قواعد في الدعوة إلى الله

  • اللقاء الحادي والعشرون من تفسير سورة الأنعام | شرح الآيات 147- 151
  • 2024-02-03

قواعد في الدعوة إلى الله

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فهذا هو اللقاء الواحد والعشرون من لقاءات سورة الأنعام، ومع الآية السابعة والأربعين بعد المائة، وهي قوله تعالى:

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
(سورة الأنعام)


الله جلَّ جلاله لا يُغلِق باب رحمته حتى عن المُذنبين والمُعرضين:
تعلمون أنَّ الآيات التي سبقت كانت تتحدث عمَّا أحلّه الله تعالى من الأنعام، وعن الافتراءات التي افتراها المشركون على ربِّهم وعلى دينه، فحرَّموا ما أحلَّ الله وأحلّوا ما حرَّم الله، ونصّبوا أنفسهم مُشرّعين وجعلوا لأنفسهم سُلطة التحليل والتَحريم، فبيَّن المولى جلَّ جلاله، ما حرَّمه على عباده من المُحرَّمات، ثم قال المولى جلَّ جلاله: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)، فإن كذّبوك أيُّها الرسول ولم يُصدِّقوا بما جِئت به، سواءً بما مضى في المُحرَّمات في الأنعام، أو بشكل عام بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، من الأمر والنهي، (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)، ربنا جلَّ جلاله يفتح أبواب رحماته ولا يُغلِقها، فالسياق هنا لو قرأه الإنسان (فإن كذّبوك فقُل) وهو لا يدري تتمة الآية، وقيل له تخيَّل ما تتمتها لأتمَّها( فإنَّ ربك شديد العقاب)، لأنَّهم مُكذّبون، فإن كذّبوك فقُل ربك ذو انتقام، لكن الله تعالى يقول: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)، لا يُغلِق باب رحماته حتى على المُكذّبين، جلَّ جلاله، لا يُغلِق باب توبته حتى عن المُعرضين، حتى عن الكافرين، فباب التوبة مفتوحٌ لا يُغلق.
لذلك قال: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)، ومن رحمته الواسعة أنه يُمهِل، فلا يُعاجِلهم بالعقوبة، ولو أنَّ كل إنسانٍ كذَّب قَسَمه الله تعالى، لهلك أكثر الناس، لكن الله تعالى يُعطيه فرصةً تلوَ الفرصة تلوَ الفرصة، لعله يتوب، لعله يرجِع، لعله يُصدِّق، بعد إذ كذّب وهكذا، فهذا من رحمته جلَّ جلاله (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)، إذاً رحمة الله تعالى ليست ضيّقةً، هي واسعة، قال تعالى:

قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)
(سورة الأعراف)

إذاً لماذا العقوبة؟ العقوبة لأنَّ هناك أشخاصاً لم يدخلوا في هذه الرحمة الواسعة، حرموا أنفسهم من الرحمة الواسعة، يعني لو قلت مثلاً هذه القاعة تتسِع لألف شخصٍ جالس، هذه قاعة واسعة أم ضيّقة؟ إنَّها واسعة، من أراد أن يدخلها فعليه أن يُحضِر التذكرة التي تُخوّله بالدخول، فجاء شخص لم يُحضِر التذكرة، فمُنِع من الدخول، فقال هذه القاعة ضيّقة، لم تَسعني، نقول له لا، القاعة واسعة جداً، ودخلها ثمان مائة وهناك مائتا كرسي فارغ، لكن أنت لم تُحضِر التذكرة، فعدم إحضارك التذكرة يقدح فيك لكن لا يقدح في سعة القاعة، (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ).

رحمة الله واسعة ولكن بأسه شديد:

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(157)
(سورة الأعراف)

سَعَة رحمته جلَّ جلاله، لا تعني أن يدخُل تحت ظلالها كل إنسان، وإلا لانتفى العدل، هي واسعة بلا شك، لأنها تتسِع للجميع، لكن نحن من نُقصِّر في إحضار ما يلزم لدخولها، فإن قصّرنا فهذا لا يقدح في سعتها، ولكن يقدح في استقامتنا، (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)، الأصل هو الرحمة، لكن البأس وهو العذاب والعقوبة لا تُمنع عن القوم المجرمين، الذين أجرموا، أي ارتكبوا الجُرم، أي فعلوا ما يوجِب عقوبة الله تعالى، والإجرام قد يكون بحقّ الله وقد يكون بحقّ الناس، كلاهما جريمة، اليوم بالعُرف الحديث الجريمة هي وقوع أذى على الآخرين، كأن يقتُل إنساناً، أو يُصيب منه فيقطع له يده، تُسمّى جريمة أو جريمة السرقة، لكن أعظم جُرم يرتكبه الإنسان أن يُشرِك بالله، هذه أعظم جريمة قبل كل الجرائم وهي أصل الجرائم، (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)، إذاً هو ذو رحمةٍ واسعة، ولكن بأسه شديدٌ أيضاً.

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ(50)
(سورة الحجر)

فدائماً يبتدئون بالرحمة، بالمغفرة، بالتوبة، بفتح باب الخير، لكن في الوقت نفسه جلَّ جلاله يُبيِّن أنَّ عنده من العقوبات ما عنده، ليردَع الناس وليسوقهم إلى بابه.
ولو نظرنا أيضاً في هذه الآية لوجدنا أن جملة (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)، جملة أسميَّة، (ربُكم) مُبتدأ، (ذو) خبَر، (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ)، جملة فعلية، فعل وفاعل، والجملة الأسميَّة دائماً أدَلّ على الثبوت والدوام من الجملة الفعلية، مثلاً أنت تقول: محمد كاتب، يكتب محمد، محمد كاتب فيها ثبات ودوام وكأن الكتابة أصبحت ملازمةً له، بينما يكتب فهو حدوث، يحدث، فالاستمرار والثبوت يأتي في الجملة الاسميَّة، فجاء في الجملة الاسميَّة للدلالة على أنَّ الرحمة هي الأصل، وهي الثابتة، وهي الشيء المُستمر، الذي جاءت السماوات والأرض من أجله، وجاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم من أجله

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ(107)
(سورة الأنبياء)

بينما العذاب والعقوبة هي الشيء الطارئ، كما أنك تبني مدرسة، فتُعاقِب فيها بعض الطلاب، ويرسُب بعض الطلاب، فلا يقول قائل إنَّ المدرسة أُنشِئت لتُرسِّب الطلاب وتعاقبهم، وإنّما يقول الناس جميعاً، إنَّ المدرسة أُنشِئت لينجح الطلاب وليبنوا مجتمعهم، (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)
(سورة الأنعام)

عندما تقرأ (سيقول) السين للاستقبال، إذاً لم يقولوا بعد.

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(142)
(سورة البقرة)

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا)، فأنت عندما تقرأ السين، السين للاستقبال، إذاً لم يقولوا بعد، هذا من دلائل إعجاز القرآن الكريم في زمن نزوله، لأنَّ الله تعالى يقول: سيقولُ، فإذا بهم يقولون، ولو أنَّهم أعمَلوا فكرهم لما قالوا، وبذلك يُعطِّلون آيةً في كتاب الله تعالى، لكن الله تعالى أثبتها قرآناً وقال: سيقولُ ثم قالوا، وهذا من دلائل الإعجاز.

الشرّ لا يُنسَب لله تعالى لأنه لم يأمر به ولا يرضاه:
(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)، هذا ما يحتج به بعض المسلمين اليوم، فيقول لك لو شاء الله لصلّيت، ولو شاء الله لَمَا سرقت، ولو شاء الله لَمَا فعلت، فيربط تقصيره ويحتج على إساءته وعلى فعله الشرّ بمشيئة الله تعالى، وفي الوقت نفسه عندما يفعل الخير، لا يقول شاء الله ففعلت الخير، وإنّما يقول أنا فعلت الخير، فينسب الخير لنفسه، وينسب الشر لخالقه والعياذ بالله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا استفتَح الصَّلاةَ كبَّر ثمَّ يقولُ : ( وجَّهْتُ وجهيَ للَّذي فطَر السَّمواتِ والأرضَ حنيفًا وما أنا مِن المُشرِكينَ إنَّ صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي للهِ ربِّ العالَمينَ لا شريكَ له وبذلكَ أُمِرْتُ وأنا أوَّلُ المُسلِمينَ اللَّهمَّ أنتَ الملِكُ لا إلهَ إلَّا أنتَ أنتَ ربِّي وأنا عبدُكَ ظلَمْتُ نفسي واعترَفْتُ بذَنْبي فاغفِرْ لي ذُنوبي جميعًا لا يغفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ لبَّيْكَ وسعدَيْكَ والخيرُ كلُّه في يدَيْكَ والشَّرُّ ليس إليكَ أنا بكَ وإليكَ تبارَكْتَ وتعالَيْتَ أستغفِرُكَ وأتوبُ إليكَ }

(صحيح ابن حبان )

فالشر لا يُنسَب لله تعالى، لا يُنسَب له تأدُّباً، ولا يُنسَب له جلَّ جلاله، لأنَّ الله تعالى لا يأمر به ولا يرضاه، فلا يُنسَب له شيءٌ لا يرضاه ولا يأمر به.

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(28)
(سورة الأعراف)

الله تعالى لا يأمر بالفحشاء، فلا يُنسَب له شيءٌ وهو لا يأمر به ولا يرضاه، الآن المشركون عندما قالوا (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)، العبارة من حيث المبدأ صحيحة، من حيث المبدأ العقيدي صحيحة، لكن احتجاجهم بمشيئة الله تعالى هو الخطأ البيِّن، فمشيئة الله تعالى نؤمن بها ولكن لا نعتذر بها عن أخطائنا، (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)، والله تعالى قال:

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(9)
(سورة النحل)

إذاً مقولتهم هي احتجاجٌ بالقدَر، القدَر يؤمَن به لكن لا يُحتج به، بعض المسلمين اليوم يحتجّون بالقدَر وهُم لم يؤمنوا به حقَّ الإيمان، يعني يعكسون الآية، القدَر أن تؤمن بالقضاء خيرِه وشرِه من الله تعالى، كل شيء من الله، لكن لا تحتج بالقدَر على فِعلك السيئ، (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا)، أي ربنا شاء لنا أن نشرك، (وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ)، حتى ما فعلناه من تحريم ما أحلّهُ الله تعالى كما سبق في قضية الأنعام وفي غيرها، كُنّا ما حرّمنا من شيء، لكن ربنا شاء لنا أن نُحرِّم فحرّمنا، هذا ما يفعله بعض المسلمين اليوم، قال تعالى: (كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)، إذاً من يقول ذلك مُحتجّاً به على تقصيره وعلى فعله الشرّ، إنما هو يُكذِّب، هذه الآية واضحةٌ، صريحةٌ، بيّنةٌ، قطعيّةٌ، مُحكمةٌ، في أنَّ الإنسان مُخيَّر، فإذا شمَمت من أيّةِ آيةٍ أُخرى رائحةً يُفهَم منها الجبر، فعليك أن تحملها على هذه الآية المُحكمة، إذا الإنسان لم يفهَم ما معنى

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(30)
(سورة الإنسان)

فعليه أن يحملها على هذه الآية، وإذا لم يفهَم معنى

الله عزّ وجل وضع في الإنسان القدرة في توجيه قدراته إلى الخير أو الشر:

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(99)
(سورة يونس)

فيجب عليه أن يحملها على هذه الآية، هي كلها لها معانٍ واضحة، لكن لو أنه توهَّم منها أنَّ الإنسان مُجبرٌ على فعله، فعليه أن يأتي إلى هذه الآية المُحكمة، التي تقول إنَّ مَن يقول لو شاء الله ما فعلت، أو لو شاء الله لفعلت، مُحتجّاً بذلك على تقصيره وعلى فعله الشر، فإنّما هو مُكذِّب، يكذِب، قال تعالى: (كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا)، أي أذاقهم الله عقوبته وبلاءه.
(قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ)، (مِن) وبعدها نكرِة تُفيد الاستغراق، يعني أي عِلم مهما كان، لو عندك دليل بسيط جدّاً، ظنّي، أي شيء فيه عِلم، أخرجه لنا، وأثبِت به دعواك، أنك أشركت لأن الله تعالى أراد لك أن تُشرِك، أخرِج هذا العِلم، (قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)، أي لا تتّبِعون إلا الظّن، والظّن لا يُغني مِن الحقّ شيئاً، الحقّ واضِح، والظن هو عبارة عن تهيؤات، الظّن ليس عِلماً، العِلم يقي مئة بالمئة، (إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ)، أي تكذِبون، هذا كذِب، كذِب على الله ومن أعظم الكذِب على الله أن يدّعي مُدَّعٍ بأنَّ فعله الشر إنّما وقع بغير إرادةٍ منه وبغير مشيئةٍ منه، والله تعالى عندما خلق الإنسان جعل فيه الطاقة، القُدرة، ليوجِّهَها نحو الخير أو نحو الشر، فهو الذي يوجِّه قُدراته وطاقاته، لذلك هو مسؤولٌ عنها.

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(286)
(سورة البقرة)

لأنّه هو الذي يتوجّه، لكن (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ)، لأنَّ الله عزَّ وجل، لو أنه لم يودِع فيه هذه القُدرة، كما فعل مع الملائكة، لأودع فيه قُدرةً واحدة، وهي الاتجاه نحو الخير فقط، إذاً هو مَلَك

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6)
(سورة التحريم)

إذاً كله بمشيئة الله، لأنَّ الله هو الذي شاء لنا أن تكون لنا إرادةٌ حُرّة في أن نختار أحد الطريقين، ولو شاء لجعل إرادتنا باتجاهٍ واحد.

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(149)
(سورة الأنعام)


ليس لأحد سلطان على الله ولا حُجَّة:
انظر تتمة الكلام (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) قُل لهم فلله الحُجَّة البالغة، قدَّم الخبر على المُبتدأ من أجل الحصر، أي ليس لأحد حُجَّة، أي دليل قاطع، ودليل بالغ بمعنى أنه بلغ من قوّته بحيث لا يستطيع إنسانٌ أن يُقدِّم عذره أمام الله تعالى يوم القيامة، لا أحد يستطيع أن يقول يوم القيامة يا رب لو أعطيتني كذا كنت آمنت، لا يوجد حُجَّة، هذه الآيات قطعيّة الدلالة في تخيّير الإنسان، (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) ليس لأحد على الله سلطان ولا حُجَّة، (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)، لكنه شاء أن تكونوا أصحاب إرادة فأعطاكم طاقةً تستطيعون بها أن تتوجهوا نحو الخير أو نحو الشر، وأودع في الأشياء التي حولكم قُدرةً أن تكون موظفةً في الخير أو في الشر لأنكم مُخيّرون، يعني أنت عندك القُدرة أن تتوجّه حيث شِئت، والأشياء عندها قُدرةٌ من الله بحيث توجِهُها أنت كيف شِئت، فلمّا خلق السكيِّن جلَّ جلاله، جعل فيها قوّةً أن تقطع فيها التفاحة أو أن تذبح بها إنساناً، هي نفسها، وجعل في كل الأشياء، خلق لك المال وجعل فيه قوّةً ذاتية بحيث تستطيع أن تستثمره في الحلال أو في الحرام، وخلق المرأة وجعل فيك انجِذاباً نحوها، ثم جعل المرأة يمكن أن تأخذ منها ما تريد في الحلال أو في الحرام، يعني الأشياء أعطاها إمكانية التصرف بها وفق طريقين، وأنت أعطاك قُدرةً لتتصرف وفق الطريقين، ولو شاء لمنع ذلك، وبذلك يهتدي الخلق جميعاً، لكن لا تكليف ولا جنَّة، ولا نار، ولا عقاب، ولا عذاب، ولا ثواب، انتهى، لم يعُد هناك داعي للجامعة، لأنه إن لم يكن هناك امتحان فلا داعي لوجود الجامعة أصلاً.

فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا ۖ فَإِن شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ۚ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(150)
(سورة الأنعام)

(هَلُمَّ) أي أحضِروا، وفي لغة قريش هَلُمَّ تُطلَق على المُذكَّر، مؤنث، جمع، مُثنَّى، مُفرَد، فتقول هَلُمَّ شاهداً وشاهدين وشهداءكم، (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا)، هاتوا شُهدائكم، أحضِروهم ليشهدوا أنَّ الله حرَّم ما تدَّعون أن الله تعالى حرَّمه، فإن شهدوا فلا تشهد معهم، يعني هناك شهادة زور، الأصل أنَّ الشاهِد يشهَد بما شاهَد، بما رأى على مثل قرص الشمس فاشهَد أو فدَعّ،

{ أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال لرجلُ: ترى الشَّمسَ؟ قال: نعم. قال: على مثلِها فاشهدْ، أو دعْ. }

(أخرجه الحاكم والبيهقي إسناده ضعيف)

أي إمّا شيء واضِح مئة بالمئة، أو أنت لا ينبغي أن تشهَد، لكن لأنه قد يُشهَد بالزور، قال: (فَإِن شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)، الأهواء جمع هوى، وهو ما تهواه النفس، ولم يرِد الهوى في القرآن إلا مذموماً، لأنه في الأصل هو ميل النفس، فقد تميل النفس إلى الخير أو إلى الشر، لكن اصطلاحاً الهوى يُطلَق على ما تهوي إليه النفس، سوءاً وظلماً وعدواناً.
إنَّ الهوى لهوَ الهوان بعينه فإذا هويتَ فقد لقيت هوانا
يعني هوى النفس.

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)
(سورة النازعات)

(وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)، لأنهم لو آمنوا بالآخرة لعلموا ما ينتظرهم عند ربهم، إذ جعلوا أنفسهم يُحلِّلون ويُحرِّمون ويُشرِّعون، وهُم ليسوا أهلاً لذلك، (وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)، في مطلع سورة الأنعام:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1)
(سورة الأنعام)

وهنا أيضاً وهُم بربهم يعدلون، أي يُشركون، العدل عدَلَ بين المُتخاصِمَين أمرٌ جيد، أي أقام القِسط بينهم، لكن عدَلَ به أي جعله مساوياً للآخر، (وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)، أي وهُم يساوون شركائهم مع الله تعالى.

الوصايا العشر في كتاب الله:

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151)
(سورة الأنعام)

الآيات الآن، هذه الآية والتي تليها والتي تليها، ثلاث آيات، فيها الوصايا العشر، وهذه الوصايا العشر وَرَد أنَّها جاءت في كل الكتب السماوية المُنزَّلة، حتى قال كعب الأحبار: << والذي نفسُ كعبٍ بيده إنَّ هذه الآيات أول ما نزَل من التوراة >> (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) وحتى قال ابن عباس رضي الله عنهما: << إنَّ هذه الآيات من المُحكمات التي لم ينسَخهُنَّ كتاب>>، يعني الآيات مُحكمة على مستوى الكتب السماوية كلها، ما جاء بها نسخ أبداً، وحتى قال إنَّها من أُمّ الكتاب التي مَن عمِل بها دخل الجنَّة ومَن تركها دخل النار.
فهذه الوصايا العشر، هي من مُحكمات كتاب الله تعالى، ذُكِرت في ثلاث آيات، في الآية الأولى ذُكِرت خمسٌ منها، وفي الآية الثانية ذُكِرت أربع، وفي الثالثة ذُكِرت الوصية الخاتمة، فهي عشر وصايا.
الخمسة الأولى في هذه الآية، (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)، (تعالوا) المعنى المتبادر إلى الذهن، هلِمّوا، أقبلوا، تعال، أقبِل، والمعنى الأعمق الذي ذكره الشيخ الشعراوي رحمه الله، من العلو، (قُل تعالوا)، أي ارتفعوا، أتلُ عليكم، يعني لا بُدَّ أن تنتقلوا من حضيض التشريع الأرضي إلى رِفعة التشريع السماوي، لا تستطيع أن تستجيب لهذه الأوامر إذا كنت تجِد في نفسك القُدرة على التشريع، إذا كنت تعتقد أن القانون هو المُهيمِن على حياة الناس، وبأنَّ الناس يصلحون لإدارة معاشهم وحياتهم، فأنت لن تستطيع أن تستمع إلى هذه الوصايا، فهذه الوصايا في القمة، في العلو، فلا بُدَّ أن تتعالى حتى تسمعها.
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)، أتلُ ما حرَّم ربُّكم، تذكير بالربوبية، الربّ الذي خلقك، وأعطاك، ومنحك، ووهبك، وأنزل لك المطر، وأنبت لك الزرع، وأدرَّ لك الضرع، وأعطاك الزوجة والولد، وأعطاك الأجهزة التي في جسمك، وأعطاك العينين والأُذنين، والكلية، والكبد، ربُّكم، ألا ينبغي أن تُطيعه؟

أول وصيَّة هي التوحيد:
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)، أول وصيَّة هي التوحيد، لأن كل نهيٍ يستلزِم أمراً، وكل أمرِ يستلزِم نهياً، فإذا قلت لإنسان لا تُشرِك، فهذا معناه وحِّد، وإذا قلت له وحِّد، فهذا معناه لا تُشرِك، (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)، و(شيئاً) نكِرة جاءت في سياق النفي، لا تُشرِك به شيئاً فتعُمّ النكرة في سياق النفي تعُمّ، لا تُشرِك بالله شيئاً، أي مهما كان هذا الشيء صغيراً، ولو أن تُشرِك مالَك أو ولدك أو زوجك، شِركاً خفياً، بأن تُطيعهُم في معصية الله تعالى، (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)، فليكن توجُّهك كله لخالقك جلَّ جلاله.

ثانياً: الوصيَّة بالوالدين والإحسان لهما:
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) بعد الوصيَّة فوراً بالتوحيد جاءت الوصيَّة بالوالدين:

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23)
(سورة الإسراء)

وهذا العطف بين هذين الشيئين، يوحي ويُنبئ عن أهمية الشيء الثاني المعطوف، لأنه عُطِف على شيءٍ عظيم وهو أصل الدين وهو التوحيد.
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، أي وأحسِنوا بالوالدين إحساناً، والباء للإلصاق، بمعنى أنَّ إحسانك لوالديك ينبغي أن يكون مباشرةً منك إليهم لا عبر واسطة، كأن تقول ماذا يريدان أكثر من ذلك؟ وضعت لهم في البيت خادمة وسائق على الباب، وأنا كل أسبوع أسبوعين حسب أعمالي وأسفاري أزورهم، لا هذا لا ينفع.
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، ينبغي أن تُباشر الإحسان إليهما بنفسك، أن تخدمهما بنفسك، لأنهما في سنٍ مُعيَّنة ليسا بحاجةٍ إلى مالِك وجاهِك بقدر ما هُما بحاجةٍ إليك، فالإحسان ينبغي أن يكون بالوالدين بشكلٍ مباشر، إلا مَن منعه من ذلك مانع أو حبسه حابس،(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).

ثالثاً: النهي عن قتل الأولاد خشية الفقر:
الثالث: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ) الإملاق هو الفقر، إذاً الفقر موجود، فلمّا جاء الولد قَتَله، قضى عليه لأنه في حاجةٍ وفقر، فالدخل كان موزَّعاً على ثلاثة أصبح على أربعة، فيقتله بسبب فقرِه، هنا (المِن) بمعنى الباء، أي بسبب فقركم تقتلون أولادكم، قد يفعل ذلك بعض الناس أحياناً اليوم، بالوأد قبل الولادة، بالصورة الحديثة يعني يمكن أن يقول لك: والله عندي أولاد كُثُر، والآن الزوجة حامل، فيُسقِط الحمل من فقره، وهذا له تفصيل في كتب الفقه، لكن الصحيح أنَّ الإسقاط والإجهاض بغير عذرٍ واضِح لا يجوز شرعاً، وإن كان بعذر فله قبل الأربعين يوماً (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) فقدَّم هنا الرزق للوالدين لأنهما في فقر، فقال: نحن نرزقكم وإياهم، يعني يأتي الولد كما يقول العوام ويأتي رزقه معه، وهذا مُشاهَد واقع، وفي آيةٍ أُخرى

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا(31)
(سورة الإسراء)

يعني هو حالته غِنى لكنه يخشى الفقر فقال (نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)، لأنه يخشى الفقر بسبب وجود الولد، لكن الآن لا يوجد فقر، فقدَّم رزق الولد على رزق الوالدين لأنَّ الفقر غير واقع، لكن هنا الفقر واقع فقال ( نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)، الرزق من الله، ومن آمن بأنَّ الرزق على الله تعالى استراح.

رابعاً: النهي عن الفواحش الظاهرة والباطنة:
(وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) الفواحش الظاهرة هي ما كان من فواحش اللسان، الفُحش باللسان، أو الفُحش بالأفعال، فُحش اللسان غيبة، نميمة، كذب، أما فُحش الأفعال فهو سرقة وزِنا والعياذ بالله.
(وَمَا بَطَنَ) ما كان من الفواحش في القلب، كالحقد، والحسد، والضغينة، والعُجب، والغُرور، والكِبر، والاستعلاء، (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ).

خامساً: النهي عن قتل النفس إلا بالحقّ:
(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) هذه الخامسة، عندنا نفس وعندنا روح وعندنا جسد، الروح تسري في الجسد، فتجعل منه شيئاً مُتحرِّكاً، فإذا نُزِعت الروح من الجسد فهذا قتل النفس، نُزِعت الروح من الجسد فأصبح الجسد جُثَّةً هامدة تتحلل بعد حين، والروح صارت إلى بارِئها، فهذا قتل النفس،(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) قتل النفس حرّمه الله، والحقّ فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:

{ لا يحِلُّ دمُ مسلمٍ إلَّا بإحدى ثلاثٍ : النَّفسُ بالنَّفسِ والثَّيِّبُ الزَّاني والتَّارِكُ لدِينِه المُفارِقُ للجماعةِ }

(أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان)

فهي ثلاث ثيِّبٌ زنا، يعني امرأة أو رجل متزوج ووقع في الزِنا فهذا يُقام عليه الحدّ، والنفس بالنفس، قتَل فيُقتَل، والتارك لدينه المُفارق للجماعة، الذي دخل في الإسلام وفهمه وعَقَله ثم أراد أن يخرج منه، هذا تفصيل في هذه الأمور، لكن المهم في الموضوع أنَّ هذه الحدود الثلاثة بقتل النفس بالحقّ الذي أمر به الله تعالى، إنما يفعلها الحاكم وليس آحادُ الناس، فلا يجوز لإنسان أن يقيم هذا الحدّ، الحدّ يُقيمه الحاكم أو من يُنيبه الحاكم، فهذا موكَّل به القضاء، وقد يقال هنا كيف يُقتَل من ترك دينه، وهذا موضوع يطول شرحه، لكن مختصره أنَّ الأصل في الدين أنَّ الإنسان مُخيَّرٌ في الدخول فيه أو عدم الدخول فيه قال تعالى:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256)
(سورة البقرة)


الإنسان مُخيَّر في الدخول بالدين ولكن ليس بالخروج منه:
فالإنسان مُخيَّر في أن يتديَّن أو لا يتديَّن، أن يدخل في الدين أو لا يدخل، وهذا لا خلاف فيه، هذه الآية محكمة وواضحة (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، وأفعال الفاتحين بعد ذلك تدل على ذلك، إذا لم يؤمَروا بهدم كنيسةٍ ولا معبَد وتركوا الناس لحرية تعبُّدهم وسنّوا لهم سُنّن وشرائع، يعني وضِعت الجزية لأنَّ هناك أُناس يُقرون على دينهم، لا يُقرون بمعنى أنَّ دينهم صحيح، لكن لا يُمنَعون منه، نقول إنهم على خطأ، يوجد عندهم شِرك، لكن لا نمنعهم بل نعاملهم بالإحسان.

لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8)
(سورة الممتحنة)

وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
(سورة العنكبوت)

"مَن آذى ذميّاً فقد آذاني" هل هناك أعظم من هذا الحقّ، إذاً وجود كل هذه الأدلّة دليل على أنَّ الإسلام لم يُجبِر أحداً على الدخول في دين الله، لكن لو أنَّ إنساناً دخل في الدين، فالإسلام يقول له إذا أردّت أن تدخل فلا يجوز لك أن تخرُج.
حسناً، لو خرج ولم يتكلم بأنه خرج من الدين لا يُقام عليه الحدّ، ولو أنه خرج من دين الله تعالى، هل يُقتَل فوراً؟ لا وإنما يُستتاب، وقيل سنة وعند البعض ثلاث سنوات، وعند البعض الآخر ليس هناك مُدَّة محددة، الحاكم قد يستَتيبه لسنوات طِوال فيُستتاب، فلو أنَّه رجع ولو ظاهراً، وقال أنا رجعت إلى الدين، تُرِك الأمر، لا يُقام عليه الحد، إذاً هذا الحدّ وضِع ليس لإجبار الناس على الدخول في الدين، وإنما لحماية الدين، (والتَّارِكُ لدِينِه المُفارِقُ للجماعةِ).
فهذا الذي دخل في الدين ثم أراد أن يخرُج منه، ويتتبَّع ثغراته، وينشُر بين الناس، فنحن نُريد أن نحمي دين الضُعفاء، ما كل الناس على مستوى واحد من التديُّن، بحيث لا تُثنيه سبائك الذهب اللامعة ولا سياط الجلادين اللاذعة عن دينه، فحتى نحمي الدين، لا بُدَّ من أن نقول لمَن يُريد أن يدخل لا يجوز لك أن تخرُج، فإذا خرج سِرّاً لا أحد يُكلّمه، لكن إذا خرج وأصبح يُجاهِر ويقول أنا خرجت من دين الله، وأنتم على باطل وأنا على حقّ، فيأتي به الإمام ويستتيبه، وهناك إجراءات محددة، ثم يُقام عليه الحدّ إن أصرَّ على ذلك، وما سُجِّل في التاريخ الإسلامي إلا حالاتٍ نادرة جداً جداً لإقامة هذا الحدّ، لأنَّ الحدود في الأصل هي من أجل الردع والزجر أكثر منها من أجل الإيقاع.
(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ذلكم الذي سبَق وصّاكم الله تعالى به، والوصيَّة لا تكون إلا للأمور المُهمَّة العظيمة، فأنا أوصيك بشيءٍ عظيم، أوصيك بتقوى الله، أوصيك بإخوتك من بعدي، أوصيك بالأمور العظيمة.
(ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) والعقل هو الفهم، هذه الأمور التي سبقت في الآيات، كان كثيرٌ من العرب يتهاونون في كثيرٍ منها، فجاء الأمر بالعقل هنا، يعني بالربط، بالفهم، بالمحاكمة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، أما الوصايا الأربعة التي تليها في الآية الثانية.

سادساً: تقوى الله في مال اليتيم:

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
(سورة الأنعام)

(ولا تقربوا) أي اجعل بينك وبين مال اليتيم هامشاً، لم يقل لا تأكلوا، مؤكَد لا تأكلوا مال اليتيم، لكن لا تقرَبه، يعني إذا اقتربت منه ربما يُغريك ماله فتأخذ منه، فدع بينك وبينه هامش أمان، كما يقال لا تقترب من التيار الكهربائي، ولا يُقال لا تلمس التيار الكهربائي؟ (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وما هو الأحسن؟ أن تُثمّره له، تقربه من أجل أن تضعه في تجارةٍ تعلم أنها رابحة، أو يغلب فيها الربح، ولا تجعله في تجارةٍ يعني تجعله رِدءاً لمالِك، تجعله دريئة لمالِك، لنُجرِّب بمال اليتيم! لا (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، ما قال بالحُسنى بل بالأحسن، يعني ضعه في مكان تعلم أنَّ هذه التجارة قد تمكنت منها، وأنها غالباً تُدرُّ أرباحاً ما لم يطرأ طارئ، (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) لأنك لو لم تقربه أبداً وصرفت عليه منه فلمّا بلغ أشُدَّه نقص ماله، لا ثمِّره له، وفي آيات أُخرى:

وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْوَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا(6)
(سورة النساء)

يعني إذا إنسان ليس لديه مال ويريد أن يستثمر مال اليتيم، فيقضي كل وقته في التجارة من أجل هذا اليتيم، قال (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) يعني لا يدَّخِر، يأكل ويشرب فقط، يعني لا يقوم بسياحة بمال اليتيم، فقط أكل وشُرب بالمعروف.
(إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) يعني يستوي وينضُج جسدياً وفكرياً فيُسلَّم إليه ماله (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ).

سابعاً: تكلم بالعدل ولا تُحابي أحد:
الوصية السابعة (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) هناك أشياء تُكال، وهناك أشياء توزَن، وتوزَن أي تعتمد على الكثافة، ويوجد مكيال،(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل.
(لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ربنا عزَّ وجل لا يُكلِّف نفساً إلا ضمن الوسِع، لكن الوسِع لا تُقدّره أنت بل يُقدّره خالق الوسِع جلَّ جلاله، فأنت إذا قلت هذا ليس في وسعي فلعلك مُتكاسلٌ لا تريد أن تفعله، وهذا في الغالب، في الغالب الأشياء التي نقول أنها مستحيلة هي الأشياء التي لا نريد أن نفعلها.
(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) بالكلام تكلم بالعدل ولو كان من تتكلم بالحقّ عليه قريباً منك، لا تُحابي أحداً.