تفسير سورة الفاتحة

  • 2019-11-04

تفسير سورة الفاتحة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.


معاني البسملة :
1 ـ نقل النعمة إلى المنعم :
اليوم حديثنا عن سورة الفاتحة كما طلب أبو عوني جزاه الله خيراً.
سورة الفاتحة من سبع آيات، باعتبار أن البسملة آيةٌ من الفاتحة، وهو على رأي أكثر العلماء أن البسملة آيةٌ من بداية سورة الفاتحة، ولن ندخل في التفاصيل الفقهية فلا تعنينا هنا، لكن البسملة جزء من الفاتحة كما يقول أكثر العلماء:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ *
(سورة الفاتحة: الآية 1-7)

أمرنا النبي أن نبدأ أي عمل بالبسملة
البسملة أخواننا الكرام؛ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ *} أنت إذا أردت أن تفعل أي شيء تبدأ فتقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} والنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نبدأ أي عمل بالبسملة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} يوجد فعل مقدّر محذوف، أي إذا أردت أن أشرب أقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} أي أشرب بسم اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، وإذا أردت أن أقرأ أقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} أي أقرأ بسم اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، أقرأ مستعيناً بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، بهذا المعنى، فالبسملة، إذا بسمل الإنسان، إذا قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، لها معنيان، كيف هذا الأمر؟ أنا أردت أن أشرب قلت: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}، مادمت أشرب بسم الله الرحمن الرحيم فهل أنت قد نظرت في نعمة الله عليك في هذا الكأس الذي تشربه! هذا المعنى الأول، أحياناً النعم إذا ألفت نُسيت، أو غفل عنها الإنسان، النعم المألوفة يغفل عنها الإنسان ولا ينتبه إليها، أي لو نظر الإنسان في كأس الماء وجد من عظمة الله عز وجل في هذا الماء الشيء الكثير، أنت عندما تقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} وتفتح لتقرأ، أولاً: وهب لك عينين، ولو لم يهبك عينين لما استطعت القراءة، ثانياً: أعطاك المطابقة حتى تستطيع أن تقرأ، ثالثاً: عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ:

وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ
(سورة النساء: الآية 113)

علمك اللغة، {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}:

عَلَّمَهُ الْبَيَانَ
(سورة الرحمن: الآية 4)

ثم أعطاك يدين أمسكت الكتاب، أو أمسكت الهاتف الذي فيه ما تقرأه إلخ..، أي في كل نعمةٍ من نعم الله عز وجل لو أمضى الإنسان عمره وهو يعدها لما استنفدها، قال تعالى:

وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
(سورة النحل: الآية 18)

أنت عاجز عن إحصاء نعم الله عليك
هناك نكتة بلاغية ذكرها العلماء، قالوا: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ} نِعْمَةَ: مفرد، والعدد يكون للجمع، أي أنا لا يمكن أن أعطيك قلماً وأقول لك: عُدَّ هذا القلم، تقول لي: واحد لا يلزمه عد، هو قلمٌ واحد فماذا أَعُدُّه! أما أعطيك مجموعة أقلام وأقول لك: عُدَّها، فالله تعالى ما قال: وإن تعدّوا نِعَمَ الله، قال: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} قال العلماء: أنت عاجزٌ عن إحصاء خيرات النعمة الواحدة، لأنّ في كلّ نعمةٍ آلافاً من النِّعَم لا ينتبه لها الناس، كل نعمة لا تحصوها، فلأن كنت عاجزاً عن إحصائها فأنت عاجزٌ عن شكرها من باب أولى، إذاً الإنسان لا يستطيع أن يحصي خيرات نعمةٍ واحدة، البصر نعمة لكن ما الآثار العظيمة لهذه النعمة؟ لا تعد ولا تحصى، فقال: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ}، إذاً نعود عندما نقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} وأنت تشرب كأس ماء، ضربنا المثل على كأس الماء، فأولاً: هل تفكّرت في نعمة الله عليك في هذا الكأس؟! غير المؤمن يبقى مع النعمة، أما المؤمن فتنقله النعمة إلى المنعم جلّ جلاله، الناس عموماً الذين لا يلتزمون بصراط الله المستقيم حياتهم مع النعمة، يقول لك: اشتريت سيارة، غيرت البيت، حدثت الهاتف، هو منغمس في النعمة، وينسى المنعم جلّ جلاله، أما المؤمن فتنقله النعمة إلى المنعم، ولا تنسيه النعمة المنعم جلّ جلاله، هذا فرق المؤمن عن غير المؤمن، لا تنسيه النعمة فضل المنعم جلّ جلاله، سأضرب مثالاً طريفاً: أخ كريم دعانا، كما فعل الأخ – جزاه الله خيراً- إلى طعام فانغمسنا جميعاً في الطعام، وأكلنا الطعام ثم غادرنا البيت، وبعد ذلك كان يوجد مصورة – كاميرا - صورت الحدث وعُرض علينا، كُلٌّ منا يذوب خجلاً من نفسه كيف غادرت البيت ولم أنتقل من طبق الطعام إلى من حضّر الطعام وأقول له: جزاك الله خيراً، كيف انغمست بالنعمة ونسيت المنعم الذي جاءت النعمة عن طريقه؟ فالمنعم هو الله جلّ جلاله، فكيف يكون موقف الإنسان بين يدي الله عز وجل إذا جاءه يوم القيامة وقد خرج من الدنيا وتنعم بها لكنه نسي المنعم جل جلاله؟! فعندما أقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} أولاً: يجب أن تنقلني النعمة إلى المنعم، أتذكر أنني آكل باسمه، وأشرب باسمه جلّ جلاله.

2 ـ تطبيق منهج الله في الطعام و الشراب :
تطبيق منهج الله في الأكل والشرب
الأمر الثاني: عندما آكل باسمه، وأشرب باسمه، يجب أن أطبق منهجه فيما آكل وفيما أشرب، هذا الملمح الثاني في البسملة، أنا أمسكت كأس الماء، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، يا رب لك الحمد، ماء عذب لا لون، ولا طعم، ولا رائحة، يحبه الجميع، ومتوفر، أنعم الله به عليك، هذا الجانب الأول، الجانب الثاني: كيف شرب النبي صلى الله عليه وسلم؟ شرب جالساً، أشرب جالساً، شرب على ثلاث دفعات، أشرب على ثلاث دفعات، سمّى في البداية وحمد في النهاية، أسمي وأحمُد، فأنا نظرت من خلال النعمة ووصلت إلى المنعم ثم طبقت منهج المنعم، ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في النعمة، إذا فتحت كتاباً لأقرأ تذكرت نعمة الله عندما أقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} تذكرت نعمة الله التي أنعم بها عليّ، ثم لم أقرأ شيئاً لا يرضي الله تعالى، لا أقرأ إلا ما يرضيه، لأنني أقرأ باسمه جلّ جلاله، فلا يجوز أن أقرأ في شيءٍ لا يرضي الله تعالى، أو يصرفني عن منهج الله، أقرأ شيئاً يرضي الله، هذا معنى البسملة.

التمييز بين الرحمن و الرحيم :
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} الآن الرَّحْمَٰنِ والرَّحِيمِ، اسمان من أسماء الله تعالى، وقد اختلف العلماء في التمييز بينهما من (الرَّحْمَٰنِ)؟ ومن (الرَّحِيمِ)؟ (الرَّحْمَٰنِ) أرحج الأقوال اسم ذاته، والرَّحِيمِ: اسم أفعاله جل جلاله، كيف؟ (الرَّحْمَٰنِ) جل جلاله لا يطلق إلا على الله تعالى، لا يجوز أن تقول: فلان من العباد رحمن، أما يجوز أن تقول: لي صديقٌ رحيم، لكن الرحمن هو الله وحده لأنه اسم ذات، كيف اسم ذات؟ الآن انظروا في القرآن الكريم كل الآيات:

وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا
(سورة الأحزاب: الآية 43)

الفرق بين الرحمن والرحيم
فالرحمة فعل، الرحمة هو ما يفعله الله معك من رحمة، يرحمك في الدنيا، يرحمك في الآخرة، هذه رحمة، أما (الرَّحْمَٰنِ) جل جلاله فهي صفة ذاته، فلا نقول: كان رحماناً بالمؤمنين، نقول: كان رحيماً بالمؤمنين، فالرَّحْمَٰنِ اسم ذاته، والرَّحِيمِ صفةٌ لأفعاله جل جلاله، هذا الفرق الجوهري بين الرَّحْمَٰنِ والرَّحِيمِ، الآن الرَّحْمَٰنِ قد يسوق لعبده بعض المصائب، انظروا إلى قوله تعالى:

يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا
(سورة مريم : الآية 45)

إذا قرأ الإنسان الآية لأول مرة يتبادر إلى ذهنه: أخاف أن يمسك عذابٌ من الجبار، من المنتقم، من العظيم، جاءت الآية {إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ} لأن الرَّحْمَٰن تقتضي رحمته جل جلاله أحياناً أن يسوق لعبده عذاباً أدنى دون العذاب الأكبر، لعله يرجع إلى ربه، ويؤوب إليه، حتى لا يميته إلا وهو على التقى والتوحيد، فالعذاب يأتي من الرَّحْمَٰنِ أحياناً {إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ} أما الرَّحِيمِ فهي صفة الفعل، وقد قال الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يكُ راحماً فلْيَقْسُ أحياناً على من يرحمِ ***
{ أبو تمام - العصر العباسي }
أحياناً يقسو الإنسان على ابنه رحمةً به، هذا الفرق بين الرَّحْمَٰنِ والرَّحِيمِ.

اختصاص الله تعالى بجميع المحامد ما علمنا منها وما لم نعلم :
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هذه (ال) قبل الحمد، هي (أل التعريف): لها أنواع في اللغة العربية، هذا النوع هنا هي (أل) الاستغراق (أل) الاستغراقية، أي جميع المحامد ما علمنا منها وما لم نعلم فهي لله وحده، هذه (أل) الاستغراق، وهناك (أل) العهد، وهناك (أل) الموصولية، هذه (أل) الاستغراقية.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي جميع المحامد ما علمنا منها وما لم نعلم هي لله تعالى وحده، يختص بها من دون كل خلقه جل جلاله.
هناك حمد وهناك شكر
(الْحَمْدُ لِلَّهِ)، ما الْحَمْدُ؟ الْحَمْد: هو حالة نفسية مبنية على شعور بفضل الله تعالى عليك، يمتلئ قلبك حمداً له فينطلق لسانك، وتنطلق جوارحك شكراً له، هناك حمد وهناك شكر، الْحَمْد: حالة بالنفس أنت بكل كيانك، بكل جوارحك، تشعر أنك قد امتلأت حباً للإله الذي أعطى، والذي منح، والذي رزق جلّ جلاله، هذا هو الحمد، لكن الشكر هو السلوك والعمل، تقول: شكراً، الشكر على شيء فعله معك إنسان، يعطيك شيئاً تقول له: شكراً لك، فالشكر على الفعل، أما الحمد فهو هذه الحالة النفسية التي تمتلئ بها جوارحك عندما ترى عظيم فضل الله عليك، فتقول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، تكملة للفائدة نحن عندنا شكر وعندنا مدح وعندنا حمد، كيف؟ المدح لصفة في الإنسان، أقول لك: فلانٌ كريم، تقول لي: هل أعطاك شيئاً؟ أقول لك: لا والله لم يعطني شيئاً وما رأيته لكنني أمدحه لأنني أعلم أنه كريم، هذا مدح، أنا ما نالني منه شيء، لكنني أعرف أنه كريم فمدحته بالصفة التي هي فيه، الشكر؛ أقول: شكراً لفلان لأنه منحني، أعطاني، فأشكره على عطائه مقابل شيء، المدح صفة، الحمد هو مدحٌ وشكرٌ معاً، فالله تعالى مُتّصفٌ بكل صفات الكمال جلّ جلاله، ويعطي عباده كلهم جلّ جلاله، فهو يُمدح ويُشكر، هذا هو الحمد.

الربوبية و الألوهية :
رب الأسرة يتابع شؤون عائلته
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الرب، هنا المفهوم مهم جداً أرجو أن يوفقني الله إلى توضيحه، الرب: نحن عندنا رُبوبية وعندنا أُلوهية، تسمعون بالمصطلحين، هناك ربوبية وأُلوهية، الربوبية: هي كل شيءٍ من الله إليك، الرب هو السيد، أنت تقول: فلان رب الأسرة، ماذا يعني الأب رب الأسرة؟ أي هو الذي يطعمهم ويسقيهم، يعمل ليأتي لهم بالرزق، يسجلهم بالمدارس، مساءً يتابع تحصيلهم العلمي، ويقول لهم: ماذا تعلمتم اليوم؟ كيف دراستكم؟ إذا أساء ابنه يعاقبه، إذا أحسن يكافئه، هذا رب الأسرة، يتابع شؤون عائلته، وأسرته الصغيرة، وأولاده، وزوجته، فهو رب الأسرة، ولا يجوز أن نقول: فلان رب، لكن نقول: رب الأسرة، رب العمل، مع مضاف إليه، فهذا الشخص يربي.
الآن نفس المعنى ولله المثل الأعلى {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ماذا يعني رب العالمين؟ أي هناك بالأرض اليوم فقط من البشر، والعالمين كل العوالم حتى النباتات والحيوانات، لكن لو أخذنا البشر فقط، اليوم هناك في الأرض يوجد سبعة مليارات شخص، إذا كل شخص احتاج كل يوم رغيف خبز واحد أي نحتاج سبعة مليارات رغيف خبز، ناهيك عن اللحوم، وناهيك عن الماء، وناهيك عن الشراب، وناهيك عن أنواع النباتات، عن الأفلاك، يربّي جل جلاله، هو الرب، هو رب العالمين يربي كل شيء، الآن لا يربي فقط أجسامنا، الرب جلّ جلاله ليس فقط تنمو أجسامنا، ونأكل، ونشرب، وأعطانا زوجة وأولاداً، وبيتاً، ومسكناً، ومأوى، لا، يربي نفوسنا أيضاً، كيف يربي نفوسنا؟ إذا أحسنت تشعر بسعادة، هذا من مفهوم الربوبية، جلّ جلاله، إذا أنت فعلت معروفاً مع إنسان ألا تشعر في داخلك بسعادة؟ هذا السرور الذي في داخلك هو ربوبية من الله عز وجل، يربيك من أجل أن تعيدها، وإذا لا قدر الله إنسان أساء إساءة يقول لك: والله لم أنم، لماذا لم تنم؟ لأن فطرتك أزعجتك، هذا من مفهوم الربوبية، ربنا جلّ جلاله يربيك، فإذا أحسنت كافأك، وإذا أسأت نسأل الله السلامة عاقبك بشعور نفسي، أو بشيء، أحياناً يعاقبك بشيء تشعر هذا الشيء من أجل هذا الشيء، تقول: والله أنا أخطأت بهذا الموضوع، سبحان الله خرجت من المنزل جاء شخص فعل لي مشكلة، هذه مقابل هذه، هذه تربية، فالرب جلّ جلاله يربي الأجساد، فيمدها بما تحتاجه، ويربي النفوس بأن يدلها عليه جلّ جلاله من خلال بعض المصائب، من خلال بعض الإحسان، بعض المكافأة، إلخ...، فهو رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْعَالَمِينَ: كل خلق الله، العوالم أي عالم، الجن عالم، والحيوانات عالم، والنباتات عالم، والجمادات عالم، والله رَبِّ الْعَالَمِينَ، كل العوالم جلّ جلاله يربيها، هذا معنى رَبِّ الْعَالَمِينَ.

تلخيص لما سبق :
رب العالمين مع خلقه بالرحمة
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} (الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) طبعاً كُررت هنا مرة ثانية للتأكيد على مفهومها، لأنه قد يتبادر إلى الذهن إذا قلت: رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرب هو السيد، فأنت يقع في نفسك خوف أن هذا رَبِّ الْعَالَمِينَ، فجاء فوراً بالصفة التي تحرك فيك كوامن الحب، والشوق له جلّ جلاله، قال: (الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) أي لا تخف هو رَبُّ الْعَالَمِين، لكن يتعامل مع خلقه بالرحمة، يتعامل مع خلقه باللطف، بالحب، لأن الناس إذا سمعت فلاناً ليس رب العالمين، فلان القائم على أمور هذا البلد يرتعش، على بلد واحد، على مليون رجل، يرتعش، يقول لك: فلان الأمور كلها بيده، فربنا عزّ وجل (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) جاءك فوراً (الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) فتعاملُ هذا الرب مع عباده، هذا السيد العظيم مع عباده، هذا المربي جلّ جلاله مع عباده هو تعامل مبني على الرحمة، الرحمن في ذاته، الرحيم في أفعاله، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هذه الكلية الأولى، (الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) التعامل وفق مبدأ الرحمة، نحن يومياً نقرأ فاتحة الكتاب سبع عشرة مرة، إذا الشخص صلّى الفروض فقط خمس صلوات عنده سبع عشرة ركعة، بكل ركعة الفاتحة:

{ لا صلاةَ لِمَن لم يقرَأْ بفاتحةِ الكتابِ }

(رواه البخاري ومسلم)


الفاتحة ركن من أركان الصلاة :
الفاتحة ركن من أركان الصلاة
لذلك الفاتحة ركن من أركان الصلاة عند الشافعية، وواجب عند الحنفية، أي ما يقترب من الركن لكن درجة أقل، فلا تصح صلاة دون فاتحة الكتاب، فعندك سبع عشرة مرة إذا زدت لهم النوافل يصبحون خمساً وثلاثين، وإذا صليت قيام الليل فأنت ربما في اليوم تقرأ خمسين مرة سورة الفاتحة، لماذا جعلها الله عز وجل في هذا المكان كما في الصحيح:

{ مَن صَلَّى صَلاةً لَمْ يَقْرَأْ فيها بأُمِّ القُرْآنِ فَهي خِداجٌ ثَلاثًا غَيْرُ تَمامٍ. فقِيلَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّا نَكُونُ وراءَ الإمامِ؟ فقالَ: اقْرَأْ بها في نَفْسِكَ؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: قالَ اللَّهُ تَعالَى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ العَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ}، قالَ اللَّهُ تَعالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قالَ اللَّهُ تَعالَى: أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ: {مالِكِ يَومِ الدِّينِ}، قالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وقالَ مَرَّةً فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي، فإذا قالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قالَ: هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ: {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ }

(صحيح مسلم)

قال: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، انظروا مفهوم الرحمة {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ولعبدي ما سأل، هذا مفهوم الرحمة، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ}، قال: شكرني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالِكِ يَومِ الدِّينِ}، قال: مجدني عبدي، وإذا قالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قالَ: هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، من العبد العبادة ومن الله الإعانة، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ: {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ.

الله تعالى مالك كل شيء خلقاً وتصرفاً ومصيراً :
الله مالك كل شيء
إذاً مفهوم الفاتحة أنها بين الله وبين العبد، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مالِكِ يَومِ الدِّينِ}، المُلك: طبعاً يوجد قراءة مَلِكِ يوم الدين، وهي قراءة متواترة وصحيحة، المالك هو الذي يملك، أي بيده الأمر، فإذا قلنا: فلان يملك هذا البيت، فأمر البيت بيده، لكن مُلك الإنسان ناقص، كيف؟ هذا البيت لفلان، هل هو الذي أنشأه؟ لا، شركة الإسكان، ثم أعطته إياه، فهو لم يخلقه أو لم ينشئه ولكنه أصبح بيده، هل يستطيع أن يتصرف به تصرفاً مطلقاً؟ لا، هناك قوانين بالبناء وبالبلدية، هذه الحمامات مكانها ثابت تريد إزالة حائط يمكنك ذلك، لكن أن تنقل الحمام لمكان آخر لا يسمحون لك، أن تعمر بروزاً للخارج تأتي البلدية، تأتي أمانة عمّان، تمام؟ فأنت متصرف لكن تصرفك محدود، ثم مصير هذا البيت لك؟ لا والله، الآن لي لكن بعد عشر سنوات لا أعلم لمن، بعد مئة سنة من المؤكد لن يكون لي، لا أعلم لمن، أهو للورثة؟ لمن بعدهم؟ يبيعونه؟! إذاً ملك الإنسان هو ملك ناقص، أما الله تعالى فهو يملك كل شيء، خلقاً وتصرفاً ومصيراً، السماوات ملك من؟ الله، من خلقها؟ الله، من يتصرف بها كيفما يشاء؟ الله، إلى من ستعود ملكيتها؟ إلى الله، هذا المالك الحقيقي، لذلك كان من روعة العرب أنه يُسأل الأعرابي: لمن هذه الإبل؟ يقول: هي لله في يدي، أنا الآن يدي عليها يد أمانة، وليست يد ملك، لأنّي الآن يدي عليها، وهي ليست دائماً لي، هي في يدي ولكنها ليست لي، هذا الفهم العميق قال: هي لله في يدي، أما ربنا عزّ وجل المالك الملك جلّ جلاله فيملك كل شيء خلقاً وتصرفاً ومصيراً.

الإيمان باليوم الآخر لتسوية الحسابات :
في سورة الفاتحة قال: {مالِكِ يَومِ الدِّينِ} إشارة إلى يوم الجزاء، يوم الدين هو يوم الجزاء الذي تدين فيه الخلائق لله تعالى فينبغي في كل صلاة، في كل ركعة، أن تذكر اليوم الآخر، لأنه لن يستقيم الإنسان على منهج الله تعالى إلا إذا آمن إيماناً يقينياً بيومٍ آخِر تسوّى فيه الحسابات، ولن يفهم حقيقة ما يجري في الوجود إلا بالإيمان باليوم الآخر، لا تستطيع أن تفهم، الحياة تنقضي فيها قوي وضعيف، ظالم ومظلوم، إنسان قتل وشرّد وانتهك وفعل وفعل ثم تنقضي الحياة هكذا؟ لا بدّ من مالك يوم الدين جلّ جلاله، لذلك ربنا عزّ وجل عندما وصف البعيدين عنه قال:

يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
(سورة الروم: الآية 7)

لا بدّ من يوم تسوّى فيه الحسابات
المؤمن ينظر بعينين، عين الدنيا وعين الآخرة، لن تستقيم الحياة دون إيمان باليوم الآخر، مستحيل، أنت إذا جلست في مسرح وعليه عرض مسرحي فرضاً، ومازال الظالم يتحكم بالمظلوم، وقوي عليه، ثم أغلق الستار لا يقوم أحد من الجالسين، لماذا؟ يقول لك: لم ينته بعد، هناك تكملة، المشهد الأخير الختامي سينتصر المظلوم، ويأخذ حقه من الظالم، هكذا تقتضي الحكاية أو الرواية، الآن نحن في هذه الحكاية الكبيرة، في الدنيا، في هذه القصة الكبيرة من آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هل تستطيع أن تفهم عدل الله عزّ وجل وحكمته إلا أن تفهم أنّ هناك يوماً آخِر؟ مستحيل، لذلك ابن القيّم الجوزية انفرد من بين العلماء، قال: الإيمان باليوم الآخر دليله ليس نقلياً فقط هو دليلٌ عقليٌّ نقلي، نقلي أي مذكور بالقرآن أنّ هناك يوماً آخر، العقلي قال: لأنه لا يمكن أن يفهم الإنسان أن تنتهي الحياة دون أن يقتصّ المظلوم من ظالمه، العقل يرفض ذلك، لا بدّ من يوم تسوّى فيه الحسابات، فلذلك في كل قراءة فاتحة نقول: {مالِكِ يَومِ الدِّينِ} فهو بيده، لماذا قال: مالك يوم الدين؟ اليوم يوم الدنيا أليس الله مالكه؟ من يملكه؟ الله، لكن الناس لقصر نظرهم يتخيلون أن في الدنيا من يملك غير الله تعالى، فيقول لك أحدهم: يا أخي اليوم اليهود يحكمون العالم، مثلاً، الأمر بيدهم، من جهله، من ضعف إدراكه، فالناس تتخيل باعتبار أن الله منحها حرية الاختيار في الدنيا أن هناك من يملك الأمر في الدنيا، لأن ربّنا منحنا حرية الاختيار، افعل ما تشاء، فالإنسان عندما يختار أن يفعل كذا وكذا فيظن قصير النظر أنّ فلاناً هو من يملك الأمر في الدنيا، لكن عندما يأتي يوم القيامة الخلائق كلها بيد الله، {مالِكِ يَومِ الدِّينِ} هذا لم يعد فيه خلاف.

عبادة الله و الاستعانة به :
الآن: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} {مالِكِ يَومِ الدِّينِ} هذه المقدمات النظرية ما الذي ترتب عليها؟ الموقف العملي {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
قلت لكم منذ البداية بأنّ الربوبية هي كل شيء يأتي من الله للعبد، أي إذا قلت لك: من خلقك؟ الرب جلّ جلاله، من يرزقنا؟ الرب جلّ جلاله، طبعاً الله تشمل الرب، وتشمل كل الأسماء الحسنى، من أعطاك أولاد؟ الله ربنا، فهذا كله ربوبية، كل شيء يأتي من الله إليك فهو ربوبية، لكن كل شيء منك إلى الله فهو الألوهية، أي أن تتجه إلى الله، {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ما مشكلة المشركين؟

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ
(سورة الزمر: الآية 38)

{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} إذا أردتم أن تتوجهوا لمن تتوجهون؟ إلى أصنامهم، ما هذا التناقض! {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} فالإنسان لا يكفي أن يؤمن أن الله قد أعطى ورزق وبيده كل شيء، لكن ينبغي أن ينتقل إلى أن يتوجه إليه، لأن كل شيءٍ بيده، انظروا إلى قوله تعالى:

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(سورة هود: الآية 123)

العبادة اسمٌ جامعٌ لكل خير
{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} كل الأمر من آدم إلى يوم القيامة بالقارات الخمسة مرجعه إلى من؟ إلى الله، لذلك {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} لأن الأمر بيده، فإذا آمنت أن الأمر بيده ينبغي أن تتجه {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، هو {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهو {لرَّحْمَٰنِ} وهو {الرَّحِيمِ} وهو {مالِكِ يَومِ الدِّينِ} إذاً نتوجه إلى من؟ إليه جلّ جلاله، هنا يبدأ الموقف العملي في سورة الفاتحة {إيَّاكَ نَعْبُدُ}، لو قال: نعبدك، لاحتملت أن نعبد غيره، أما عندما قدّم المفعول به على الفاعل {إيَّاكَ نَعْبُدُ} على الفعل {إيَّاكَ نَعْبُدُ} أي لا نعبد إلا الله وحده، {إيَّاكَ نَعْبُدُ} أي لا نعبد إلا إياك يا الله، أبداً، فقط الله عزّ وجل، {إيَّاكَ نَعْبُدُ} العبادة بالمفهوم الذي يتبادر إلى أذهان تسعين بالمئة من الناس صلاة وصيام وزكاة وحج، العبادة بالمفهوم الشرعي هي اسمٌ جامعٌ لكل خير، فإذا كنت في عملك فأنت في عبادة، وإذا كنت مع أهلك وزوجتك فأنت في عبادة، وإذا كنت مع أولادك في نزهة فأنت في عبادة، وإذا كنت في الطريق فأنت في عبادة، العبادة هي مفهوم يرافق الإنسان منذ أن يُخلق إلى أن يموت، يمكن أن يجعل كل حياته عبادة حتى وهو نائم، ولكن ليس نوم الظالمين عبادة، لا، فقط نوم المؤمنين عبادة، لماذا نوم المؤمنين عبادة؟ لأنه ينام فيذكر الله، وينوي التقوي على طاعة الله، وعلى الخير، فنومه يصبح عبادةً، ينام عبادة، يستيقظ إلى عبادة، يذهب إلى العمل في عبادة، حتى إذا أكل فقال: باسم الله، هناك بعض الأدعية: نويت التقوي على طاعة الله، يأكل عبادةً، حتى ولم ينوي بلسانه يكفي أن ينوي في قلبه، كيف تتحول العادة إلى عبادة؟ بالنية، كيف نحول العادات إلى عبادات؟ بالنية الطيبة فقط ولو في القلب، أنا أذهب إلى نزهة مع أهلي من أجل أن أُدخل السرور إلى قلبهم، وهذا مطلب شرعي، أصبحت نزهتي عبادةً أُثاب عليها بهذا المفهوم، فالعبادة هي اسم جامع لكل خير، لكل بر، فعندما نقول: {إيَّاكَ نَعْبُدُ} أي نعبد الله وحده، أي أعمالنا كلها تأتي وفق منهج الله تعالى، لكن لن نستطيع أن نعبده إلا أن يعيننا على ذلك، فقال: {وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} نحن بحاجةٍ إلى مددٍ من الله، وإعانة من أجل أن نعبدك على الطريقة التي تريد يا رب {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} نستعين به على عبادته جلّ جلاله.

أسلم طريق وأقصر طريق هو صراط الله المستقيم :
أسلم طريق هو صراط الله المستقيم
الآن يقولون: {اهْدِنا} الهداية هي الدِّلالة، أي إذا شخص ضاع عن الطريق للوصول إلى البيت، اتصل بصاحب البيت يقول له: اهدني إلى بيتك، فيقول له: أنت أين؟ يقول له: في المفرق الثاني ثالث بناء، وهو يهديه، يدله عليه، يوصله، هذه الهداية هي الدِّلالة أو الدَّلالة، بالكسر والفتح، {اهْدِنا} الآن نطلب من الله تعالى أن يهدينا إلى {الصِّراطَ} أو السراط في قراءة أخرى، لكن (الصاد) هي لغة قريش وهي الأفصح {الصِّراطَ} بالصاد، {الصِّراطَ} هو الطريق، {المُسْتَقِيمَ} سوف نتكلم قليلاً في الرياضيات أو الفيزياء، المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين، وبين نقطتين لا يمر إلا مستقيم واحد، فإذا رسمت ألف مستقيم سوف يأتون فوق بعضهم تماماً بين نقطتين لا يتكرر المستقيم، فصراط الله المستقيم أولاً هو أقصر طريقٍ ليبلّغك هدفك مهما تخيلت أن هناك طرقاً قصيرة لكي تصل، لكن أسلم طريق وأقصر طريق هو صراط الله المستقيم، ثم ليس هناك غيره، مادام مستقيماً لا يوجد غيره، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلم أصحابه بالصورة، هذه أحدث وسائل التعليم، فرسم على الرمل خطاً، وخطّ عن يمينه خطوطاً، وعن شماله خطوطاً، ثم وضع يده على الخط المستقيم، وقرأ قوله تعالى:

وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ
(سورة الأنعام: الآية 153)

{ عن عبد الله بن مسعود، قال: خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، ثم قال: هذا سبيل الله "، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: " هذه سبل - قال يزيد: متفرقة - على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه "، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} }

(إسناده حسن)

ونحن عندما نقرأ قوله تعالى:

يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
(سورة البقرة: الآية 257)

الحق واحد لا يتعدد
ما قال: من الظلمات إلى الأنوار، وما قال: من الظلمة إلى النور، من الظلمات لأن طرق الباطل كثيرة إلى النور الواحد وهو طريق الله، فلا يوجد في الحياة شيء اسمه كل الطرق توصل، لا، هناك طريق الله هو الذي يوصل، وباقي الطرق هي طرق ضلال، ما دامت ليست مستمسكةً بهدي الله فهي طرق ضلال، نتحدث عن الدين وليس عن الدنيا، في الدنيا يوجد طرق كثيرة، في التجارة تسلك طريق التجارة ما دام بالحلال اسلك أي طريق تريد (أنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ)، لكن نتحدث عن الدين، في الدين ليس هناك طرق، الحق لا يتعدد، الحق واحد، وهو صراط الله المستقيم، كتاب الله تعالى، وسنة رسوله.
{اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ} صراط الله الكتاب والسنة الذي أمر الله بهم.

صفات المغضوب عليهم و الضالين :
{صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} يصف هذه الصراط، صراط الخلق الذين أنعم الله عليهم بنعمة الهداية، هداهم إليه جلّ جلاله {غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} المَغْضُوبِ عليهم هم أشخاص عرفوا الحق ثم حادوا عنه وتركوه، مثلاً هناك شخص يقف في مكان، جاء شخص بسيارته وقال لك: الطريق إلى العقبة من أين؟ قلت له: من هنا، أنت دللته، الآن إدارة المرور وضعت له لوحة كبيرة مكتوب: العقبة مباشرةً، وإضافةً لذلك من أجل الليل وضعت له أنوار تشع، العقبة من هنا، وعندما فهم أن العقبة من هنا ذهب إلى اليمين، فهذا بالمصطلح الديني استحق الغضب من الله، لأنه عرف الطريق الصحيح
الضال شخص تائه
بكل الأدلة، ثم حاد عنه، واتجه إلى غيره، أما الضال فهو شخص تائه لا يعرف إلى أين يذهب فذهب بالطريق الخطأ، فالضال انحرف لأنه لم يعرف، والمَغْضُوبِ عليهم عرفوا ثم انحرفوا، المَغْضُوبِ عليهم عرفوا الطريق الصحيح ثم حادوا عنه، وذهبوا إلى غيره، فاستحقوا الغضب من الله والعياذ بالله، أما الضَّالِّينَ فلم يعرفوا الطريق أصلاً، ونحن لا نريد أن نكون لا ممن عرف وانحرف، ولا ممن لم يعرف أصلاً، نريد الطريق المستقيم.

أدب القرآن الكريم :
الآن انظر إلى أدب القرآن الذي نتعلمه من هذه الآية {صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم} أي أنعمت عليهم يا رب، ما قال: غير الذين غضبت عليهم، وغير الذين أضللتهم، قال: {غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} فعندما كان الأمر في الإنعام نسبه جل جلاله إلى ذاته، يا رب؛ أنت تتكلم مع ربنا؛ فعندما تتكلم معه في الإنعام قل له: يا رب أنت أنعمت عليّ، فإذا جاء الغضب والضلال {غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} هذا أدبٌ مع الله، بسورة الجن:

وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا
(سورة الجن: الآية 10)

سيدنا إبراهيم عندما خاطب ربه قال:

وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ
(سورة الشعراء: الآية 79-80)

ثم قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ}، ما قال: وإذا أمرضني، قال:{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فنسب الشفاء إلى الله، والمرض إلى نفسه، هذا الأدب مع الله، مع أن كل شيءٍ بيده جلّ جلاله، هذا معنى الحديث الصحيح: النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ والخيرُ كلُّه في يدَيْكَ والشَّرُّ ليس إليكَ }

(صحيح مسلم)

الشر لا ينسب لله
الشر لا ينسب لله، لأن الشر في الأصل وإن كان كله فعلٌ من الله، الخير والشر من الله بالفعل، لكنه في الأصل من سوءٍ من استخدام الحياة من قِبل العبد، فالله تعالى لا يريد الشر إرادةً بمعنى أنه يريده أن يقع من أجل الشر، لكن الله تعالى يوقع الشر بإرادته جل جلاله موظّفاً لتحقيق الخير فيما بعد، فأنت ما تراه في عينيك شراً هو في حقيقته خلقٌ من خلق الله، لأن الشر والخير هكذا نؤمن جميعاً كله من الله خلقاً لكنه موظفٌ إلى الخير، فالشر للشر ليس مطلوباً في الكون، أن يكون الشر من أجل تحقيق الشر، لا، الله يريد الخير، لكن قد يوظف الشر من أجل الوصول إلى الخير، مثل تماماً نحن كل أسبوع نقرأ سورة الكهف، ونقرأ قصة أهل الكهف، ثم في نهاية القصة الرجل الصالح الذي ذهب معه سيدنا موسى عليه السلام، فكان هناك مظاهر شر، إتلاف ممتلكات، سفينة خرقها، شر، وقتل غلام، شر، وأصلح لأُناس سيئين من غير أن يأخذ منهم أجراً ولو أن يطعموهم، إنهم لم يقبلوا أن يطعموهم، أيضاً في الظاهر شر، لكن لما استبان الأمر، وأظهره الله عز وجل فظهر أن قتل الغلام:

فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا
(سورة الكهف: الآية 81)

ولما جاء بدور الثاني قال: {فَأَرَدْنَا}، وفي الثالثة قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ}:

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا
(سورة الكهف: الآية 79)

عندما جاء دور عيب السفينة، ما قال: فأراد ربك أن يعيبها، قال: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} حتى لا ينسب العيب إلى الله تعالى {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} لكن في الحقيقة كله جرى بأمر الله، لكن كله وظف من أجل تحقيق الخير، فالشر بيد الله، والخير بيد الله، لكن من أدب المؤمن مع الله تعالى أنه يقول: (والخيرُ كلُّه في يدَيْكَ والشَّرُّ ليس إليكَ)، هذا أدب مع الله، فلذلك قال: {صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم} فأنت في الصلاة تقول: {غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} وهو الله هو الذي غضب عليهم، وهو الذي أضلهم بناءً على ضلالهم هم، أي أضلوا فأضلهم الله:

فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ
(سورة الصف: الآية 5 )

فيأتي الإضلال من الله، والإزاغة من الله بناءً على ضلالٍ من الإنسان، وزيغٍ من الإنسان، {صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ}.
هذه إحاطة سريعة، سامحونا قد يكون الكلام جافاً قليلاً لأنّ كله تفسير، وإن شاء الله بالأيام القادمة ننوع، لكننا أحببنا أن تكون سورة الفاتحة، حتى إذا قرأناها في الصلاة نستشعر معاني الربوبية، معاني الرحمة، معاني اليوم الآخر، ثم نستشعر التوجه إلى الله بطلب العون منه، وطلب أن يعيننا على عبادته جلّ جلاله، ثم طلبنا منه أن يهدينا إلى هذا الصراط المستقيم، وأن يعيذنا من الضالين، ومن المغضوب عليهم أجمعين.
والحمد لله رب العالمين