• لقاء مع صفحة البيت الحمصي
  • 2024-03-18
  • محاضرة في الأردن
  • عمان

رمضان والحياة الأسرية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
كل عامٍ وأنتم بخير، كل عامٍ وأنتم الخير إن شاء الله لكل مَن حولكم.
أيُّها الكرام، يسعدني أن ألتقي بكم في هذه الأمسية الرمضانية المباركة، عبر البيت الحمصي الذي أُكنُّ له كل احترامٍ وتقدير، وأُكنُّ للقائمين عليه كل محبةٍ ومودة، وأسأل الله تعالى أن يجعل في هذا اللقاء النفع والخير والبركة.
أيُّها الإخوة الكرام، عندما قرأت العنوان الذي تفضَّل به الإخوة المشرفون على هذا البيت الطيِّب المُبارك، رمضان والأُسرة، ما خطر في بالي إلا أنَّ العلاقة بين رمضان والأُسرة إلا أنَّها على النحو الآتي:
رمضان ضيفٌ عزيز، والأُسرة المسلمة هي المُضيف:

{ مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

ورمضان زائرٌ كريم، يأتي ويذهب، والأُسرة المسلمة هي المَزور، وحقٌّ على المَزور أن يُكرِم زائره، وفي الحديث:

{ مَنْ تَوَضَّأَ في بيتِهِ فَأَحْسَنَ الوَضوءَ ثمَّ أَتَى المسجِدَ فهو زَائِرُ اللهِ وحَقٌّ على المَزُورِ أنْ يُكْرِمَ الزائِرَ }

(الهيثمي، مجمع الزوائد)


عطاء الله دائمٌ لا ينقطع:
فنحن عندما نأتي إلى بيت الله تعالى، نأتي زائرين، نزور مَن؟ نزور الله في بيته، فلا نخرُج من البيت، من بيت الله إلا وقد أكرمنا جلَّ جلاله، أكرمنا بالسكينة، أكرمنا بالرضا، أكرمنا بالقبول، أكرمنا بالحُب، أكرمنا بالسعادة، أكرمنا بهناءة النفس، أكرمنا بالحُبّ، هذا إكرام الله تعالى، الذي لا ينقطع، فالله تعالى إذا أعطى أدهش، ولا يليق بعطاء الكريم أن يكون عطاءً منقطعاً ينتهي بالموت، بل عطاءٌ غير مجذوذ، وغير ممنون، ليس مقطوعاً.
فنحن إذاً في الأسرة المسلمة علاقتنا مع رمضان أنه ضيفٌ ينبغي إكرامه، وأنه زائرٌ ينبغي إكرامه، هذه علاقتنا برمضان.
ثم أيُّها الإخوة الكرام، فإن للأسرة المسلمة ابتداءً في شرع الله تعالى، مكانةً عظيمة، وكل التشريعات السماوية جاءت لتحصين الأسرة وحمايتها، ومدِّها بأسباب بقائها واستمرارها، بينما جاءت كثيرٌ من التشريعات الأرضية التي لم تستقِ منهجها من وحي السماء جاءت لتدمير هذه الأسرة، ودونكم المؤتمرات التي تُعقد بين الفينة والأُخرة، تحت عناوين شتّى، تارةً سيداو، تارةً الإسكان، وتحت مُبرِراتٍ شتّى، تُعقد بهدف العبث بالأسرة، والنَيل منها، وتارةً بإسم الجندرة والنوع الاجتماعي، وغير ذلك مِمَا يُراد من خلاله الوصول إلى تقويض أركان الأسرة، وتهديم بُنيانها، مُنطلَقاً لسيطرة العالم الغربي المتوحش المادي، على ما تبقى من عالمنا الإسلامي، المُتمسّك بأُسرته وبقيمه وبمبادئه.

ينبغي على المسلم أن يكون مُصلِحاً لأسرته ولمن حوله:
إذاً الأُسرة كيان، وهي الكيان الأصغر في المجتمع، الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع، وما المجتمع إلا مجموعةٌ من الأُسَر، فكلما أصلحنا الفرد وأصلحنا الأُسرة، فنحن عملياً نُصلِح المجتمع، فلذلك كان لا بُدَّ من رعاية الأسرة، ومن هنا فإن الله تعالى يقول:

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ (132)
(سورة طه)

وفي هذا توجيه إلى أنَّ المسلم يُطلَب منه مع أدائه الصلاة وإقامته الصلاة، أن يأمر أهله بها، لا أن يكون صالحاً في ذاته، بل أن يكون مُصلِحاً لمَن حوله، ومن أهم ما يُصلِحه المرء أن يُصلِح أهل بيته، أن يُصلِح أسرته، ثم عائلته، ثم مجتمعه، فمن هنا قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) وكأن شيئاً في الذهن يدور، عندما يقرأ الإنسان هذا الجزء من الآية، فيقول في ذاته، وأين الرزق ومُتطلبات الرزق وكيف أُعطي وقتاً للأمر بالصلاة؟ وكيف أصطبر على الصلاة وأنا منهمكٌ بأشغالي، منهمكٌ بتحصيل رزقي؟! فجاءه الجواب من المولى جلَّ جلاله، (لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ) الرزق مكفول، أما المطلوب فهو أن تعبُد الله وتُقيم الصلاة، فإياك أن تشتغل بما كفله الله لك عمّا أمرك به، وهذا طبعاً ولا يخفى على شريف عِلمكم، لا يعني أبداً ترك الأخذ بالأسباب، لأن هذا قد أُمِرنا به في آياتٍ وأحاديث كثيرة ليس هنا مجالها، ولكنه يعني أن لا تجعل وقتك كله، وأن لا تجعل همَّك كله الدنيا، وأن لا تجعل الدنيا أكبر همّك، وإنّما أن تجعل أكبر الهَم، هو طاعة الله تعالى، ورضا الله تعالى، وأداء الصلوات في أوقاتها، وإصلاح أُسرتك وعائلتك.
ومن هنا فقد قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
(سورة التحريم)

إذاً يُطلَب من المؤمن أن يقيَ نفسه وأن يقيَ أهله، وليس أن يقيَ نفسه فحسب،( قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
فإذاً هاتان الآيتان توضِّحان أنَّ الأُسرة في ديننا لها أهميةٌ بالغة، ومن هنا يقول صلى الله عليه وسلم:

{ كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ؛ فَالإِمَامُ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا، والخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، قالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأَحْسِبُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: والرَّجُلُ في مَالِ أبِيهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

كُلّكُم راع، أنا راعٍ وأنت راعٍ، وكلٌ له رعيَّة، وكل إنسانٍ في موضعه تكبُر رعيته أو تصغُر، وسيُحاسب بما آتاه الله، قال تعالى:

لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
(سورة الطلاق)

فأنا جعلني الله تعالى أباً في الأُسرة، إذاً هذا مكاني، الآخر رعيته أُسرته وعنده عمل، عنده عشرون موظفاً، رعيّته عشرون موظف، الثالث رعيّته مائة موظف، الآخر وزير، وهو وزير تربية، رعيّته مليون ومئتا ألف طالب، مثلاً، وهناك مَلِك رعيّته عشرة ملايين.
إذاً (كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ) فكل إنسان في المجال الذي أقامه الله تعالى به، هو راعٍ في هذا المجال، يضرب النبي صلى الله عليه وسلم، الأمثلة من الأُسرة، فيقول:
(والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ)، من أضيَّق مسافة، (والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا) وهكذا.
إذاً الإنسان في أُسرته له واجبات، هو جزء من فريق، له حقوق وعليه واجبات.

رمضان فرصة لتعزيز مكانة الاسرة وزيادة ارتباطها وتماسكها:
أيُّها الإخوة الكرام، رمضان فرصة لتعزيز مكانة الأُسرة، لماذا؟ نحن خارج رمضان مشغولون بالحياة، أعباء الحياة كثيرة، إحدى عشر شهراً، مهما قلنا نُريد أن ندَع مجالاً لأُسرنا لبيوتنا، طبيعة الحياة الحديثة التي جعلت الأعمال صعبةً، وجعلت الوصول إلى الرزق أصعب، وجعلت الأوقات تُقاس بالدقائق، أو بالثواني أحياناً، بالانتقال من مكان إلى مكان، وطول المسافات، وهموم الحياة وتشعباتها، إلى غير ذلك مِمَا يطول ذِكره، جعلت الحياة المُعقَّدة التواصل الأُسري ضعيفاً، شِئنا أم أبَينا، هذا واقع، نسأل الله أن يُغيَّر الحال، لكن هذا واقع نحن نعيشه، وفي بعض الأُسَر، لضرورة أو لحاجة أو أحياناً لكمالية، وأنا لا أؤيّد أن يكون ذلك لكماليةٍ، لكن كي ينشغل الأم والأب معاً، حتى يُحقّقوا الرزق، أو الكفاية في بعض البلاد أو كذا ينشغل الأب والأم معاً، فابتعدنا عن أُسرنا بالطريقة التي يُريدها الله تعالى مِنّا أن نكون أقرب إلى الأُسرة، تحقيقاً للآيات والأحاديث التي مررنا عليها مروراً سريعاً.
رمضان يجعلنا مُلتزمين حُكماً بأُسَرنا، على الأقل في فترة السَحَر، فترة الإفطار، قيام الليل، ربما في البيت أو في المساجد القريبة مع الأهل، قبل الإفطار بنصف ساعة الجميع في بيوتهم غالباً، أو بساعة أحياناً، فنحن أصبحنا ملتزمين بأُسَرنا بحكم الواقع الجديد الذي فرضه رمضان، رمضان يُنظِّم الوقت، عباداتنا كلها فيها تنظيم وإدارة للوقت، نُدير أوقاتنا، فنحن نقول صلاة الفجر، بعد طلوع الشمس بنصف ساعة تبدأ صلاة الضُحى، قُبَيل الظهر الأوابين، تأتي صلاة الظهر حتى العصر، يُصبح ظل الشيء مثليه إلى آخره، الغروب غروب الشمس، الشفَق، العشاء وهكذا، فعباداتنا كلها مرتبطة بالوقت، رمضان مرتبط بالوقت، رأينا الهلال دخل شهر رمضان، طلوع الفجر إلى غروب الشمس، الحج عشر من ذي الحجة، الحج أيام مِنى، كل العبادات حتى الزكاة وإن كان بوقت موسَّع مربوطة بالحَول، فكل عباداتنا تُعوِّدنا بطريقةٍ أو بأُخرى على إدارة أوقاتنا.
فرمضان فرصة جليلة، هي واحد من اثنا عشر بالسنة، لكنه فرصة عظيمة جداً لزيادة التماسك داخل الأسرة، لزيادة الارتباط مع الأسرة، لزيادة الحُبّ في الأسرة، الموَّدة في الأسرة، لينتبه الإنسان إلى أولاده، تذكرون أيام كورونا نسأل الله ألّا يُعيدها، كيف أن كثيرٌ مِنّا اكتشف أشياءً بأسرته لم يكن يعلمها، لأنه لم يكن يجلس في البيت، فلمّا جلسنا في بيوتنا التفتنا إلى أشياء ما كُنّا نعلمها، والله أنا كنت آخِذ فكرة خطأ، كنت أظن أن ابني ليس عنده هذه المهارة فاكتشفت أنَّ لديه هذه المهارة، أظن أنَّ زوجتي لا تُكِنّ لي ذلك الحُب والودّ الذي كان في بداية أيام الخطبة وأيام الزواج الأولى، والآن ما أسمع منها كلمة، وإذ الموضوع على العكس، حُب مُختَزن وخرج في الوقت المناسب، فكشفنا بعضنا عندما اقتربنا، نحن عندما نبتعد يكون هناك جفاء وفجوة كبيرة، فرمضان هو تلك الفرصة التي ينبغي أن نَغتَنِمها في تعزيز ذلك التماسك الأُسَري المطلوب شرعاً.
صدّقوا أيُّها الإخوة، عندما تكون الأسرة متماسكة، الحلقة الضيِّقة، يعني الأب والأم والأولاد والأحفاد والأصهار والكنائن، أضيَّق دائرة، الآن الأخبار السيئة التي يسمعها الإنسان من الخارج، ضغوطات العمل، الأخبار التي تُدخِل على القلب الهَمّ والضيق والنكد، كل ذلك يهون جداً أمام التماسك الأُسري، كُنّا نقول دائماً، إذا دخل الأب إلى بيته، ووضع المفتاح في الباب، فينبغي أن يكون عند الأسرة عيد، لأنَّ الأب قد جاء، وليس العكس كما في بعض الأُسَر، إذا خرَج وأغلق الباب وسمعوا صوت الباب، تقوم الدنيا ولا تقعُد، لأن الأب قد غادَر، لأن وجوده عبء على الأُسرة، فهو دائماً مُتطلِّب، و دائماً ينهى عن كل شيء، من المُباحات طبعاً وليس المُحرّمات، واجلس ولا تفعل وافعل، فيصبح وجوده عبئاً في البيت، فإذا ما خرَج وأغلق الباب، تنفّسَت الأُسرة الصُعداء، فقد ذهب من كان رقيباً عليها، بلا أدنى تنازل.
فرمضان هو تلك الفرصة التي يكتشف فيها الأب أُسرته، وتكتشف فيها الأم أبنائها أكثر، ويكتشف الأبناء والديهم أكثر، بجلسات الفطور بجلسات السحور، قبل الفطور بنصف ساعة درس عشر دقائق، نقرأ في كتاب، نقرأ صفحة من القرآن الكريم، ونتدّبر آية من آياتها، بهذا المعنى يصبح رمضان فرصةً لننضَم إلى بعضنا أكثر، ولنتعاون مع بعضنا أكثر ضمن الأسرة الواحدة.

الأسرة المسلمة أسرة مُتكاملة مُتعاونة:
فالأسرة المسلمة أيُّها الكرام هي أُسرة تكامُليَّة، عندنا مصطلح اليوم في إدارة الأعمال هم فريق العمل، Team))، فريق العمل سابقاً كان يُبنى العمل على مبدأ الحقوق والواجبات، يعني أنا اليوم عندي دور أقوم به، آتي فأقوم به وأذهب، أنا لا يهمني الآخرين بماذا قاموا، لا يهمني أن أتعرَّف عليهم أصلاً، يعني لا أعرف من يقوم بالدور الذي بعده، يعني أنا مثل الآلة، مطلوب منّي هذا البرغي في هذا المكان أضعه وأرصُّه وأتوقف، هذا لا يُنشِئ عمل مؤسساتي، لا يُنشِئ عمل يدوم ويطول، لأنَّ هذا تحويل الإنسان إلى آلة ليس في صالح الإنسان وليس في صالح العمل أصلاً، فالآن العمل الجديد يقوم على فكرة فريق العمل، العمل القديم مثاله أو الطريقة التقليدية مثالها وهذه طُرفة: أنَّ هناك ثلاثة أشخاص اتفقوا على أنَّ كل واحدٍ منهم له مهمة، لتشجير بقعة من الأراضي ووضع شتلات فيها، فالأول يحفر، والثاني يضع الشتلة في مكانها، والثالث يُعيد ردم التراب فوق المكان المحفور وينتهي العمل، ففي يومٍ من الأيام غاب الثاني الذي يضع الشتلة في مكانها، فأصبح الأول يحفر الحفرة، والثاني يردمها ولم تُزرع شتلةٌ واحدة.
هذا النظام المبني في العمل، في الأُسرة، ضمن أي مكان، بالعمل الدعوي، أنَّ أنا هذه مهمتي، لا ليس هذه مُهمتك، الأُسرة تكاملية ضمن ما يُسمّى اليوم فريق العمل، أنا أقوم بالدور المَنوط بي، أكيد يجب أن يكون لي مُحددات للعمل، لكنني ضمن وقت مُعيَّن، أو ضمن حاجة مُعيَّنة كلنا أُم، قبل الإفطار بعشر دقائق الأُسرة المسلمة كلها أُم، يعني الأولاد مُستلقين مُتعبين، والأب يأنف أن يضع صحناً أو يزيل ملعقةً، أو يُضيف ملحاً، أو يعصر ليمون، أو يقطع بعض البقدونس يأنف من ذلك، لا نحن في هذه اللحظة كلنا أُم، بلحظة ثانية الابن عنده مرض نسأل الله السلامة كلنا ذلك الابن، هذا سيُحضِر له الدواء من الصيدلية، الأب اتصل بالطبيب، والأم تضع له الكمادات، أخته حضَّرت له الحساء، ففي كل لحظة نُصبح كلنا هذا الرجُل عند الحاجة إليه، هذا مفهوم فريق العمل، فهذا مطلوب وهذا في رمضان يظهر بشكل جلي، يتساعد الأبناء في الصباح إذا استيقظوا على السحور، الأول أتى بالخبز، والثاني ملأ الماء، البنت وضعت بعض العصائر، الآخر أتى بالتمر، نتعاون، هذا فريق العمل، وهو ألّا يقول قائل، أو الأب يقول أنا عملي خارِج المنزل، في البيت لا علاقة لي، أنا من أين جئت بهذا الكلام؟ طبعاً من فعل النبي صلى الله عليه وسلم:

{ سَأَلْتُ عَائِشَةَ ما كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَصْنَعُ في بَيْتِهِ؟ قالَتْ: كانَ يَكونُ في مِهْنَةِ أهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةَ أهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلى الصَّلَاةِ. }

(صحيح البخاري)

يعني مع أهله يساعدهم في البيت، لا يأنف من ذلك.
هذا مفهوم فريق العمل مُهم جداً في الأسرة، لا سيما في رمضان أن نُعوُّد عليه أبنائنا، أي هلِمُّوا جميعاً إلى المطبخ قبل الإفطار بعشرة دقائق، الجميع مع بعضهم ، أنتَ ائتي بالماء، والآخَر يأتي بكذا إلى آخره، نُعلّمهم على التعاون، رمضان فرصة مناسبة جداً لهذا الأمر.

نسعَد برمضان لأنَّ السعادة تنبع من الداخل:
أيُّها الإخوة الأحباب، من زاوية ثانية، ما زلنا في الموضوع لكن من زاوية ثانية، وسأبدأ بمقدمة، نحن في رمضان نشعُر بالسعادة، وأنا من هؤلاء وأظن أنكم جميعاً تشاركوني الرأي، هناك سعادة خاصة برمضان، رغم أنَّ هناك عناء، بالنهار لا يوجد أكل أو شُرب، وفي الليل السَهَر، فهو عملياً الليل مُتعِب والنهار كذلك الأمر، لكن مع هذا نجد سعادة في الداخل، نتعلم من ذلك أنَّ السعادة لا علاقة لها بالأمور المادية المحسوسة، فكم من مُرفَّهٍ في قصره وهو شقي، وكم من مُعذَّبٍ في ما يظهر للناس في كوخه وهو سعيد، فقضية السعادة شيء مُتعلِّق بالنفس، وهذا أوضح دليل على ذلك، أنت عندما تذهب بزيارتين أحياناً في العام نفسه مثلاً، لمَن ربنا عزَّ وجل أعطاه، ذهب إلى العمرة أو الحج، وذهب إلى سويسرا، في سويسرا أنهار وخُضرة وطقسٌ جميل، ومُنتزهات وطعامٌ لذيذ، يعني ربما يكون أسباب اللذائذ موجودة، لكن عندما يذهب إلى العمرة أو الحج، جبال صمّاء سوداء في مكة، حَرٌّ شديد، ازدحام شديد، نظافة الحمد لله أنَّه اليوم أصبح في الحَرَم هناك نظافة، لكن ليس هو الحَد الأعلى، لأن هناك ملايين من الناس في وقتٍ واحد، فأنت ممكن أن تواجه مشكلة هنا، أو أنَّ أحدهم يدفعك، أو يقوم بإزعاجك، أو أنه يُسمِعُك بعض الكلام، فأسباب اللذائذ غير موجودة، لماذا تَسعَد؟ عندما ترجِع تقول والله إنها رحلة العُمر، وفي السنة التالية ترجع، ونقول لك عُقبال العودة، هناك شيءٌ بالداخل، لأن السعادة تنبع من الداخل، فإذاً نحن لماذا نسعَد في رمضان؟ سأضِرب مثالين:
المثال الأول: رجُل سافر إلى باريس، وباريس عاصمة مترامية الأطراف كبيرة، نزل في أحد فنادقها، وفي الصباح نزل إلى غرفة الاستقبال وسأل موظف الاستقبال إلى أين أذهب؟ يُجيبه موظف الاستقبال فوراً لماذا أنت هنا؟ لماذا جئت إلى باريس؟ إن كنت جئت طالباً فعليك بالمعاهد والجامعات، وإن كنت جئت سائحاً، عليك بالمقاصف والمتنزهات، وإن جئت تاجراً عليك بالمصانع والشركات، فأنت لماذا جئت؟ يعني معنى ذلك أنه لا يمكن أن تصح حركة الإنسان إلا إذا عرف هدفه.
المثال الثاني: طالب ثانوية عامة، وعنده يوم السبت أهم امتحان وهو مادة الرياضيات، يوم الجمعة رفاقه ألحّو عليه وأصرّوا أن يذهبوا به إلى نزهة، والنزهة جميلة والمكان جميل والطعام لذيذ، وتحت إصرارِهم وإلحاحِهم، هو لا يُريد لأنه ما زال لديه ما يدرسه، وعنده اهتمامات أُخرى، ذهب معهم، وصل إلى هناك، زملائه مسرورون، ويلهون ويلعبون، وهو يشعُر بالضيق في داخله رغم كل وجود الملذّات، لماذا؟ لأنَّ حركته هذه لا تتوافق مع هدفه الذي يريده.

نسعَد في الدنيا إذا جاءت حركتنا متوافقة مع الهدف الذي خلقنا من أجله:
أي أنَّ القاعدة الأولى لن تصح حركتك إلا إذا عرفت هدفك، والقاعدة الثانية لن تسعَد إلا إذا جاءت حركتك متوافقةً مع الهدف الذي خُلِقت من أجله.
لن تسعَد إلا إذا جاءت حركتك متوافقةً مع هدفك، إذاً نحن في الدنيا لماذا خُلقنا؟

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
(سورة الذاريات)

متى نَسعَد؟ عندما نتحرك وفق الهدف الذي خُلقنا من أجله، نحن خارج رمضان مشغولون بكل شيء إلا بالهدف الذي خُلقنا من أجله، مشغولون بتحصيل الرزق، مشغولون بأسعار العملات، مشغولون بالحروب التي تدور هنا وهناك، طبعاً هذا أمرٌ جيد لأنه

{ مَن أصبح وهَمُّه الدنيا ، فليس من اللهِ في شيءٍ ، ومَن لم يَهْتَمَّ بأمرِ المسلمينَ فليس منهم ، ومَن أَعْطَى الذِّلَّةَ من نفسِه طائعًا غيرَ مُكْرَهٍ ، فليس منا }

(أخرجه الطبراني السلسلة الضعيفة)

لكن المساحة أحياناً تكون أكبر من المطلوب، مشغولون بهَمّ الأولاد، بهَمّ المدارس، بهَمّ التعليم، أمّا في رمضان فشغلنا الشاغل هو عبادة الله، صائمون في النهار قائمون في الليل، غضّ بصر، حفظ لسان، ابتعاد عن المُحرَّمات، يعني نحن في رمضان نُعبِّدُ حياتنا وفق منهج الله، وهذه هي العبادة بمفهومها العام، ألا نقول في اللغة طريقٌ مُعبَّدة؟ أي وطئتها الأقدام حتى أصبحت مُذللَّةً مُيسَّرة، مُعبَّدة، ونحن نُعبِّد حياتنا لله، بمعنى أننا نجعلها مُيسَّرةً ومُذللَّةً لمنهج الله، فلا نتحرك إلا وفق منهج الله، وهذه هي العبادة.
فنحن نسعَد في رمضان بأننا نُعبِّد حياتنا لله، هذه مُقدِّمة لِما أُريد أن أصل إليه.
الآن هذه العبادة، فيها عبادات شعائرية، صلاة، صيام، زكاة، حج، وفيها عبادات تعاملية، صدق، أمانة، محبة، ودّ، تواضع، إيثار، وكلها مطلوبة، ومَن ظنَّ أنَّ الدين هو العبادات الشعائرية فقط، فيأتيه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:

{ من لم يدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ بِهِ ، فليسَ للَّهِ حاجةٌ بأن يدَعَ طعامَهُ وشرابَهُ }

(أخرجه البخاري والترمذي والنسائي)

(الزور)أي الكذب، فليس لله حاجةٌ
وحديث صلى الله عليه وسلم:

{ ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ وربَّ قائمٍ ليسَ لَه من قيامِه إلَّا السَّهرُ }

(أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه)

ويأتيه قوله صلى الله عليه وسلم:

{ أعلمنَّ أقوامًا من أمتي يأتون يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تهامةَ بيضًا فيجعلُها اللهُ عزَّ وجلَّ هباءً منثورًا قال ثوبانُ يا رسولَ اللهِ صِفْهم لنا جَلِّهم لنا أن لا نكونَ منهم ونحنُ لا نعلمُ قال أما إنهم إخوانُكم ومن جِلدتِكم ويأخذون من الليلِ كما تأخذون ولكنَّهم أقوامٌ إذا خَلْوا بمحارمِ اللهِ انتهكُوها }

(صحيح ابن ماجه)

فإذاً العبادات هي كُلّ مُتكامل بين الشعائر والمعاملات.

العبادات ثلاثة أنواع: عبادة الوقت وعبادة الظرف وعبادة الهوية
الآن عندنا عبادة تُسمّى عبادة الوقت، وعندنا عبادة تُسمّى عبادة الظرف، وعبادة تُسمّى عبادة الهوية، عبادة الوقت الآن صيام، العبادة الآن الامتناع عن الطعام والشراب، بعد ساعة العبادة هي تناول الطعام والشراب، فالذي لم يتناول الطعام عند أذان المغرب وقال أُريد أن أعبد الله بالامتناع، فنقول له ربنا لا يرضى عنك، الآن أصبحت العبادة مختلفة، هذا الوقت له عبادة وهذا الوقت له عبادة، بعد عبادة الطعام تأتي عبادة القيام، عند السحور هناك عبادة اسمها الأكل والشُرب، تسحروا، في الحج هناك عبادة الدعاء في عرفة، وتذلُل والتجاء إلى الله تعالى، تصِل إلى مزدلفة عليك السكينة السكينة، نام، عبادتك الآن النوم، لذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: <<إن لله في النهار عبادةً لا يقبلها في الليل، وعبادةً في الليل لا يقبلها في النهار>>.
أي أنه أنا لا يصح أبداً في النهار أثناء العمل أن أجلس في المسجد، وأهلي لا يوجد عندهم طعام وشراب، ولا يصح في الليل أن أكون سهران مع أهلي على الشاشة، ولا أُصلّي ركعتين قيام، فهذه العبادة تُسمّى عبادة الوقت، الوقت الذي نحن فيه، وهناك عبادة اسمها عبادة الظرف، الظرف الذي أنت فيه، الآن في هذه اللحظة عندي ضيف، عبادتي الأولى هي إكرام الضيف، الآن في ظرف إخواننا في غزَّة ينزِل بهم ما ينزِل، العبادة الأولى هي إيصال المساعدات لهم، ومن لم يستطع عليه بالدعاء لهم، من لم يستطع التعاطف معهم والدعاء لهم، هناك عبادة الآن لظرف مُعيَّن ينزِل في الأمة، القنوت في الصلوات، توجيه الأطفال لأهمية المسجد الأقصى، لأهمية ما يحصل لأهلنا، إظهار التعاطف معهم، عدم إقامة الحفلات البازخة، هذا اسمه عبادة الظرف، الظرف الذي نحن به يتطلب الآن هذه العبادة.
والعبادة الثالثة هي عبادة الهوية، وأنا أطَلت بالمقدّمات أُريد أن أصِل إلى عبادة الهوية في موضوع الأسرة، عبادة الهوية مَن أنت؟ أين أنت؟ ما الذي أقامك الله تعالى فيه؟ فأنت اليوم أب، عبادتك الأولى في هويتك أن تُربّي أولادك، وأن تُأمِّن لهم متطلبات الحياة بالحلال وبعِزة الأنفس، ومَن أنتِ؟ أنتِ أُم، عبادتك الأولى تبَّعُل زوجك وتربية أولادك وبناتك على الحشمة والطهارة والحجاب والعِفّة والقيام بشأن البيت:

{ انصرِفي أيَّتُها المرأةُ وأعلِمي من وراءكِ من النِّساءِ أن حُسنَ تَبعُّلِ إحداكنَّ لزوجِها وطلبَها مَرضاتَهُ واتِّباعَها موافقتهُ يعدِلُ ذلِكَ كلَّهِ }

(الألباني السلسلة الضعيفة)

بما فيه الجهاد في سبيل الله تعالى.
ومَن أنت؟ أنتَ ابن أو ابنة، أخ أو أخت، فلكَ عبادة، البرّ، الطاعة، المعاونة، المساعدة، وأنتِ أخت، عبادتك الأولى إكرام أخيكِ، وأنتَ أخ عبادتك الأولى الآن في هويتك هي أن تُكرِم أختك وتُحصِّنُها وأن تصونها من نظرات العابثين، وأفكار المُنحرفات والمُنحرفين.

عبادة الهوية هي أن تعبُد الله فيما أقامك به:
إذاً هذه العبادة عبادة الهوية هي ما نحتاجه اليوم ضمن الأُسرة المسلمة، عبادة الوقت نحن في رمضان، صيام وقيام، عبادة الهوية أن تعبُد الله عزَّ وجل فيما أقامك الله تعالى به، يعني بأوسع من ذلك، الغنيّ عبادته الأولى إنفاق المال، فإذا قال أنا سوف أُصلّي وأصوم عوضاً عن إنفاق المال، نقول له لا يمكن ذلك، طبعاً هذا ليس تقليل من شأن الصلاة، الصلاة والصيام واجب، لكن أنا أُكثِر من النوافل، لا يكفي أن تُكثِر من النوافل، أنت عندك اثنان ونصف بالمائة وعندك حق في المال سوى الزكاة، أنت غنيّ ربنا أقامك غنيّ من أجل أن تُنفِق لمصالح المسلمين، إذا كان إنسان عنده عِلم، نقول له عبادتك في هويتك غير العبادات العامة، أن تُعلِّم العِلم وأن تنشر العِلم، أنت أقامك الله عزَّ وجل بمنصب مُهِم حسّاس، من أهم عباداتك أن تُحقَّ الحقّ وأن تُبطِل الباطل، بعد العبادات الشعائرية بعد الفرائض، أهم العبادات.
سأضرب مثلاً لأوضِّح هذه المسألة بشكل كبير، ومُنتزع من الواقع، أُمّ لها حُب لله عزَّ وجل ولله الحمد، فقامت الليل بغير رمضان في يوم من أيام العام، قامت الليل وبقيَت طوال الليل تُصلّي وتدعو وتذكر الله، وعند أذان الفجر صلَّت الفجر ثم أوَت إلى فراشها ونامَت، بعد ساعة أو ساعة ونصف حان وقت المدارس، استيقظ أولادها وهي غير قادرة على الاستيقاظ، لأنها قضَت الليل كاملاً في القيام، وأولادها صغار يريدون الذهاب إلى المدرسة، ثيابهم غير مكوّية كما ينبغي، البرنامج المدرسي يجب التأكد من كتُب وواجبات الأطفال، بحاجة أن تقوم بعمل السندويشات لهم بشكل مُحكم حتى لا يخرج منهم شيء، تودّعهم بابتسامة حامية وعناق حتى يذهبوا للمدرسة بنشاط وهمَّة، ويشعروا بالناحية الأُسَرية، فكل ذلك لم يحصل، فذهبوا مُقصّرين في الإعداد، سواءً باللباس أو متطلبات المدرسة، وهي عبَدت الله، لكن هي ما عبَدت الله فيما أقامها، عبَدت الله فيما تُحب هي، هي تحب القيام، هناك أُم ثانية، قامت الليل، استيقظت قبل الفجر بربع ساعة، ركعتين قيام مُتقنتَين، وعند أذان الفجر صلَّت الفجر وقرأت صفحتين من القرآن، ثم أيقظت أولادها من أجل المدرسة، رتَّبت دروسهم، أعدَّت لهم طعامهم، ودَّعتهم بكلام طيب، بأية قرآنية، بحديث نبوي، بتربية وتهذيب مُعيَّن، ودَّعتهم إلى باب المنزل، هذه عبَدت الله تعالى فيما أقامها الله في أُسرتها، وأنا لا أتألّى على الله لكن أقول، لعلَّ مقام الثانية عند الله أرفع من مقام الأولى، لأنها فقهت عبادة الهوية.
حسناً أنا من أين جِئت بهذا الكلام؟ النبي صلى الله عليه وسلم، عندما كان يُسأل أي الأعمال أفضل، ابحثوا اليوم أي الأعمال أفضل، هناك سبع وعشرون جواب بالسُنَّة، لا أذكُر الرقم بالضبط، لكنه ست وعشرون أو سبع وعشرون، هناك أجوبة أي العمل أفضل مختلفة، لأنه يوجد هوية للشخص، عندما يسأله رجُل غني يقول له أنفِق مالك، وعندما يسأله ابن يقول له برّ والديك، أنت اليوم عندما تلتقي بشاب ويقول لك انصحني، تقول له حافظ على دراستك، وإذا التقيت أصغر تقول له برّ والديك، تلتقي برجُل ويقول لك انصحني، تقول له انتبه لأُسرتك، شاب غير متزوج تقول له غض بصرك، تنتبه لحال السائل ولهويته، فتنصحه بناءً على هويته، إذا شيخ عمره ثمانون سنة وقال لك انصحني يا بُني، تقول له غضّ بصرك عن محارم الله، انتبه وأنت في الطريق أن تنظر إلى امرأة لا تحلُّ لك، ربما يكون لكن هذا نصيحته مختلفة، إذا غنيّ تقول له أنفِق مالك، وإذا كان فقيراً تقول له تَجمَّل بالعفاف، فهناك هوية للإنسان ينبغي أن يعبُد الله فيما أقامه الله وفق هويته، في رمضان الأُسرة المسلمة تتكامل بهذه النوعيَّة من العبادة، فيعبُد كل واحدٍ ربه بما أقامه إضافة للعبادة الجماعية.

من أعظم الأعمال في الأسرة أن تُدخِل الفرح على قلوب أبنائك وزوجتك:
الشيء الأخير أحبابنا الكرام ولا أُريد أن أُطيل عليكم، في اجتماعين مُهِمَّين كما قلت لكم.

{ تَسَحَّروا؛ فإنَّ في السَّحورِ بَرَكةً }

(أخرجه البخاري ومسلم)

كما قال صلى الله عليه وسلم، البركة هنا ليست بركة الطعام فقط لأنها مُطلقة، بركة الوقت الذي هو قبل الفجر، بركة الاجتماع، اجتماع الأُسرة، إيقاظ الأُسرة للسحور وهذا أمر مُهمّ جداً ولطيف في رمضان والأُسرة، أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ يا رسولَ اللَّهِ إنَّا نأكلُ ولا نَشبعُ قالَ: فلعلَّكُم تأكُلونَ متفرِّقينَ ؟ قالوا: نعَم، قالَ: فاجتَمعوا على طعامِكُم، واذكُروا اسمَ اللَّهِ علَيهِ، يبارَكْ لَكُم فيهِ }

(صحيح ابن ماجه)

فدعا للاجتماع على الطعام، وقال صلى الله عليه وسلم:

{ كلوا جميعًا ولا تفرَّقوا، فإِنَّ طعامَ الواحدِ يكفِي الاثنينِ، وطعامُ الاثنينِ يكفي الثلاثةَ والأربعةَ، كلوا جميعًا ولا تفرَّقوا، فإِنَّ البركَةَ في الجماعةِ }

(أخرجه ابن ماجه والديلمي)

فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى الاجتماع على الطعام، وهذا يؤدي من لزوم ذلك أن يكون في هذا الاجتماع استثمار لهذه الفرصة، بأن يكون هذا الاجتماع به كلمة طيبة، إيناس، فرحة تُدخِلُها على قلب أبنائك وقلب زوجتك، كلام طيّب، طُرفة، أي شيء استثمار لهذا الاجتماع.
وأخيراً فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ للصَّائمِ فرحتانِ : فرحةٌ حينَ يفطرُ ، وفرحةٌ حينَ يَلقى ربَّهُ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

ومن أعظم الأعمال في الأُسرة، أن تُدخِل الفرح على قلوب أبنائك عند فِطرِهم في كل يوم، وعند فِطرِهم النهائي في الأول من شوال، يوم نذهب جميعاً إن شاء الله مع أُسَرِنا لنُكبِّر الله تعالى على ما هدانا، ولنشكره على نعمة رمضان ونعمة الهداية في رمضان، أسأل الله لي ولكم دوام التوفيق واللّطف والعافية، وشكراً لإنصاتكم واستماعكم، ونسأل الله أن يُفرِّج عن أهلنا في غزَّة ما أهمَّهُم وما أغمَّهُم، وأن يُفرِّج عن أهلنا في الشام ما أهمَّهُم وما أغمَّهُم، اللهم أطعِم الجوعى، واكسُ العُراة، وارحم المصابين، وآوِ الغرباء، واجعل لنا في ذلك عملاً مُتقبّلاً صالحاً يا أكرم الأكرمين، ونَجّي المستضعفين من المؤمنين، وأهلِك عدوهم يا كريم، واجعل هذا الجمع جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل التفرُّق من بعده معصوماً، ولا تجعل فينا ولا مِنّا ولا معنا شقيّاً ولا محروماً، وصلِّ إلَهي وسلِم وبارك على نبينا محمدٍ وآله وأصحابه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.