعطيك معلومات، معلوماتنا هي الوحي كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. |
والأمر الثاني العقل لا يمكن أن يتعارض مع النقل نظرياً، مستحيل؛ لأن العقل من خلق الله، والنقل كلام الله، ولا يتعارض شيئان من أصل واحد، وهذه مسلمة عقلية، فإذا حصل تعارض موهوم بالعقول الصريحة، بعقول الناس المعقولة المعروفة، فإما أن العقل غير صريح فينبغي أن نبحث عن المشكلة في عقولنا، أو أن النقل غير صحيح، أو تأويله غير صحيح، أو هناك أحاديث أخرى ينبغي ضمها، أو ناسخ ومنسوخ، أو أسباب نزول، أو أسباب ورود، فينبغي أن نرجع لأهل العلم لنفهم النص أولاً قبل أن نقول لم أفهمه، وتعارض مع عقلي. |
ثم في جميع الأحوال، وفي جميع المعطيات لا يمكن للعقل مهما يكن أن يكون حكماً على النقل؛ لأنه أولاً لا يلزم صاحبه بالصواب، بينما النقل يُلزِم صاحبه بالصواب خوفاً من الله تعالى، طبعاً الإنسان المؤمن، وثانياً لأنه لا يوجد أصلاً فكرة عقل جمعي، وإنما العقل فردي، فما أعقله أنا لا تعقله أنت، وما أستطيعه لا تستطيعه، وما أدركه وأقبله لا تدركه وتقبله أنت، ونحن في عصر واحد وفي مجلس واحد. |
وثالثاً لأن العقل مرتبط بالواقع، مرتبط بالزمن، مرتبط بالبيئة، فتختلف عقول الناس من زمن إلى زمن، بينما وحي الله تعالى مطلق، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. |